جاءت قصة موسى مع الخضر لتَنْقُلنا من قاع دناءة اللجوج العنود، إلى قمة النفس الطاهرة المتجردة للحق…، من خبث أنفاس الكفار المعاندين، إلى نقاء جوٍّ بثّه العبد المخلص المنفتح لكل الحقائق الخالصة…، من قتامة الذوات المنكوسة المكبوبة على نفسها المستدبرة لنور العلم، إلى إشعاع النفس الصالحة التي تقتنص الحقيقة وتركض إلى العلم ركضا وتقصدها حبا وتطلبها رغبة عارمة…، من ذاك الوضيع الذي هرب من الحق الذي جاءه، إلى هذا الشريف الذي سافر وغامر وتجشم الصعاب لتحصيل الحقيقة وطلب العلم النافع.
{وإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا}[1]
بدأت القصة بعزم موسى[2] عليه السلام على المضي في السفر الذي قد يستغرق سنوات طوالا، عزم عجيب عزمه موسى على نفسه، عبر موسى عليه السلام عن عزيمته بقوله “لا أبرح حتى” أي لا أبرح أسير حتى أبلغ مجمع البحرين، أو لا يبرح مسيري حتى أبلغ[3] المكان المحدد حتى لو احتاج ذلك إلى أحقاب عديدة، والحقبة ثمانون سنة.
وهذا العزم ليس بغريب من كليم الله وصفيّه موسى عليه السلام، لقد كان من أولي العزم من الرسل، ومن أكثرهم تحملا لمرارة التبليغ وأكثرهم تجشما لمخاطر مقاومة قوى الظلم ومن أصبرهم في معالجة المعاندين.
وما سر هذا الحرص وهذا الاجتهاد وهذا الاستعداد المنقطع النظير؟ هل يسافر لمقابلة شخص رفيع المستوى عالي المنصب صاحب سلطان قاهر؟ أو للهروب من الواقع المر والتخلص من التيه المنهك؟ أو البحث عن الكنز المدفون والثروة الغائبة والغنى المضمون؟
نبي الله موسى أعز من أن يدفعه كل تلك الأغراض، نفسه أسمى من أن تغريه هذه المصالح الدنيوية الضيقة….
كان يجتهد ويشمر عن ساعديه – عليه السلام- فقط لأن الله أمره، قد يكون ذلك يضره ولا يريحه بشيء، لكنه صفي الله … إنه قد استجاب لسفر أصعب … قد أمره الله قبل ذلك للذهاب إلى فرعون الظالم الذي يمكن أن يقتله بسهولة، لكنه استجاب…
موسى الذي اصطفاه الله لكلامه،{ قَالَ يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ}[4]، الذي اصطنعه الله وهيأه لحمل عبء ثقيل وأداء دور عظيم، {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي}[5] ، العبد الذي خصه الله بمحبة الخلق وعناية الرب، {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي}[6]، اجتهد وتحمس، وأيما حماسة…
ولقد بلغ من شدة حرصه على امتثال أمر الله في ملاقاة هذا الرجل الصالح أنه لم يكن يشعر بالتعب حتى جاوز النهار، وجاوز المكان الذي حدد له، {فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا}[7]، وتذكر الرواية الصحيحة كما ستأتي أنه لم يشعر بهذا النصب إلا بعد أن أصبح في اليوم التالي، فما وراء هذا الحرص والاجتهاد؟
لم يذكر القرآن خلفية القصة، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم بيّن السبب الذي دفع موسى إلى هذا السفر، وقص هذه القصة بالتفصيل، كما ورد ذلك في الصحيحين عن أُبَيّ بْن كَعْبٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَامَ مُوسَى النَّبِيُّ خَطِيبًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَسُئِلَ أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟
فَقَالَ: أَنَا أَعْلَمُ.
فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ، إِذْ لَمْ يَرُدَّ العِلْمَ إِلَيْهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: أَنَّ عَبْدًا مِنْ عِبَادِي بِمَجْمَعِ البَحْرَيْنِ، هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ.
قَالَ: يَا رَبِّ، وَكَيْفَ بِهِ؟
فَقِيلَ لَهُ: احْمِلْ حُوتًا فِي مِكْتَلٍ، فَإِذَا فَقَدْتَهُ فَهُوَ ثَمَّ.
فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقَ بِفَتَاهُ يُوشَعَ بْنِ نُونٍ، وَحَمَلاَ حُوتًا فِي مِكْتَلٍ، حَتَّى كَانَا عِنْدَ الصَّخْرَةِ وَضَعَا رُءُوسَهُمَا وَنَامَا، فَانْسَلَّ الحُوتُ مِنَ المِكْتَلِ فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي البَحْرِ سَرَبًا، وَكَانَ لِمُوسَى وَفَتَاهُ عَجَبًا، فَانْطَلَقَا بَقِيَّةَ لَيْلَتِهِمَا وَيَوْمَهُمَا.
فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ: آتِنَا غَدَاءَنَا، لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا.
وَلَمْ يَجِدْ مُوسَى مَسًّا مِنَ النَّصَبِ حَتَّى جَاوَزَ المَكَانَ الَّذِي أُمِرَ بِهِ.
فَقَالَ لَهُ فَتَاهُ: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهِ إِلَّا الشَّيْطَانُ}
قَالَ مُوسَى: {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِي فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا}
فَلَمَّا انْتَهَيَا إِلَى الصَّخْرَةِ، إِذَا رَجُلٌ مُسَجًّى بِثَوْبٍ، أَوْ قَالَ تَسَجَّى بِثَوْبِهِ، فَسَلَّمَ مُوسَى.
فَقَالَ الخَضِرُ: وَأَنَّى بِأَرْضِكَ السَّلاَمُ؟
فَقَالَ: أَنَا مُوسَى.
فَقَالَ: مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ؟
قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رَشَدًا؟}
قَالَ: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا}، يَا مُوسَى إِنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ لاَ تَعْلَمُهُ أَنْتَ، وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ عَلَّمَكَهُ لاَ أَعْلَمُهُ.
قَالَ: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا، وَلاَ أَعْصِي لَكَ أَمْرًا}.
فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ البَحْرِ، لَيْسَ لَهُمَا سَفِينَةٌ، فَمَرَّتْ بِهِمَا سَفِينَةٌ، فَكَلَّمُوهُمْ أَنْ يَحْمِلُوهُمَا، فَعُرِفَ الخَضِرُ فَحَمَلُوهُمَا بِغَيْرِ نَوْلٍ، فَجَاءَ عُصْفُورٌ، فَوَقَعَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ، فَنَقَرَ نَقْرَةً أَوْ نَقْرَتَيْنِ فِي البَحْرِ.
فَقَالَ الخَضِرُ: يَا مُوسَى مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا كَنَقْرَةِ هَذَا العُصْفُورِ فِي البَحْرِ.
فَعَمَدَ الخَضِرُ إِلَى لَوْحٍ مِنْ أَلْوَاحِ السَّفِينَةِ، فَنَزَعَهُ.
فَقَالَ مُوسَى: قَوْمٌ حَمَلُونَا بِغَيْرِ نَوْلٍ عَمَدْتَ إِلَى سَفِينَتِهِمْ فَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا؟!
قَالَ: {أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا؟}
قَالَ: {لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا }
– فَكَانَتِ الأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا -، فَانْطَلَقَا، فَإِذَا غُلاَمٌ يَلْعَبُ مَعَ الغِلْمَانِ، فَأَخَذَ الخَضِرُ بِرَأْسِهِ مِنْ أَعْلاَهُ فَاقْتَلَعَ رَأْسَهُ بِيَدِهِ.
فَقَالَ مُوسَى: { أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ؟ }
{قَالَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا؟ }
{فَانْطَلَقَا، حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا، فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا، فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ، قَالَ الخَضِرُ بِيَدِهِ فَأَقَامَهُ}.
فَقَالَ لَهُ مُوسَى: {لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًاْ}.
قَالَ: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ }”
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى، لَوَدِدْنَا لَوْ صَبَرَ حَتَّى يُقَصَّ عَلَيْنَا مِنْ أَمْرِهِمَا»[8]
هكذا روت كتب السنة عن هذه القصة.
لم يذكر القرآن ذلك الحوار بين موسى وبين بني إسرائيل، حين سأل أحدهم: “من أعلم الناس؟” وفي رواية: “هل تعلم أحدا أعلم منك؟” فقال: “أنا أعلم” أو قال: “لا” في الرواية الثانية. وكانت الإجابة لم تكن مرضية لله، فعاتبه عليها، ومع ذلك لم يثبتها الله ذلك في كتابه العزيز.
فكانت تلك الرحلة سببها عتب الله على موسى، “إِذْ لَمْ يَرُدَّ العِلْمَ إِلَيْهِ”، فكان أحرى به أن يقول: “الله أعلم”، كما قالت الملائكة: {سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}[9]، وكان ينبغي له ألا ينسى القاعدة: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}[10].
والقاعدة الكبرى في علم البشر: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}[11]
لم يتجاوزها الله لموسى لأنه عليه السلام قدوة لأمته وإماما لمن بعده، فهذه الزلة لها أثر يتضاعف حجمه إذا تركت مثلا لمن بعده. قال القسطلاني: “وعتب الله عليه لئلا يقتدي به فيه من لم يبلغ كماله في تزكية نفسه وعلوّ درجته من أمته فيهلك، لما تضمنه من مدح الإنسان نفسه ويورثه ذلك من الكبر والعجب والدعوى، وإن نُزِّه عن هذه الرذائل الأنبياءُ فغيرهم بمدرجة سيلها ودرك ليلها إلا من عصمه الله، فالتحفظ منها أولى لنفسه وليقتدى به.”[12]
وليس من طبيعة موسى عليه السلام هذا الذي يوحي بالعجب أو الكبر، وإنما كان زلة، لم يصر عليها موسى ولم يؤكدها بشيء. وإنما كان من أخلاق موسى عليه السلام التواضع والتضرع لله، وهو دأبه في كل المواقف التي ذكرها القرآن، وكان دائم الاعتراف بالخطإ والذنب، قال لما قتل القبطي: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }[13] وكان يتضرع إلى الله ويعترف بالافتقار إليه، {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}[14] وكان – عليه الصلاة والسلام – يعترف بأفضلية غيره عليه، قال: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي }[15] وكان لا يستنكف عن الاعتراف بالخطإ أمام الملإ وفي أحرج المواقف، {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ }[16]
وهذا على عكس غريمه فرعون الذي يرفع شعار “أنا” في كل المناسبات، قال مدعيا الربوبة: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}[17] وقال مفاخرا بالمُلكية مفتريا المِلكية: {يَاقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ}[18] وقال مستفردا بالرأي مستبدا بالسلطة: {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}[19] وقد بلغ من جنون العظمة وتعظيم “الأنا” ما يكون مضرب الأمثال لكل المتكبرين والمتجبرين.
أما أخلاق موسى، فهي أخلاق الأنبياء، ولذلك لم يرد الله أن يثبت في القرآن تلك الزلة التي لم تكن من طبيعته ولا عادته – عليه الصلاة والسلام. ولكن لم يرد الله أن تمر تلك الهفوة بلا تذكير أو تصحيح، بل أعطى الله موسى – إضافة إلى تصحيح الخطإ – طريقا وفرصة للارتقاء. فأرشده الله إلى التعلم من عبد من عباد الله الصالحين في موضع يقال له مجمع البحرين، “فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: أَنَّ عَبْدًا مِنْ عِبَادِي بِمَجْمَعِ البَحْرَيْنِ، هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ.”
ومما يدل على أصالة موسى عليه السلام في حب العلم والحرص على تحصليه وعدم الاستنكاف في طلبه ما أخرجه الطبري وابن أبي حاتم في نفسيريهما عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سأل موسى ربه فقال: «رب، أي عبادك أحب إليك؟ قَالَ: الّذِي يذكرني ولا ينساني. قَالَ: فأي عبادك أقَضَى؟ قَالَ: الّذِي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى.
قَالَ: فأي عبادك أعلم؟
قَالَ: الّذِي يبتغي علم الناس إِلَى علمه، عسى إِنَّ يصيب كلمة تهديه إِلَى هدى أو ترده عَنْ ردى.
قَالَ: رب، فهل أحد أعلم مني؟
قَالَ: نعم.
قال: رب، فمن هو؟
قال: الخضر.
قال: وأين أطلبه؟
قال: على الساحل عند الصخرة التي ينفلت عندها الحوت. وفي رواية: عند الصخرة التي عندها العين.
وذكر تمام الحَدِيث.[20]
ولا تعارض بين هذه الرواية والتي قبلها، إذ يحتمل أن هذه الأخيرة تكون بعد الأولى ولاحقة لها في الحدوث، ومفصلة لما أوحى الله موسى في إخباره عن العبد الصالح الذي طلب منه أن يتعلم منه. والله أعلم.
سيقابل موسى عليه السلام عبدا من عباد الله آتاه الله العلم من لدنه، ومن اللافت للنظر في هذه القصة أن موسى وفتاه نسيا ولم ينتبها إلى العلامات التي حددت مكان اللقاء، فمضيا في طريق خطأً ثم تذكرا، فرجعا يتتبعان آثارهما ليعودا إلى المسار الصحيح.
{ فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا . فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا . قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا}[21]
كان الله عز وجل قد حدد المكان الذي يجب أن يلتقي فيه بهذا العبد الصالح، قال له: “احْمِلْ حُوتًا فِي مِكْتَلٍ، فَإِذَا فَقَدْتَهُ فَهُوَ ثَمَّ.” وكان من المفترض أن يكون ذلك متيسرا، وقدر الله هذا النسيان، ليكون ذلك درسا مهما في طريق العلم والتعلم.
{قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا}[22]
من الممكن ألا ينسى موسى وفتاه، ومن الممكن ألا يُذكر أيضا هذا المشهد العارض. وقد يبدو أنه ليس حدثا تاريخيا عظيما. لكن الله أراد أن يتعلم الناس من هذا المشهد العارض.
إن الخطأ والنسيان والغفلة آفات لم يسلم منها إنسان، وإن القصة تجلِّي لنا بوضوح هذه الحقيقة، ولم يكن أمام الإنسان حيال هذا الواقع إلا دوام المحاسبة والمراجعة ثم عدم الاستنكاف عن الاستدراك. ومن حسب نفسه على صواب دائم وظن نفسه صاحب حق سرمدي، فإنه يضل لا محالة، وينحرف ولا بد، وقد يحسب أن ضلاله هو عين الصواب، إذ اعتقد أن التوفيق لم يخطئه لحظة.
وهذا نبي من أولي العزم، لم يستنكف أن يصحح خطأه ويستدرك ما نسيه، إذ طريق الصواب هو ما أخبره الله وأمره، لا ما فعله موسى النبي البشر. هو نبي يوحى إليه، لكن الله لم يرد أن يتعلق الإنسان ويعتمد على غير الله، فلم يجعل الحق المطلق إلا لذاته العليه سبحانه.
ووقد سبق ذكر وصية عمر بن الخطاب لأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما: “لاَ يَمْنَعَنَّكَ قَضَاءٌ قَضَيْتَهُ رَاجَعْتَ فِيهِ نَفْسَكَ وَهُدِيتَ فِيهِ لِرُشْدِكَ أَنْ تُرَاجِعَ الْحَقَّ، فَإِنَّ الْحَقَّ قَدِيمٌ، وَمُرَاجَعَةُ الْحَقِّ خَيْرٌ مِنَ التَّمَادِى فِى الْبَاطِلِ.”[23]
وهذا النبي المعصوم المؤيد بالوحي لم يأنف أن يغير قراره وموقفه إذا تغير الوضع واستجدت المعطيات، قال عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع: “لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا أَهْدَيْتُ، وَلَوْلاَ أَنَّ مَعِي الهَدْيَ لَأَحْلَلْتُ”[24]
وهكذا شأن من قصد الحق ورام الحقيقة، وهو عكس سلوك الظلمة الذين يصرون على الخطإ والحيف والظلم حتى ولو تبين لهم خطأهم، كقضائهم على يوسف عليه السلام: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ}[25]
ثم إن حول شخصية الخضر أسرارا ومسائل ظل الناس إلى الآن يختلفون فيها، ولم يهتد الكثير إلى وجه الحق فيها، وسرح البعض بعيدا عن عالم الحقيقة إلى غياهب الخيال الخرافي وأمعنوا الاستغراق في بحر التصورات الحالمة، طافحين على العبارات العائمة. ونحن إذ نعالج هذه الموضوعات نعتمد بإذن الله على دلالات النقل الصحيح وهدايات العقل الصريح، متجنبين اتباع الظنون، مبتعدين عن وساوس الشياطين التي ظن المفتونون أنها المكاشفة وأنوار الفتوحات الإلهية، إذ إن الفتح الرباني إنما هو باتباع الوحي المنزل أو اهتداء العقل المسدد، أما خيالات المهووسين وادعاءات المهرطقين فنبرأ بأنفسنا من الانجرار معها أو الانخداع بها، مهما بلغ قائلوها من الشهرة الضاربة والمكانة الباهرة والهالة الساحرة.
والفرق بين المقاربة العلمية والمقاربة الخرافية الباطنية لا يقف عند اختلاف التفسيرات لهذه القصة، بل يتعدى إلى نتائج وتداعيات تلك التصورات الناجمة عن تلك التفسيرات، فإن الرسالة العلمية والنهضة الفكرية التي بناها القرآن تنقلب إلى عكسها تماما باتباع تلك المقاربة الخرافية. وقد كان أثر تلك النكسة الفكرية و”الانتحار العلمي” واضحا تماما الوضوح على واقع المسلمين في عصورها المتأخرة المظلمة، حيث سادت تلك المعتقدات الخرافية، خاصة لدى كثير من المتصوفة الذين ينجذبون بقوة إلى عالم “لا معقول”، واعتبروا ذلك فتوحات ربانية ورقيا روحيا ووصولا إلى الحقيقة المعرفية العالية. فقد غلب على التدين الخرافيِ الابتعادُ عن عالم الأسباب والعزوف عن العمل الجاد، حتى في طلب العلم، فإن أعلى المعرفة عندهم لا يتحصل عن طريق طلب العلم والبحث العملي، بل ينتظرون “الواردات الإلهية” ليحصلوا على “العلم اللدني” الذي ظنوه أنه يُغنيهم عن البحث والطلب ويعفيهم عن الفكر والنظر. فأصيبوا بالجهل وهم يحسبون أنهم يحسنون المعرفة، وسموا الظنون والخيالات فتوحات، لم يعتمدوا على الأدلة والبراهين في بناء معارفهم، بل اتكأوا على “المكاشفات” والرؤى والأحلام. ولم يفرقوا بين وساوس الشيطان وإيحاءات النفس الأمارة بالسوء وبين الفتح الرباني الذي منحه الله لطالبي الحق وباحثي الحقيقة. اعتبروا العلم حجابا، والاستدلال حرمانا، يا له من الإنجاز الشيطاني الرائع!!
لقد جنى ذلك التخلف الفكري على مسيرة هذه الأمة، فقد تراجعت المكانة الحضارية والريادة العلمية للمسلمين بعد تغول تلك العقلية الخرافية على عالم التدين. فبعد أن كان العلماء هم من يقود عالم الاكتشافات والابتكارات فصاروا في العصور المتأخرة المظلمة سجانين للعقول محجّرين للأفكار. لم يصنعوا جديدا للدنيا بل اتبدعوا كثيرا في الدين. لم يكتشفوا شيئا لعالم المعرفة بل هدّوا بنيان الشريعة. ادعوا المكاشفة على عالم الغيب ولم يفهموا عالم الشهادة.
إنه لا يُنكَر أن للارتقاء الروحي والصفاء القلبي وطهارة النفس آثاره على نفاذ البصيرة وعمق الفهم وقوة المعرفة. فالنفس المؤمنة التي تتزكى بالعبادة الصحيحة وتتحلى بالعقيدة الصافية تتلقى الهداية الإلهية خالصة نقية لخلو القلب من الحجب التي تحول بينه وبين أنوار القرآن والحكمة. والحقائق الإيمانية تتنزل على القلوب الطاهرة كما تتنزل أضواء الشمس على السماء الصافية لا يحجبها سحاب. ومن رُزِق الحكمة الإلهية فقد أوتي خيرا كثيرا. لكن الخطر في ادعاء المعرفة استنادا لهذا الباب الذي يدخله كل من هب ودب، يدعيه كل من تسوله نفسه لاكتساب ثقة الدهماء وإقناع الهمج الرعاع. فهذا باب يعشقه المشعوذون ويدافع عنه المخرِّفون. وقد بلغ من بعدهم عن الهدى حتى أحلوا الحرام وحرموا الحلال، وشرعوا بما لم ياذن به الله بسبب رؤية منامية حسبوها كشفا قلبيا وفتحا ربانيا… أما الربانيون الراسخون في العلم فيرزقون شرف العلم وحيازة المعرفة بدون هذه الهرطقة، وبلا حاجة إلى دعوى المكاشفة، فإن الحق أبلج، والحقيقة تشرق على كل قلب سليم. والعلم الحقيقي ظاهر منتصر على الجهالة، فحيثما بزغ التنوير فثمة التقرير.
ووقد طال الجدل حول نبوة الخضر أو ولايته، وفي اختصاصه بما يسمى بالعلم اللدني، وهل هو وحي أو إلهام وكشف باطني؟ ونور العلم في ذلك يكشف الأستار ويفتح المغاليق، بينما أعداء العلم يعالجونها بإضفاء ثوب الباطنية المظلمة عليها، فغدوا في طغيانهم يعمهون. فلا ندخل هذا الميدان إلا متسلّحين بالعلم والإيمان، متنورين بالعقل وصفاء الجنان، ومستعينين بالله الكريم المنان.
قال تعالى: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا}[26] قال الشىوكاني رحمه الله: هو الخضر في قول جمهور المفسرين، وعلى ذلك دلت الأحاديث الصحيحة، وخالف في ذلك ما لا يعتد بقوله.[27] وقد سبق إيراد الروايات الصحيحة في ذلك.
وضبط اسم “خَضِر” – كما قال ابن حجر في الفتح- بفتح أوله وكسر ثانيه، أو “خِضْر” بكسر أوله وإسكان ثانيه، ثبتت بهما الرواية، و”الخضر” بإثبات الألف واللام فيه، وبحذفهما.[28]
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّمَا سُمِّيَ الْخَضِرَ أَنَّهُ جَلَسَ عَلَى فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ، فَإِذَا هِيَ تَهْتَزُّ مِنْ خَلْفِهِ خَضْرَاءَ.[29]
زاد عبد الرزاق في مصنفه: الفرو الحشيش الأبيض وما أشبهه. وقال الحربي : الفروة من الأرض قطعة يابسة من حشيش. [30]
وحكي عن مجاهد أنه قيل له الخضر لأنه كان إذا صلى اخضر ما حوله.[31]
ثم وصفه الله سبحانه فقال: { آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا } ، وفسر العلماء الرحمة هنا على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها النبوَّة، قاله مقاتل بن سليمان. والثاني: الرِّقة والحُنُوُّ على من يستحقه، ذكره ابن الأنباري. والثالث: النِّعمة، قاله أبو سليمان الدمشقي.[32]
وظاهر كلام أبي حيان أنه رجح أن الرحمة الَّتِي آتَاه اللَّه إِياها هي الوحي والنبوّة.[33]
ثم وصفه الله بالعلم، قال تعالى: { وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} وهو ما علمه الله سبحانه من علم الغيب الذي استأثر به. [34] إن كلمة “لدن” تعني “عند” سواء بسواء، لذلك قال الطبري: عن قتادة (مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا) : أي من عندنا علما.[35] وأسند الله ذلك العلم إلى نفسه بأنه من عنده تفخيما لشأن ذلك العلم، وتعظيما له.[36] وإلا فكل علم علمه خلق من خلقه فهو من عند الله، كما قالت الملائكة: { لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا }[37] وقال تعالى: { وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ }[38]
وأعظم علم وهبه الله للإنسان هو ما جاء عن طريق الوحي، به خص الله أنبياءه المقربين، وقد جزم ابن عاشور بهذا المعنى، قال: “والعلم من لدن الله هو الإعلام بطريق الوحي.”[39]
فالعلم من لدن الله عز و جل عزيز، هو علم الوحي أولا، وقد دل على هذا المعنى قول الله تعالى: { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِير}[40] وقوله تعالى:{ وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ}[41]
ودون الوحي بدرجة هو العلم المستنبط من الوحي، فهذا العلم أيضا من عند الله، فهما نوعان: علم الوحي، والعلم المستفاد من الوحي، فهما اللذان يصح أن ينسبا إلى الله، فيكون علما من لدن الله عز وجل. أما ما يدعيه البعض بأنه علم بلا سبب يجده الإنسان في قلبه، ويعتقد أنه من عند الله، فهو وهم، ما يدريه أنه من لدن نفسه أو من لدن الشيطان؟
وقد شطح بعض الناس بتصورات عجيبة عن هذا العلم، وسموه “العلم اللدني” وزعموا أنه علم بلا دليل ولا برهان، قذف الله في قلب الإنسان فيعتقد صحته. قال أبو حيان رحمه الله: وقد أولع كثير ممن ينتمي إلى الصلاح بادعاء هذا العلم ويسمونه العلم اللدني، وأنه يلقى في روع الصالح منهم شيء من ذلك، حتى يخبر بأن من كان من أصحابه هو من أهل الجنة على سبيل القطع. [42]
وقد وصفه الهروي بأن هذا العلم: إسناده وجوده، وإدراكه عيانه، ونعته حكمه، ليس بينه وبين الغيب حجاب.[43]
وهذا الوصف يوهم بأن هذا العلم لا يستند إلا إلى نفسه، فوجوده دليل صحته، وهو علم مكاشفة الغيوب، فمثل هذه الأوصاف يصدق على العلم الموافق للواقع ويصدق على دعوى خالية عن الدليل. أما العلم الصحيح الذي ألقى على قلب عباده الصالحين، فيشهد له الوحي بصحته، فلا غبار عليه. قال شيخ الإسلام رحمه الله: وأما “العلم اللدني”، فلا ريب أن الله يفتح على قلوب أوليائه المتقين وعباده الصالحين بسبب طهارة قلوبهم مما يكرهه واتباعهم ما يحبه ما لا يفتح به على غيرهم. وهذا كما قال علي: “…إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه.” وفي الأثر: “من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم” وقد دل القرآن على ذلك في غير موضع كقوله: {ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا} {وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما} {ولهديناهم صراطا مستقيما} فقد أخبر أنه من فعل ما يؤمر به يهديه الله صراطا مستقيما وقال تعالى: {يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام} وقال تعالى: {والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم} وقال: {إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى} وقال تعالى: {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين} وقال تعالى: {هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون} وقال تعالى: {هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون}.[44]
أما الثاني وهو وجود اعتقاد مجرد لدى شخص يعتقد صلاحه ونيله مقام المعرفة والمكاشفة، فهو باب خطير للعبد يلعب به الشيطان كيف يشاء، يلقيه من الأفكار ما لا يرده هذا المسكين بسبب قناعته أنه من عند الله وأنه فتحٌ من الله، اختص به دون غيره من الناس، فهي بداية الدجل والكذب على الله والجرأة على شرع الله، وخاصة إذا اعتقد أنه معفي عن التكليف، واصل درجة القرب، وبل درجة الفناء الذي لا يشهد وجودا غير الله، فيا لتعاسة هذا المخدوع!!
قال ابن القيم رحمه الله: “وأما دعوى وقوع نوع من العلم بغير سبب من الاستدلال، فليس بصحيح، فإن الله سبحانه ربط التعريفات بأسبابها، كما ربط الكائنات بأسبابها، ولا يحصل لبشرٍ علمٌ إلا بدليل يدله عليه، وقد أيد الله سبحانه رسله بأنواع الأدلة والبراهين التي دلتهم على أن ما جاءوا به هو من عند الله، ودلت أممهم على ذلك. وكان معهم أعظم الأدلة والبراهين على أن ما جاءهم هو من عند الله، وكانت براهينهم أدلة وشواهد لهم وللأمم، فالأدلة والشواهد التي كانت لهم، ومعهم أعظم الشواهد والأدلة، والله تعالى شهد بتصديقهم بما أقام عليه من الشواهد، فكل علم لا يستند إلى دليل فدعوى لا دليل عليها، وحكم لا برهان عند قائله. وما كان كذلك لم يكن علما، فضلا عن أن يكون لدنياًّ.
فالعلم اللدني: ما قام الدليل الصحيح عليه، أنه جاء من عند الله على لسان رسله، وما عداه فلدني من لدن نفس الإنسان، منه بدأ وإليه يعود.
وقد انبثق سد العلم اللدني، ورخص سعره، حتى ادعت كل طائفة أن علمهم لدني. وصار من تكلم في حقائق الإيمان والسلوك وباب الأسماء والصفات بما يسنح له، ويلقيه شيطانه في قلبه، يزعم أن علمه لدني!! فملاحدة الاتحادية، وزنادقة المنتمين إلى السلوك يقولون: إن علمهم لدني! وقد صنف في العلم اللدني متهوكو المتكلمين، وزنادقة المتصوفين، وجهلة المتفلسفين، وكل يزعم أن علمه لدني! وصدقوا وكذبوا، فإن “اللدني” منسوب إلى “لدن” بمعنى “عند”، فكأنهم قالوا: العلم العندي، ولكن الشأن فيمن هذا العلم من عنده ومن لدنه، وقد ذم الله تعالى بأبلغ الذم من ينسب إليه ما ليس من عنده كما قال تعالى: { وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }[45] ، وقال تعالى: { فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلً}[46] وقال تعالى: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ }[47] فكل من قال: هذا العلم من عند الله ـ وهو كاذب في هذه النسبة ـ فله نصيب وافر من هذا الذم. وهذا في القرآن كثير، يذم الله سبحانه من أضاف إليه ما لا علم به، ومن قال عليه ما لا يعلم. ولهذا رتب سبحانه المحرمات أربع مراتب، وجعل أشدها القول عليه بلا علم، فجعله آخر مراتب المحرمات التي لا تباح بحال، بل هي محرمة في كل ملة، وعلى لسان كل رسول، فالقائل: إن هذا “علم لدني” لما لا يعلم به من عند الله، ولا قام عليه برهان من الله أنه من عنده: كاذب مفتر على الله، وهو من أظلم الظالمين، وأكذب الكاذبين.”[48]
والخضر نبيّ عند الجمهور. وقيل : هو عبد صالح غير نبيّ، والآية تشهد بنبوّته؛ لأن بواطن أفعاله لا تكون إلا بوحي.[49] وهذا قول جمهور المفسرين.
وقد ناقش الرازي هذه المسألة فأورد حجج الجمهور والاعتراض على كل منها، ولم يجب على تلك الاعتراضات، قال: “قال الأكثرون إن ذلك العبد كان نبيا واحتجوا عليه بوجوه:
الأول: أنه تعالى قال: { آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا } والرحمة هي النبوة بدليل قوله تعالى: { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ؟}[50] وقوله: { وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ }[51] والمراد من هذه الرحمة النبوة. ولقائل أن يقول: نسلم أن النبوة رحمة، أما لا يلزم أن يكون كل رحمة نبوة؟
الحجة الثانية: قوله تعالى: { وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا } وهذا يقتضي أنه تعالى علمه لا بواسطة تعليم معلم ولا إرشاد مرشد، وكل من علمه الله لا بواسطة البشر وجب أن يكون نبيا يعلم الأمور بالوحي من الله. وهذا الاستدلال ضعيف لأن العلوم الضرورية تحصل ابتداء من عند الله وذلك لا يدل على النبوة.
الحجة الثالثة: أن موسى عليه السلام قال: { هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ}[52] والنبي لا يتبع غير النبيفي التعليم. وهذا أيضا ضعيف، لأن النبي لا يتبع غير النبي في العلوم التي باعتبارها صار نبيا، أما في غير تلك العلوم فلا.
الحجة الرابعة: أن ذلك العبد أظهر الترفع على موسى حيث قال له: { وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا }[53] وأما موسى فإنه أظهر التواضع له حيث قال: { وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا}[54] وكل ذلك يدل على أن ذلك العالم كان فوق موسى، ومن لا يكون فوق النبي. وهذا أيضا ضعيف لأنه يجوز أن يكون غير النبي فوق النبي في علوم لا تتوقف نبوته عليها. فلم قلتم إن ذلك لا يجوز؟ فإن قالوا لأنه يوجب التنفير، قلنا فإرسال موسى إلى التعلم منه بعد إنزال الله عليه التوراة وتكليمه بغير واسطة يوجب التنفير، فإن قالوا: إن هذا لا يوجب التنفير فكذا القول فيما ذكروه.
الحجة الخامسة: احتج الأصم على نبوته بقوله في أثناء القصة: { وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي }[55] ومعناه فعلته بوحي الله، وهو يدل على النبوة. وهذا أيضا دليل ضعيف وضعفه ظاهر.
الحجة السادسة: ما روي أن موسى عليه السلام لما وصل إليه قال “السلام عليك”، فقال: “وعليك السلام يا نبي بني إسرائيل.” فقال موسى عليه السلام: “من عرفك هذا؟” قال: “الذي بعثك إلي.” قالوا وهذا يدل على أنه إنما عرف ذلك بالوحي، والوحي لا يكون إلا مع النبوة. ولقائل أن يقول: لم لا يجوز أن يكون ذلك من باب الكرامات والإلهامات. انتهى كلامه[56]
وأقوى ما يدل على مذهب الجمهور هو قول الخضر { وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي }[57]، وهو ما لم يناقشه الرازي مناقشة جادة، وزعم أن ضعف هذا الدليل ظاهر، وليس كذلك. فإن استباحة قتل النفس وإتلاف المال المعصوم، والإقدام على إفساد متيَقَّن رجاء مصلحة غائبة أمور لا تجوز إلا بعلم قطعي يقوى على استثناء أو تخصيص حرمة تلك الأفعال التي ثبتت حرمتها بالأدلة القطعية، وليس الإلهام وادعاء المكاشفة قائما مقام الوحي في ذلك.
قال صاحب أضواء البيان رحمه الله: “ومن أظهر الأدلة في أن الرحمة والعلم اللدني اللذين امتن الله بهما على عبده الخضر عن طريق النبوة والوحي قوله تعالى عنه: { وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي }[58] أي: وإنما فعلته عن أمر الله جل وعلا، وأمر الله إنما يتحقق عن طريق الوحي، إذ لا طريق تعرف بها أوامر الله ونواهيه إلا الوحي من الله جل وعلا، ولا سيما قتل الأنفس البريئة في ظاهر الأمر، وتعييب سفن الناس بخرقها ; لأن العدوان على أنفس الناس وأموالهم لا يصح إلا عن طريق الوحي من الله تعالى، وقد حصر تعالى طرق الإنذار في الوحي في قوله تعالى: { قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ}[59]، و «إنما» صيغة حصر.
فإن قيل: قد يكون ذلك عن طريق الإلهام؟ فالجواب: أن المقرر في الأصول أن الإلهام من الأولياء لا يجوز الاستدلال به على شيء، لعدم العصمة، وعدم الدليل على الاستدلال به، بل لوجود الدليل على عدم جواز الاستدلال به. وما يزعمه بعض المتصوفة من جواز العمل بالإلهام في حق الملهَم دون غيره، وما يزعمه بعض الجبرية أيضا من الاحتجاج بالإلهام في حق الملهَم وغيره جاعلين الإلهام كالوحي المسموع مستدلين بظاهر قوله تعالى: { فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ}[60]، وبخبر «اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ»[61] كله باطل لا يعول عليه، لعدم اعتضاده بدليل. وغير المعصوم لا ثقة بخواطره ; لأنه لا يأمن دسيسة الشيطان، وقد ضمنت الهداية في اتباع الشرع، ولم تضمن في اتباع الخواطر والإلهامات. والإلهام في الاصطلاح: إيقاع شيء في القلب يثلج له الصدر من غير استدلال بوحي ولا نظر في حجة عقلية، يختص الله به من يشاء من خلقه. أما ما يلهمه الأنبياء مما يلقيه الله في قلوبهم فليس كإلهام غيرهم، لأنهم معصومون، بخلاف غيرهم، قال في مراقي السعود في كتاب الاستدلال:
وينبـــــذ الإلهام بــالعــــراء أعني بــه إلهــــام الأوليـــــاء
وقد رآه بعض من تصـوفا وعصمة النبي توجب اقتفا
وبالجملة، فلا يخفى على من له إلمام بمعرفة دين الإسلام أنه لا طريق تعرف بها أوامر الله ونواهيه، وما يتقرب إليه به من فعل وترك إلا عن طريق الوحي. فمن ادعى أنه غني في الوصول إلى ما يرضي ربه عن الرسل، وما جاءوا به ولو في مسألة واحدة فلا شك في زندقته.
والآيات والأحاديث الدالة على هذا لا تحصى، قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}[62]، ولم يقل حتى نلقي في القلوب إلهاما. وقال تعالى: { رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ }[63]، وقال: { وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ}[64]…. إلى أن قال: وبذلك تعلم أن ما يدعيه كثير من الجهلة المدعين التصوف من أن لهم ولأشياخهم طريقا باطنة توافق الحق عند الله ولو كانت مخالفة لظاهر الشرع، كمخالفة ما فعله الخضر لظاهر العلم الذي عند موسى، زندقة، وذريعة إلى الانحلال بالكلية من دين الإسلام، بدعوى أن الحق في أمور باطنة تخالف ظاهره. اهـ [65]
قال ابن بطال: “وقوله: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِى}[66] يدل أنه فعله بوحي من الله بذلك إليه، ويشهد لهذا وجوهٌ من نفس القصة، منها: أنه لا يجوز لأحدٍ أن يقتل نفسًا لما يتوقع وقوعه منها بعد حين مما يوجب عليها القتل، لأن الحدود لا تجب إلا بعد وقوعها. وأيضًا فإنه لا يقطع على فعل أحد قبل بلوغه، ولا يعلمه إلا الله، لأن ذلك إخبار عن الغيب. وكذلك الإخبار عن أخذ الملك السفينة غصبًا، والإخبار أيضًا عن بنيانه الجدار من أجل الكنز الذى تحته ليكون سببًا إلى استخراج الغلامين له إذا احتاجا إليه مراعاة لصلاح أبيهما، وهذا كله لا يدرك إلا بوحي من الله تعالى.”[67]
فيترجح بذلك أن الخضر إنما هو نبي يتصرف بوحي من عند الله، ولا يتقيد بشرع موسى عليه السلام إذ لم يكن واحدا من بني إسرائيل، قال ابن عاشور: “ولا يصح أن يكون الخضر من بني إسرائيل إذ لا يجوز أن يكون مكلفا بشريعة موسى ويُقرّه موسى على أفعال لا تبيحها شريعته. بل يتعين أن يكون نبيا موحى إليه بوحي خاص، وعلم موسى أنه من أمة غير مبعوث موسى إليها.”[68]
اعتقد البعض بأن الخضر بقي حيا إلى آخر الزمان، وهذا الاعتقاد رغم ضعف مستنده وغرابة محتواه وبعده عن مقررات العقيدة الإسلامية إلا أنه انتشر عند المتأخرين، بل زعم البعض الإجماع عليه! ولكن من رام التحقيق في المسألة وحكّم العلم والدليل والتزم به لم يتردد في رد هذا الزعم الذي لا زمام له ولا خطام.
عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: قِيلَ لَهُ: مَا سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي “زَعَمُوا”؟ قَالَ: بِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ.[69]
ذكر ابن الجوزي عن أبي بكر النقاش أن الإمام البخاري سئل عن الخضر وإِلياس: هل هما في الأحياء؟ فقال: كيف يكون ذلك، وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلّم: «لا يبقى على رأس مائة سنة ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد».؟![70]
وذكر أبو حيان أن قاضي القضاة أبو الفتح محمد بن علي بن مطيع القشيري المعروف بابن دقيق العيد يخبر عن شيخ له أنه رأى الخضر وحدثه، فقيل له: من أعلمه أنه الخضر؟ ومن أين عرف ذلك؟ فسكت.[71]
وقد أورد الإمام الألوسي هذه المسألة بطولها وذكر حجج المثبتين لها ثم فندها وقال رحمه الله: “ثم اعلم بعد كل حساب أن الأخبار الصحيحة النبوية والمقدمات الراجحة العقلية تساعد القائلين بوفاته عليه السلام أي مساعدة وتعاضدهم على دعواهم أي معاضدة، ولا مقتضى للعدول عن ظواهر تلك الأخبار إلا مراعاة ظواهر الحكايات المروية والله تعالى أعلم بصحتها.”[72]
وأكد الألوسي على بطلان ذلك القول وواجه من قال بذلك بقوة قال: “ثم إنك إن اعتبرت مثل هذه الأقوال وتلقيتها بالقبول لمجرد جلالة قائلها وحسن الظن فيه فقل بحياة الخضر عليه السلام إلى يوم القيامة. وإن لم تعتبر ذلك وجعلت الدليل وجودا وعدما مدارا للقبول والرد ولم تغرك جلالة القائل، إذ كل أحد يؤخذ من قوله ويرد ما عدا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: “لا تنظر إلى من قال، وانظر ما قال”[73]، فاستفت قلبك بعد الوقوف على أدلة الطرفين وما لها وما عليها ثم اعمل بما يفتيك.”[74]
قال ابن عاشور: “…ثم اختلفوا في أنه لم يزل حيا، اختلافا لم يبن على أدلة مقبولة متعارفة، لكنه مستند إلى أقوال بعض الصوفية، وهي لا ينبغي اعتمادها لكثرة ما يقع في كلامهم من الرموز والخلط بين الحياتين الروحية والمادية، والمشاهدات الحسية والكشفية، وقد جعلوه رمز العلوم الباطنية.[75] وقال: “وقد زعم بعض علماء الإسلام أن الخضر لقي النبي صلى الله عليه وسلم وعد من أصحابه. وذلك توهم وتتبع لخيال القصاصين.”[76]
قال جمال الدين القاسمي رحمه الله: وقال الحافظ أبو الخطاب بن دحية: وأما رواية اجتماعه مع النبيّ صلى الله عليه وسلم وتعزيته لأهل البيت، فلا يصح من طرقها شيء. ولا يثبت اجتماعه مع أحد من الأنبياء، إلا مع موسى. وجميع ما ورد في حياته لا يصح منه شيء، باتفاق أهل النقل. وأما ما جاء من المشايخ فهو مما يتعجب منه. كيف يجوز لعاقل أن يلقى شيخا لا يعرفه فيقول له: أنا فلان فيصدقه؟؟؟.[77]
قال أبو الحسين ابن المناوي: بحثت عن تعمير الخضر، وهل هو باق أم لا؟ فإذا أكثر المغفلين مفترون بأنه باق من أجل ما روي في ذلك، والأحاديث المرفوعة في ذلك واهية. والسند إلى أهل الكتاب ساقط لعدم ثقتهم. وخبر مسلمة بن مصقلة كالخرافة. وخبر رياح كالريح. وما عدا ذلك من الأخبار، كلها واهية الصدر والأعجاز. لا يخلو حالها من أمرين: إما أن تكون أدخلت على الثقات استغفالا، أو يكون بعضهم تعمد ذلك.[78]
للعلم أخلاق وآداب تليق به، وتحفظ مكانته، وترفع من شأنه. يشين العلم بفقدانها، ويقبح بوجود عكسها. سنلمس في ثنايا القصة أخلاقا زينت هذه الرحلة، وسنرى في تفاصيل التصرفات ودقائق التعبيرات ما يدل على الأدب السامي مرافقا للعلم الراقي.
جاء موسى خاضعا مطيعا لربه، مقدرا لأهمية ما أقدم عليه، ومتأدبا مع من أمر بالتعلم منه، فقال له بكل أدب واحترام: { هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا}[79]
وهذا العبد الصالح الذي أخبرنا النبي – صلى الله عليه وسلم- بأن اسمه الخضر، لم يكن مغرورا بكونه أستاذا لكليم الله ونبي بني إسرائيل، بل رد عليه بكل تواضع: “يَا مُوسَى إِنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ لاَ تَعْلَمُهُ أَنْتَ، وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ عَلَّمَكَهُ لاَ أَعْلَمُهُ.”
ليست المسألة عند الخضر لأنه أعلم على الإطلاق من موسى حتى أمره الله بالتعلم منه، مع أن الله قد أوحى لموسى صراحة – كما ثبت ذلك في الصحيحين- أن هذا العبد الصالح أعلم منه، وعليه أن يذهب إليه ليتعلم، ولكن الخضر – عليه السلام- كان حكيما وسديد الرأي أديبا، إذ أشار إلى أن كل واحد منهما عنده من العلم ما ليس عند الآخر. والبشر كل البشر أقل من أن يحيط بكل الأمور، ويدعي الأعلمية المطلقة.
قال القرطبي رحمه الله: “قال علماؤنا : وقوله في الحديث “هو أعلم منك” أي بأحكام وقائع مفصَّلة، وحُكم نوازل معينة، لا مطلقاً، بدليل قول الخضر لموسى: “إنك على علم علّمكه الله لا أعلمه أنا، وأنا على علم علّمنيه لا تعلمه أنت”، وعلى هذا فيصدق على كل واحد منهما أنه أعلم من الآخر بالنسبة إلى ما يعلمه واحد منهما ولا يعلمه الآخر.”[80]
وهذا درس بليغ لكل صاحب علم. فمهما بلغ الإنسان من سعة العلم وقوة الدراية، بقي له من مساحة الجهلِ الشيءُ الكثير. وعليه أن يعترف بفضل الآخرين، فإنه قد يجد عند غيره ما ليس له به علم. فلذلك لم يستنكر نبي الله سليمان قولة هدهد وهو حيوان صغير قد لا يعبه به، إذ قال: { أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ}[81]، حيوان من الحيوانات يقول لنبي موحى إليه: “أحطت بما لم تحط به” ؟؟ نعم، قد يكون عند هذا الصغير بما ليس عند ذاك الكبير! وقد تجد في النهر ما لا تجده في البحر.
وهذا من أهم الأخلاق في مجال العلم. لا يجوز الادعاء بإحاطة كل شيء، فإن الخلق من شأنه القصور، ووسائل الإدراك للإنسان غاية في المحدودية. لا يمكنه أن يبصر كل شيء، ولا يقدر أن يسمع كل شيء، فكيف له أن يعرف كل شيء؟
لم يدّع الخضر مقام المكاشفة التي انفتحت له كل الأسرار و التي لا تغيب عنه حقيقة البتة، كما يتصوره بعض المتصوفة، إنما كان يعرف أشياء لم يعرفها موسى -عليهما السلام- وهكذا شأن أولياء الله الصالحين وعلمائه الربانيين وأنبيائه المرسلين، فإنهم لا يدّعون الغيب ولا ينسبون إلى أنفسهم ما ليس لهم. وهكذا أمروا أن يعلنوا للناس، به أمر رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم: { قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ}[82] كما أعلنه نوح عليه السلام: { وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ}[83]
واستدل القسطلاني بسؤال الخضر لموسى: “هل أنت موسى بني إسرائيل؟” على أن الأنبياء ومن دونهم لا يعلمون من الغيب إلا ما علمهم الله تعالى، لأن الخضر لو كان يعلم كل غيب لعرف موسى قبل أن يسأله.[84]
وكان الفاروق الذي جعل الله الحق على لسانه وقلبه[85]، وصدّقه الوحي في كرات عديدة، لم يجرؤ على نسبة آرائه إلى الحق سبحانه، فإن الافتراء من شأن الدجالين الكذابين، وتنزّهت عنه ساحة عباد الله المتقين.
روى مسروق أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب بقضية إلى عامل له ، فكتب الكاتب: “هَذَا مَا أَرَى الله عُمَرَ” , فَقَالَ: امْحُهُ وَاكْتُبْ: هَذَا مَا رَأَى عُمَرُ, فَإِنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ, وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنْ عُمَرَ.”[86]
ومثل ذلك ما كان من عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لما سئل عن الرجل الذي تزوج امرأة فلم يدخل بها، ولم يسمِّ لها صداقا حتى توفي: ” أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي, فَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنْ قِبَلِي, وَإِنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ “.[87]
إن الفضلاء والحكماء لا ينالون الفضل والحكمة إلا لحسن آدابهم وسلامة قلوبهم وتنزُّههم من العجب والكبر والتفاخر، وكان التواضع أهم سماتهم وأجمل زينتهم، ويقول المثل الشرقي “أن السنابل كلما امتلأت انحنت”، إشارة إلى أن الإنسان كلما امتلأ علما وحكمة وخبرة ونضجا كان أكثر تواضعا وهضما للذات.
وبدا من موسى عليه السلام فضله في الأدب والتواضع من جوانب عدة، وقد عدّها الرازي رحمه الله اثني عشر نوعا، قال: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رَاعَى أَنْوَاعًا كثيرة من الأدب واللطف عند ما أَرَادَ أَنْ يَتَعَلَّمَ مِنَ الْخَضِرِ.
فَأَحَدُهَا: أَنَّهُ جَعَلَ نَفْسَهُ تَبَعًا لَهُ لِأَنَّهُ قَالَ: هَلْ أَتَّبِعُكَ.
وثانيها: أن استأذن في إثبات هذا التَّبَعِيَّةِ فَإِنَّهُ قَالَ هَلْ تَأْذَنُ لِي أَنْ أجعل نفسي تبعا لك؟ وهذا مُبَالَغَةٌ عَظِيمَةٌ فِي التَّوَاضُعِ.
وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ قَالَ “عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ” وَهَذَا إِقْرَارٌ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْجَهْلِ وَعَلَى أستاذه بالعلم.
ورابعها: أنه قال: “مِمَّا عُلِّمْتَ” وَصِيغَةُ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ فَطَلَبَ مِنْهُ تَعْلِيمَ بَعْضِ مَا عَلَّمَهُ اللَّهُ، وَهَذَا أَيْضًا مُشْعِرٌ بِالتَّوَاضُعِ كَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُ لَا أَطْلُبُ مِنْكَ أَنْ تَجْعَلَنِي مُسَاوِيًا فِي الْعِلْمِ لَكَ، بَلْ أَطْلُبُ مِنْكَ أَنْ تُعْطِيَنِي جُزْأً مِنْ أَجْزَاءِ عِلْمِكَ، كَمَا يَطْلُبُ الْفَقِيرُ مِنَ الْغَنِيِّ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ جُزْأً مِنْ أَجْزَاءِ مَالِهِ.
وَخَامِسُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: مِمَّا عُلِّمْتَ اعْتِرَافٌ بِأَنَّ اللَّهَ عَلَّمَهُ ذَلِكَ الْعِلْمَ.
وَسَادِسُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: رُشْداً طَلَبٌ مِنْهُ لِلْإِرْشَادِ وَالْهِدَايَةِ وَالْإِرْشَادُ هُوَ الْأَمْرُ الَّذِي لَوْ لَمْ يَحْصُلْ لَحَصَلَتِ الْغَوَايَةُ والضلال.
وسابعها: أن قوله: تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ طَلَبَ مِنْهُ أَنْ يُعَامِلَهُ بِمِثْلِ مَا عَامَلَهُ اللَّهُ بِهِ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ يَكُونُ إِنْعَامُكَ عَلَيَّ عِنْدَ هَذَا التَّعْلِيمِ شَبِيهًا بِإِنْعَامِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْكَ فِي هذا التعليم، وَلِهَذَا الْمَعْنَى قِيلَ: أَنَا عَبْدُ مَنْ تَعَلَّمْتُ مِنْهُ حَرْفًا.
وَثَامِنُهَا: أَنَّ الْمُتَابَعَةَ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ فِعْلِ الْغَيْرِ لِأَجْلِ كَوْنِهِ فِعْلًا لِذَلِكَ الْغَيْرِ، فَإِنَّا إِذَا قُلْنَا: “لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.” فَالْيَهُودُ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَنَا كَانُوا يَذْكُرُونَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ، فَلَا يَجِبُ كَوْنُنَا مُتَّبِعِينَ لَهُمْ فِي ذِكْرِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ، لِأَنَّا لَا نَقُولُ هَذِهِ الْكَلِمَةَ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ قَالُوهَا بَلْ إِنَّمَا نَقُولُهَا لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ ذِكْرُهَا، أَمَّا إِذَا أَتَيْنَا بِهَذِهِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ عَلَى مُوَافَقَةِ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّمَا أَتَيْنَا بِهَا لِأَجْلِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَتَى بِهَا لَا جَرَمَ كُنَّا مُتَابِعِينَ فِي فِعْلِ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ قَوْلُهُ: “هَلْ أَتَّبِعُكَ” يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَأْتِي بِمِثْلِ أَفْعَالِ ذَلِكَ الْأُسْتَاذِ لِمُجَرَّدِ كَوْنِ ذَلِكَ الْأُسْتَاذِ آتِيًا بِهَا. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُتَعَلِّمَ يَجِبُ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ التَّسْلِيمُ وَتَرْكُ الْمُنَازَعَةِ وَالِاعْتِرَاضِ.
وَتَاسِعُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: “أَتَّبِعُكَ” يَدُلُّ عَلَى طَلَبِ مُتَابَعَتِهِ مُطْلَقًا فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِشَيْءٍ دُونَ شَيْءٍ.
وَعَاشِرُهَا: أَنَّهُ ثَبَتَ بِالْأَخْبَارِ أَنَّ الْخَضِرَ عَرَفَ أَوَّلًا أَنَّهُ نَبِيُّ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَنَّهُ هُوَ مُوسَى صَاحِبُ التَّوْرَاةِ، وَهُوَ الرَّجُلُ الَّذِي كَلَّمَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَخَصَّهُ بِالْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةِ الْبَاهِرَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ هَذِهِ الْمَنَاصِبِ الرَّفِيعَةِ وَالدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ الشَّرِيفَةِ أَتَى بِهَذِهِ الْأَنْوَاعِ الْكَثِيرَةِ مِنَ التَّوَاضُعِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ آتِيًا فِي طَلَبِ الْعِلْمِ بِأَعْظَمِ أَنْوَاعِ الْمُبَالَغَةِ وَهَذَا هُوَ اللَّائِقُ بِهِ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَتْ إِحَاطَتُهُ بِالْعُلُومِ أَكْثَرَ كَانَ عِلْمُهُ بِمَا فِيهَا مِنَ الْبَهْجَةِ وَالسَّعَادَةِ أَكْثَرَ فَكَانَ طَلَبُهُ لَهَا أَشَدَّ وَكَانَ تَعْظِيمُهُ لِأَرْبَابِ الْعِلْمِ أَكْمَلَ وَأَشَدَّ.
وَالْحَادِي عَشَرَ: أَنَّهُ قَالَ: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ فَأَثْبَتَ كَوْنَهُ تَبَعًا لَهُ أَوَّلًا ثُمَّ طَلَبَ ثَانِيًا أَنْ يُعَلِّمَهُ وَهَذَا مِنْهُ ابْتِدَاءٌ بِالْخِدْمَةِ ثُمَّ فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ طَلَبَ مِنْهُ التَّعْلِيمَ.
وَالثَّانِي عَشَرَ: أَنَّهُ قَالَ: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ فَلَمْ يَطْلُبْ عَلَى تِلْكَ الْمُتَابَعَةِ عَلَى التَّعْلِيمِ شيئا كان قَالَ لَا أَطْلُبُ مِنْكَ عَلَى هَذِهِ الْمُتَابَعَةِ الْمَالَ وَالْجَاهَ وَلَا غَرَضَ لِي إِلَّا طَلَبُ الْعِلْمِ.[88]
هذه الرحلة تعطينا دروسا في كل تفاصيلها، ولم نعدم فوائد من كل دقائقها. فهي تغدق علينا بحصائد العلم الغزير وحصائل العقل الكبير، في كل حرف من حروفها وفي كل خطوة من خطواتها. فهذه أولى كلمة نطقها الخضر، حكمة قل نظيرها وعز نوالها وعظم نفعها…
رسول من أولي العزم يطلب متابعة أحد لكي يتعلم منه، وهذا النبي العظيم قد صبر في مواجهة أعتى ملوك الأرض وأشدهم ظلما وأكثرهم بطشا، وقد صبر مع بني إسرائيل، وهم أشد أتباع الأنبياء إيذاء لنبيهم، وكان قبل ذلك قد صبر في مهجره بمدين، وقاسى حياة البداوة عشر سنوات، وهو الذي عاش وترعرع في قصر الملك ووأبهته وعزّه، جاء يطلب المتابعة ليتعلم… وكان الرد مفاجئا!!
{ قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا . وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا}[89]
ما الذي ينقصه موسى بعد كل تلك التجارب العظيمة والإنجازات الجليلة؟؟
إن للنبي موسى من القوة الجسدية ما يقضي به حياة الإنسان في ضربة واحدة، وله من الجَلَد ما يقطع به الفيافي وحده بلا زاد، وله من التحمل ما يصبّره على العيش في الحياة الصحرواية سنوات طويلة، وله من الشجاعة ما هز بها عرش فرعون وملإه، وله من الحلم ما يثبته على تحمل أذى بني جنسه الشيء الكثير، وله … وله … ثم لن يصبر موسى في مرافقة نبي صالح يعلمه العلم النافع؟
فهو هذا الدرس الغالي العزيز…
عدم صبر موسى ليس لأنه جزوع، أو مدلل، أو ضعيف البنية أو قليل التجارب أو… أو… حاشاه، فإن موسى أكمل الخلق بنيانا وأشدهم تحملا وأقواهم جسدا وأسواهم نفسا… لا يتحمل موسى لأنه لم يحط خبرا ولم يستوعب ملابسات ما سيلاقيه من الغرائب والعجائب.
وهذا درس صعب وامتحان عسير لصبر الإنسان. {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا}[90]، لكنه درس لنبي، وارتقاء لحبيب الله، وصعود لمن يستحقه. مرتقى صعب يقطعه مؤسس مستقبل أمة قدر لها أن تفتح صفحات جديدة لتاريخ البشر…
إن معرفة الظروف والملابسات والخلفيات، ثم اختيار الحلول واتخاذ القرارات المناسبة لها، ودرك المآلات في حدود إيحاءاتها، هي منظومة مترابطة إذا لم يكتمل عِقدها أحدث الارتباك وأثار التساؤل وجلب الاستنكار. وأنى لإنسان غريب أن يدرك كل هذه الأمور؟؟
لكن الذي يقيس ما يجهله على ما يعلمه دائما قد يظن أن ذلك قريب سهل، ومن الصعب أن يتصور الإنسان شيئا لم يسبق له رؤيته أو تصوره.
والصبر مبني على المعرفة، ومن لا يعرف لا يصبر. كان موسى عليه السلام صابرا على كل ما لاقاه من الصعوبات الهائلة، لكنه سيواجه نوعا آخر من الصعوبات لم يسبق له معرفته ولم يخطر له على بال.
سيرى موسى عليه السلام معلومات دقيقة إذا غابت قلبت المنطق، وإذا حضرت غيرت الموقف.
كان موسى عليه السلام سريع الاستجابة لنداء الحق، لا يصبر على رؤية الظلم أمامه إلا قام بالرد فورا. ولما رأى ظلم القبطي للإسرائيلي ضرب القطبي فقضى عليه. ولما رأى امرأتين لم تتمكنا من السقي لغلبة الرجال لم يلبث أن ساعدهما حالا، لما رأى بني إسرائيل عبدوا العجل غضب ورمى الألواح وأخذ برأس هارون يجره إليه, وهكذا سرعة نبي الله موسى عليه السلام في الانتصار للحق والانتصاف للعدل، فإنه أشد الناس غيرة في أمر الله وأحرصهم عليه.
ولكنه في هذه المرة أمام مواقف مغايرة تماما، لم يدعُ الأمر إلى الرد السريع، بل إلى التأني، لم يكن ظاهر الأمر كافيا للحكم عليه بل يحتاج إلى نبش الحقائق المستورة…
وقد نبّه الخضر أن موسى سيشهد أمورا يصعب تقبُّلها، ولا يستطيع السكوت عليها، {قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا}[91] قال ابن عاشور رحمه الله: وهذا تحذير منه لموسى وتنبيه على ما يستقبله منه حتى يقدم على متابعته إن شاء على بصيرة وعلى غير اغترار، وليس المقصود منه الإخبار. فمناط التأكيدات في جملة “إنك لن تستطيع معي صبرا” إنما هو تحقيق خطورة أعماله وغرابتها في المتعارف بحيث لا تتحمل، ولو كان خبرا على أصله لم يقبل فيه المراجعة ولم يجبه موسى بقوله: ستجدني إن شاء الله صابرا.[92]
ومع ذلك أبدى موسى استعداده لخوض تلك التجربة، {قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا}[93]
فقبل الخضر مصاحبة موسى، لكنه اشترط شرطا: {قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا}[94] وهو شرط لا يُتصور مدى صعوبته إلا بعد دخول التجربة عمليا ومعاينة الموقف فعليا، “وليس الخبر كالمعاينة.”[95]
وليس هذا شرطا تعجيزيا، فإن الخضر –كما كان موسى مأمورا باتباع الخضر- فهو مأمور أيضا بقبول تلك المصاحبة، فعلى الخضر أيضا – بناء على ذلك- أن ييسر تلك المتابعة، ولكن الموقف والظروف المصاحبة لتلك الرحلة تتطلب ألا يكون هناك مساءلة ومجادلة في القرارات التي سيتخذها الخضر أثناء التنفيذ. فإنها تحتاج معالجة عملية سريعة، فمكان وزمان المناقشة والمساءلة سيحددهما الخضر بعد أن سمحت الظروف لذلك.
وهو أمر ملائم يعرفه كل من جرّب العمل الميداني، فإن ظروف السفر وأمثاله مع كثرة الإشكاليات وتعدد الاعتبارات التي تحتاج إلى التركيز، تتطلب هدوء البال وعدم التدخل والخلو عن المداخلة، ليتسنى تنفيذ الأمور بدون تشويش.
ثم كانت التجربة الأولى… {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا . قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا . قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا}[96]
وكما في رواية البخاري: فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، فَمَرَّتْ بِهِمَا سَفِينَةٌ، كَلَّمُوهُمْ أَنْ يَحْمِلُوهُمْ، فَعَرَفُوا الْخَضِرَ، فَحَمَلُوهُ بِغَيْرِ نَوْلٍ [يعني بلا مقابل]، فَلَمَّا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ جَاءَ عُصْفُورٌ فَوَقَعَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ فَنَقَرَ فِي الْبَحْرِ نَقْرَةً أَوْ نَقْرَتَيْنِ. قَالَ لَهُ الْخَضِرُ: “يَا مُوسَى مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا مِثْلَ مَا نَقَصَ هَذَا الْعُصْفُورُ بِمِنْقَارِهِ مِنْ الْبَحْرِ.”
إِذْ أَخَذَ الْفَأْسَ فَنَزَعَ لَوْحًا. قَالَ فَلَمْ يَفْجَأْ مُوسَى إِلَّا وَقَدْ قَلَعَ لَوْحًا بِالْقَدُّومِ. فَقَالَ لَهُ مُوسَى: مَا صَنَعْتَ؟!! قَوْمٌ حَمَلُونَا بِغَيْرِ نَوْلٍ عَمَدْتَ إِلَى سَفِينَتِهِمْ فَخَرَقْتَهَا، لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا؟! لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا!
قَالَ: أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا؟
قَالَ: لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا.
فَكَانَتْ الْأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا.[97]
فكانت المفاجأة التي لم يتحملها موسى عليه السلام… لقد أحسن الناس إليهما لمعرفتهم بالخضر وتقديرهم له، فركبا السفينة “مجانا” تكرمة من أصحاب السفينة إلى الخضر. ثم لم يلبث أن يخرق الخضر السفينة مما قد يؤدي بهم إلى الغرق… فهل يمكن أن يسكت موسى حيال هذا الموقف؟
هذا القوي العزيز الذي جرّب أهوالا جساما وتحديات عظاما، لم يستعد لمثل هذا الموقف، فبادر بالاستنكار، ونسي المشارطة التي اتفقا عليها…
ولكن هنا، رغم ما أخطأه موسى بهذا الاستنكار، ظهر نبله عليه السلام إذ قال: { أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} وقال كما في رواية الحديث: “قَوْمٌ حَمَلُونَا بِغَيْرِ نَوْلٍ عَمَدْتَ إِلَى سَفِينَتِهِمْ فَخَرَقْتَهَا، لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا؟!!”
نعم، أخطأ موسى إذ لم يصبر ولم يتريث، لكنه رجل نبيل إذ كان الذي يهمه ليس كونه سيتضرر من هذا التصرف، إذ لم يقل: “أخرقتها لتغرقنا؟” بل قال “لتغرق أهلها.” ليست المسألة عند موسى متعلقة بنفسه، إذ كان رجلا كريما شهما، يهمه مصلحة الناس، لا مصلحته هو وصاحبه. قال السفاقسي: فنسي نفسه واشتغل بغيره في حالة يقول فيها المرء: نفسي نفسي.[98]
كان كل ما أزعج موسى سلامة أهل السفينة، إضافة إلى أنهم قد أحسنوا إليه وصاحبه الخضر عليهما السلام. لم يعرفهم موسى، ولم يعرفوه. ولكن عند موسى كل البشر لهم حقوق، وعلى كل الناس أن يتبادلوا الإحسان.
لم يقم الخضر بتبرير ما فعل، ولم يكشف عن سبب ما دفعه إليه، بل اكتفى بتذكير موسى بما قاله سابقا: { أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا}. وكان من حلم موسى وحسن خلقه أن لا يدخل في جدال معه، رغم ما ارتأى له من الخطإ الفادح الذي ارتكبه الخضر في نظره، لكنه اعتذر، واعترف بالتقصير { لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا}
وهذا من الأخلاق الحسنة، روى أبو داود والترمذي وابن ماجه عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا زَعِيمٌ – يعني ضامن- بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ».[99]
ثم التجربة الثانية… وهي أصعب… { فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا . قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا . قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا }[100]
ما ارتاح موسى بعد تلك الصدمة، بل رأى ما هو أفظع، كما جاء في الصحيحين: “ثُمَّ خَرَجَا مِنَ السَّفِينَةِ، فَبَيْنَمَا هُمَا يَمْشِيَانِ عَلَى السَّاحِلِ إِذَا غُلَامٌ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، فَأَخَذَ الْخَضِرُ بِرَأْسِهِ، فَاقْتَلَعَهُ بِيَدِهِ، فَقَتَلَهُ.”[101]
ماذا نتوقع من موسى حيال هذا الموقف غير الاستنكار الشديد؟؟ وكيف له أن يسكت أمام هذا المشهد؟ مشهد القتل… وقتل الغلام الصغير! سواء كان بالغا أو غير بالغ، على قولَي المفسرين في ذلك، بناء على معنى الغلام الذي يحتمل أن يكون يمعنى الصبي ويحتمل أن يكون بمعنى الشاب.
وكان أمام منظر البراءة التي تبدّت أمامه وهذا الغلام يلعب مع الغلمان… وماذا يفهم الإنسان الذي يرى مثل هذا المشهد، غير فظاعة القتل بلا مبرر؟ وهل يفهم منه غير جرم القاتل وبراءة المقتول؟
إن وراء المشهد شيء آخر لا يعرفه موسى… ولكن الخضر لم يصدر منه غير قوله: { قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا }
الله أكبر!! لو انفجر موسى – عليه السلام- غضبا لكان معذورا… حتى لو كظم غيظه واستفسر بأسلوب مخفَّف أيضا، لكان منه مقبولا… ولكنه عليه السلام تمالك وتغلب على عاطفته الفوَّارة، وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ»[102]
استسلم موسى، وغلّب عقله على عاطفته وثبّت طاعته لله وتصديقه لأمر الله الذي أمره باتباع هذا الغريب الذي لم يسبق له المعرفة من قبل، لولا أمر الله له، وتعريفه إياه… ورغم صعوبة الموقف جدّد موسى التزامه، وزاده تأكيدا بأنه مستعد للمفارقة إذا أبدى اعتراضا آخر مرة أخرى… { قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا }
والله أعلم كم قطعا من مسافة! وكم قضيا من زمان! … حتى وصلا قرية ولجآ فيها وتمنيا أن يجدا فيها الراحة والإيواء، بعد تلك الرحلة الشاقة نفسيا أكثر منها بدنيا… وكانت معظم تلك الرحلة مشياً على الأقدام…
{ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا . قَالَ: هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ}[103]
جاء في صحيح مسلم: فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ لِئَامًا، فَطَافَا فِي الْمَجَالِسِ، فَاسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا، فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا.[104]
قدّر الله أن تكون تلك القرية التي وصلا إليها سادها اللؤم والبخل. وهذا اختبار آخر صعب. اضطرا إلى سؤال… وهما نبيان مكرّمان… ولهما من عزة النفس ما لهما… لو سألا الله أن ينزل لهما الطعام لاستجيب لهما، فإنهما حبيبان إلى الله رفيعا المنزلة عظيما القدر… ولكن أراد الله أن تكون هذه الرحلة كلها دروسا للناس، ليست ترفيها أو تسلية.
اضطر النبيّان الكريمان إلى طلب الأكل من الناس… يا من صعوبة الموقف! وهما مسافران غريبان… وكان أقل حق لهما كمسافرَين أن يستضيفوهما، لا أن يطعموهما فحسب! فضلا عن حق التكريم والتبجيل اللذين يستحقهما هذان الإنسانان الفاضلان.
أفٍّ لهذه القرية البخيلة! لا حرمنا الله من نعمة الكرم وسلامة الطبع.
وجدا في هذه القرية جدارا مائلا يكاد يسقط، فقام الخضر بإقامته وإعادته أحسن ما كان. فقد قابل إساءة أهل القرية بالإحسان.
وكان موسى عليه السلام كعادته أن يراعي حاجة الناس، وكان يتحمل صعوبة أكثر من هذا، فقد كان مشرّدا وحيدا في صحراء مدين، فلما وجد امرأتين محتاجتين إلى المساعدة سارع إلى الإحسان بلا مقابل. {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}[105] ولكنه هذه المرة اقترح أن يأخذ الخضر أجرة مقابل فعله الحسن، { قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا}.
لا يُظن أن هذا التصرف بدافع أن موسى أراد أن يستفيد، فإنه الكريم الشهم الذي يفنى في قضاء حوائج الناس، المشغول بنشر الخير وفعل الإحسان، لكنه راعى حاجة صاحبه. وهذا دأبه مثل ما كان يعترض على خرق السفينة خوفا على غرق أهلها، لا على نفسه. وهذا ظاهر قول القرطبي، وقيل إن السبب لأن موسى كان في حديث مَدْين منفرداً وفي قصة الخضر تبعاً لغيره. قيل: لما كان هذا سفر تأديب وُكِل إلى تكلّف المشقة، وكان ذلك سفر هجرة فوكل إلى العون والنصرة بالقوت.[106] والرأي الأول أظهر.
إن في هذه القرية اللئيمة أناسا صالحين يستحقون الإحسان والمساعدة، وهي قضية مهمة إذ إن الناس كثيرا ما يظلمون بعضهم بسبب أفعال بعض.
انتهت الرحلة بفراقهما {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ}[107]
لم يسأل موسى في هذه المرة الأخيرة، وما سأل في المرتين السابقتين، بل كان اعتراضا هناك واقتراحا هنا، ولكن موسى فهم ماذا قصد الخضر بالنهي عن السؤال، كان يقصد عدم التشويش والإحراج. والاعتراض أشد إحراجا وتشوشا من السؤال. ولكن موسى عليه السلام كان يحس بأنه قد بلغ من الإحراج والإزعاج ما لم تتحمله نفسه الشريفة ولم يقبله إحساسه المرهف.
عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى مُوسَى، لَوْلَا أَنَّهُ عَجَّلَ لَرَأَى الْعَجَبَ، وَلَكِنَّهُ أَخَذَتْهُ مَنْ صَاحِبِهِ ذَمَامَةٌ.”[108] أي حياء وإشفاق من الذم واللوم.
قال القرطبي: الذَّمامة بالذال المعجمة المفتوحة، وهو بمعنى المَذَمَّة بفتح الذال وكسرها، وهي الرقة والعار من تلك الحرمة. يقال: أخذتني منك مَذَمَّة ومَذِمَّة وذَمَامة. وكأنه استحيا من تكرار مخالفته، ومما صدر عنه من تغليظ الإنكار.[109]
فقبل موسى أن تنتهي هذه الرحلة بهذه النهاية، ولم يعترض، وشعر أنه لم يتحمل أكثر من هذا.
ثم قال الخضر: {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرً}[110] لم يرد الخضر أن تبقى تلك الاعتراضات التي أبداها موسى بلا توضيح ولا تفسير مقنع، فأوضح له أسباب كل تلك التصرفات.
قال في خرق السفينة: { أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا}[111]
وقال في قتل الغلام: { وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا . فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا}[112]
وقال في إقامة الجدار: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا}[113]
إن الغرابة في قصة الخضر نوعان، الأول ما حصل بقدرة الله من الحوادث العجبية، كتحول السمك الميت حيا ثم تسلله إلى البحر. والثاني ما فعله الخضر عليه السلام من الأفعال غير المفهومة ما يظهر مستنكرا من قبل موسى عليه السلام. أما الأول فشأنه شأن المعجزات والكرامات التي أشهد الله بها عباده ليشاهدوا قدرة الله الطليقة وإرادته المطلقة. أما النوع الثاني، فالغرابة أتت من قبل نقص المعلومات لدى موسى مع توفرها لدى الخضر، فإذا كشفت له تلك المعلومات تساويا في الموقف، وأقر موسى بصحة ما فعله الخضر.
قال الشوكاني: فقد كان علم موسى علم الأحكام الشرعية والقضاء بظاهرها، وكان علم الخضر علم بعض الغيب ومعرفة البواطن.[114]
فالذي ظهر لموسى مَشَاهد ناقصة، غابت عنه الخلفيات التي تفسر تلك الأفعال. وما قام به الخضر كان مبنيا على معرفته بخلفية تلك المشاهد. وهذا ما قصده العلماء بأن لموسى شريعة الظاهر، وما للخضر هي معرفة البواطن. وكان سبب إنكار موسى –كما قال ابن عاشور- لأنه علم أنه تصدر منه أفعال ظاهرها المنكر وباطنها المعروف. ولما كان موسى- عليه السلام- من الأنبياء الذين أقامهم الله لإجراء الأحكام على الظاهر، علم أنه سينكر ما يشاهده من تصرفاته لاختلاف المَشرَبين، لأن الأنبياء لا يقرون المنكر.[115]
قال القسطلاني: وقد كانت أحكام موسى كغيره من الأنبياء مبنيّة على الظواهر، ولذا أنكر خرق السفينة وقتل الغلام، إذ التصرف في أموال الناس وأرواحهم بغير حق حرام في الشرع الذي شرعه لأنبيائه عليهم السلام، إذ لم يكلفنا إلى الكشف عن البواطن لما في ذلك من الحرج. وأما وقوع ذلك من الخضر فالظاهر أنه قد شرع له أن يعمل بما كشف له من بواطن الأسرار واطلع عليه من حقائق الأستار. فلما علم الخضر علمًا يقينًا أنه إن لم يعب السفينة بالخرق غصبها الملك، وجب عليه ذلك، دفعًا للضرر عن مُلَّاكها. إذ لو تركها ولم يعبها فاتت بالكلية عليهم بأخذ الملك لها. وكذا قتل الغلام، فإنه علم بالوحي أنه إن لم يقتله تبعه أبواه على الكفر لمزيد محبتهما له. فكانت المضرة بقتله أيسر من إبقائه. لا سيما والمطبوع على الكفر الذي لا يرجى إيمانه كان قتله في شريعتهم واجبًا، لأن أخذ الجزية لم يكن سائغًا لهم. وقد رزقهما الله خيرًا منه كما مرّ. ولو ترك الجدار حتى يسقط ضاع مال أولئك الأيتام. فكانت المصلحة التامة في إقامته. ولعل ذلك كان واجبًا عليه.[116]
وبناء الأحكام على الظواهر هو الأصل إذ الاطلاع على البواطن يتعذر على عموم الناس فيتعطل الحكم إذا اشترط ذلك. وإذا تيسر الوصول إلى المعلومات الدقيقة ببراهين مشهودة تعين المصير إليها، ولكن التشريع الذي عليه موسى وقومه كان تشريعا عاما، لا يصلح إلا بالاعتماد على الأمور الظاهرة.
وقد اعترض أحد مشايخ القوم على تسمية ما عند الخضر علما باطنا، فإن كل ما عند البشر هو الظاهر، إنما الباطن ما عند الله تعالى. “إذ الباطن إنما هو علم الله تعالى وأما جميع ما علمه الخلق على اختلاف طبقاتهم فهو من العلم الظاهر لأنه ظهر للخلق فاعلم ذلك.”[117]
والحقيقة أن المسألة نسبية، فما بطن عند شخص فقد يظهر عند آخر، فكل ما اطلع عليه إنسان فهو ظاهر عنده، وما خفي عنه فهو باطن عنده، والله أعلم.
وهذا ما قرره ابن بطال بأن الظاهر عند الإنسان قد لا يكون هو الحقيقة التي بني عليها الحكم الشرعي، وقد يبنى الحكم على أمر خافٍ عن الإنسان، فينبغي للتسليم لحكم الله الذي تعبدنا به، قال: وفى قصة الخضر أصل عظيم من أصول الدين، وذلك أن ما تعبَّدَ الله به خلقه من شريعته ودينه، يجب أن يكون حجة على العقول، ولا تكون العقول حجةً عليه، ألا ترى أن إنكار موسى على الخضر خرق السفينة، وقتل الغلام، كان صوابًا فى الظاهر، وكان موسى غير ملوم فى ذلك، فلما بَيَّن الخضر وجه ذلك ومعناه، صار الصواب الذى ظهر لموسى من إنكاره خطأ، وصار الخطأ الذى ظهر لموسى من فعل الخضر صوابًا، وهذا حجةٌ قاطعة فى أنه يجب التسليم لله فى دينه، ولرسوله فى سنته، وبيانه لكتاب ربه، واتهام العقول إذا قصرت عن إدراك وجه الحكمة فى شىء من ذلك، فإن ذلك محنة من الله لعباده، واختبار لهم ليتم البلوى عليهم.[118]
وعند التحقيق فكل ما فعله الخضر عليه السلام كان موافقا للقاعدة الشرعية، وهي دفع الضرر الأكبر باحتمال الأصغر. قال الرازي رحمه الله: المسائل الثلاثة مبنية على حرف واحد، وهو أن عند تعارض الضررين يجب تحمل الأدنى لدفع الأعلى، فهذا هو الأصل المعتبر في المسائل الثلاثة.[119]
هنا برزت قضية خطيرة في بناء العقل المسلم، إذ إن البعض جعلوا من هذه القصة معول هدم للمنطق، وأساسا قدسيا لمناقضة العلم، وسلاحا فتاكا لإلغاء العقل. وقد جاء القرآن بهذه القصة ليس لإلغاء العقل ولا لمناقضة العلم، بل هو العكس تماما. كانت تلك الرحلة في طلب العلم، وارتدوا هؤلاء إلى عالم الجهل. فما أغربه من مفارقة! أراد الله لموسى أن يرتقي، وصوّر هؤلاء أنه كان في نزول! كان موسى يتواضع مع علو مكانته عند الله، ولكن جعل هؤلاء من هذه القصة الحط من مكانة النبي والنبوة، وأعلَوا مقاما وهميا سموه الولاية، فأخرج معنى الولاية من ثوبه القرآني الجميل إلى عراء هرطقة المعتقدات الظلامية! ولفّقوها بلهجة مستعلية تدعي علم الخواص ومكاشفة النفوس الطاهرة، وقد قلبوا النور ظلاما والظلام نورا. جعلوا العلم المكتسب حجابا، والجهل المركب كشفا! ولا تزلق أمة من الأمم في هذا المستنقع إلا ودخلت في العصور المظلمة الطويلة وأسرع إليها انهيار حضارتها.
وقد شجع الشيطان هذا النوع من الدعوى، لأنه يفتح بابا كبيرا لتأثير الناس من خلاله بلا دليل ولا برهان، وصرفهم عن طلب العلم والالتزام بالشرع. والحقائق بهذا التصور لا تنضبط، والحق بهذا المعيار قد يختلط بالباطل، إذ إن أهل الباطل قد يجري لهم تلك العجائب كما يحصل للمسيح الدجال. وكم من مُخرِّف عظّمه الناس لظنهم أنه ولي من أولياء الله الصالحين، وكم من مشعوذ قدسه الجهلاء لتوهمهم أنه ملهَم معلَّم حصل له من العلم اللدني الذي لا يؤتاه غيره!!
إن التوغل في غرائب الأمور والانسياق مع خوارق العادات ليس من سمات المهتدين ولا كذلك شأن الأنبياء والمرسلين، فقد كان أنبياء الله ورسله – وهم أشد الناس إيمانا بالله، وأقواهم تصديقا لطلاقة قدرته سبحانه، وهم الذين جرى على أيديهم المعجزات- كانوا لا يسلّمون الأمور الخارقة للعادات لأول وهلة، لمسايرتهم نواميس الكون وتعويلهم عليها. وفقد كان خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام يستغرب من بشرى الولد مع تقدم سنه { قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ}[120]، وهو أعرف الناس بطلاقة القدرة الإهلية وقد شاهد تحول النار أمامه بردا وسلاما عليه، ورأى عودة جثامين الطيور المقطعة إلى الحياة بأم عينيه. وأمور كثيرة شاهدها أجرى الله على يديه، لكنه يبقى سليم الفكر صحيح العقل، لم يتحول إلى مخرّف، حاشاه، بل دعا الناس إلى التوحيد بالحجج العقلية، وعلّمهم ممارسة الحياة الطبيعية معتمدا على نواميس الكون التي وضعها الله للخلق.
وهذا نبي الله زكريا، رغم أمله القوي بالله إلا أنه كان يستبعد حدوث خارق ببشارته بالولد بعد تقدم السن ووهن العظم، { قَالَ: رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ؟}[121] ، وقال: {رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا؟}[122]
وكانت مريم البتول عليها السلام تتعجب من البشرى التي لم تكن على جريان العادة وهي التي رزقت من عند الله فواكه الصيف في الشتاء وفواكه الشتاء في الصيف، فلما بشرت بولادة المسيح تعجبت وقالت: { قَالَتْ: رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ؟}[123] وقالت: { أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا؟ }[124]
وكان لنبي الله عزير الموقف نفسه إذ تساءل كيف يحيي الله الموتى؟ { أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا، قَالَ: أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا؟ }[125]
وليس معنى هذا أنهم ينكرون خوارق العادات إذا أراد الله أن تحدث، ولكنهم لم يغرقوا في التصورات الخرافية حيث يتوقعون دائما حصول ذلك، بل يعرفون أن قدرة الله مطلقة لا تحدها حدود ولا تمنعها سدود، ويؤمنون بأن الله على كل شيء قدير، وأن إرادة الله نافذة لا محالة، وأن أمره إذا أراد شيئا أن يقول: “كن”، فيكون.
فجريان العادة هو الأصل المعتمد، وخوارق الأمور هي الاستثناء. واعتبار الفرع المستثنى أصلا وعمدة من أفسد التصورات، فيصادم الإنسان من جرائه بواقع مناقض لمعتقداته، فيحرم النجاح في حياته، وينتقل في حياته من فشل إلى آخر، لأنه لم يعترف بنواميس الكون التي لا تُغلب، وينطح رأسه بصخور السنن الربانية التي لا تحابي. لذلك فقد أنكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه من جلس يدعو الله ويتعبد ولا يسعى لطلب الزرق، قال: “لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق يقول اللهم ارزقني، فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة.”[126]
إن الأمم لا تنهض ولا تتقدم إلا إذا عرفت كيف يتعامل مع نواميس الكون وسخرها لصالحها، وسيأتي تفصيل ذلك في الكلام عن قوله تعالى: {فَأَتْبَعَ سَبَبًا}[127]
أما الأمم الغارقة في الشعوذة والسحر والكهانة وخلطوا الحقائق بالخرافات، فهي أمم متخلفة محرومة، شعوب فاشلة، ولم تأخذ من مساحة الحياة إلا الهوامش.
ومن تكريم الله لهذه الأمة ألا تكون المعجزات الخارقة هي المُعوَّل عليها في دعوتها إلى الإيمان، بل التعويل على الأدلة والبراهين، وكانت المعجزة الكبرى عندها هي القرآن الكريم بما فيه من دلائل علمية وإرشادات عقلية، وليست تلك الأمور المستغربة كتحول العصا إلى حية تسعى، أو إحياء الموتى، أو تحول الصخرة إلى ناقة عظيمة وما إلى ذلك…
وحصول الكرامات الخارقة للعادات ليس هدفا يُسعَى إليه، أو إنجازا يجتهد الإنسان لنيله، قال العلامة الألوسي رحمه الله: “… ثم إن تلك الغيوب والمكاشفات بل سائر ما يحصل للصوفية من التجليات ليست من المقاصد بالذات ولا يقف عندها الكامل ولا يلتفت إليها.”[128]
وقال بديع الزمان النورسي رحمه الله: إن الذين هم قليلو النظر يعدون الأحوال والمواجيد من المقامات والمشاهدات والتجليات من المطالب، فلا جرم بقوا في قيد الوهم والخيال، وصاروا محرومين من كمالات الشريعة. {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ}[129] اهـ، ويعلم منه أن الكاملين في الشريعة يعبرون على ذلك ولا يلتفتون إليه ولا يعدونه مقصدا وجل مقصدهم تحصيل مقام الرضا.[130]
إن الكرامات ما هي إلا حاجة استثنائية لمن استدعت حاله لها، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “ومما ينبغي أن يعرف أن الكرامات قد تكون بحسب حاجة الرجل، فإذا احتاج إليها الضعيف الإيمان أو المحتاج، أتاه منها ما يقوي إيمانه ويسد حاجته، ويكون من هو أكمل ولاية لله منه مستغنيا عن ذلك، فلا يأتيه مثل ذلك، لعلو درجته وغناه عنها، لنقص ولايته. ولهذا كانت هذه الأمور في التابعين أكثر منها في الصحابة، بخلاف من يجري على يديه الخوارق لهدي الخلق ولحاجتهم [يعني الأنبياء والرسل]، فهؤلاء أعظم درجة.”[131]
وبالجملة إن قلة حصول الخوارق في هذه الأمة مقارنة بما حصل في الأمم السابقة، دليل فضل لهذه الأمة على غيرها، إذ إن إيمانها لا يتوقف على خوارق العادات، بل نواميس الكون وسننها هي الدالة لها على الإيمان، فلم تحتج هذه الأمة إلى تلك العجائب حتى تؤمن، بل آمنت بما دلت عليه عقولهم وبما أدركته قلوبهم من دلائل الإيمان في خلق الله العظيم وتدبيره الحكيم.
وَهِمَ بعض الناس، وقد حاول البعض ترويجه، أن هناك تنافيا بين الظاهر والباطن وبين الشريعة والحقيقة. قال العلامة الألوسي رحمه الله: “وزعم بعضهم أن أحكام العلم الباطن وعلم الحقيقة مخالفة لأحكام الظاهر وعلم الشريعة، وهو زعم باطل عاطل وخيال فاسد كاسد.”[132]
قال القرطبي رحمه الله: قال شيخنا الإمام أبو العباس : ذهب قوم من زنادقة الباطنية إلى سلوك طريق تلزم منه هدم الأحكام الشرعية، فقالوا: هذه الأحكام الشرعية العامة إنما يحكم بها على الأغبياء والعامة، وأما الأولياء وأهل الخصوص فلا يحتاجون إلى تلك النصوص، بل إنما يراد منهم ما يقع في قلوبهم، ويحكم عليهم بما يغلب عليهم من خواطرهم. وقالوا : “وذلك لصفاء قلوبهم عن الأكدار، وخلوها عن الأغيار، فتتجلى لهم العلوم الإلهية، والحقائق الربانية، فيقفون على أسرار الكائنات، ويعلمون أحكام الجزئيات، فيستغنون بها عن أحكام الشرائع الكليات، كما اتفق للخضر؛ فإنه استغنى بما تجلى له من العلوم، عما كان عند موسى من تلك الفُهوم… قال شيخنا رضي الله عنه : وهذا القول زندقة وكفر يقتل قائله ولا يستتاب؛ لأنه إنكار ما عُلم من الشرائع؛ فإن الله تعالى قد أجرى سنّته، وأنفذ حكمته، بأن أحكامه لا تعلم إلا بواسطة رسله السفراء بينه وبين خلقه، وهم المبلّغون عنه رسالته وكلامه.”[133]
وقال القطب الرباني الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره: جميع الأولياء لا يستمدون إلا من كلام الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم ولا يعملون إلا بظاهرهما.
وقال سيد الطائفة الجنيد قدس سره: الطرق كلها مسدودة إلا على من اقتفى أثر الرسول عليه الصلاة والسّلام.
وقال أيضا: من لم يحفظ القرآن ولم يكتب الحديث لا يقتدى به في هذا العلم لأن علمنا مقيد بالكتاب والسنة.
وقال السري السقطي: التصوف اسم لثلاثة معان، وهو لا يطفىء نور معرفته نور ورعه، ولا يتكلم بسر باطن في علم ينقضه عليه ظاهر الكتاب، ولا تحمله الكرامات على هتك محارم الله.
وقال أيضا قدس سره: من ادعى باطن علم ينقضه ظاهر حكم فهو غالط.
وقال أبو الحسين النوري: من رأيته يدعي مع الله تعالى حالة تخرجه عن جد العلم الشرعي فلا تقربه، ومن رأيته يدعي حالة لا يشهد لها حفظ ظاهر فاتهمه على دينه.
وقال أبو سعيد الخراز: كل فيض باطن يخالفه ظاهر فهو باطل.
وقال أبو العباس أحمد الدينوري: لسان الظاهر لا يغير حكم الباطن.
وقال في الإحياء: من قال إن الباطن يخالف الظاهر فهو إلى الكفر أقرب منه إلى الإيمان.[134]
وقد سبق من كلام الإمام الرازي أن كل ما فعله الخضر عليه السلام كان موافقا للقاعدة الشرعية، وكلها تحت قاعدة دفع الضرر الأكبر باحتمال الضرر الأصغر، ثم فصل ذلك فقال: أما المسألة الأولى: فلأن ذلك العالم [يعني الخضر] علم أنه لو لم يعب تلك السفينة بالتخريق لغصبها ذلك الملك، وفاتت منافعها عن ملاكها بالكلية فوقع التعارض بين أن يخرقها ويعيبها فتبقى مع ذلك على ملاكها، وبين أن لا يخرقها فيغصبها الملك فتفوت منافعها بالكلية على ملاكها، ولا شك أن الضرر الأول أقل فوجب تحمله لدفع الضرر الثاني الذي هو أعظمهما.
وأما المسألة الثانية: فكذلك لأن بقاء ذلك الغلام حيا كان مفسدة للوالدين في دينهم وفي دنياهم، ولعله علم بالوحي أن المضار الناشئة من قتل ذلك الغلام أقل من المضار الناشئة بسبب حصول تلك المفاسد للأبوين، فلهذا السبب أقدم على قتله.
والمسألة الثالثة: أيضا كذلك لأن المشقة الحاصلة بسبب الإقدام على إقامة ذلك الجدار ضررها أقل من سقوطه لأنه لو سقط لضاع مال تلك الأيتام. وفيه ضرر شديد. اهـ [135]
وقد يرد إشكال في مسألة قتل الغلام، كيف يجوز إفساد محقق بقتل نفس بسبب غير موجود وهو الكفر المتوقع من الغلام، أو كونه طبع كافرا. وهو إشكال وارد في حق من كان علمه مبنيا على ظاهر الأمر المظنون، ولم يرد على من تلقى العلم اليقيني عن طريق الوحي. وقد سبق تقرير كون الخضر نبيا موحى إليه. وقد يكون القصاص على الصبي جائزا في شرعه. وقد نقل المحدثون كالبيهقي في كتاب المعرفة أنه في شرعنا كذلك قبل الهجرة.[136] وقال السبكي: قبل أُحُد ثم نسخ.[137]
أما المسألتان الأخريان فموافقتهما للقواعد الشرعية ظاهرة، حتى بنى العز بن عبد السلام على مسألة خرق السفينة، قال: إنه إذا كان تحت يد الإنسان مال يتيم أو سفيه أو مجنون وخاف عليه أن يأخذه ظالم، يجب عليه تعييبه لأجل حفظه. وكان القول قول من عيّب مال اليتيم ونحوه إذ نازعه اليتيم ونحوه بعد الرشد ونحوه في أنه فعله لحفظه على الأوجه. كما قاله القاضي زكريا في شرح الروض قبيل باب الوديعة.
ونظير ذلك ما لو كان تحت يده مال يتيم مثلا وعلم أنه لو لم يبذل منه شيئا لقاض سوء لانتزعه منه وسلمه لبعض الخونة وأدى ذلك إلى ذهابه فإنه يجب عليه أن يدفع إليه شيئا ويتحرى في أقل ما يمكن إرضاؤه به ويكون القول قوله أيضا.[138]
وأما إقامة الجدار بلا أجر، فلا إشكال فيها، لأنها إحسان. وغاية ما يتخيل أنه للمسيء، فليكن كذلك ولا ضير. فإنه من مكارم الأخلاق.[139]
ثم إن طبيعة التشريع المتبع لدى موسى والذي يصلح لبني إسرائيل غير تلك التي عليها شريعة الخضر، لأن بين الشريعتين فرقاً، وليست شريعة الخضر هي التي فرضها الله على بني إسرئيل.
قال ابن عاشور: “وهذا العلم الذي سأل موسى تعلمه هو من العلم النافع الذي لا يتعلق بالتشريع للأمة الإسرائيلية، فإن موسى مستغن في علم التشريع عن الازدياد إلا من وحي الله إليه مباشرة، لأنه لذلك أرسله، وما عدا ذلك لا تقتضي الرسالة علمه. وقد قال النبيء صلى الله عليه وآله وسلم في قصة الذين وجدهم يؤبرون النخل «أنتم أعلم بأمور دنياكم». ورجع يوم بدر إلى قول المنذر بن الحارث في أن المنزل الذي نزله جيش المسلمين ببدر أول مرة ليس الأليق بالحرب.”[140]
فالشرع المتبع عند موسى والذي يحكم به قضايا بني إسرائيل كان شرعا عاما، يلجأ إليه عامة الناس، فهو صالح للقضايا العامة، المبنية على ظواهر الأمور. وأما شرع الخضر فهو شرع خاص يصلح للقضايا الخاصة، لكل شخص معالجة خاصة مبنية على معلومات تخص ذلك الشخص. قال ابن عاشور: “وهذا العلم الذي أوتيه الخضر هو علم سياسة خاصة غير عامة تتعلق بمعيَّنين لجلب مصلحة أو دفع مفسدة بحسب ما تهيئه الحوادث والأكوان لا بحسب ما يناسب المصلحة العامة. فلعل الله يسره لنفع معينين من عنده كما جعل محمدا صلى الله عليه وآله وسلم رحمة عامة لكافة الناس، ومن هنا فارق سياسة التشريع العامة. “[141]
وهذا يؤكد أفضلية موسى على الخضر كما ذهب إليه جمهور العلماء. قال القرطبي: ولا يظن أن في تعلم موسى من الخضر ما يدل على أن الخضر كان أفضل منه، فقد يشذ عن الفاضل ما يعلمه المفضول.[142]
قال القسطلاني: ولا ريب أن موسى أفضل من الخضر بما اختصّ به من الرسالة وسماع الكلام والتوراة، وأن أنبياء بني إسرائيل كلهم داخلون تحت شريعته، ومخاطبون بحكم نبوّته، حتى عيسى عليه السلام.[143]
وقال: “ولا ريب أن العالم بالعلم الخاص لا يكون أعلم ممن له العلم العام وهو حكم الشرائع والتكاليف فإن ضرورة الناس تدعوهم إلى ذلك.”[144] لأن نفع الأحكام العامة أوسع وأكثر من الأحكام الخاصة.
ومن كمال هدي محمد –عليه الصلاة والسلام- أنه جمع بين الحكم الظواهر ومعرفة البواطن. كمعرفته –عليه الصلاة والسلام- بأحوال المنافقين، وإخباره حذيفة بن اليمان بأسمائهم وتخصيصه به دون غيره من الصحابة. ومع ذلك عامَلهم الرسول صلى الله عليه وسلم بظواهرهم، ولم يحكم عليهم ببواطنهم، بل داراهم وساسهم سياسة حكيمة حتى يأتي أمر الله.
إن هذه القصة رغم غرابتها فإنها لا تخرج عن مقررات هذا الدين ولا يصادم قواعد الشرع عند التدقيق والتحقيق. وإنما يظهر التعارض والتناقض عند من لا يرى بعين التحقيق ويستعجل الحكم قبل التدقيق.
المسألة الأولى مسألة ما يسمى بشرع من قبلنا وما علاقته بشرعنا. إن الأنبياء والرسل على اختلاف أماكنهم وأزمانهم، شكلّوا بناء إنسانيا واحدا مترابطا، فهم المصلحون في كل زمان ومكان، وهم على خط واحد في إرشاد البشر ودلالة الخلق، يدل على ذلك ما رواه الشيخان في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “مَثَلِي وَمَثَلُ الْأَنْبِيَاءِ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بُنْيَانًا فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ، فَجَعَلَ النَّاسُ يُطِيفُونَ بِهِ، يَقُولُونَ: مَا رَأَيْنَا بُنْيَانًا أَحْسَنَ مِنْ هَذَا، إِلَّا هَذِهِ اللَّبِنَةَ، فَكُنْتُ أَنَا تِلْكَ اللَّبِنَةَ.”[145]
فهم متفقون في أصول الدين وأسس الأخلاق والقيم الإنسانية، مع بعض الاختلافات في الفروع والتفاصيل. ففي صحيح البخاري وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “وَالْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ، أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ.”[146]
فقد شبّه النبي صلى الله عليه وسلم ما هو المقصود من بعثة جملة الأنبياء وهو إرشاد الخلق بالأب، وشبه شرائعهم المتفاوتة في الصورة بأمهات.[147]
والعَلّة: الضرّة؛ مأخوذة من العلل وهي الشربة الثانية بعد الأولى، وكأن الزوج قد عَلَّ منها بعدما كان ناهلاً من الأخرى. وأولاد العلاّت: أولاد الضرّات من رجل واحد. يريد أن الأنبياء أصل دينهم واحد وفروعهم مختلفة، فهم متفقون في الاعتقاديات المسماة بأصول الدين كالتوحيد وسائر علم الكلام، مختلفون في الفروع وهي الفقهيات.[148] قال ابن حجر رحمه الله: معنى الحديث أن أصل دينهم واحد وهو التوحيد وإن اختلفت فروع الشرائع.[149]
قال القاضي عياض: والحاصل أن الغاية القصوى من البعثة التي بعثوا جميعا لأجلها دعوة الخلق إلى معرفة الحق وإرشادهم إلى ما به ينتظم معاشهم ويحسن معادهم. فهم متفقون في هذا الأصل، وإن اختلفوا في تفاريع الشرائع. فعبر عما هو الأصل المشترك بين الكل بالأب، ونسبهم إليه. وعبر عما يختلفون فيه من الأحكام والشرائع المتفاوتة بالصور المتقاربة في الغرض بالأمهات. وأنهم وإن تباينت أعصارهم وتباعدت أعوامهم فالأصل الذي هو السبب في إخراجهم وإبرازهم. كل في عصره واحد، وهو الدين الحق الذي فطر الناس مستعدين لقبوله متمكنين من الوقوف عليه والتمسك به. فعلى هذا المراد بالأمهات الأزمنة التي اشتملت عليهم.[150]
ويدل على اختلاف شرائع الأنبياء قول الله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}[151]
وهذا الأمر ذكره علماء الأصول في مسألة “شرع من قبلنا” كدليل من الأدلة المختلف فيها، وقد اختلفوا في شرع من قبلنا على أقوال ثلاثة: القول الأول: أنه شرع لنا مطلقاً. والقول الثاني: ليس بشرع لنا مطلقاً. والقول الثالث: يفرق بين ما أقره شرعنا ولم يرد في القرآن أو السنة ما يبطله أو ينسخه، وبين ما نسخه شرعنا ودل على بطلانه القرآن أو السنة. فما كان واردا في القرآن والسنة من هدي الأنبياء ولم يأت دليل على نسخه وبطلانه فهو دليل مشروع وهدي متبع، أما ما دل القرآن أو السنة على نسخه وبطلانه فليس ذلك شرعا لنا.
ووهذا القول هو ما يدل عليه مجموع الأدلة من كلا الفريقين، فهو الراجح وهو ما يلتئم به مجموع النصوص.
قال ابن جزي: فأما ما ثبت من شرعنا فهو على ما ثبت فيه، سواء وافق شرع من قبلنا أم خالفه.[152]
قال القرافي: شرع من قبلنا إنما يلزمنا إذا علمنا من قبل نبينا صلى الله عليه وسلم بوحي، أما من قِبَلهم فلا تلزم مراجعتهم لعدم الفائدة في ذلك.[153]
قال ابن تيمية: والذي عليه الأئمة وأكثر العلماء أنه شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه. وهذا إنما فيما ثبت أنه شرع لمن قبلنا من نقل ثابت عن نبينا صلى الله عليه وسلم، أو بما توتر عنهم.[154]
وإذا دققنا المسألة أكثر، فإن الأمة لا تتبعد إلا بما ورد في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وما ذكر من شرع من قبلنا إنما يعتمد على ما كان واردا في القرآن والسنة من سير الأنبياء والرسل على سبيل الإقرار والاستحسان، أما ما كان غير ذلك فلسنا متعبدين به. والله أعلم.
لا تذكر الكتب السوابق قبله ** طلع الصباح فأطفئ القنديلا
هنا تعترض مسألة أخرى، حيث أخّر الخضر عليه السلام بيان الأسباب عن وقت كان موسى عليه السلام بحاجة إلى علمها، وقد قرر العلماء أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.
قال ابن السمعاني: اعلم أنه لا خلاف بين الأمة على أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إلى وقت الفعل.[155]
قال الباجي: لا خلاف بين الأمة أنه لم يرد في الشرع تأخير البيان عن وقت الحاجة إلى تنفيذ الفعل.[156]
والحقيقة أن هذا الإشكال على هذه القصة ليس واردا، لأن ما قصده العلماء بهذه المسألة هو أن يأمر الشرع بشيء ولم يبيّن الأمور التي يحتاج إليها المكلف في امتثاله، لأن هذا يؤدي إلى تكليف ما لا يطاق، كأن يقول الشرع: صل غدا. ثم لا يبين كيف يصلي.[157]
وما طُلب به موسى ليس إلا اتباع الخضر، بل كان انتظار البيان أبلغ في المقصود، لأن موسى يقصد منه أن يعرف أن للخضر فضل علم ليس عنده، فكان انتظار البيان وتأخيره أدعى لمقصود الرحلة. فكانت الحاجة إلى البيان متأخرة لا متقدمة.
وقد جوّز جمهور العلماء تأخير البيان إلى وقت الحاجة، خلافا للمعتزلة وبعض الحنفية والظاهرية.
قال إمام الحرمين : اعلم أن البيان لا يسوغ تأخيره عن وقت الحاجة والمعني به توجه الطلب التكليفي، فإذا فرض ذلك استحال أن يؤخر بيان المطلوب، ولو فرض ذلك لكان مقتضيا تكليف مالا يطاق …. وأما تأخير البيان إلى وقت الحاجة عند ورود الخطاب فجائز عند أهل الحق.[158]
وقال الغزالي: أما تأخيره إلى وقت الحاجة فجائز عند أهل الحق، خلافا للمعتزلة وكثير من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب الظاهر، وإليه ذهب أبو إسحاق المروزي وأبو بكر الصيرفي .[159]
والدليل على ذلك قوله تعالى: {إن علينا جمعه وقرآنه، فإذا قرأناه فاتبع قرآنه، ثم إن علينا بيانه} و”ثم” في اللغة للتراخي،[160] ولأن تأخيرها لا يخل بالامتثال فجاز كتأخير بيان النسخ.[161]
وتأخيره عن وقت الخطاب إلى وقت الفعل جائز واقع في الأصحّ عند الشافعية.[162] فقد فرضت الصلاة ليلة الإسراء مجملة، وتأخر بيانها إلى الغد حتى جاء جبريل وبينها، وقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المراد بقوله تعالى في خمس الغنيمة: {ولذي القربى} بنو هاشم وبنو عبد المطلب دون إخوانهم من بنى نوفل وعبد شمس مع أن الكل أولاد عبد مناف فأخر بيانه حتى سأله جبير بن مطعم النوفلي وعثمان بن عفان العبشمي رضي الله عنهما فقال: أنا وبنو المطلب لم نفترق في جاهلية ولا في إسلام، وكذا آيات الصلاة والزكاة والحج بينتها السنة بالتراخي والتدريج.
مسألة أصولية أخرى شائكة في هذه القصة حيث اشتملت على أحكام خاصة بأشخاص معينين قد لا تنطبق على غيرهم، فهل يمكن تطبيق تلك الأحكام على حالات أخرى مشابهة؟ وهذه المسألة سماها الأصوليون بمسألة “قضايا أعيان”، يقصدون بها القضايا التي تختص بأعيان محددة، هل تنسحب أحكامها على غيرها أم لا؟
مثال ذلك ما قضى به النبي صلى الله عليه وسلم لخزيمة بن ثابت بأن تكون شهادته كشهادة رجلين، وكجواز الأضحية بجذع من الضأن لأبي بردة وكجواز رضاعة الكبير لأبي حذافة، كلها قضايا تبدو خاصة لأصحابها مخالفة للقضايا العامة التي يختلف حكمها فيها. ويبدو أن بعض قضايا الخضر كذلك كقتل الغلام قبل قترافه أي جريمة تستحق القصاص.
وللعلماء في ذلك قولان: الأول أنها تعم نظيراتها المشابهة، وهو قول الحنابلة[163] وابن الحاجب[164] والآمدي.[165] والقول الثاني أنها لا تعم، بل تبقى خاصة لا تتعدى أصحابها، وهو قول الأكثرين واختاره الشيرازي[166] وابن السمعاني[167] والرازي.[168]
ووجه القول الأول: أن الظاهر من الصحابي حيث روى ولم ينقل صيغة العموم، لم يروه إلا وقد سمع صيغة لا يشك في عمومها، لما هو مشتمل عليه من الداعي الديني العقلي المانع له من إيقاع الناس في ورطة الالتباس واتباع ما لا يجوز اتباعه.[169] وكان ابن تيمية رحمه يميل إلى هذا الرأي ورأى أن أجوبة الإمام أحمد أشبهت هذه القاضايا، قال: “كثير من أجوبة الإمام أحمد وغيره من الأئمة خرج على سؤال سائل قد علم المسئول حاله أو خرج خطابا لمعين قد علم حاله فيكون بمنزلة قضايا الأعيان الصادرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، إنما يثبت حكمها في نظيرها.”[170] ومثله قول المجد بن تيمية أيضا رحمه الله: يجوز تخصيص العموم بقضايا الأعيان.[171]
ووجه القول الثاني: أن حكاية الراوي لقضاء النبي صلى الله عليه وسلم قد تكون لمعنى خاص فيه أو لشخص مخصوص أو يظنها الراوي عامة وليس كذلك، وإذا تعارضت الاحتمالات لم يثبت لها دعوى العموم ووجب التوقف فيها.[172]
وممن انتصر للقول الثاني ودافع عنه بقوة الإمام الشاطبي في الموافقات، قال رحمه الله: “قضايا الأعيان لا تكون بمجردها حجة ما لم يعضدها دليل آخر لاحتمالها فى أنفسها وإمكان أن لا تكون مخالفة لما عليه العمل المستمر.”[173]
وأيد الشاطبي رأيه بأربعة اعتبارات، قال: “إذا ثبتت قاعدة عامة أو مطلقة فلا تؤثر فيها معارضة قضايا الأعيان ولا حكايات الأحوال. والدليل على ذلك أمور :
أحدها أن القاعدة مقطوع بها بالفرض، لأنا إنما نتكلم فى الأصول الكلية القطعية، وقضايا الأعيان مظنونة أو متوهمة، والمظنون لا يقف للقطعي ولا يعارضه.
والثانى أن القاعدة غير محتملة لاستنادها إلى الأدلة القطعية، وقضايا الأعيان محتملة لإمكان أن تكون على غير ظاهرها أو على ظاهرها. وهى مقتطعة ومستثناة من ذلك الأصل فلا يمكن والحالة هذه إبطال كلية القاعدة بما هذا شأنه.
والثالث أن قضايا الأعيان جزئية والقواعد المطردة كليات ولا تنهض الجزئيات أن تنقض الكليات، ولذلك تبقى أحكام الكليات جارية فى الجزئيات، وإن لم يظهر فيها معنى الكليات على الخصوص، كما في المسألة السفرية بالنسبة إلى الملك المترف، وكما فى الغنى بالنسبة إلى مالك النصاب، والنصاب لا يغنيه على الخصوص، وبالضد في مالك غير النصاب وهو به غني.
والرابع أنها لو عارضتها فإما أن يعملا معا، أو يهملا، أو يعمل بأحدهما دون الآخر، أعنى فى محل المعارضة. فإعمالهما معا باطل وكذلك إهمالهما لأنه إعمال للمعارضة فيما بين الظني والقطعي، وإعمال الجزئي دون الكلي ترجيح له على الكلي، وهو خلاف القاعدة، فلم يبق إلا الوجه الرابع وهو إعمال الكلي دون الجزئي وهو المطلوب.[174]
والذي يظهر عندي والله أعلم أن قول الجمهور في عدم تعدية قضايا الأعيان أقرب إلى الصحة وأدعى إلى انسجام القواعد العامة، إذ إن هذه القضايا تمثل الاستثناءات الجزئية التي لا تخرم القضايا الكلية المقررة. والأمور المستثناة تبقى محصورة في دائرتها المحدودة إذ لها أسباب لا تنطبق على غيرها.
وللنظر في القضايا الخاصة يحتاج الناظر إلى البحث في الخصوصيات التي تميزها عن غيرها، فتعميم الأحكام فيها من الخطورة بمكان، خاصة إذا كانت الفوارق تستوجب معالجة خاصة لا تصلح إلا بها وفيها لا تتعدى غيرها. وإذا طبقنا هذا على قضية الخضر في قتل الغلام مثلا، يبدو جليا أنها لا تصلح إلا في تلك القضية، ومن الخطإ الكبير أن يدعي الإنسان أنه من الممكن أن يطبق مثل ذلك في قضية أخرى. والله أعلم.
ومما يؤكد انسجام أحكام الخضر مع الشريعة أن نرى أنها جارية وفق القواعد الفقهية التي قررها العلماء، بل هل لا تخلو من موافقة قواعدها الكبرى.
ومن تلك القواعد التي تتمشى مع أحكام الخضر: قاعدة “الأمور بمقاصدها”، فإن ما قصده الخضر هو الذي يبرر كل ما فعله، إذ كان قصده الإصلاح في كل ما فعل، وإن كان يبدو غير ذلك عند موسى إذ لم يعرف خلفيات المشهد كما سبق.
ومن القواعد التي اتبعها الخضر عليه السلام قاعدة “اليقين لا يزال بالشك” إذ كان اليقين الذي عند الخضر والذي حصله عن طريق الوحي، لا يبطله الشك الذي أبداه موسى عليهما السلام.
بل الذي كان عند موسى هو الوهم إذ كان يرى على غير حقيقة الأمر إذ غاب عنه أمور كان عليه أن يعرفها حتى يستوعب ما كان يراه من تصرفات الخضر عليه السلام. وهنا تنطبق أيضا قواعد أخرى متفرعة على هذه القاعدة، كقاعدة “لا عبرة بالتوهم” وقاعدة “لا عبرة بالظن البين خطؤه.” فإن رأي موسى عليه السلام مبني على ظنه الذي تبدّى أمامه لأول وهلة، وكله ظن خاطئ، إذ لم يصب عين الحقيقة.
ومنها قاعدة “المثبِت مقدم على النافي” لأن المثبت عنده زيادة علم، إذا كان النافي مستنده عدم العلم، والقاعدة أن “عدم العلم ليس علما بالعدم.”
ومنها قاعدة “من يعلم حجة على من لا يعلم”، فهي كسابقاتها، فالعلم الذي عند الخضر حجة على موسى الذي لا ليس له علم بخلفيات تلك المشاهد.
من أكثر القواعد اعتبارا في قضايا الخضر هي ما كانت تحت القاعدة الكبرى أن “الضرر يزال”، بل كل ما فعله الخضر كان لإزالة الضرر. ولكن بما أن إزالة الضرر قد لا تكون إلا بارتكاب ما يضر بعض الشيء، فلا بد من احتمال ضرر يسير مقابل دفع ضرر كبير، كخرق السفينة الذي هو ضرر جزئي مقابل تجنيبها من ضرر الغصب الذي هو أكبر من ضرر الخرق. فهنا قاعدة أخرى وهي أن “الضرر الأشد يدفع بالضرر الأخف”.
وكان أقرب طريقة لدفع ذلك الضرر كان بهذه الطريقة، وقد تكون إزالة الضرر من الأصل كمقاومة ذلك الملك الظالم غير ممكنة، فهنا جاءت قاعدة أخرى أن “الضرر يدفع بقدر الإمكان”، فتلك الطريقة هي التي كانت ضمن الإمكانية.
وقد تفوّت إزالة الضرر مصلحة لصاحبها كمصلحة حسن شكل السفينة وسلامتها من الآفة، فهنا تأتي قاعدة “درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة”، إذ لا معنى لمصلحة سلامة السفينة من الآفة مقابل عدم سلامته من الغصب، فكان دفع الضرر هنا مقدما على جلب المصلحة.
إن اعتبار المآلات والنظر إلى العواقب وبناء الأمور على احتساب النتائج مبدأ شرعي مهم، ولم يغب هذا الأمر عن فقهائنا الأوائل، إلا أن أكثر من تكلم فيه وروّجه وبنى أصوله ورفع قواعده هو العالم الجهبذ الفقيه الأصولي المجدد الإمام أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله.
قال الشاطبي: “النظر فى مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا، كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل.”[175]
وما فعله الخضر كله مبني على نظره إلى مآلات الأمور، فأقدم على خرق السفينة بناء ما توقعه من تصرف الملك الظالم، فأحدث خللا في السفينة ليزهد فيها الملك. وقتل الغلام بناء على معرفته بمآل هذا الغلام إذا بقي يعيش مع والديه، فقطع السبب لمنع وقوع المسبب. وإقامة جدار الغلامين بناء على معرفته بماضي ومصير هذين الغلامين ومدى حاجتهما إلى الكنز المدفون تحت الجدار.
ومن أهم القواعد المعتبرة في هذه القصة: بناء الأحكام على معرفة الواقع، وكان أبرز من قرر هذا المبدأ ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين، قال: “ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم: أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علما.
والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان قوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر؛ فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرا؛ فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله، كما توصل شاهد يوسف بشق القميص من دبر إلى معرفة براءته وصدقه، ….. ومن تأمل الشريعة وقضايا الصحابة وجدها طافحة بهذا، ومن سلك غير هذا أضاع على الناس حقوقهم ، ونسبه إلى الشريعة التي بعث الله بها رسوله.”[176]
وظهر جليا أن معرفة الخضر بأوضاع الناس الذين قابلهم أثناء رحلته تلك كانت قوية ودقيقة بحيث يعرف الملابسات المتعلقة بكل تلك المشاهد، فكان موفقا في أحكامه وأفعاله ومسددا في إقدامه وإحجامه. وكل ذلك لأنه كان يعرف تماما ما الذي يحتاجه هؤلاء الناس. وتحصيله لتلك المعلومات كان عن طريق الوحي، ولا يمتنع أن يكتسبها من خلال معايشته ومخالطته لهم.
من الأمور الجديرة بالتأمل وتستدعي إمعان النظر هي كيفية الحصول على المعلومات الخطيرة التي تمثل مفاتيح في معالجة تلك القضايا. وقد سبق أن رأينا أن المفسرين انقسموا في تفسير ذلك على قولين: بين من يعزوه إلى الإلهام والكشف الباطني وبين من ينسبه إلى الوحي والمقام النبوي.
ومع ذلك فإن بعض تلك المعلومات لا يستحيل أن يحصل عليها الخضر عن طريق الحس المعتاد، فإن معرفة وجود ملك غاصب مثلا ليست مسألة تختص بالوحي، فإن أهالي تلك المنطقة قد يعرفون ذلك مسبقا، ولا يبعد أن يعرفه الخضر لإخبارهم به. وكذلك معرفة أحوال اليتيمين، فإنها ليست من المسائل التي لا يمكن إدراكها إلا بوحي.
وبغض النظر عن مدى صحة هذا الافتراض، فإن ما يهمنا هو كيف نبني على هذه القصة ثقافتنا وطريقة تفكيرنا؟ فإن الوحي المنزل قد انقطع من السماء، والنبوة مختومة، والكشف الباطني لا يعتمد عليه، ولم يبق أمامنا إلا البحث العلمي المستند للأدلة. وهو الباب الذي يدخل منه بُناة الحضارة وهو الأساس الوحيد الذي ينطلق منه التطور العلمي. وهي روح القرآن التي تشكِّل عقل المؤمن بقوله: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[177] وهو شعار القرآن ومبدؤه الأساس في بناء العقائد. فإن القرآن لا يشحن عقل المؤمن بالغرائب التي لا تصدّق، بل دعا القرآن إلى احتكام العقل في غربلة الحقائق. إن القرآن لا يغرق عقول الناس في عالم التصورات العجيبة التي تعطل الفكر والمنطق. والإيمان بالله القادر على كل شيء لا يعني إلغاء سنن الله في الكون التي تنكشف بالبحث والتجربة والملاحظة.
إن اكتساب المعرفة لا يقتصر على المصدرين الوحي والإلهام، فلا ينبغي حصر المسألة فيهما فضلا عن قبول أحدهما ورد الآخر. وقد يكون الخضر عليه السلام -إضافة إلى تلقيه الوحي من عند الله- اكتسب معلومات ضافية أكيدة بسبب معرفته السابقة عن أهل تلك المناطق واحتكاكه بهم أو تردده عليهم أو اطلاعه على أمورهم.
وهذا يسلمنا إلى مقام الإنسان المحب للمعرفة، الباحث عن الحقيقة بصدق وموضوعية، ليس الإنسان الحالم الذي يعتقد أن منبع الحق هو تصوره المقدس وسره المطهر. وهذه القصة تدفعنا إلى الغوص في مصادر المعرفة التي يمكن أن تعتمد عليها الإنسانية لبناء صرحها العلمي وتشييد بنيانها الحضاري.
فأمامنا منافذ معرفية كثيرة متعددة لا تنحصر في مصدر واحد، قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله: مصادر العلم ثلاثة: الحس والعقل والمركب منهما كالخبر.[178]
فالحس أول منفذ معرفي للإنسان، يكتسب الإنسان العلم أولا مما يسمع ثم مما يرى، ثم مما يحس به لمسه أو شمه ثم يتدخل العقل ليفسر ما يرى وما يسمع وما يحس، وليدرك ماهية الأشياء وطيبعتها والعلاقات بينها. وقد بين الله هذه الآلية الإدراكية بقوله: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[179]
و قد أولى القرآن للحواس والعقل أهمية كبيرة من خلال دعوة الإنسان إلى استخدامها وامتنان الله بها على عباده أنها شاهدة عليهم يوم القيامة وأن الناس مسؤولون عن حسن استخدامها، قال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}[180] والقرآن يعبر عن أداة الإدراك والتفكير لدى الإنسان بإحدى الكلمتين: إما القلب وإما الفؤاد، أما العقل فلا يذكره القرآن إلا بصيغة الفعل.
والرقي الإنساني ليس في امتلاكه تلك الأدوات المعرفية، ولكن الشأن في كيفية استخدامها لما ينفعه في الدنيا والأخرى.
إن السلاح كل الناس تحمله وليس كل ذوات المخلب السبع
فالارتقاء يناله كل من استخدم عقله وحواسه ليدرك معاني الحياة وحقائق الأمور، والانحطاط يصيب كل من عطّل عقله ولم يعِ ما حوله من المحسوسات ولم يستوعب ما وصله من المعلومات، قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}[181]
كانت الطريقة القديمة التي اتبعها الأولون في اكتشاف المعارف هي التأمل والفكر العميق وتقليب النظر وإعادته مرة بعد أخرى، كما سلكه الفلاسفة القدامى، ولكن القرآن، إضافة إلى تشجيعه على التفكر والتأمل، يحثّ أيضا على التحرك والسعي لاكتشاف المجاهيل واكتساب معلومات جديدة، وقد أمر الله البشر بالسَير في الأرض في أحد عشر موضعا في القرآن، قال تعالى: { قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ }[182]
وقال تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ}[183]
وقال: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ}[184]
وقال: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ}[185]
وقال: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}[186]
وقال: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}[187]
وقال: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}[188]
وقال: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً}[189]
وقال: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ}[190]
وقال: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[191]
وقال: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا}[192]
فهذه كلها إشارات قوية إلى أن المعرفة تحصّل بالحركة الفعلية والبحث الجاد وبذل المجهود. ومن اللافت للنظر أن موسى لم يتعلم من الخضر عن طريق المناقشة والمباحثة وتبادل الآراء بالدرجة الأولى، بل مشيا وانطلقا وتحركا، ليرى موسى ماذا غاب عنه من المعلومات وليشهد ما يمكن أن يتعلمه من الخضر من خلال التجارب العملية. لذلك كان شعار تلك الرحلة هو تلك الكلمة المتكررة “فانطلقا”.
وهذا يشير إلى أن تراكم الخبرات الذي اكتسبه الخضر كان بسبب كثرة سفره وتنقله بين الناس. فلم يكن الخضر فيسلوفا متأملا أو راهبا متقوقعا في الصومعة ينتظر الورادات والفتوحات والكشوفات، بل كان يمشي بين الناس، يعرفهم ويعرفونه، يرى أحوالهم ويعرف ظروفهم. وهذا سر من أسرار سعة علمه وكثرة معارفه.
هذه هي الروح التي بثتها هذه الرحلة، روح البحث والسعي نحو الحقيقة، وليس القعود اكتفاء بما عند الإنسان وتوهُّما بالتفوق والأعلمية.
فَانْطَلَقَا[193] … فَانْطَلَقَا[194]… فَانْطَلَقَا[195] … كانت ثلاث انطلاقات، لو لا استعجال موسى عليه السلام كانت الانطلاقات أكثر والاكتشافات أكبر. قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “يَرْحَمُ اللهُ مُوسَى، لَوَدِدْتُ أَنَّهُ كَانَ صَبَرَ حَتَّى يُقَصَّ عَلَيْنَا مِنْ أَخْبَارِهِمَا.”[196] وفي رواية للحاكم: “رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى لَوْ لَمْ يَعجَلْ لَقُصَّ مِنْ حَدِيثِهِ غَيْرُ الَّذِي قُصَّ.”[197]
إن هذه الروح أثرت كثيرا في سلوك علماء المسلمين، فقد كانوا يضربون أكباد الإبل ويقطعون الفيافي والقفار، يجوبون البراري ويركبون البحار ويصلون الليل بالنهار طلبا للعلم وسعيا للمعرفة. وكانت هذه ميزة فريدة في تاريخنا الحضاري، حتى قال بعضهم: “من لم يرحل لم يُؤنَس منه رشد.”
قال الشافعي رحمه الله:
تغرّب عن الأوطان في طلب العُلَى وسافر ففي الأسفار خمس فوائد
تـفريج هـــمٍّ واكتســـــاب معيـــشــة وعـلـم وآداب وصحبــــــة ماجـــد
وقال أيضا:
ســــافر تجد عـــــــوضا عمن تفارقــــــه وانصب فإن لذة العيش في النصب
إني رأيــــــت ركـود المـــــاء يفســـــده إن ساح طاب وإن لم يجر لم يطب
والأُسْد لولا فراق الأرض ما افترست والسهم لولا فراق القوس لم يصــب
وكتب السِيَر والتاريخ ملأى بقصص رحلات العلماء في طلب العلم، فكانت تلك النهضة العلمية الهائلة التي فتحت المغاليق وكشفت عن حقائق الكون ودقائق المعارف. ذكروا رحلة عبد الله بن أنيس رضي الله عنه من المدينة إلى مصر لسماع حديث واحد، ورحلة بقي بن مخلد من الأندلس إلى بعداد مشيا على الأقدام مرتين لأخذ الحديث من الإمام أحمد، وكان ياقوت الحموي جابوا مدن الدنيا وقراها ليكتب عن أحوالها وتاريخها وكان الفيزورآبادي يرتحل إلى بلدان شتى ليسجل أقوال اللغويين في معاني الكلمات، وكان القاضي أبو بكر بن العربي يقضي سنوات طوالا في الرحلة من المغرب إلى المشرق لأخذ العلم عن علماء المشرق، ولم تقتصر الرحلات العلمية على علماء الدين بل كانوا يسافرون من أجل العلوم الطبيعية أيضا، انظر مثلا ابن البيطار فقد سافر من بلده الأندلس إلى بلاد شمال أفريقيا ثم مصر ثم الشام ثم بلاد الروم والإغريق لكي يتعرف ويجمع ويدرس ويكتشف أنواع النبات وفوائدها الطبية، وحدث عن رحلة ابن بطوطة وابن فضلان والإدريسي، والقائمة طويلة جدا…. وهذه الأخبار وأضعافها وأعجب منها فاضت بها المجلدات من كتب تاريخنا وسِيَر علمائنا.
وهكذا غيّر القرآن مجرى التاريخ بعد أن كان العالم في ظلام دامس، ووقفت الحركة الحضارية في الشرق والغرب، فقد شهد العالم في القرن السابع الميلادي فجرا يبزغ ونورا يشرق على ميادين العلم المختلفة ومجالات المعارف المتعددة.
ليست الرحلة وحدها التي تُحدث العلامة الفارقة في هذا السياق، ولكن هناك مبدأ أساس تقوم عليه تلك النهضة العلمية، وهو المنهج العلمي الجديد الذي يسمى فيما بعد بالمنهج التجريبي أو المنهج الواقعي (Empirical Method).
فقد حث القرآن على ملاحظة الكون لكشف الحقائق الكامنة والتوصل إلى المعلومات الغائبة، قال تعالى: { فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ . أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا . ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا . فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا . وَعِنَبًا وَقَضْبًا . وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا . وَحَدَائِقَ غُلْبًا . وَفَاكِهَةً وَأَبًّا }[198] وقال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}[199] بمثل هذه الآيات وغيرها قدح الله عقول المسلمين ليكتشفوا أسرار الكون وليبحثوا عن معلموات جديدة مفيدة، وقد اكتسب المسلمون منها منهجية العلم التجريبي، وقد أقر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا المبدأ، مبدأ التجربة في الأمور الدنيوية الفنية، فما أثبتت التجربة نفعه في هذا فهو مطلوب شرعا، وما أثبتت ضرره فهو مرفوض شرعا.[200] فليس من الغريب أن يكون ابن الهيثم[201] هو أول من اكتشف منهج العلم التجريبي في وقت مبكر جدا قرنين قبل روجر بايكون[202] الذي ادعى الغربيون أنه هو المكتشف لهذا المنهج.
فقد كان كتابه “المناظر” وأعماله العلمية تكريس وتأسيس لهذا المنهج. قال ابن الهيثم في منهجية بحثه: “ونبتدئ في البحث باستقراء الموجودات، وتصفح أحوال المبصرات، ونميز خواص الجزئيات، ونلتقط بالاستقراء ما يخص البصر في حال الإبصار، وما هو مطرد لا يتغير، وظاهر لا يشتبه من كيفية الإحساس، ثم نرقى في البحث والمقاييس على التدريج والترتيب، مع انتقاد المقدمات والتحفظ في النتائج، ونجعل غرضنا في جميع ما نستقرئه ونتصفحه استعمال العدل لا اتباع الهوى، ونتحرى في سائر ما نميزه وننتقده طلب الحق لا الميل مع الآراء…”[203] فابن الهيثم يعتبر أن نتائج تتبع الجزئيات إنما هي فرضيات وليست النتائج النهائية، أما الوصول إلى النتائج العلمية المعتمدة فلا بد له من إخضاع تلك الفرضيات للتجارب المتعددة والمتكررة.[204]
وقد كان العلم قبل بزوغ الحضارة الإسلامية يغلب عليه منهج اليونانيين الذي اعتمد على التأمل والتفكير والمناظرة، وقلما يكتشفون أشياء جديدة من خلال التجارب العملية، فكانت العمدة عندهم هو علم المنطق ومنطق أرسطو بالذات، المعروف بالمنطق الشكلي، وكان أرسطو يستهين بمنهج الاستقراء الذي هو سر نهضة العلوم في عصرنا الحديث.
وكان لابن تيمية (661 – 728 ه / 1263 – 1328 م) رحمه الله انتقاد مبكر جدا على المنطق الأرسطي، قبل ديكارت (1596 – 1650م)[205] وأمثاله من علماء العصر الحديث، وكان رحمه الله – على العكس من أنصار المنطق الأرسطي- يعتمد اعتمادا كبيرا على الاستقراء، ومن تأمل كتاباته يرى جليا هذا النهج، وكان يشير إلى أهمية التجربة في مجال العلم وماهيتها، قال رحمه الله: ذلك أن التجربة إنما تحصل بالنظر والاعتبار والتدبر وملاحظة تكرار اقتران السبب بالمسبب عنه.[206]
فبمثل هذه الحركة العلمية خرج العلم والعلماء من صومعة التأمل القاصر إلى ساحات التجارب والاكتشافات الجديدة، فبدأت الحركات العلمية من الشرق الإسلامي واستمرت أكثر من عشرة قرون حتى انتقلت إلى الغرب الأوربي. وإن ادعت أوربا بأن النهضة ولدت في أوربا، لكنهم لم يستطيعوا إنكار ابتدائها بعد احتكاكهم بالمسلمين واستفادتهم من كتبهم.
إن هذه الرحلة التي قام بها هذان النبيان الكريمان تحمل في جنباتها ومضات علمية تضيء طريق مستقبل الإنسان. وقد كانت هذه الرحلة بعد أن نجّى الله موسى وبني إسرائيل من استعباد فرعون واضطهاده لهم.[207] فكان موسى وبنو إسرائيل مقبلين على مرحلة جديدة من حياتهم، واقفين على عتبة مستقبل قادم ينتظر خطوة جادة لصناعته وصياغته.
وبعد عهد من الاضطهاد والاضطراب، جاء عهد الاستقرار والأمان، فكان وقتا مواتيا للبناء، ولا بد من استغلال هذه الفترة لاكتساب العلم وتطوير الذات. والحياة دُوَل يداولها الله بين الناس، فيكون الأمان بعد الخوف، والفراغ بعد الشغل، والعافية بعد المصيبة وهكذا. وبدل أن يخلد الإنسان إلى الراحة والسكون، فإن مرحلة الاستقرار والأمان هي أنسب وقت للتعلم واكتساب المعارف.
وهكذا تبني الأمم مستقبلها، فإن في الاضطراب المستمر والفوضى لا يمكّن الإنسان من التخطيط السليم، والاستقرار مع الخمول والقعود لا يوصل إلا إلى التدهور والضعف. فإذا رزق الإنسان حالة من الاستقرار فلا بد من استغلالها أحسن استغلال. قال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ}[208] وقال عليه الصلاة والسلام: اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هِرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاءَكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ.[209]
وأهمية العلم في كل الأمور لا تنكر ولا تجهل، وكانت بداية الوحي عند الرسول المصطفى هي “اقرأ”، وهي هنا أيضا بداية مرحلة جديدة تحتاج إلى كثير من العلوم. ومن أهم مبادئ العلوم وأساسات المعرفة هي الموضوعية، أي أن يتجرد الإنسان للحقيقة ولا يخضعها لهواه وتأثيره الذاتي. لا بد أن يستعد الإنسان للحقيقة وإن كانت تخالف تصوره السابق. لا بد أن يتبع الحق حتى لو لم يعجبه. هذه هي الموضوعية التي نتعلمها من هذه القصة.
ومن هذه الرحلة نكتسب العقلية المنفتحة، تعترف بالحكمة وتتقبلها من أي وعاء خرجت، يتعلم الفاضل من المفضول لأن معه الحق وزيادة علم. إن العقلية المنفتحة هي التي تكشف الحقائق الجديدة وتسبق غيرها إلى التفوق المعرفي والسبق العلمي، أما العقلية المنغلقة فهي جامدة راكدة، متخلفة منكفئة، ضامرة وهزيلة.
ومن هذه الرحلة نتعلم أن الحقيقة تُبحث ويسعى إليها، ولا تُنتظر بالأماني وتوقع “الواردات الإلهية” بلا سعي ولا طلب. والفريضة المعروفة على كل مسلم هي “طلب العلم” وليس ادعاؤه أو انتظاره. وهذا نبي ورسول من أولي العزم، يمكنه أن يفتح الله عليه بلا سعي ولا تعب ولا معاناة سفر ولا سؤال، وبل كان يسافر ويسعى وينصب ويسأل، وهو كليم الله الذي كلمه الله بلا ترجمان!!
ومن هذه القصة نتعلم أن التصور العام لا يغني عن المعلومات الخاصة، وأن الإجمال لا يغني عن التفصيل. وأن القضايا الكلية لا يلزم أن تنطبق على كل الجزئيات، فإن الاستثناء وارد وممكن، لذلك التحقق والتأكد مبدأ ضروري لكل جهد علمي.
وهذا ما يسمى بالاختبار وهو التأكد من صحة الفرضيات، فرب قضية منطقية صحيحة سليمة لا يصدقها الواقع الفعلي ولا تنطبق عليه بسبب من الأسباب. لذلك فإن منهج البحث العلمي الحديث لا يكتفي بالنظر المنطقي كما فعله علماء اليونان ومن سار على نهجهم، فإن دلالة المنطق لا تتعدى الفرضيات، وتسليمها ومعرفة صحتها تحتاج إل اختبار في عالم الواقع، وتكرير الاختبار حتى يخرج من حادثة واحدة إلى ظاهرة متكررة وحقيقة مستقرة، لتنتقل من النظرية الفرضية إلى الحقيقة المسلمة.
من هذه الرحلة نتعلم أن الوصول إلى الحقيقة يحتاج إلى الصبر وعدم التسرع، فإن النتائج قد تكون متأخرة، والحقيقة لا تنكشف إلى في وقتها، والأحداث قد لا تفهم إلا بعد اكتمالها. “ومن استعجل شيئا قبل أوانه عوقب بحرمانه”، كما تقوله القاعدة المعروفة في فقهنا الإسلامي.
من هذه القصة أيضا نتعلم أن المفتي والعالم بحاجة ماسة إلى معرفة واقع الناس ليتمكنوا من الإفتاء في مسائل تتعلق بقضاياهم الواقعية، فلا يكفي أن يفتي الإنسان بناء على ما يقرؤونه في الكتب أو ما يتعلمونه في قاعة الدرس أو حلقات العلم دون معرفة حقيقية بالناس وبأحوالهم. والحكام والقضاة والمصلحون في ذلك سواء، فهم محتاجون إلى النزول الميداني ليعرفوا أحوال من يلونهم ما يصلح لهم وما لا يضرهم.
ومن الأمور نتعلمها من هذه الرحلة كيفية طرح حلول غير تقليدية وابتكار طريقة غير معروفة ولا مألوفة. فإن كثيرا من المشاكل لا يمكن حلها إلا بأشياء جديدة ولا تنفك بالأمور المعروفة. فكل ما فعله الخضر على بساطته يدل على أن الأمور التي لم يتوفعها موسى هي التي تحل كثيرا من المشاكل. فإيجاد مخرج جديد لمشاكل الناس هو الذي يفتح طريق المستقبل الرائق.
ومن أهم الأمور التي نتعلمها هي “قانون النسبية“، فإن الشيء قد يكون صحيحا في مكان ولا يكون كذلك في مكان آخر، والحقيقة قد تبدو سليمة من زاوية ولا تكون كذلك إذا نظرت من زاوية أخرى. فمن هنا تتوسع المدارك وتنفتح الآفاق لتعدد الحقائق، وتستعد العقول لاستيعاب القضايا المعقدة التي تبدو متعارضة. وليس ذلك تمييعا للمبادئ والثوابت وإلغاء لها، كما ذهب إليه أصحاب مذهب “ما بعد الحداثة” (Postmodernism)[210]، فليس كل الحقائق نسبية، فهناك حقائق مطلقة لا تتغير، ولكن ليس كل ما يعتقد الإنسان صحته هو الحق الذي لا ريب فيه، ومع ذلك فإن العقول تتفق على أشياء مشتركة كثيرة يمكن البناء عليها والاعتماد عليها. فمبدأ النسبية يخضع للنسبية أيضا، لأنه مبني على العقل النسبي، وإلا فهو يناقض نفسه. فنظرية النسبية كذلك نسبية، فهي ليست مطلقة، وبالتالي ليس كل شيء نسبي، بل هناك أمور مطلقة، كما أن هناك أمورا نسبية.
وقد تكون الأمور التي رآها موسى من الخضر إشارات إلى مشاكل الماضي والمستقبل معا، فإن خرق السفينة تجنبا لغصب الملك، فيه إشارة إلى مواجهة الحكام الظلمة، فإن موسى قد واجه الملك الظالم بطريقته ونجح فيه، والخضر واجه الملك الظالم بطريقته ونجح فيه، وسيواجه بنو إسرائيل ومن بعدهم ظلم الحكام، كل على طريقته المناسبة لهم ولظروفهم.
ويبقى الإحسان إلى الناس هو السلوك المتبع لتحسين الأوضاع وإصلاح الأمور، كما أحسن موسى إلى امرأتَي مَديَن، فقد أحسن الخضر إلى اليتيمين، وسيبقى الإحسان هو العمل المفضل لاستمرار الخير وتناميه على كل المستويات.
[1] سورة الكهف: ٦٠
[2] أجمع جمهور العماء وأهل التاريخ على أنه موسى بن عمران رسول بني إسرائيل، وقالت طائفة منهم نوف البكالي أنه موسى بن منشا بن يوسف بن يعقوب، وكان نبيا قبل موسى بن عمران. ولا التفات لهذا القول لما ثبت في الصحيحين وغيرهما كما سيأتي إيراده. (انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 13/315، المحرر الوجيز: 3/527، أحكام القرآن لابن العربي: 3/1230).
[3] تفسير الكشاف (2/731)
[4] سورة الأعراف: ١٤٤
[5] سورة طه: ٤١
[6] سورة طه: ٣٩
[7] سورة الكهف: ٦٢
[8] أخرجه البخاري (1/35 رقم: 122) ومسلم (4/1847 رقم: 2380)
[9] سورة البقرة: ٣٢
[10] سورة يوسف: ٧٦
[11] سورة الإسراء: ٨٥
[12] إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (7/217)
[13] سورة القصص: ١٦
[14] سورة القصص: ٢٤
[15] سورة القصص: ٣٤
[16] سورة الشعراء: ٢٠
[17] سورة النازعات: ٢٤
[18] سورة الزخرف: ٥١
[19] سورة غافر: ٢٩
[20] تفسير الطبري (18/63) تفسير ابن أبي حاتم (7/2374)، انظر الدر المنثور (15/321-322)
[21] سورة الكهف: ٦١ – ٦٣
[22] سورة الكهف: ٦٤
[23] أخرجه البيهقي في معرفة السنن والآثار (15/392 رقم: 6048) والدارقطني في سننه (10/271 رقم: 4524)
[24] أخرجه البخاري (2/159 رقم: 1651)
[25] سورة يوسف: ٣٥
[26] سورة الكهف: ٦٥
[27] فتح القدير (3/353)
[28] فتح الباري (1/121 رقم: 72)
[29] أخرجه البخاري (3150)
[30] فتح الباري (10/197)
[31] المصدر نفسه
[32] زاد المسير (5/168-169)
[33] انظر البحر المحيط (7/204)
[34] فتح القدير (3/354)
[35] تفسير الطبري (18/62)
[36] فتح القدير (3/353-354)
[37] سورة البقرة: ٣٢
[38] سورة البقرة: ٢٥٥
[39] التحرير والتنوير (15/369)
[40] سورة هود: ١
[41] سورة النمل: ٦
[42] البحر المحيط (7/204)
[43] منازل السائرين للهروي نقلا عن مدارج السالكين (2/445)
[44] مجموع الفتاوى (13/245)
[45] سورة آل عمران: ٧٨
[46] سورة البقرة: ٧٩
[47] سورة الأنعام: ٩٣
[48] مدارج السالكين (3/400-401)
[49] الجامع لأحكام القرآن (13/325)
[50] سورة الزخرف: ٣٢
[51] سورة القصص: ٨٦
[52] سورة الكهف: ٦٦
[53] سورة الكهف: ٦٨
[54] سورة الكهف: ٦٩
[55] سورة الكهف: ٨٢
[56] مفاتح الغيب (21/126-127)
[57] سورة الكهف: ٨٢
[58] سورة الكهف: ٨٢
[59] سورة الأنبياء: ٤٥
[60] سورة الأنعام: ١٢٥
[61] أخرجه الترمذي (10/399 رقم: 3025) والطبراني في الكبير (7/109 رقم: 7369) والأوسط (7/352 رقم: 3382، 17/144 رقم: 8067) قال الترمذي: هذا حديث غريب، إنما نعرفه من هذا الوجه. وحسن إستاده الهيثمي (مجمع الزوائد: 4/386) وضعف السخاوي كل طرقه (المقاصد الحسنة: 1/11)
[62] سورة الإسراء: ١٥
[63] سورة النساء: ١٦٥
[64] سورة طه: ١٣٤
[65] أضواء البيان: (3/322-324)
[66] سورة الكهف: 82
[67] شرح ابن بطال على صحيح البخاري (1/211-212)
[68] التحرير والتنوير (15/364)
[69] أخرجه أبو داود (13/148 رقم: 4321) وأحمد (34/444 رقم: 16458) والبيهقي في السسن الكبرى (10/1047 رقم: 21166) والبخاري في الأدب المفرد (1/268 رقم: 763) صححه الألباني (صحيح وضعيف الجامع الصغير: 12/104 رقم: 5157)
[70] زاد المسير (5/168)
[71] المصدر السابق
[72] روح المعاني: (8/309)
[73] مسند علي بن أبي طالب (31/447 رقم: 34538) وانظر: كنز العمال (44218)
[74] سورة روح المعاني: 8/311
[75] التحرير والتنوير (15/363)
[76] التحرير والتنوير (15/364)
[77] محاسن التأويل (11/49)
[78] محاسن التأويل (11/49)
[79] سورة الكهف: ٦٦
[80] الجامع لأحكام القرآن (13/317)
[81] سورة النمل: ٢٢
[82] سورة الأنعام: ٥٠
[83] سورة هود: ٣١
[84] إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (1/215)
[85] أخرج أحمد (11/479 رقم: 5438) وابن حبان (15/3138 رقم: 6895) أن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ الْحَقَّ عَلَى قَلْبِ عُمَرَ وَلِسَانِهِ. صححه الهيثمي (مجمع الزوائد: 4/95) وأحمد شاكر (تحقيق مسند الإمام أحمد رقم: 5697)
[86] شرح مشكل الآثار للطحاوي (9/214 رقم: 3582)
[87] المصدر نفسه
[88] مفاتح الغيب: 21/483-484
[89] سورة الكهف: ٦٧ – ٦٨
[90] سورة الكهف: ٦٨
[91] سورة الكهف: ٦٧
[92] التحرير والتنوير (15/371)
[93] سورة الكهف: ٦٩
[94] سورة الكهف: ٧٠
[95] حديث مرفوع أخرجه أحمد (5/352 رقم: 2320) وابن حبان (25/467 رقم: 6319)
[96] سورة الكهف: ٧١ – ٧٣
[97] أخرجه البخاري (11/202 رقم: 3149)
[98] إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (5/382)
[99] أخرجه أبو داود (4/253 رقم: 4800) والترمذي (7/271 رقم: 1916) وابن ماجه (1/58 رقم: 50)
[100] سورة الكهف: ٧٤ – ٧٦
[101] أخرجه البخاري (11/202 رقم: 3149) ومسلم (4/1847 رقم: 2380) واللفظ لمسلم.
[102] أخرجه البخاري (8/28 رقم: 6114) ومسلم (4/2014 رقم: 2609)
[103] سورة الكهف: ٧٧ – ٧٨
[104] أخرجه مسلم (12/90 رقم: 4386)
[105] سورة القصص: ٢٤
[106] الجامع لأحكام القرآن (13/334)
[107] سورة الكهف: ٧٨
[108] أخرجه مسلم (4/1850 رقم: 2380) وأخرجه البغوي في تفسيره معالم التنزيل (3/208 رقم: 1370)
[109] تفسير القرطبي (13/234)
[110] سورة الكهف: ٧٨
[111] سورة الكهف: ٧٩
[112] سورة الكهف: 80-81
[113] سورة الكهف: 82
[114] فتح القدير (3/354)
[115] التحرير والتنوير (15/371)
[116] إرشاد الساري (7/229)
[117] الدرر المنثورة، عبد الوهاب الشعراني، ص56، نقلا عن الألوسي: 8/311
[118] شرح ابن يطال لصحيح البخاري (1/211)
[119] مفاتح الغيب (21/490)
[120] سورة الحجر: ٥٤
[121] سورة آل عمران: ٤٠
[122] سورة مريم: ٨
[123] سورة آل عمران: ٤٧
[124] سورة مريم: ٢٠
[125] سورة البقرة: ٢٥٩
[126] إحياء علوم الدين (1/410)
[127] سورة الكهف: ٨٥
[128] روح المعاني (8/342)
[129] سورة الشورى: ١٣
[130] المكتوبات (1/50)
[131] الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص166
[132] تفسير الألوسي: 8/311
[133] الجامع لأحكام القرآن (1/13456)
[134] انظر روح المعاني (8/341)
[135] مفاتح الغيب (21/490)
[136] معرفة السنن والآثار (9/95)، وفيه: “إنما صارت الأحكام متعلقة بالبلوغ بعد الهجرة. اهـ. وينظر السنن الصغير (2/313)، والكلام من حاشية الشهاب (6/123) نقلا عن الألوسي في روح المعاني (14/476)
[137] روح المعاني (14/476)
[138] روح المعاني (8/343)
[139] روح المعاني (8/343)
[140] التحرير والتنوير (15/370-371)
[141] المصدر السابق
[142] الجامع لأحكام القرآن (13/327)
[143] إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (1/214)
[144] إرشاد الساري (5/382)
[145] أخرجه البخاري (4/186 رقم: 3535) ومسلم (4/1790 رقم: 2286)
[146] أخرجه البخاري (4/167 رقم: 3443)
[147] فيض القدير (3/62)
[148] إرشاد الساري (5/416)
[149] فتح الباري (10/244)
[150] فيض القدير (3/62)
[151] سورة المائدة: ٤٨
[152] تقريب الأصول ص283
[153] شرح تنقيح الفصول (235)
[154] مجموع الفتاوى (1/258)
[155] قواطع الأدلة (2/150)
[156] إحكام الفصول (1/309) وممن نقل الإجماع الآمدي انظر الإحكام (3/39) وابن قدامة في روضة الناظر (183)
[157] شرح الكوكب المنير (2/240)
[158] البرهان في أصول الفقه (1/85)
[159] المستصفى (1/483)
[160] المحصول (3/189)
[161] اللمع (1/159)
[162] غاية الوصول في شرح لب الأصول لشيخ الإسلام زكريا الأنصارى (1/79)
[163] شرح الكوكب المنير (3/230-231)
[164] بيان المختصر (2/122)
[165] الإحكام (2/313)
[166] اللمع في أصول الفقه (73)
[167] قواطع الأدلة (1/325)
[168] المحصول (2/393)
[169] الإحكام للآمدي (2/313) التحبير شرح التحرير (5/2444) بيان المختصر (2/189-190)
[170] مجموع الفتاوى (19/253) نقلا عن الفواعد الأصولية وتطبيقاتها الفقهية عند شيخ الإسلام ابن تيمية ص499
[171] المسودة في أصول الفقه (1/130)
[172] اللمع ص74، وقواطع الأدلة (1/326-327)
[173] الموافقات (3/58)
[174] الموافقات (3/260-264)
[175] الموافقات (4/195)
[176] إعلام الموقعين (1/113-114)
[177] سورة البقرة: ١١١، وسورة النمل: 64
[178] الاستقامة: 1/29
[179] سورة النحل: ٧٨
[180] سورة الإسراء: ٣٦
[181] سورة الأعراف: ١٧٩
[182] سورة الأنعام: ١١
[183] سورة النمل: ٦٩
[184] سورة العنكبوت: ٢٠
[185] سورة الروم: ٤٢
[186] سورة يوسف: ١٠٩
[187] سورة الحج: ٤٦
[188] سورة الروم: ٩
[189] سورة فاطر: ٤٤
[190] سورة غافر: ٢١
[191] سورة غافر: ٨٢
[192] سورة محمد: ١٠
[193] سورة الكهف: ٧١
[194] سورة الكهف: ٧٤
[195] سورة الكهف: ٧٧
[196] أخرجه البخاري (1/207 رقم: 119) ومسلم (4/1847 رقم: 2380) واللفظ له
[197] أخرجه الحاكم (2/412 ، رقم 3435) وقال: صحيح على شرط الشيخين. ووافقه عليه الذهبي.
[198] سورة عبس: ٢٤ – ٣١
[199] سورة البقرة: ١٦٤
[200] الرسول والعلم ص48
[201] الحسن بن الحسن بن الهيثم (354 – 430 ه/965 – نحو 1038 م)، أبو علي أصله من البصرة ثم انتقل إلى الديار المصرية وأقام بها إلى آخر عمره. وكان فاضل النفس قويَّ الذكاء متفنناً في العلوم لم يماثله أحدٌ من أهل زمانه في العلم الرياضي ولا يقاربه. وكان دائم الاشتغال كثير التصنيف وافر التزهُّد محبّاً للخير وقد لخَّص كثيراً من كتب أرسطو وشرحها وكذلك كتب جالينوس، وكان خبيراً بأصول الطبِّ وقوانينه. مات بالقاهرة سنة 430هـ وكان على اعتقاد الأوائل صرَّح بذلك. (انظر ترجمته في: الوافي بالوفيات 4/129-130، الأعلام: 6/83، معجم المؤلفين: 3/215)
[202] روجر بايكون (Roger Bacon) (1214–1294)، ويعرف أيضاً باسم Doctor Mirabilis أي “المعلم المذهل” باللاتينية، كان فيلسوفا أنجليزيا وراهباً فرانسيسكياً وهو الذي زعمه الناس أنه أول من وضع التأكيد على التجربة. ويشكر أحياناً على إنجازه كأول أوروبي يتكلم في قوانين المنهج العلمي وقد أثرت أعمال أفلاطون عليه عندما رأى العلوم الإسلامية.
[203] المناظر، الحسن بن الهيثم: 1/2
[204] انظر: المنهج التجريبي عند ابن الهيثم، وناس مصباح ص169-174 (ضمن أعمال ندوة “ابن الهيثم الطبيب والفيلسوف المسلم”، من منشورات المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، إيسيسكو، سنة 1420هـ/1999م)
[205] رينيه ديكارت (باللاتنية: René Descartes)، (31 مارس 1596 – 11 فبراير 1650م)، فيلسوف، ورياضي، وفيزيائي فرنسي، يلقب بـ”أبو الفلسفة الحديثة”، وكثير من الأطروحات الفلسفية الغربية التي جاءت بعده، هي انعكاسات لأطروحاته، والتي ما زالت تدرس حتى اليوم. وهو الشخصية الرئيسية لمذهب العقلانية في القرن17م، كما كان ضليعا في علم الرياضيات، فضلا عن الفلسفة، وأسهم إسهاما كبيرا في هذه العلوم، وهو صاحب المقولة الشهيرة: “”أنا أفكر، إذن أنا موجود“. كان ينتقد المنطق الأرسطي بأنه عقيم، لأنه يعتمد على القضايا الكلية التي هي عبارة عن المسلمات وحكم مسبق على كونها كلية تنطبق على كل جزئياتها، وكان يرى أن المسلمات كلها لا بد من إخضاعها للتجربة والاختبار. (Oeuvres de Descartes in 11 vols. Adam, Charles, and Tannery, Paul, eds. Paris: Librairie Philosophique J. Vrin.)
[206] الرد على المنطقيين:92-95
[207] انظر تفسير الطبري (15/330) وتفسير القرطبي (13/317)
[208] سورة الشرح: ٧
[209] أخرجه البيهقي في الشعب (21/203 رقم: 9882) والحاكم في المستدرك (4/341 رقم: 7846) وقال صحيح على شرط الشيخين ووافقه عليه الذهبي.
[210] هو مبدأ فكري يقول بأن ليس هناك حقائق مطلقة، فكل حقيقة إنما هي حقيقة في اعتقاد صاحبها. تعبر كلمة ما بعد الحداثة عن مرحلة جديدة في تاريخ الحضارة الغربية تتميز بالشعور بالإحباط من الحداثة ومحاولة نقد هذه المرحلة والبحث عن خيارات جديدة وكان لهذه المرحلة أثر في العديد من المجالات. و”ما بعد الحداثة” تعني حرفيا ‘بعد الحداثة‘. في حين أن “الحديث” في حد ذاته يشير إلى شيءٍ ما “متصلٍ بالحاضر”، فإن حركات الحداثة وما بعد الحداثة تُفهَمُ على أنها مشاريعُ ثقافية أو على شكل مجموعةٍ من وجهات النظر. وهي تُستخدمُ في النظرية النقدية لتشير إلى نقطة انطلاق أعمال الأدب والدراما والعمارة والسينما والصحافة والتصميم، وكذلك في مجال التسويق والأعمال التجارية، وفي تفسير التاريخ والقانون والثقافة والدين في وقتٍ متأخرٍ من أواخر القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين. يمكن فهم ما بعد الحداثة أيضا على أنها ردُ فعلٍ على الحداثة. في أعقاب الدمار الذي لحق بالفاشية، والحرب العالمية الثانية، والمحرقة، أصبح العديد من المثقفين والفنانين في أوروبا لا يثقون في الحداثة السياسية والاقتصادية والمشروع الجمالب برمته. في حين أن الحداثة كانت ترتبط في كثيرٍ من الأحيان بالهوية والوحدة والسلطة واليقين، وما إلى ذلك، فإن ما بعد الحداثة كثيرا ما يرتبط بالفروق، والانفصال، والنصية، والتشكك، الخ.
انظر: ما بعد الحداثة، أو المنطق الثقافي للرأسمالية المتأخرة، فريدريك جيمسون، دورهام بولاية نورث كارولاينا : مطبعة جامعة ديوك، 1991، واتجه إلى ما بعد الحداثة، مقالات في نظرية ما بعد الحداثة، والثقافة، مطبعة جامعة ولاية أوهايو، 1987. p12ff