يخطئ من يظن أن مجال الدراسات الإسلامية عبارة عن كلام جامد مكرر، بل لم يزل العلم الشرعي في تفاعل دائم وتطور مستمر واجتهادات متجددة. ومن أهم المجالات الشرعية التي تشهد ارتقاء مطردا هو مجال “مقاصد الشريعة” فإنه العلماء المسلمين لم يتوقفوا في تجديد نظراتهم لمعانيها الواسعة وتحسين استيعاب الجهد البشري لآفاق محاسنها. لم يكن كلام العلماء في المقاصد العامة للشريعة الإسلامية واقفا عند حد رأي معين، بل لم تزل الجهود العلمية المباركة متظافرة في تطوير هذا المجال العظيم.
إن أكثر من كتب في المقاصد حصروا مقاصد الشريعة العامة في حفظ الضروريات الخمس -وسموها أيضا الكليات الخمس أو الأصول الخمسة- التي هي: حفظ الدين والنفس والعقل والمال والنسل. حتى يظن بعض الناس أنها هي المقولة الوحيدة في هذا الباب. والحقيقة أن هذا قول الإمام الغزالي وهو السابق في جعل هذه الكليات الخمس في مرتبة الضروريات والسابق أيضا في اعتبار تلك الضروريات الخمس هي أقوى المقاصد الكلية للشريعة.
قال: “ومقصود الشرع من الخلق خمسة : وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة … وهذه الأصول الخمسة حفظها واقع في رتبة الضرورات، فهي أقوى المراتب في المصالح.”[1]
وتابعه فيه الرازي[2] والشاطبي[3]. بل جعل الآمدي المقاصد الشرعية منحصرة في هذه الخمسة، واعتبرها أيضا أعلى المراتب.[4] ثم جاء القرافي ليضيف مقصدا سادسا وهو حفظ العرض.[5]
وأول ما نقل عنه هذا التقسيم الخماسي –كما سبق بيانه في الفصل الثاني- هو أبو الحسن العامري الذي قال: “”وأما المزاجر فمدارها أيضا عند ذوي الأديان الستة لن يكون إلا على أركان خمسة، وهي: مزجرة قتل النفس كالقود والدية، ومزجرة أخد المال، كالقطع والصلب، ومزجرة هتك الستر، كالجلد والرجم، ومزجرة ثلب العرض، كالجلد مع التفسيق، ومزجرة خلع البيضة، كالقتل عن الردة.”[6]
فمن الواضح أن حفظ هذه الأمور الخمسة جاء -أول ما جاء- في سياق بيان مقاصد وحِكم العقوبات الشرعية، وكان الإمام الجويني ذكر هذه الأمور الخمسة في السياق نفسه[7]. وكذلك فعل ابن فرحون المالكي حيث جعل مثل هذه الأمور إنما هي المقاصد من حِكَم الردع والزجر[8]. ولكن الإمام الغزالي وسّع النطاق فجعل هذه الأمور هي أعلى مراتب المقاصد. فيترتب على هذه النظرة أن الشريعة كلها إنما تقصد إلى حفظ الضروريات واعتبار أن ما عداها أمور ثانوية فلا يرقى لدرجة تحصيل وتحقيق الرقي البشري والتفوق الطموح.
لذلك اعترض ابن تيمية على هذه الرؤية الخماسية فقال: “… لكن بعض الناس يخص المصالح المرسلة بحفظ النفوس والأموال والأعراض والعقول والأديان، وليس كذلك، بل المصالح المرسلة في جلب المنافع وفي دفع المضار، وما ذكروه من دفع المضار عن هذه الأمور الخمسة فهو أحد القسمين..”[9] فهو يرى أن حفظ الضروريات الخمس إنما هو فرع عن دفع المضار، فلا يرقى أن يكون حصرا للمصالح المرسلة فضلا عن أن يكون أعلى مراتب المصلحة الشرعية المرعية.
واعتبار حفظ الضروريات منحصرا في سياق فوائد العقوبات الشرعية هو الأليق والأنسب بالمقام، لأن العقوبات والحدود والتعازير تردع الناس عن الاعتداء والتفريط في ضروريات الحياة. أما اعتبارها أعلى مصالح الشرع فهو تقصير في الوصول إلى سمو مقاصد الشريعة الغراء، ونزول من قصد المراتب العلية إلى القناعة بالمرابض الدنية.
وهذا القصور يأتي من ناحيتين:
الأولى: لفظ “حفظ” بالنسبة إلى هذه الضروريات لا يعبر عن كل مقاصد الشرع، لأن الشرع دائما يطلب تحصيلها ثم الاستزادة منها وتنميتها، وليس مجرد حفظها والاكتفاء بها. فطلب زيادة الدين ظاهرة بكثرة الحث على الفرائض والنوافل، إضافة إلى توافر النصوص الحاثة على دعوة الناس إليه ونشره في العالم، وقد صرح القرآن بأن قصد إرسال الرسول بالهدى ودين الحق إنما هو لإظهار هذا الدين على سائر الأديان[10]، وهو مطلب واضح في الاستزادة والتوسع الأفقي لتأثير الدين. وزيادة العقل مطلوبة بفرض طلب العلم وبيان فضله والحث على التفكر والتدبر والإشادة بمكانة العلم والعلماء … إلخ. وزيادة النفس تتضمن نواحي كثيرة، فمن الناحية الجسدية فقد حث الإسلام على تقوية الجسد، واعتبر المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف[11]، وحث على أنواع الرياضة كالسباحة والرماية وركوب الخيل، وحث على تناول الطيبات من الأغذية الصحية. وأما الناحية النفسية التي تعني الأحوال الباطنة فالإسلام كله تربية نفسية وحث على الصفات الفاضلة كالصبر والشجاعة والصدق والسماحة والأمانة والرزانة والثقة بالنفس …إلخ. أما زيادة النفس من الناحية العددية فهو داخل في مقصد “النسل”، فالإسلام حث على كثرة الإنجاب والتوالد مع التأكيد على ضرورة التربية الأسرية السليمة. وأما زيادة المال فبالحث على الكسب وحسن التداول، والترغيب في الإنفاق والتصدق هو ترغيب في تحصيل المال لينفع به الخلق، وكان من معاني زكاة المال هي زيادته بعد طهارته. والتزهيد في الدنيا لا يقصد منه معارضة هذا المقصد بقدر ما يكون صيانة مسار التنمية المالية عن انحرافه إلى جهة التكاثر والتفاخر واللهث المُلهي عن العبادة والمطغي إلى مستنقع الشهوات. أما كثرة المال مع أداء الواجب والاجتهاد في تحقيق مقاصد الدين فهو أمر مطلوب، تظافرت النصوص على تأكيده، وسيأتي تفصيل هذا في بابه إن شاء الله.
وخلاصة الأمر أن حفظ الضروريات إنما هو عبارة عن الحد الأدنى الواجب تحصيله، وليس القصد الأعلى المطلوب حصوله. ولا يصح اعتبارها أعلى المقاصد إلا في حالة تعارضها بما دونها، فيقدم الضروري على الحاجي ويقدم الحاجي على التكميلي. ويعتبر حالة التعارض هذه حالة مرحلية أو استثنائية، ولا يصح أن نعتبرها حالة عادية نرتضيها لأنفسنا، لأنها حالة عجز عن تحقيق المقاصد على وجه كامل.
والثانية: من القصور أيضا الاكتفاء بتحديد هذه الأمور دون غيرها. فقد شعر كثير من العلماء والباحثين بالحاجة إلى توسعة هذا المجال وذكر الزيادة على هذه الأمور.
وأول من اعترض على هذا التحديد هو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. ورأى أن حفظ هذه الخمسة إنما هو داخل في قسم دفع المضار. وسبق أن نقلنا كلامه في اعتبار المصالح الروحية الإيمانية كمعرفة الله ومحبته وخشيته مصالح مستقلة عن مقصد الدين الذي يغلب على كلام الفقهاء والأصوليين الجانب الظاهر منه، ورأى ابن تيمية أن مذهب سلف الأمة وأئمتها أن نفس معرفة الله تعالى ومحبته مقصودة لذاتها. [12] وهذا قول راقٍ قد لا يستوعبه من حجب قلبه عن الغوص في هذه الحقائق الإيمانية ولم يذق حلاوة المعرفة بالله ومحبته وخشيته عز وجل.
وفي العصر الحديث تزايد الشعور بقصور ذلك التحديد الخماسي للمقاصد. فجاءت الزيادة عليه في أول كتابة عن المقاصد في العصر الحديث وهو كتاب ابن عاشور رحمه الله. ومن العلماء المعاصرين الذين نادوا بإعادة النظر في هذه المقاصد أيضا منهم د. يوسف القرضاوي، قال: “وهناك مقاصد لم تستوعبها هذه الخمس المذكورة.
من ذلك ما يتعلق بالقيم الاجتماعية، مثل الحرية، والمساواة، والإخاء، والتكافل، وحقوق الإنسان.
ومن ذلك ما يتعلق بتكوين المجتمع والأمة والدولة.
ويبدو لي أن توجه الأصوليين قديما كان إلى مصلحة الفرد المكلف: من ناحية دينه ونفسه ونسله وعقله وماله. ولم تتوجه عناية مماثلة بالمجتمع، والأمة، والدولة، والعلاقات الإنسانية.
ومن ذلك ما يتعلق بـ”الأخلاق” فإنهم لم ينظروا إليها بوصفها “الضروريات” أو “الحاجيات”، واكتفوا بأن جعلوها من “التحسينيات”. وربما اكتفوا بكلمة “الدين” الذي هو الضرورية الأولى، ليدخلوا فيه الأخلاق الأساسية مثل: الصدق والأمانة، والعدل والإحسان، والعفة والحياء، والتواضع والعزة، والرحمة والرفق، والشجاعة والسخاء…”[13]
فلذلك عدل الإمام العز بن عبد السلام في كل كتبه عن هذه الضروريات الخمس أو الست، فلم يعرج عليها لا تصريحا ولا تلميحا، مع تركيزه واهتمامه الشديدين ببيان مقاصد الشرع، واكتفى بذكر مطلق المصلحة. لم يشعر ابن عبد السلام رحمه الله بضرورة هذا الترتيب الخماسي مع أن كتبه كقواعد الأحكام والقواعد الصغرى ومقاصد الصلاة ومقاصد الصوم وشجرة المعارف والأحوال جاءت كلها ببيان تفاصيل المصالح الشرعية وقواعدها وتقاسيمها.
قال: “فمصالح الدنيا والآخرة ثلاثة أقسام كل قسم منها في منازل متفاوتات. فأما مصالح الدنيا فتنقسم إلى الضرورات والحاجات والتتمات والتكملات. فالضرورات : كالمآكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح والمراكب الجوالب للأقوات وغيرها مما تمس إليه الضرورات، … وأما مصالح الآخرة ففعل الواجبات واجتناب المحرمات من الضروريات.”[14]
رغم أن شيخه الآمدي كان أول من حصر المصالح في تلك الضرورات الخمس إلا أن العز بن عبد السلام لم يعر اهتماما بذكر تلك المقاصد الخمسة مع تفصيله للمصالح الضروريات، بل صرف تركيزه في الأمور المحسوسة بالنسبة إلى مصالح الدنيا، وجعل العبادات الواجبات بشكل عام هي ضروريات مصالح الآخرة.
وجاء شيخ الإسلام بن تيمية على المنوال نفسه بل اعتبر –كما سبق نقل كلامه فيه- أن تلك الضرورات إنما هي عبارة عن حيثيات دفع المضار وليست كل المصالح المطلوبة جلبها. واعتبر أن من حصر المصالح فيها فقد قصر.[15]
لقد ارتقى خطاب ابن عاشور في تشخيص مقاصد الشرع عن الاكتفاء بالتحديد الخماسي التقليدي، فقال: “إذا نحن استقرينا موارد الشريعة الإسلامية الدالة على مقاصدها من التشريع، استبان لنا من كليات دلائلها ومن جزئياتها المستقراة أن المقصد العام من التشريع فيها هو: حفظ نظام الأمة واستدامة صلاحه بصلاح المهيمن عليه، وهو نوع الإنسان. ويشمل صلاحه صلاح عقله وصلاح عمله وصلاح ما بين يديه من موجودات العالم الذي يعيش فيه.”[16] ثم استشهد رحمه الله ببعض الآيات التي تدل على فرضية إصلاح العالم.
وقال في موضع آخر إن مقصد الشريعة من نظام الأمة أن تكون قوية مرهوبة الجانب مطمئنة البال وأن أهم مقصد للشريعة من التشريع: انتظام أمر الأمة وجلب الصالح إليها ودفع الضر والفساد عنها، وقد استشعر الفقهاء في الدين كلهم هذا المعنى في خصوص صلاح الأفراد، ولم يتطرقوا إلى بيانه وإثباته في صلاح المجتمع العام. ولكنهم لم ينكر أحد منهم أنه إذا كان صلاح الأفراد وانتظام أمورهم مقصد الشريعة، فإن صلاح المجموع وانتظام أمر الجماعة أسمى وأعظم…”[17]
وهذا ارتقاء بالوعي الإسلامي عن النزعة الفردية الدفاعية المحدودة المتوراثة إلى التوجه العالمي الطموح المستشعر بالمسئولية تجاه قضايا العالم، وليس التقوقع في قالب المصالح الذاتية المحددة.
وتجاوز ابن عاشور الحيز الضيق للمصالح الشرعية التي يظن البعض أنها تتحدد في الأمور العقائدية والتعبدية إلى التنبيه بالمصالح الاجتماعية، فقال: “ولقد علمنا أن الشارع ما أراد الإصلاح المنوّه به مجرد صلاح العقيدة وصلاح العمل بالعبادة كما يتوهم، بل أراد منه صلاح أحوال الناس وشؤونهم في الحياة الاجتماعية، فإن قوله تعالى: ﭽوَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادﭼ[18] أنبأنا بأن الفساد المحذر منه هنالك هو إفساد موجودات هذا العالم، وأن الذي أوجد هذا العالم وأوجد فيه قانون بقائه لا يظن فعله عبثا وهو يقول: ﭽ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًاﭼ[19] ولو لاإرادة انتظامه لما شرع الشرائع الجزئية الرادعة للناس عن الإفساد.”[20]
ورأى ابن عاشور أن الإسلام منهاج إصلاح كامل يبدأ بإصلاح الأفراد ليتحرك به إلى إصلاح المجتمع المؤدي إلى صلاح العالم. قال: “ولذلك نرى الإسلام عالج صلاح الإنسان بصلاح أفراده الذين هم أجزاء نوعه، وبصلاح مجموعه وهو النوع كله. فابتدأ الدعوة بإصلاح الاعتقاد الذي هو إصلاح مبدإ التفكير الإنساني الذي يسوقه إلى التفكير الحق في أحوال هذا العالم، ثم عالج الإنسان بتزكية نفسه وتصفية باطنه لأن الباطن محرك الإنسان إلى الأعمال الصالحة، كما ورد في الحديث: “ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب.”[21] وقد قال الحكماء: “الإنسان عقل تخدمه الأعضاء.” ثم عالج بعد ذلك إصلاح العمل وذلك بتقنن التشريعات كلها… ولنا من تطور التشريع من ابتداء البعثة إلى ما بعد الهجرة هاد يهدينا إلى مقصد الشريعة من الوصول إلى الإصلاح المطلوب.”[22]
والحقيقة أن ابن عاشور لم يلغ اعتبار الضروريات الخمس المعروفة، بل كان يرى أن فوق هذه الضروريات الخمس سقفا آخر سماه المقاصد العالية. قال: “… فإن كانت تلك الأوصاف فرعية سميناها عللا مثل الإسكار، وإن كانت كليات سميناها مقاصد قريبة مثل حفظ العقل، وإن كانت كليات عالية سميناها مقاصد عالية، وهي نوعان [جلب] مصلحة و[دفع] مفسدة.”[23]
وتابعه على هذا المنوال علال الفاسي الذي اعتبر المقصد العام للشريعة هو: “عمارة الأرض وحفظ نظام التعايش فيها، واستمرار صلاحها بصلاح المستخلفين فيها، وقيامهم بما كلفوا به من عدل واستقامة، ومن صلاح في العقل وفي العمل وإصلاح في الأرض، واستنباط لخيراتها وتدبير لمنافع الجميع.”[24]
ولحظ د. جمال الدين عطية في كلامَي ابن عاشور وعلال الفاسي توجها جديدا نحو تكريس فكرة الدور الرسالي الجماعي للشريعة، فقال متسائلا: “ترى هل عبارات كل من ابن عاشور وعلال الفاسي هي محاولة لمزيد من تجريد المقاصد العالية بجعل فكرة المصالح والمفاسد مجرد وسيلة وإبراز فكرة الأمة والعالم وعمارة الأرض؟ ربما…”[25]
وهذا الذي استشفه أو توقعه د. جمال الدين أمر في غاية الأهمية، وهو توجّهٌ صحيح يجب دفعه إلى الأمام ومواصلته لينتج عنه تيار جديد نحو تغيير واقعي ممنهج. وهو تحوّل مهم في دراسة المقاصد لتنطلق من مبدأ الفائدة والروح المصلحية إلى تكريس الدور الرسالي واستشعار المسؤولية الجماعية. وهو دفع بعقل الأمة وشخصيتها نحو تنامي النضوج المستمر والترقي المطرد.
وهذه الروح أيضا حاضرة عند الأستاذ محمد رشيد رضا في تفسير المنار وكتابه “الوحي المحمدي” لما ذكر مقاصد القرآن، ذكر منها المقصد الرابع: الإصلاح الاجتماعي الإنساني والسياسي الذي يتحقق بالوحدات الثماني وهي وحدة الأمة والدين والتشريع والأخوة الدينية والجنسية والقضاء واللغة، وذكر أيضا المقصد السادس الذي هو بيان حكم الإسلام السياسي الدولي.[26]
طرح د. جمال الدين عطية فكرة التحرك من تلك الضروريات الخمس إلى توظيف المقاصد في المجالات الأربعة: الفرد والأسرة والأمة والإنسانية. فبعد أن ناقش كل الآراء المطروحة في مقاصد الشريعة العامة، ورأى الحاجة إلى رفع سقف الكلام المقاصدي من المقاصد الكلية المعروفة إلى تصويب النظر فيما سماه ابن عاشور المقاصد العالية، واقترح امتداده التطبيقي في أربعة وعشرين مقصدا موزعة على أربعة مجالات متدرجة من مجال الفرد إلى الأسرة إلى الأمة ثم إلى مجال الإنسانية.[27]
فمجال الفرد يشمل خمسة مقاصد هي: حفظ النفس وحفظ العقل وحفظ التدين وحفظ العرض وحفظ المال.
ومجال الأسرة يشمل سبعة مقاصد هي: تنظيم العلاقة بين الجنسين وحفظ النسل وتحقيق السكن والمودة والرحمة وحفظ النسب وحفظ التدين في الأسرة وتنظيم الجانب المؤسسي للأسرة وتنظيم الجانب المالي للأسرة.
ومجال الأمة يشمل سبعة مقاصد هي: تنظيم الجانب المؤسسي للأمة، وحفظ الأمن، وإقامة العدل، وحفظ الدين والأخلاق، والتعاون والتضامن والتكافل، ونشر العلم وحفظ العقل للأمة، وعمارة الأرض وحفظ ثروة الأمة.
ومجال الإنسانية يشمل مقاصد هي: التعارف والتعاون والتكامل، وتحقيق الخلافة العامة للإنسان في الأرض، تحقيق السلام العالمي القائم على العدل، والحماية الدولية لحقوق الإنسان، ونشر دعوة الإسلام.
واقترح قبله الدكتور القرضاوي مثل هذا التصور في كتابه “مدخل لمعرفة الإسلام” مقاصد أخرى حيث قسم المقاصد أو الأهداف الأساسية للإسلام إلى: بناء الإنسان الصالح وبناء الأسرة الصالحة وبناء الأمة الصالحة والدعوة إلى خير الإنسانية.[28]
ومثل هذا الترتيب يفتح مجالات واسعة لأن يتحول علم المقاصد إلى مبادئ للرؤية التنموية الشاملة التي طالما افتقدت القيم الموجهة والقيم المعيارية لمسيرة التنمية التي تتحكم فيها تصورات مختلفة، وقد تكون متناقضة متنافية!!
إن الرؤية التجريدية التي جاء بها د. طه العلواني لكثير من القضايا الفكرية الإسلامية أوصلته إلى أن محاور الشريعة الإسلامية تتركز على ثلاثة مقاصد كبرى أساسية: التوحيد والتزكية والعمران.[29] وسماها “المقاصد العليا الحاكمة.” وكأنما نرى سقف النظرة المقاصدية يترقى باطراد من المقاصد الكلية الخمسة المعروفة ليرتفع مع ابن عاشور إلى “المقاصد العالية” حتى انتهى بالدكتور العلواني إلى “المقاصد العليا”.
وليست القضية قضية المصطلح فحسب، بل إن هذه الرؤية التجريدية التجديدية تنفذ إلى أعماق الإشكالات الأساسية الجوهرية في منظومة الفكر المقاصدي. وأبعد من ذلك فإن هذه الرؤية تؤسس التوجه التأصيلي الحقيقي للعلوم الإسلامية بشكل عام المؤسَّس على محورية وحاكمية القرآن الكريم على سائر المعارف الإسلامية. قال الدكتور العلواني: “المقاصد الشرعية العليا الحاكمة كليات مطلقة قطعية تنحصر مصادرها في المصدر الأوحد ألا وهو القرآن المجيد. وذلك بقراءة وفهم وتدبر ينطلق من الجمع بين القراءتين قراءة الوحي وقراءة الكون.”[30]
وقال: “وفي دائرة بيان السنة النبوية للقرآن المجيد وإطار العلاقة الوثيقة بينهما تبدو علاقة البيان بالمبيَّن بأجلى صورها وأوضحها في بيان السنة الثابتة الصحيحة لهذه المقاصد العليا الحاكمة –كما نزل القرآن المجيد لها، فإن السنة والسيرة تبدوان تطبيقا عمليا للقرآن في مقاصده العليا الحاكمة تتكامل السنة معه في وحدة بنائية تقرأ وتفهم في ضوئها آلاف الأحاديث الصحيحة والأفعال والتصرفات النبوية الثابتة…”[31]
ثم سرد في بيان مزايا ووظائف هذه المقاصد العليا بأنها تكون مما اتفقت عليه رسالات الأنبياء كافة لأنها تعبر عن وحدة الدين، وأيضا تكون هذه المقاصد قادرة على ضبط الأحكام الجزئية وتوليدها في سائر الأفعال الإنسانية، وهي بمثابة المبادئ الدستورية التي تقدر على توليد المواد الدستورية والمبادئ القانونية. وإن تشغيل هذه المقاصد سوف يؤدي إلى غرس قابلية التجدد الذاتي في أصولنا وفقهنا وتقيّمها وتحفظها من عوامل الفتور والظرفية… إلى آخر مزايا هذا التصور المقاصدي المقترح.[32]
لقد متّعنا الدكتور العلواني في أطروحاته هذه بكثير من الالتفاتات الدقيقة الخطيرة التي تشخص مكامن الضعف الفكري الذي منيت به أمة الإسلام منذ تاريخها الطويل، وفي الوقت نفسه أشار إلى أسرار الكنوز المعرفية القرآنية التي طالما أهملت بسبب انشغال معظم الأمة بقضايا فرعية هامشية أبعدتهم عن الرسالة القرآنية الأساسية القريبة، واتجهت الأمة بعيدا إلى مناهج فكرية مستوردة غافلين عن الذخائر المعرفية العظيمة التي بين أيديهم.
وقد حرر الدكتور العلواني فقه المقاصد من أسر الأبواب الفقهية التقليدية التي مهما وسعت فإنها تبقى ضيقة[33] ومهما عممت فإنها تظل خاصة[34]. وأطلق شرارة المقاصد نحو اتجاه النهضة الفكرية الشاملة التي تعالج سائر القضايا الإنسانية الأساسية. وباطلاع هذه الكنوز المقاصدية تنبعث في نفس الباحث المسلم الثقة الكاملة بأنه أمام بداية الريادة الإسلامية الفكرية لمسيرة الفكر الإنساني إذا أحسن توظيف وتفعيل هذه المبادئ.
وهذا التصور يوضح علاقة الإنسان بثلاثية الوجود: الوجود الإلهي والوجود الإنساني والوجود الكوني. فالتوحيد ينظم علاقة الإنسان بخالقه سبحانه، وهو محور العقيدة وأساس تصوراتها الفرعية، والتزكية تهذب وترقي النفس البشرية وترفعها من كائن طبيعي غريزي إلى سيد الكون صاحب المبادئ مؤهل لحمل مسؤولية الخلافة في الأرض بروح العبودية لله عز وجل. والعمران هو الدور المطلوب من الإنسان تجاه الكون وقد سخره الخالق عز وجل ليتمكن الإنسان من أداء دوره المنوط به.
[1] المستصفى ص438
[2] انظر المحصول: 2/2/612
[3] انظر الموافقات 2/8-10
[4] انظر الإحكام في أصول الأحكام: 3/274
[5] انظر شرح تنقيح الفصول: 391
[6] الإعلام بمناقب الإسلام ص125
[7] قال: “فالشريعة متضمنها مأمور به، ومنهي عنه، ومباح. فأما المأمور به : فمعظمه العبادات… وأما المنهيات فأثبت الشرع في الموبقات منها زواجر… وبالجملة: الدم معصوم بالقصاص… والفروج معصومة بالحدود… والأموال معصومة عن السراق بالقطع…” (انظر البرهان: 2/286)
[8] رأى أن المقاصد والحكم من شرع الله الأحكام تنقسم إلى خمسة أقسام هي: (1) ما شرع لكسر النفس كالعبادات (2) ما شرع لبقاء جبلة الإنسان كالإذن في المباحات (3) ما شرع لدفع الضرورات كالياعات والإحارات (4) ما شرع تنبيها على مكارم الأخلاق كالمواساة والصدقات (5) ما شرع للسياسة والزجر وهو ستة أصناف: حفظ النفس والنسب والعرض والمال والعقل وما شرع للردع والتعزير. (انظر: تبصرة الحكام: 2/116-117)
[9] مجموع الفتاوى: 11/343
[10] إشارة إلى قول الله تعالى في سورة التوبة الآية: 33، وسورة الفتح الآية: 28، الصف الآية: 9.
[11] أخرج مسلم في صحيحه (13/142 رقم: 4816) أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: “الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ..”
[12] انظر: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح: 4/104-114، مجموع الفتاوى: 10/607، 194، 32/234
[13] دراسة في فقه مقاصد الشريعة ص28 -29
[14] قواعد الأحكام: 2/93
[15] مجموع الفتاوى 11/343.
[16] مقاصد الشريعة الإسلامية ص273
[17] مصدر نفسه ص405
[18] سورة البقرة: ٢٠٥
[19] سورة المؤمنون: ١١٥ – ١١٦
[20] مقاصد الشريعة الإسلامية ص275
[21] أخرجه البخاري (1/28 رقم 52) ومسلم (3/1219 رقم 1599)
[22] مقاصد الشريعة الإسلامية ص276
[23] المصدر السابق ص450
[24] مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها ص45
[25] نحو تفعيل مقاصد الشريعة ص119
[26] انظر تفسير المنار: 11/206، الوحي المحمدي: ص185-187
[27] انظر: نحو تفعيل مقاصد الشريعة الإسلامية ص139-172
[28] انظر: مدخل لمعرفة الإسلام، د يوسف القرضاوي ص191-288، طبعة مكتبة وهبة
[29] انظر ما سبق بيانه في المبحث السابق عن دور الدكتور العلواني في علم المقاصد ص84-86
[30] مقاصد الشريعة [ضمن سلسلة قضايا إسلامية معاصرة]، طه حابر العلواني، ص135، دار الهادي، بيروت، ط2 1426هـ-2005م
[31] المصدر نفسه ص136-137
[32] انظر المصدر نفسه ص138-151
[33] انحصرت مسائل الفقه التقليدي في القضايا الشرعية العملية، فلم تعالج الجانب الفكري ولا النفسي. وحصرت أيضا في وقائع الماضي أما القضايا الواقعية المستجدة فهي مسبوقة بفرض الواقع عليها، وبالتالي فهي محكومة بآثار وقوعها مما يعجزها عن التوجيه المستقل بقيمها، وناهيك عن الاشتباك والاستباق والمشاركة الجادة في القضايا المستقبلية.
[34] انحصر الفقه التقليدي أيضا في الوسط المقتنع بالإيمان الإسلامي، أما حضوره في المجتمعات الأخرى وفي المباحثات العلمية والإنسانية العالمية العامة فلم يزل يقع في موقع الهامش على أحسن أحواله.