آفاق المستقبل

تصحيح مفاهيم وتكوين رؤى

وسائل استشراف المستقبل-5

قانون السببية

القسم الثاني من القانون العام هو قانون السببية.

وقد دل القرآن الكريم على أن كل شيء يحدث بسبب، سواء كان هذا الحدث يتعلق بالجماد أو بالنبات أو بالحيوان أو بالإنسان أو بالأجرام السماوية أو الظواهر الكونية المادية المختلفة.[1]

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “فليس في الدنيا والآخرة شيء إلا بسبب، والله خالق الأسباب والمسببات.”[2]

قال ابن القيم: إن القرآن مملوء من ترتيب الأحكام الكونية والشرعية والثواب العقاب على الأساب بطرق متنوعة، فيأتي بباء السببية تارة كقوله تعالى: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ)[3]، ويأتي باللام تارة كقوله تعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ)[4]، ويأتي بذكر الوصف المقتضي للحكم تارة كقوله تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً)[5]،[6] فالله تعالى اقتضت حكمته ربط المسببات بأسبابها.[7]

الحكمة من قانون السببية

إن وضع الكون على هذا النظام وترتيب الأحداث وفق هذا القانون قصده الله تعالى لحكمة بالغة تتناسب مع حكمة الله وعلمه.

وقد أفصح الشاطبي عن هذه الحكمة من هذا القانون، فقال: “.. أن الأسباب والمسببات موضوعة في هذه الدار ابتلاء للعباد وامتحانا لهم، فإنها طريق إلى السعادة أو الشقاوة.

وهي على ضربين: (أحدهما) ما وضع لابتلاء العقول، وذلك العالم كله من حيث هو منظور فيه، وصنعة يستدل بها على ما وراءها.

و(الثاني) ما وضع لابتلاء النفوس، وهو العالم كله أيضا. من حيث هو موصل للعباد المنافع والمضار، ومن حيث هو مسخَّر لهم ومُنقاد لما يريدون فيه، لتظهر تصاريفهم تحت حكم القضاء والقدر، ولتجري أعمالهم تحت حكم الشرع، ليسعد من سعد ويشقى من شقي، وليظهر مقتضى العلم السابق والقضاء المحتم الذي لا مرد له. فإن الله غني عن العالمين ومنزه عن الافتقار في صنع ما يصنع إلى الأسباب والوسائط ولكن وضعها للعباد ليبتليهم فيها.”[8]

فالابتلاء هو المقصد من ترتيب الأمور على هذا النظام. فالجزاء إنما يحصل بسبب العمل. والعمل ينتج بسبب الإرادة والقدرة. والإنسان مأمور بتحصيل الأسباب التي يراد تحقيق مسبباتها، وهو محاسب على كل الأسباب التي باشرها.

لا بد للأسباب من وجود الشروط وانتفاء الموانع

ولكن السبب لا يستقل بالتأثير بدون توفر الشروط ولا يؤثر أيضا مع وجود ما يمنعه. فالنار لا تحرق إلا إذا كانت الحرارة أصابت المحل، ولا تحرق أيضا إذا كان الحطب الذي أريد إحراقه مبللا. وزوال الشمس لا يوجب الصلاة على الصبي ولا على من كان في ساحة القتال عند بعض حالات الخوف. وهكذا.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “فكل سبب فهو موقوف على وجود الشروط وانتفاء الموانع.”[9]

وقال: “فلا بد من تمام الشروط وزوال الموانع، وكل ذلك بقضاء الله وقدره، وليس شيء من الأسباب مستقلا بمطلوبه بل لا بد من انضمام أسباب أخرى إليه، ولا بد من صرف الموانع والمعارضات عنه حتى يحصل المقصود، فالمطر وحده لا ينبت النبات إلا بما ينضم إليه من الهواء والتراب وغير ذلك. ثم الزرع لا يتم حتى تصرف عنه الآفات المفسدة له. والطعام والشراب لا يغذي إلا بما جعل الله في البدن من الأعضاء والقوى.”[10]

التوكل والدعاء من أقوى الأسباب

ومع أن اعتبار الأسباب المادية المحسوسة التي لا خلاف فيه بين العقلاء، فإن الشرع أثبت أيضا مفعولية الأسباب المعنوية التي قد لا يتفطن لها كثير من الناس. ومن هذه الأسباب المعنوية ما يعتبره بعض الناس منافيا ومضادا لاعتبار الأسباب المادية، ألا وهو التوكل. فإن الذين يجهلون حقيقة التوكل يعتقدون أن التوكل هو رفض الأسباب، والاعتماد على الله يعني ترك سائر الأسباب. وقد تقدم الكلام على هذا[11]. والذي يعنينا من هذه النقطة في هذا الموضع هو التنبيه على أن التوكل والاعتماد على الله فوق أنه لا ينافي مشروعية الأخذ بالأسباب فإنه من الأسباب أيضا بل من أقوى الأسباب.

قال ابن القيم رحمه الله: “فاعلم أن نفاة الأسباب لا يستقيم لهم توكل ألبتة. لأن التوكل من أقوى الأسباب في حصول المتوكل فيه. فهوكالدعاء الذي جعله الله سببا في حصول المدعو به. فإذا اعتقد العبد أن توكله لم ينصبه الله سببا، ولا جعل دعاءه سببا لنيل شيء فقد وقع في الوهم الباطل. فإن الله سبحانه وتعالى قضى بحصول الشبع إذا أكل المرء، والري إذا شرب، فإذا لم يفعل لم يشبع ولم يرو.”[12]

وقال: “فالتوكل من أعظم الأسباب التي يحصل بها المطلوب، ويندفع بها المكروه. فمن أنكر الأسباب لم يستقم منه التوكل. ولكن من تمام التوكل عدم الركون إلى الأسباب وقطع علاقة القلب بها، فيكون حال قلبه قيامه بالله لا بها وحال بدنه قيامه بها.”[13]

ويشهد لقول ابن القيم قول الله تعالى: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً)[14]، فإن الله جعل التوكل سببا لكون الله كافي عبده، فإن الشروط اللغوية -في كلام الشرع- أسباب شرعية.

أحكام الدخول في الأسباب

ولكن الناس في اتخاذ الأسباب على مراتب ثلاث؛ ظالم لنفسه، فمقتصد، فسابق بالخيرات بإذن الله. قال الشاطبي: “…فالالتفات إلى المسبَّبات بالأسباب له ثلاث مراتب:

إحداها: أن يدخل فيها على أنه فاعل للمسبب أو مولد له، فهذا شرك أو مضاهٍ له والعياذ بالله. والسبب غير فاعل بنفسه (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ )[15]، (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ)[16]، وفي الحديث: “أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي” الحديث[17]. فإن المؤمن بالكوكب الكافر بالله هو الذي جعل الكوكب فاعلا بنفسه. وهذه المسألة قد تولى النظر فيها أرباب الكلام.

والثانية: أن يدخل في السبب على أن المسبب يكون عنده عادة. وهذا هو المتكلم على حكمه قبل. ومحصوله طلب المسبب عن السبب لا باعتقاد الاستقلال بل من جهة كونه موضوعا على أنه سبب لمسبب. فالسبب لا بد أن يكون سببا لمسبب لأنه معقوله وإلا لم يكن سببا. فالالتفات إلى المسبب من هذا الوجه ليس بخارج عن مقتضى عادة الله في خلقه، ولا هو مناف لكون السبب واقعا بقدرة الله تعالى. فإن قدرة الله تعالى تظهر عند وجود السبب وعند عدمه. فلا ينفي وجود السبب كونه خالقا للمسبب، ولكن هنا قد يغلب الالتفات إليه حتى يكون فقد المسبب مؤثرا ومنكرا. وذلك لأن العادة غلبت على النظر في السبب فحكم كونه سببا ولم ينظر إلى كونه موضوعا بالجعل لا مقتضيا بنفسه. وهذا هو غالب أحوال الخلق في الدخول في الأسباب.

والثالثة: أن يدخل في السبب على أن المسبب من الله تعالى لأنه المسبِّب فيكون الغالب على صاحب هذه المرتبة اعتقاد أنه مسبَّب عن قدرة الله وإرادته من غير تحكيم لكونه سببا، فإنه لو صح كونه محققا لم يتخلف كالأسباب العقلية. فلما لم يكن كذلك تمحض جانب التسبيب الرباني، بدليل السبب الأول، هنا يقال لمن حكمه: فالسبب الأول عماذا تسبب؟ وفي مثله قال عليه الصلاة والسلام: “فمن أعدى الأول؟”[18] فإذا كانت الأسباب مع المسببات داخلة تحت قدرة الله فالله هو المسبِّب لا هي. إذ ليس له شريك في ملكه. وهذا كله مبين في علم الكلام. وحاصله يرجع إلى عدم اعتبار السبب من المسبِّب من جهة نفسه واعتباره فيه من جهة أن الله مسبِّبه وذلك صحيح”.[19]


[1] السنن الإلهية ص22

[2] مجموع الفتاوى (8/70)

[3] سورة الحاقة:24

[4] سورة إبراهيم: 1

[5] سورة الطلاق: 2

[6] مدارج السالكين (3/498-499)

[7] مدارج السالكين (3/478)

[8] الموافقات في أصول الشريعة (1/132)، أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1420هـ-1999م

[9] مجموع فتاوى ابن تيمية (8/133)

[10] مجوع فتاوى ابن تيمية (8/167)

[11] راجع الباب الأول للتوسع في هذا الموضوع في فصل عن التوكل

[12] مدارج السالكين 2/118

[13] مدارج السالكين 2/120

[14] سورة الطلاق:3

[15] سورة الزمر: 62

[16] سورة الصافات:96

[17] أخرجه البخاري (1/290 رقم 810، 1/351 رقم 991)، ومسلم (1/83 رقم 71)

[18] أخرجه البخاري (5/2161 رقم 5387، 5/2177 رقم 5437) ومسلم (4/1742 رقم 2220)

[19] الموافقات (1/131-132)

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

معلومات

This entry was posted on 12 أوت 2009 by in مقالات.

الابحار

%d مدونون معجبون بهذه: