ومن الأخبار المنذرة بالفتن حديث حذيفة فقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الخير والشر في هذه الدنيا في تعاقب مطرد وتداول مستمر.
عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما يقول: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني.
فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟
قال: نعم.
قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟
قال: نعم، وفيه دخن.
قلت: وما دخنه؟
قال: قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر.
قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟
قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها.
قلت: يا رسول الله صفهم لنا.
قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا.
قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟
قال: الزم جماعة المسلمين وإمامهم.
قلت: فان لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟
قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك.[1]
لقد سأل حذيفة رضي الله عنه من شدة حرص على التحرز وقوة تنبهه من الشر عن مجئ الشر بعد الخير الذي كانوا عليه. كما أنهم كانوا على الشر الجاهلي قبل أن جاء ذلك الخير الإسلامي.
فأجاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيأتي شر بعد ذلك الخير العميم والسعد العظيم. فإن الدنيا دار ابتلاء وليست مستقر النعماء.
قال ابن حجر: “والمراد بالشر ما يقع من الفتن من بعد قتل عثمان وهلم جرا، أو ما يترتب على ذلك من عقوبات الآخرة.”[2]
ثم أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن بعد ذلك الشر يأتي الخير فإن الحق باق ومنتصر، والباطل زائل ومندحر. إلا أن هذا الخير الآتي يشوبه دخن ليبقى قدر من الابتلاء.
قال النووي فيما نقله عن أبي عبيد وغيره إن الدَخَن بفتح الدال المهملة والخاء المعجمة؛ أصله أن تكون في لون الدابة كدورة إلى سواد، قالوا: والمراد هنا أن لا تصفو القلوب بعضها لبعض، ولا يزول خبثها، ولا ترجع إلى ما كانت عليه من الصفاء.[3]
وقال ابن حجر في معنى الدخن أنه هو الحقد. وقيل: الدغل. وقيل: فساد في القلب. ومعنى الثلاثة متقارب، يشير إلى أن الخير الذي يجيء بعد الشر لا يكون خيرا خالصا، بل فيه كدر. وقيل: المراد بالدخن الدخان، ويشير بذلك إلى كدر الحال. وقيل: الدخن كل أمر مكروه. وقال أبو عبيدة: يفسر المراد بهذا الحديث الحديث الآخر “لا ترجع قلوب قوم على ما كانت عليه.” وأصله أن يكون في لون الدابة كدورة بالحق. المعنى أن قلوبهم لا يصفو بعضها لبعض.[4]
قال القاضي: قيل المراد بالخير بعد الشر أيام عمر بن عبد العزير رضي الله عنه.[5]
وقوله صلى الله عليه وسلم (قوم يهتدون بغير هديي) الهدى الهيئة والسيرة والطريقة، كأن هذا مظهر من مظاهر الدخن الذي يشوب ذلك الخير الآتي.
وقوله بعده (تعرف منهم وتنكر) أنهم هؤلاء القوم خلطوا المعروف بالمنكر، فتعرف منهم أمورا محمودة وتنكر فيهم أشياء مذمومة.
وجاء عن أم سلمة ثم زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع. قالوا: يا رسول الله ألا نقاتلهم؟ قال: لا ما صلوا.[6]
فذلك المنكر الحاصل لم يصل إلى مستوى يستدعي تغييره بقوة وعنف ورفع السيف.
ثم أخبر الرسول أن بعد ذلك الخير يأتي شر مرة أخرى. وهذا الشر يتمثل في ظهور أناس يدعون إلى المنكرات المؤدية إلى النار.
قال النووي رحمه الله: وقوله صلى الله عليه وسلم (دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها)، قال العلماء: هؤلاء من كان من الأمراء يدعو إلى بدعة أو ضلال آخر كالخوارج والقرامطة وأصحاب الفتنة.[7]
قال ابن حجر: قوله (على أبواب جهنم) أطلق عليهم ذلك باعتبار ما يؤول إليه حالهم كما يقال لمن أمر بفعل محرم: وقف على شفير جهنم.[8]
ثم وصفهم الرسول صلى الله وسلم هؤلاء القوم الدعاة على أبواب جهنم أنهم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا.
قال ابن حجر: قوله (هم من جلدتنا) أي من قومنا ومن أهل لساننا وملتنا. وفيه إشارة إلى أنهم من العرب. وقال الداودي[9]: أي من بني آدم. وقال القابسي[10]: معناه أنهم في الظاهر على ملتنا وفي الباطن محالفون. وجلدة الشيء ظاهره. وهي في الأصل غشاء البدن. قيل: ويؤيد إرادة العرب أن السمرة غالبة عليهم. واللون إنما يظهر في الجلد.[11]
ثم أرشد الرسول صلى الله عليه وسلم بالتمسك بالوحدة الإسلامية إن كان لهم كيان جامع وجماعة قائمة. وسأتكلم عن هذه النقطة فيما بعد بشيء من التفصيل بإذن الله.
وأرشد في الأخير كيف يتصرف المسلم إذا كان هو وحده ولم يجد جماعة المسلمين يلتزم بهم ولا إمام يقف معه، أن يتمسك بأصل الدين الحق حتى الموت.
قال البيضاوي[12]: المعنى إذا لم يكن في الأرض خليفة فعليك بالعزلة والصبر على تحمل شدة الزمان. وعض أصل الشجرة كناية عن مكابدة المشقة، كقولهم فلان يعض الحجارة من شدة الألم. أو المراد اللزوم، كقوله في الحديث الآخر: “وعضوا عليها بالنواجذ.” ويؤيد الأول قوله في الحديث الآخر “فإن مت وأنت عاض على جذل خير لك من أن تتبع أحدا منهم.”[13]
قال النووي رحمه الله: وفي حديث حذيفة هذا لزوم جماعة المسلمين وإمامهم ووجوب طاعته وإن فسق وعمل المعاصي من أخذ الأموال وغير ذلك فتجب طاعته معصية وفيه معجزات لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهي هذه الأمور التي أخبر بها.[14]
***
والذي يظهر عندي، والله أعلم، أن الحديث يتحدث عن النمط الذي تمر على نحوه مراحل تاريخ هذه الأمة من تعاقب الخير والشر وفق سنة التداول. والذي أوّله العلماء كله هو إنما تمثيل في مرحلة معينة من تاريخ المسلمين. وسيتكرر تعاقب الخير والشر على هذا النمط. فكلما وصل المسلمون إلى وضع يسود فيه الخير -طال أو قصر- يعقبه امتحان من الله بظهور الشر-طال أو قصر، ثم يزول هذا الشر ويعقبه خير، إلا أن بقية الشر عالقة وإن كانت قليلة بالنسبة إلى الخير السائد، ثم يأتي زمن الشر مرة أخرى، ثم زمن الخير وفيه بقية الشر وهكذا. ولم يشر صلى الله عليه وسلم أن في زمن الشر بقية خير لأن الخير هو الأصل في الكون، وهو الثابت في كل زمان، إلا أن طغيان الشر له جولة وصولة فترة من الزمن تخفي كثيرا من الخير ولم تزله. كما قال تعالى: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ)[15].
ولا يلزم أن يكون الخير الأول مثل الخير الثاني والشر الأول مثل الشر الثاني، ولا قوة أصحاب الحق في مرحلة مثل قوتهم في مرحلة أخرى، وكذلك أهل الشر.
يدل على هذا المعنى كله مجموع النصوص التي تدل على أن الله ينصر الحق وأهله، وأنه متم نوره ولو كره الكافرون، وأنه لا يزال طائفة من أمة الإسلام قائمين على أمر الله ظاهرين على الحق منصورين، وبعث الله على كل رأس مائة سنة من يجدد أمر هذا الدين. هذا كله يدل على أن الخير باق في هذه الأمة إلى نزول عيسى عليه الصلاة والسلام، ثم يبعث الله ريحا تقبض روح كل مسلم، فلم يبق إلا شرار الخلق، فذلك العهد شر محض.
وتاريخ المسلمين يدل على ما ذهبت إليه، فكلما ظهرت الفتنة أطفأها الله، ولكن بقي بعدها بعض آثارها، إلا أن هذا الزمن الثاني خير من الأول. وكلما ظهرت البدع وأهلها بعث من الأمة من يتصدى لها، وكتب الله له الظهور والقبول، وتبعه السواد العظيم من الأمة. وهكذا. وكذلك حكام المسلمين ظهر فترة بعد فترة من يقوم بالعدل، وينشر الخير، وإن تفاوتوا في الخير وقوته. وليس زمن الخير بعد الشر فقط في عهد عمر بن عبد العزيز. فأبو جعفر المنصور وهارون الرشيد أيضا في عهدهما خير كثير، حيث استتب الأمر، وانتشر العلم، وشاع الخير والأمن. وكذلك ظهور أمثال عماد الدين زنكي، ونور الدين محمود، وصلاح الدين الأيوبي، ثم ظهور محمد الفاتح في الخلافة العثمانية وهكذا، فالدين يتجدد على أيدي العلماء والأمراء وأفراد الأمة المميزين. وإن كان خيرا دون خير، وشرا دون شر.
وأما ما رواه البخاري في صحيحه عن الزبير بن عدي[16] قال: أتينا أنس بن مالك فشكونا إليه ما يلقون من الحجاج. فقال: اصبروا، فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده شر منه، حتى تلقوا ربكم، سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم.[17] فالظاهر من الحديث أنه يقصد زمن الصحابة وليس كل الأزمنة، كأن هذا يفسر حديث حذيفة “فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم.” لذلك قال ابن حجر رحمه الله في هذا الحدبث: ويحتمل أن يكون المراد بالأزمنة المذكورة أزمنة الصحابة، بناء على أنهم هم المخاطبون بذلك، فيختص بهم، فأما من بعدهم فلم يقصد في الخبر المذكور.[18]
واستدل ابن حبان في صحيحه بأن حديث أنس ليس على عمومه بالأحاديث الواردة في المهدي وأنه يملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا.[19]
وأقوى من استدلال ابن حبان حديث حذيفة أيضا لما قال: “فهل بعد هذا الشر من خير؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم.”
وكذلك حديث “بدأ الإسلام غريبا، وسيعود كما بدأ غريبا، فطوبى للغرباء.”[20] فإنه يتحدث عن فترة من التاريخ وليس مطردا في كل العصور.
قال العلامة الشيخ يوسف القرضاوي: “والذي أراه أن الحديث يتحدث عن دورات أو (موجات) تأتي وتذهب. وإن الإسلام يعرض له ما يعرض لكل الدعوات والرسالات من القوة والضعف، والامتداد والانكماش، والازدهار والذبول، وفق سنة الله التي لا تتبدل. فهو كغيره خاضع لهذه السنن الإلهية، التي لا تعامل الناس بوجهين، ولا تكيل لهم بكيلين. فما يجري على الأديان والمذاهب يجري على الإسلام. وما يجري على سائر الأمم يجري على أمة الإسلام.”[21]
***
وأما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بلزوم الجماعة، فجاء في الرسالة للإمام الشافعي:
قال: فما معنى أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلزوم جماعتهم؟
قلت: لا معنى له إلا واحد.
قال: فكيف لا يحتمل إلا واحدا؟
قلت: إذا كانت جماعتهم متفرقة في البلدان فلا يقدر أحد أن يلزم جماعة أبدان قوم متفرقين، وإن وجدت الأبدان تكون مجتمعة من المسلمين والكافرين والأتقياء والفجار، فلم يكن في لزوم الأبدان معنى لأنه لا يمكن، ولأن الأبدان لا يصنع شيئا، فلم يكن للزوم جماعتهم معنى إلا ما عليه جماعتهم من التحليل والتحريم والطاعة فيهما.[22]
قال الطبري: اختلف في هذا الأمر وفي الجماعة، فقال قوم: هو السواد الأعظم ثم ساق عن محمد بن سيرين عن أبي مسعود أنه وصى من سأله لما قتل عثمان: “عليك بالجماعة، فإن الله لم يكن ليجمع أمة محمد على ضلالة.” وقال قوم: المراد بالجماعة الصحابة دون من بعدهم. وقال قوم: المراد بهم أهل العلم لأن الله جعلهم حجة على الخلق، والناس تبع لهم في أمر الدين.[23]
وكل تلك الأقوال تتفق في أن المراد بالجماعة هي الإطار العلمي الاعتقادي الذي يجب أن تتفق عليه الأمة من مسائل قطعية ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع واتباع ما كان عليه السلف الصالح من لزوم الحق واتباع السنة ومجانبة البدع والمحدثات. ويقابل الحماعة بهذا المعنى التفرق في الدين. والمخالفون لها هم الفرق الضالة وأهل الأهواء.
قال الطبري: والصواب أن المراد في الخبر لزوم الجماعة الذين في طاعة من اجتمعوا على تأميره فمن نكث بيعته خرج عن الجماعة.[24]
وهذا القول يعني أن الجماعة هي الإطار السياسي الذي يجب أن ينخرط فيه كل أفراد الأمة من خرج عنه فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه. والجماعة بهذا المعنى تقع في مقابلة البغي والتفرق في الراية، ويسمى المفارق لها باغيا وناكثا وإن كان من أهل السنة.
يدل على المعنى الأول: أحاديث منها: حديث: “إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة يعني الأهواء كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة.”[25]
ومما يدل على المعنى الثاني أحاديث منها: حديث: “من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر، فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات فميتة جاهلية”.[26]
فيتلخص من النصوص وأقوال العلماء أن جميعها يؤول عند التحقيق إلى قولين يكمل الواحد منهما الآخر:
“الأول: أن الجماعة هي جماعة العلماء من أهل السنة أي الاجتماع على الحق الذي تمثله القرون الثلاثة الفاضلة، ويحمل لواءه في كل عصر الثقات العدول من أئمة أهل السنة، وهم يمثلون السواد العام من المسلمين، لأن العامة بالفطرة تبع لهم، وهي بذلك تقع في مقابلة أهل الأهواء والبدع.
الثاني: أن الجماعة هي الأمة في اجتماعها على الإمام ما دام في الجملة مقيما لأحكام الإسلام.
وهكذا تتفق دلالات النصوص، ومآلات أقوال أهل العلم في بيان المقصود بمعنى الجماعة وأنها تتضمن كلا المعنيين السابقين.”[27]
“وهذا يعني أن –بناء على على ما سبق من بيان المقصود بالجماعة- أن لزوم الجماعة يتضمن أمرين:
الأول: الجانب العلمي والاعتقادي: ويعني ضرورة اتباعهم فيما كانوا عليه من الاعتقاد والتحليل والتحريم ونحو ذلك مما يؤول إلى هذا الجانب.
الثاني: الجانب السياسي ويعني اتباعهم فيما اتفقوا عليه من تقديم الإمام والطاعة له في غير معصية، وعدم الخروج عليه إلا بالكفر البواح.
والواجب على كل مسلم أن يستجيب لأمر النبي صلى الله عليه وسلم له بلزوم الجماعة بكلا معنييها اللذان تمخضت عنهما أقوال أهل العلم (العلمي والسياسي أو الدعوة والدولة.)[28]
“والأصل أن ينشأ الإطار السياسي للجماعة على أساس من إطارها العلمي التزاما به، وحماية له، ودعوة إليه. وهكذا كان الحال أيام الراشدين. فقد كانوا أعلام السنة وخلفاء الأمة.
وأما إذا افترق الإطاران وتجاوز الإطار السياسي للجماعة إطارها العلمي كما كان الحال أيام الإمام أحمد بن حنبل وشيخ الإسلام ابن تيمية نظر؛ فإن كان هذا التجاوز لم يبلغ بعد مبلغ الكفر أو انعدام الشرعية، فإن الواجب وفقا لما انتهى إليه جمهور المحققين من أهل السنة هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتزام الطاعة له في غير معصية. فيكون سبيل النجاة يومئذ هو السنة والجماعة.”[29]
وأما إذا بلغ التجاوز بالإطار السياسي مبلغ الكفر البواح أو انعدمت شرعية ولايته لأي سبب من الأسباب، كما هو الحال في واقعنا المعاصر في أغلب بلاد المسلمين. فنحن أمام شغور الزمان عن السلطان، ومن ذلك انعقاد الولاية على أن تكون السيادة العليا أو التشريع المطلق لأحد من دون الله، فإن هذا مما يبطل هذه الولاية، ويعدم وجودها من الناحية الشرعية، والمنعدم شرعا كالمنعدم حسا. ولا بديل من ذلك إلا الاعتزال حتى الموت.
ويتحقق الانتساب إلى الحماعة في إطارها العلمي في هذه الحالة بما يلي:
أ- الالتزام المجمل بالإسلام، وذلك بالبقاء على الولاء للإسلام والرضا بشريعته ووموالاة دعاته، وعدم استبدال المذاهب الوضعية به.
ب- عدم الالتزام المجمل بفرقة من الفرق الضالة أو بأصل كلي من أصولها الظاهرة، مع ما يقتضيه ذلك من الاتزام المجمل بمنهج أهل السنة وموالاة أصحابه وتبديع من خالفه.
ويتمثل الإطار السياسي للجماعة في حالة خلو الزمان من السلطان في أهل الحل والعقد الذين ينتظم بهم الأمر ويتبعهم سائر الناس، ويفزع إليهم في المهمات والمصالح العامة.
وأهل الحل والعقد هم أهل العلم وأهل القدرة، أو أهل الزعامة الدينية والدنيوية ممن تحقق لديهم الحد الأدنى من الانتساب إلى الجماعة في إطارها العلمي، من الالتزام المجمل بالإسلام وعدم الالتزام المجمل بفرقة من الفرق الضالة، ويشترط فيهم العدالة والكفاية والعلم بمقاصد الإمامة وشرائطها المعتبرة.
يتمثل أهل الحل والعقد في الواقع العملي في قادة الدعوات والجماعات، ومن كتب الله له قبولا عاما من العلماء والدعاة، وإن يكن لم له انتساب محدد إلى تجمع من التجمعات الإسلامية المعاصرة، بالإضافة إلى وجهاء الناس وأولي المكانة والخبرة في الأمة وموضع الثقة من سوادها الأعظم ممن صح انتسابهم إلى الجماعة في إطارها العلمي.[30]
والمقصود بالاعتزال في حديث حذيفة “اعتزل تلك الفرق كلها” هو اعتزال الفرق الضالة المشار إليها في الحديث “دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها.” ولا يصح إطلاق الفرق على تجمعات العمل الإسلامي المعاصر. لأن الجماعة كما قال ابن مسعود: “إنما الجماعة ما وافق طاعة الله وإن كنت وحدك.”[31] فكيف بأناس تجمعوا على الحق وجاهدوا من أجله؟ فأولى أن يلتزم بهم، ولا يعتزل عنهم.
وكيف يفهم أن الشرع يأمر باعتزال جماعات الخير وقد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [32]، ووقد حصر الله السلامة من الخسران المحقق على أناس اجتمعوا على الخير والتواصي بالحق والصبر عليه (وَالْعَصْرِ . إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ . إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ).[33]
والأصل في المسلمين أن يكون لهم كيان منظم، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “لا إسلام الا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمارة، ولا إمارة إلا بطاعة، فمن سوده قومه على الفقه كان حياة له ولهم، ومن سوده قومه على غير فقه كان هلاكا له ولهم.”[34]
قال ابن تيمية رحمه الله: “يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين إلا بها. فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع، لحاجة بعضهم إلى بعض. ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم.”[35] رواه أبو داود من حديث أبي سعيد وأبي هريرة. وروى الإمام أحمد في المسند عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلا أمروا عليهم أحدهم.”[36] فأوجب صلى الله عليه وسلم تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر تنبيها بذلك على سائر أنواع الاجتماع. ولأن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة. وكذلك سائر ما أوجبه من الجهاد والعدل وإقامة الحج والجمع والأعياد ونصر المظلوم وإقامة الحدود لا تتم إلا بالقوة والإمارة.”[37]
فالشرع يحث ويأمر بالانضمام إلى تلك التجمعات التي تلتزم بهدي الكتاب والسنة والعمل على إحياء الدين. فإذا لم يتحقق وجود الجماعة على الوجه الكامل فلا أقل من أن يجتمع المسلمون بأقل ما يمكن تحقيقه. والله أعلم.
وخلاصة فوائد ما في الحديث أمور منها:
1- يجب الحذر من الشر كما يجب الحرص على الخير.
2- سنة التداول من الخير إلى الشر والعكس جارية على هذه الأمة.
3- يجب التنبه من الدخن الذي يوجد في زمن الخير.
4- الثبات على الحق في كلا الزمنين.
5- وجوب لزوم جماعة المسلمين وإمامهم وعدم التفرق.
اعتزال الفرق الضالة.
[1] أخرجه البخاري (3/1319 رقم 4311، 6/2595 رقم 6673) ومسلم (3/1475 رقم 1847)
[2] فتح الباري (13/35)
[3] شرح النووي (12/236)
[4] فتح الباري (13/35)
[5] شرح النووي (12/238)
[6] أخرجه مسلم (3/1481 رقم 1854)
[7] شرح النووي (12/236-238)
[8] فتح الباري (13/36)
[9] أبو جعفر أحمد بن سعيد الداودي وهو ممن ينقل عنه بن التين في شرحه للبخاري (كشف الظنون 1/545)
[10] أبو الحسن القابسي علي بن محمد بن خلف المعافري القيرواني الفقيه شيخ المالكية أخذ عن ابن مسرور الدباغ وفي الرحلة عن حمزة الكتاني وطائفة وصنف تصانيف فائقة في الأصول والفروع وكان مع تقدمه في العلوم حافظا صالحا تقيا ورعا حافظا للحديث وعلله منقطع القرين وكان ضريرا توفي سنة 403هـ (شذرات الذهب 2/168)
[11] فتح الباري (13/36)
[12] القاضي ناصر الدين أبو الخير عبد الله بن عمر بن محمد بن علي قاضي القضاة البيضاوي بفتح الباء إلى البيضاء من بلاد فارس الشافعي. قال السبكي كان إماما مبرزا نظارا خيرا صالحا متعبدا. توفي بمدينة تبريز سنة إحدى وتسعين وستمائة (شذرات الذهب 3/391)
[13] فتح الباري (13/35-37) مختصرا
[14] شرح النووي (12/236-238)
[15] سورة الرعد: 17
[16] الزبير بن عدي العلامة الثقة أبو عدي الهمداني اليامي الكوفي قاضي الري وثقه أحمد وكان فاضلا صاحب سنة قال العجلي ثقة ثبت من أصحاب إبراهيم كان مع قتيبة الباهلي فقال له إبراهيم اتق الله لا تقتل مع قتيبة يقال مات سنة إحدى وثلاثين ومئة (شذرات الذهب 6/157)
[17] صحيح البخاري (6/2591 رقم 6657)
[18] فتح الباري (13/21)
[19] فتح الباري (13/21)
[20] أخرجه مسلم (1/130 رقم 145)
[21] المبشرات ص123
[22] الرسالة : 475
[23] فتح الباري (13/37)
[24] فتح الباري (13/37)
[25] أخرجه أحمد (4/102) والحاكم (1/218 رقم 443)
[26] أخرجه مسلم (3/1477 رقم 1849)
[27] جماعة المسلمين: مفهومها وكيفية لزومها في واقعنا المعاصر، د. صلاح الصاوي ص21، دار الصفوة، القاهرة، سنة 1412هـ
[28] جماعة المسلمين ص23
[29] جماعة المسلمين ص120
[30] جماعة المسلمين ص120-122
[31] اعتقاد أهل السنة، هبة الله اللالكائي، 1/109، دار طيبة، الرياض، 1402هـ
[32] سورة التوبة:119
[33] سورة العصر:1-3
[34] أخرجه الدارمي في سننه (1/91 رقم 251)
[35] أخرجه أبو داود (3/36 رقم 2608، 2609) وأخرجه ابن خزيمة عن عمر (4/141 رقم 2541) والحاكم (1/611 رقم 1623) وصححه.
[36] أخرجه أحمد (2/176 رقم 6647)
[37] السياسة الشرعية، لابن تيمية ص136-137