آفاق المستقبل

تصحيح مفاهيم وتكوين رؤى

السلف والتخطيط

كان سلفنا الصالح رضي الله عنهم من بعد نظرهم وحرصهم على مستقبل الأمة أن خططوا لمسيرة الأمة الحضارية. لم يكن كل الإجراءات التي اتخذوها من أجل مصلحتهم الخاصة، بل كل ما فعلوا إنما كان من أجل إقامة دين الله ومن أجل إعلاء كلمة الله إلى يوم القيامة. فلا غرو أن يفكروا دائما في مستقبل هذه الأمة بعد مفارقتهم الدنيا.

منع قسمة الأراضي على المجاهدين

فهذا عمر بن الخطاب لما قدم الجابية[1] وأراد أن يقسم الأراضي بين المسلمين، اعترضه بعض الصحابة. والسبب هو رعاية المصلحة المستقبلية للأجيال القادمة.

قال له معاذ بن جبل: “والله إذن ليكونن ما تكره، إنك إن قسمتها صار الريع[2] العظيم في أيدي القوم ثم يبيدون فيصير إلى الرجل الواحد أو المرأة، ثم يأتي من بعدهم قوم يسدون من الإسلام مسدا، وهم لا يجدون شيئا، فانظر أمرا يسع أولهم وآخرهم.”[3]

لقد رأى معاذ رضي الله عنه أن قسمة الأراضي على المجاهدين سيؤدي على المدى البعيد إلى استبداد القلة من المسلمين على الأموال ثم لم يكن لباقي المسلمين نصيب.

لقد استحسن عمر هذه اللفتة من معاذ فيقول: اجتمعوا لهذا المال فانظروا لمن ترونه.

ثم قال لهم: إني أمرتكم أن تجتمعوا لهذا المال فتنظروا لمن ترونه، وإني قد قرأت آيات من كتاب الله سمعت الله يقول: (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ . لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)[4] والله ما هو لهؤلاء وحدهم، (وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ)[5]الآية، والله ما هو لهؤلاء وحدهم (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ)[6] الآية، والله ما من أحد من المسلمين إلا وله حق في هذا المال أعطي منه أو منع حتى راع بعدن.[7]

قال عمر : لولا من يأتي من آخر الناس ما حسنة قرية إلا قسمتها، كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر.[8]

فكانت تلك الأراضي المفتوحة الواسعة الشاسعة تنفق لمصالح المسلمين العامة. لولا فضل الله ثم فضل فقه الصحابة البعيد المدرك لحصل الخلل العظيم في توازن اقتصاد المسلمين. فجزاهم الله عنا وعن الإسلام خير الجزاء.

جمع القرآن

وكذلك من بعد نظر الصحابة رضي الله عنهم أن جمع القرآن الذي كان مفرَّقا في أول عهد الإسلام. لما أحسوا بخطورة آثار الحرب في موت كثير من حفاظ القرآن. فاستدركوا الأمر، وبادروا بالخطوات الوقائية قبل فوات الأوان.

روى البخاري عن زيد بن ثابت[9] رضي الله عنه قال: أرسل إلي أبو بكر الصديق مقتل أهل اليمامة فإذا عمر بن الخطاب عنده.

قال أبو بكر رضي الله عنه: “إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر[10] يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء بالمواطن، فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن.

قلت لعمر: كيف تفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

قال عمر: هذا والله خير.

فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك ما رأى عمر.”

قال زيد: قال أبو بكر: “إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم, فتتبع القرآن فاجمعه.” فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمراني به من جمع القرآن.

قلت: كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!

قال: هو والله خير.

فلم يزل يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.”[11]

فكانت تلك الخطوة التاريخية الخطيرة، التي أنقذت كتاب الله من الضياع فلم يضع كما ضاعت التوراة والإنجيل. إن هذا الحذر والحرص الشديد على حفظ القرآن قد أرسى قاعدة متينة لبداية رحلة الأمة المحمدية الطويلة التي تواجه فيها شتى أنواع التحديات. فكانت تلك البداية المباركة قد حفظت كيان الأمة ثابتا على أصالتها، وتُبقي على مدى التاريخ ذلك النور السماوي الذي طالما يضيء للبشرية جمعاء لمدة أكثر من أربعة عشر قرنا وحتى يرث الله الأرض ومن عليها …

توحيد المصاحف

ثم كان التحدي الثاني بعد ما جمع القرآن في مصحف واحد. وهو اختلاف القراءات. فقد نزل القرآن على رسول الله صلة الله على وسلم على سبعة أحرف. كما جاء في صحيحي البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “أقرأني جبريل على حرف، فراجعته، فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف.”[12]

وقد كان صلى الله عليه وسلم يقرأ بهذه الأحرف كلها، إلا أن الصحابة رضي الله عنهم لم يتلقوا هذه الأحرف جميعها، فمنهم من أخذ بحرف من هذه الأحرف، ومنهم من أخذ بحرفين، ومنهم من زاد على ذلك. فلما تفرقوا في البلاد أخذ التابعون عنهم حسبما أخذوا عن رسول الله صلى عليه وسلم. ولذلك اختلف الناقلون للقراءات، فمنهم من نقل قراءة معينة، ومنهم من لم ينقلها، لأنه لم يسمعها ممن أخذ عنه.[13]

ورغم علم المسلمين أن هذه القراءات إنما هي أوجه متعددة لقراءة بعض الكلمات، نزلت رخصة وتيسيرا من الله عز وجل، إلا أنه مع توالي الأيام ومرور الزمن، وقر في نفوس أهل كل إقليم أن قراءتهم هي الأصح والأولى. مما جعلهم ينكرون على غيرهم قراءتهم حينما يلتقون في مواطن الجهاد.

فكان لا بد من الحزم في مواجهة هذا التحدي الخطير. وكان ذلك التدارك الحازم.

روى البخاري في صحيحه أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان. وكان يغازي أهل الشام في أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة.

فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى.

فأرسل عثمان إلى حفصة[14]: أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك.

فأرسلت بها حفصة إلى عثمان فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير[15] وسعيد بن العاص[16] وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام[17] فنسخوها في المصاحف.

وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم.

ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة. وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق.”[18]

فانتهت الفتنة الوشيكة، وولّت الفرقة الواقعة بسبب اختلاف الناس في القراءة بفضل الله ثم بفضل ذلك التحرك السريع لحسم الموضوع.

تدوين السنة

ومما يدل على بعد نظر السلف أيضا ما قام به وشجعه عمر بن عبد العزيز من حركة التدوين للسنة.

لقد كان الوقت مبكرا جدا، لم يمض قرن من تاريخ هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم. ما زال بعض الصحابة موجودين، وما زال الإقبال على حفظ السنة في أشد نشاطه وأوج قوته، وما زال كبار التابعين الحافظين لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم منتشرين في البلدان. وكذلك لم يخل الميدان ممن يكتب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. إلا أن بعد النظر من عمر بن عبد العزيز يسبق كل عوامل الزمن. ونظر عمر الثاقب يدرك أن سباق الزمن لن يرحم أحدا، وأن الوقت سيعمل على استهلاك ذلك الخير الموجود إذا لم يعمل المسلمون على تثبيته بشكل جماعي. حتى يكون تيارا عاما لاجهودا فردية.

فكان رحمه الله يشجع علماء التابعين على كتابة السنة. فكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم[19]: “انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم،  فاكتبه فإني خفت دروس    العلم وذهاب العلماء، ولا تقبل إلا حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولتفشوا العلم ولتجلسوا حتى يعلم من لا يعلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرا.[20]

لننظر كيف حرصه رحمه الله على الحفاظ على الضمانات الأساسية لاستمرار الحركة العلمية والحفاظ على قوتها وأصالتها. لم يكتف رحمه الله بتشجيع حركة التدوين، بل حث رحمه الله على نشر العلم وإعمار مجالسه.

وكان يرى أن احتكار العلم عند وسط محدد يهدد سلامة العلم الصحيح. فقال قاعدة مهمة: “فإن العلم لايهلك حتى يكون سرا.” لأن انتشار العلم بين الناس يقلل من احتمال الخطأ والنسيان أو الاندراس. وكون العلم منتشرا بين الناس يكوِّن في المجتمع حماية من ظهور الانحراف ومحاولة تشويه المعلومات.

فهكذا، فإن هناك أمثلة كثيرة تدل على وعي السلف الصالح رضي الله عنهم في نظرتهم وموقفهم تجاه المستقبل.


[1] الجابية: هي قرية من أعمال دمشق ثم من عمل الجيدور من ناجية الجولان قرب مرج الصفر في شمالي حوران وإذا وقف الإنسان في الصنمين واستقبل الشمال ظهرت له وتظهر من نوى أيضا وبالقرب منها تل يسمى تل الجابية (معجم البلدان 2/91)

[2] الريع  بالفتح النماء والزيادة (مختار الصحاح 1/111)

[3] الأموال لأبي عبيد ص75

[4] سورة الحشر:7،8

[5] سورة الحشر:9

[6] سورة الحشر: 10

[7] أخرجه البيهقي في سننه الكبرى (6/351 رقم 12781)

[8] الجامع لأحكام القرآن (18/22)

[9] زيد بن ثابت بن الضحاك بن زيد بن لوذان بن عمرو بن عوف بن غنم بن مالك بن النجار الأنصاري الخزرجي أبو سعيد وقيل أبو ثابت وقيل غير ذلك في كنيته استصغر يوم بدر ويقال إنه شهد أحدا ويقال أول مشاهده الخندق  وكان زيد من علماء الصحابة. وعن أنس قال قال النبي أفرضكم زيد رواه أحمد بإسناد صحيح. كان عمر يستخلف   زيد بن ثابت   إذا سافر فقلما رجع إلا أقطعه حديقة من نخل. مات زيد سنة اثنتين أو ثلاث أو خمس وأربعين وقيل سنة إحدى أو اثنتين أو خمس وخمسين وفي خمس وأربعين قول الأكثر (الإصابة 2/592-594)

[10] استحر القتل وحر بمعنى اشتد  (لسان العرب 4/179)

[11] أخرجه البخاري (4/1907 رقم 4701، 6/2629 رقم 6768)

[12] أخرجه البخاري (3/1177 رقم 3047، 4/1909 رقم 4705)، ومسلم (1/561 رقم 819)

[13] رسم المصحف وضبطه بين التوقيف والاصطلاحات الحديثة، للدكتور شعبان محمد إسماعيل ص15، دار السلام، القاهرة، الطبعة الثانية 1322هـ – 2001م

[14] حفصة بنت عمر بن الخطاب أمير المؤمنين هي أم المؤمنين. وأمها زينب بنت مظعون وكانت قبل أن يتزوجها النبي عند خنيس بن حذافة وكان ممن شهد بدرا ومات بالمدينة وتزوج رسول الله حفصة بعد عائشة. وقيل إنها ولدت قبل المبعث بخمس سنين. ماتت لما بايع الحسن معاوية وذلك في جمادي الأولى سنة إحدى وأربعين وقيل بل بقيت إلى سنة خمس وأربعين (الإصابة 7/581)

[15] عبد الله بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزي القرشي الأسدي، أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق ولد عام الهجرة. وهو أحد العبادلة وأحد الشجعان من الصحابة وأحد من ولي الخلافة منهم. وهو أول مولود ولد للمهاجرين بعد الهجرة وحنكه النبي وسماه باسم جده وكناه بكنيته. قتل بن الزبير في جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين من الهجرة وهذا هو المحفوظ وهو قول الجمهور (الإصابة 4/89-94)

[16] سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية القرشي الأموي أبو عثمان  أمه أم كلثوم بنت عبد الله بن أبي قيس بن عمرو العامرية ولم يكن للعاص ولد غير سعيد المذكور. وكان من فصحاء قريش ولهذا ندبه عثمان فيمن ندب لكتابة القرآن قال بن أبي داود في المصاحف حدثنا العباس بن الوليد حدثنا أبي حدثنا سعيد بن عبد العزيز أن عربية القرآن أقيمت على لسان سعيد بن العاص لأنه كان أشبههم لهجة برسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان مشهورا بالكرم والبر حتى كان إذا سأله السائل وليس عنده ما يعطيه كتب له بما يريد أن يعطيه مسطورا فلما مات كان عليه ثمانون ألف دينار فوفاها عنه ولده عمرو. ومن محاسن كلامه لا تمازح الشريف فيحقد عليك ولا تمازح الدنيء فتهون عليه. مات سعيد في قصره بالعقيق سنة ثلاث وخمسين (الإصابة 3/107-108)

[17] عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن محزوم القرشي المخزومي يكنى أبا محمد تقدم ذكر أبيه وأمه فاطمة بنت الوليد بن المغيرة أخت خالد. خرج أبوه بعد النبي لما خرج الى الجهاد بالشام فمات أبوه في طاعون عمواس سنة ثمانية عشرة وتزوج عمر أمه فنشأ في حجر عمر فسمع منه ومن غيره وتزوج بنت عثمان ثم كان ممن ندبه عثمان لكتابة المصاحف من شباب قريش.  مات سنة ثلاث وأربعين (الإصابة 5/29)

[18] أخرجه البخاري (4/347-348)

[19] كان أبو بكر بن حزم واليا على المدينة، وكان التوجيه إلى أهل المدينة وعلمائها (انظر الرسالة المستطرفة ج1ص3، المحدث الفاصل ج1ص374، السنة لمحمد بن نصر المروزي 1/31)

[20] أخرجه البخاري معلقا (1/49) وأوصله ابن حجر في تغليق التعليق (2/89) والمروزي في السنة (1/31) والرامهرمزي في المحدث الفاصل (1/374)

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

معلومات

This entry was posted on 15 جويلية 2009 by in مقالات.

الابحار

%d مدونون معجبون بهذه: