آفاق المستقبل

تصحيح مفاهيم وتكوين رؤى

سورة الكهف: أسرار المستقبل في خبايا الماضي (الجزء الرابع)

لجاجة الإنسان

downloadلم يكن الإشكال في رفض الحق كله بسبب الشيطان، فإن للنفس البشرية المريضة أيضا سهما وافرا في محاربة الحقيقة، ورغم توفر القرآن العظيم على صنوف من البيان الشافي ورغم قيام الرسل بالبلاغ الوافي إلا أن مردة الإنس بقوا على الكفر لسبب ذاتي قائم في أنفسهم مانع لنور الله أن يصل إلى قلوبهم. قال تعالى:

وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا . وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا . وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا . وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا . وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا . وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا. [الكهف: 54-59]

فهذه الآيات تتحدث عن طبيعة الإنسان اللجوج الذي لا يقبل الحق بسهولة، تتحدث عن النفس البشرية العنود التي تحجب عن اتباع الحق، وهو جانب آخر من سر امتناع الناس عن اعتناق الحقيقة، إضافة إلى محاولة الشيطان لإضلال الناس، فإن في النفس البشرية – إلا من رحم ربك – استعدادات لرفض الحق المبين.

تصور هذه الآيات كيف يتكلّس الكفر في النفس، وكيف يتهرب من الخضوع للحق. ومن عجائب طبيعة النفس الإنسانية اللجوجة أن لها قدرة على اختلاق الحجج لتبرير معتقداتها، فقلبت الأدلة عندها تابعة لهواها، غير متبوعة، محكومة بإرادتها لا حاكمة لها. فهذه انتكاسة لما منح الله للبشر من العقل الذي يفترض أن يكون قائدا وهاديا لمسارها، فتحول بعناد الإنسان إلى أداة طيعة خاضعة لهوى النفس الأمارة بالسوء. فهي تجادل وتحاجج بناء على الرغبة النفسية، لا قصدا للحق أو انتصارا للحقيقة.

{ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا}[1]

إن هذا القرآن يحتوي على ألوان من الحجج والبراهين، ويقدم للإنسان أنواعا من الأمثلة وأصنافا من البيان ما ينوّر به العقول ويهدي به القلوب، ولكن صاحب هوى لا يتبع إلا هواه ولا يقبل إلا ما يرضي شهوته وما أملت عليه نفسه، وهو مستعد أن يدافع ويجادل عن باطله الذي احتنك قلبه وعانق هواه، ويختلق حججا وأدلة يظن أنها تبرر موقفه وترفع عنه اللوم.

هنا أراد القرآن أن يبين لنا أن قدرة الإنسان على الجدال والحجاج لا تكون بالضرورة في صالحه ولا تعبر دائما عن الحقيقة. وصارت هذه القدرة أداة للتملص من الحق وتمويه الباطل. لذلك قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ»[2]

وهنا هبط الإنسان إلى مستوى دنيء إذ نزل من كونه كائنا عاقلا عالما إلى خلق جاهل عابد للشهوة جاحد للعلم، ولدناءة هذا الإنسان الجحود عبّر عنه القرآن بلفظ “شيء” لأنه بذلك لا يكون أثمن من الجمادات بل هو أقل منها، قال سيد رحمه الله: “ويعبر السياق عن الإنسان في هذا المقام بأنه «شَيْءٍ» وأنه أكثر شيء جدلا. ذلك كي يطامن الإنسان من كبريائه، ويقلل من غروره، ويشعر أنه خلق من مخلوقات الله الكثيرة. وأنه أكثر هذه الخلائق جدلا. بعد ما صرف الله في هذا القرآن من كل مثل.”[3]

إن مشاكل الناس وخلافاتهم فيما بينهم يمكن حلها لو قصد الناس وجه الحق ولم تأخذهم العزة بالإثم. وقد تعقدت مشاكل العالم بسبب هؤلاء الذين جادلوا بالباطل وقلبوا الحقائق واختلقوا الحجج الوهمية.

قال جل شأنه: { وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا}[4]

لقد توفر كل شيء يدعو إلى الإيمان وجاءت كل آية تحمل على التوبة والاستغفار، فلا يمنع الناس عن الإيمان غير عناده مكابرته وجهله. قال ابن عاشور رحمه الله: “مَا مَنَعَهُمْ إِلَّا سَبَبُ إِتْيَانِ سُنَّةِ الْأَوَّلِينَ لَهُمْ أَوْ إِتْيَانِ الْعَذَابِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ هُوَ التَّكَبُّرُ وَالْمُكَابَرَةُ وَالتَّمَسُّكُ بِالضَّلَالِ، أَيْ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ مَانِعٌ يَمْنَعُهُمُ الْإِيمَانَ يُخَوِّلُهُمُ الْمَعْذِرَةَ بِهِ وَلَكِنَّهُمْ جَرَوْا عَلَى سُنَنِ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الضَّلَالِ.”[5]

وقال العلامة عبد الرحمن السعدي رحمه الله: “فلم يمنعهم عدم البيان، بل منعهم الظلم والعدوان، عن الإيمان، فلم يبق إلا أن تأتيهم سنة الله، وعادته في الأولين من أنهم إذا لم يؤمنوا، عوجلوا بالعذاب، أو يرون العذاب قد أقبل عليهم، ورأوه مقابلة ومعاينة، أي: فليخافوا من ذلك، وليتوبوا من كفرهم، قبل أن يكون العذاب الذي لا مرد له.”[6]

وقال جل ذكره: { وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا }[7]

هؤلاء أعداء الحقيقة يزعجهم الوضوح ويقلقهم الصدع بالحق، إن مهمة الأنبياء والرسل هي بيان الحق، يبنى على ذلك تبشير المؤمنين وإنذار الكافرين، وهذه حقيقة مزعجة محرجة لأصحاب الهوى وخصوم الحقيقة، يظلون يبذلون جهدهم لمناوأة الحق والتشويش على الدعوة إلى الخير، يظلون يجادلون ويحسبون أن الحق يزول ويذهب بتلك المشاغبة والمماحكة.

كثيرة هي الحقائق التي تزعج الظلمة، بدءا من حق الخالق سبحانه إلى حقوق العباد. وقد عجت الأرض بالنزاع والشقاق، ويستمر النزاع ويطول كلما أمعن الظالم في الجدال والحجاج وتمويه الحقائق والتلاعب بالمنطق.

{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا}[8]

أسوأ الظلم ظلم الإنسان لنفسه، إذ حرمها من الحقيقة، ومنعها من سلوك طريق السلامة. جاءته المنبهات، ولاحت قدامه علامات، فاختار الانكفاء على نفسه، وآثر الإعراض عن منجاه، وعطل بصره وكتم فؤاده، ما أشقّه من اختيار!! وما أصبره على النار!!

هي آفة في النفس ومرض في القلب، أُغلِف القلب بالهوى فيصعب عليه رؤية الحق والاعتراف به إذا خالف هواه، فليته غلاف واحد يسهل كشفه وإماطته، لكنه أغطية مركبة، ظلمات بعضها فوق بعض، وسماها القرآن “أكنة” وهي جمع كنان[9]، وهي الجعبة التي تجعل فيها السهام [10] غير أنها صغيرة تتخذ للنبل[11]، فهي أغطية ضيقة تحجب النظر وتضيق القلب، وهي حجب متراكمة، فما أبعدها عن معرفة الحق!!! إذا سلمت من وسوسة الشيطان فقد لا تنجو عن أسر الهوى، وإذا خلت من أسر الهوى فقد لا تخرج عن عبودية الذات “الأنا”، وإذا تحررت من “الأنا” فقد لا تجرؤ على مخالفة سيده المتسلط أو بيئته المنكرة للحق. نسأل الله السلامة.

{وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا . وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا}[12]

قد تكون لهؤلاء المعرضين مهلة تتيحها رحمة الله، لو عاملهم الله بما يستحقون لوقع العذاب عليهم في الحال، لكن الله جعل لكل أجل كتابا، “إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ.”[13]

وقد يحدث الله في هذه المهلة توبة للتائبين ويقظة للغافلين، ورحمة الله سبقت غضبه، ومن لم تدركه رحمة الله فالله غير ظالم لعباده، ولكن الناس أنفسهم يظلمون.

أثر هذه اللجاجة على المستقبل وكيف نعالجها؟

من أهم ما يتركب منه مستقبل الإنسان فردا ومجموعا هو نتائج الدوافع المختلفة، إن كانت صالحة، فهي تكون صلاحا في الواقع، ورغم اختلاف الدوافع فالتصالح والتوافق والتناغم والتكامل أمر ممكن وقريب، ويتحقق ذلك بالاعتراف بالآخر وعدم اللجاجة والتمسك بالموقف الفردي والمصلحة الشخصية والنظر الضيق. ولكن واقع الاختلاف غالب في مسرح الأحداث، وهو واقع لا ينفي وجود الاتفاق. والاختلاف والاتفاق واقعان متجاوران متقابلان، إذا غلب واقع الاتفاق على واقع الاختلاف كان السلام العالمي، وإذا اتسعت رقعة الأول واكتسحت رقعة الثاني كانت الحروب الطاحنة التي لا ترحم.

لجاجة الإنسان تعني عدم القدرة على التفاهم وعدم الرغبة في التعرف على ما عند الآخر من حقائق، وهي سبب تحول الخلاف إلى النزاع ثم القتال والدمار، لا يشترط في السلام والوئام عدم وجود الخلاف، وفإن الخلاف مع الاعتراف بالآخر يتيح التسامح والتعايش، لكن الخلاف اللجوج المعادي الكاره للحقيقة هو زناد الحروب ووقود المعارك.

الإنسان المنغلق معرّض للتصادم غالبا، والفكر المنغلق مثله، يقود إلى الصدام، لا يعترف بالآخر ولا يفترض الصواب في غيره، فهنا يدعو القرآن إلى فتح الأذهان وقدح الأفكار، والجرأة في قبول الحق والتجرد عن الأنانية الفكرية والانتصار للحقيقة وعدم الإصرار على الخطإ.

إن تصلّب الإنسان ورفضه للمناقشة والحوار هي أساس كل الصراعات، وهذه النفسية المنكفئة على ذاتها هي التي تدفع الناس إلى خوض حروب عبثية تضحي بالحياة السليمة من أجل العزة بالإثم.

وقد يكون حوار صوري لا يهدف إلى البحث عن الحقيقة، بل الغرض هو الانتصار للذات، فيتعمد الظالم إلى المخادعة والمراوغة والمغالطة ليخرج بالانتصار الوهمي.

فكلما كثرت هذه النماذج التي تلج وتعاند وتغالط نفسها وتخون ضميرها كلما طال النزاع وغلظ القناع. وزادت خطورة اللجاجة كلما تبوأ هذا اللجوج مركزا مهما، كرئيس دولة أو مرجع ديني أو رئيس حزب إلخ. ويلاحظ أن الدول المتخلفة تكثر فيها الخلافات والمنازعات التي تؤدي إلى التقاتل والحروب، أما المجتمعات المتقدمة فإن الخلافات فيها لا تفضي إلى زعزعة استقرار البلاد. وذلك يرجع إلى مدى رسوخ ثقافة الحوار البناء في المجتمع، فكلما ضعفت هذه الثقافة في مجتمع ما كلما تعرض إلى التصادم فيما بين أفراده.

فتربية النشء على أخلاقية الحوار وقبول الرأي الآخر والانفتاح لمناقشة المواقف والأفكار تهيئ مستقبلا مستقرا وآمنا، أما تربية الناس على حب الذات واحتكار الحق وادعاء الأفضلية فهي زرع لألغام في قارعة طريق المستقبل.

[1] سورة الكهف: 54

[2] أخرجه الترمذي (11/51 رقم: 3176) وابن وماجه (1/55 رقم: 47) وأحمد (45/138176 رقم: 21143) والحاكم (8/345 رقم: 3632) وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد.

[3] في ظلال القرآن (4/2275)

[4] سورة الكهف: 55

[5] التحرير والتنوير (15/351-352)

[6] تيسير الكريم الرحمن (1/480)

[7] سورة الكهف: 56

[8] سورة الكهف: 57

[9] انظر: تهذيب اللغة للأزهري (4/245)

[10] انظر: مختار الصحاح للرازي (1/275)

[11] انظر معجم العين (1/424)

[12] سورة الكهف: ٥٨ – ٥٩

[13] حديث مرفوع أخرجه البخاري (6/74 رقم: 4686) ومسلم (4/1997 رقم: 2583)

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

معلومات

This entry was posted on 11 أوت 2015 by in مقالات.

الابحار

%d مدونون معجبون بهذه: