بعد عرض قصة في منتهى الغرابة جاء حوار قصير في موضوع عادي جدا، ليس فيه بطولة تثير الإعجاب ولا فيه تحدٍ يبعث الخوف، ومع ذلك فإنه يحمل معنى كبيرا يحتاجه كل إنسان في كل زمان.
موضوع يبدو خفيفا، لكنه ثقيل في معانيه، عميق في دلالاته، واسع في فوائده، طويل في تأثيره، جميل في تجلياته…
إذا كانت قصة أصحاب الكهف أساس قضيتها عقدي، فإن هذه القصة أساسها الأخلاق، تأتي قضية الأخلاق هنا منبثقة من العقيدة، فهي – أي الأخلاق- بناء خلقي قائم على أساس عقدي إيماني.
فإن العقيدة الصحيحة تتمدد آثارها لتكوّن أفكارا وتؤسسا وأخلاقا وتبني حضارة…
والرسائل التي تحملها قصة هذين الصاحبين تربط بين العقيدة والأخلاق ربطا لا يقبل التفكيك، فالعقيدة الصحيحة هي التي تقود الإنسان إلى الأخلاق القويمة، والأخلاق الكريمة تنبع من صحة العقيدة.
إن أفضل طريقة لنقل المعانى من عالم التصور إلى عالم الواقع هي طريقة عرض القصص وضرب الأمثال، وقد استخدم القرآن هاتين الأداتين أحسن استخدام. وما يخص موضوع الأخلاق فإن استعمال أسلوب القصص يكون ضروريا حتى لا يبقى نظريات عالقة في الأذهان غائبة عن العيان.
وتأتي هذه القصة لزرع القيم الخلقية أحسن زرع…
قال تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا . كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا . وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا . }[1]
قال سيد رحمه الله: “تجيء قصة الرجلين والجنتين تضرب مثلاً للقيم الزائلة والقيم الباقية ، وترسم نموذجين واضحين للنفس المعتزة بزينة الحياة ، والنفس المعتزة بالله . وكلاهما نموذج إنساني لطائفة من الناس : صاحب الجنتين نموذج للرجل الثري ، تذهله الثروة ، وتبطره النعمة ، فينسى القوة الكبرى التي تسيطر على أقدار الناس والحياة . ويحسب هذه النعمة خالدة لا تفنى ، فلن تخذله القوة ولا الجاه . وصاحبه نموذج للرجل المؤمن المعتز بإيمانه ، الذاكر لربه ، يرى النعمة دليلاً على المنعم . موجبة لحمده وذكره ، لا لجحود وكفره .”[2]
وصف القرآن هاتين الجنتين بأوصاف تثير الإعجاب بجمالهما وخصوبتهما وتنوع ثمارهما، ولكن العبرة في تصرف هذا الإنسان الذي أوتي هذا العطاء الكريم. تنجذب الطبيعة البشرية إلى هذا النوع من الخيرات المادية الخلابة، ولكن قيمة هذه الخيرات ليست في ذاتها بل في مدى حسن تصرف الإنسان نحوها، فهنا تأتي تلك المعادلة التي قررها القرآن في أول السورة { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا }[3] فالمحظوظ من رزقها وشكرها، والتعيس من أعطيها وكفرها.
لقد أصيب صاحبنا بالغرور فاختال وافتخر…
{وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا}[4]
هذه النفس البشرية الضعيفة لما غابت عن الرقيب الإيماني، ووقفت عند الرسوم الزائلة، وحجبت بالستائر الحائلة، افتُتِنت بالمظاهر واطمأنت إلى الحواضر، وحرمت البصائر فنطقت بالبوائر…
هي كلمات نطقها في نشوة الفرحة الغامرة، في عُجب من نفسه، وإعجاب بما عنده، نطقت من خواء ذاته عن المعاني الإيمانية فملأها بالجهل والغرور والغفلة، فنضحت بكلمات خفيفة على اللسان بغيضة عند الرحمن موبقة في الميزان… { وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ }[5]
وفي الصحيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ، لاَ يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ، لاَ يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ»[6]
قد يكون كلامه صحيحا أن كان أكثر من صاحبه مالا وأعز وجاهة، ولكن ليست هذه أخلاق الشرفاء السليمة قلوبهم والغنية نفوسهم، قال معلم البشرية عليه الصلاة والسلام: “لَيْسَ الغِنَى عَنْ كَثْرَةِ العَرَضِ، وَلَكِنَّ الغِنَى غِنَى النَّفْسِ.”[7]
وأولى به أن يتواضع لربه أن أحسن له العطاء وأجزل له الجناء، قال المصطفى عليه الصلاة والسلام: “إِنَّ اللهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَبْغِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ.[8]
وكان أحرى له أن يقول كما يقول الموفّق سليمان عليه السلام: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ }[9]
بل اتبع سلوك الممنوحين ظاهرا المحرومين باطنا كما فعل قارون إذ قال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي }[10]
الشاكرون لله قليل من الناس، نسأل الله أن يجعلنا منهم. والقرآن حريص على تبيان حقيقة الدنيا الغرور، ونعمتها الفرور، قال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ}الآية[11]
إذا ضاعت موازين القيم رأى الأمور مقلوبة معكوسة، يحسب الثراء المادي كرامة وشرفا، ويظن الابتلاء جزاء ومصيرا… وللأسف هذه هي حال أكثر الناس، قال تعالى: { فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ . وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ }[12]
فكان همه الأول والأخير هو المال، وأن نجاته وسعادته وقيمته كلها تكسب بالمال… { الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ ﭫ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ }[13] يا لخسارة البعد عن الله وهديه….
وهناك من هو أتعس من هذا وأجهل… من افتخر ليس بما أنتجه وحصله… بل بما صرفه واستهلكه! {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا }[14] لقد تكاثر هذا الفصيل من البشر في زمننا هذا، نسأل الله العفو والعافية!
الخطأ إذا تفاقم ولم يعالج أنتج خطأ آخر أكبر، انتقل صاحبنا من خطإ خلقي إلى خطإ عقدي. اغتر بالنعمة، ليته وقف عند هذا الحد! اغتر بالنعمة ونسي المُنعم وأنكر الحساب…
{وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا . وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا . }[15]
رأى الحاضر ونسي الماضي وتوهم أن حاضره باق إلى الأبد… يا من غفلة قاتلة!!!
لو شكر الإنسان ربه لأدام له النعمة وزاد، قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ }[16]
كان من حظه أن يكون له صاحب مؤمن يذكره بالله وينبهه من الغفلة { قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا }[17]
لكن يبدو أن هذه النصيحة ليست عند صاحبنا قيمة تستحق الوقوف عليها إذ جاءت من إنسان أقل منه شأنا. وبعض الناس يحسبون أن الفقير ليس بمستوى يليق أن ينصح الغني، لأن الغني رجل ناجح هو الذي يحق أن ينصح الناس، بخبرته وعلمه شهادة تفوقه على الناس…
وظهر أن هذا الفقير مالاً أغنى منه إيمانا وعلما وحكمة، هو غني بإيمانه، واثق ثابت في مبادئه، يقول: { لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا }[18]
كان غنيا بعلمه، يعرف المقال المناسب في المقام المناسب، { وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ } قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: “ما أنعم الله تعالى على عبد نعمة في أهل أو مال أو ولد فيقول “ما شاء الله لا قوة إلا بالله” إلا دفع الله تعالى عنه كل آفة حتى تأتيه منيته، وقرأ { وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ} .[19]
كان غنيا بحكمته وبعد نظره، يعرف أن الأيام دُوَل والأمور قلَّب، وأن دوام الحال من المحال، وصاحب الأمل لا يعدم خيرا، { إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا . فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا . أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا . }[20]
والأمل بالله، ليس بهذه المظاهر الزائلة ولا المباهج الزائفة، والمستقبل منفتح على الاحتمالات المفاجئة، فلا يركن الإنسان إلى الحاضر الذاهب، بل العبرة بالقادم من الواهب.
اعترضت هنا مسألة، وهي أنه قد ثبت كما أسلفنا أن الافتخار مذموم، وأن التباهي بالنعم أمام إنسان محروم مخلٌّ بالأخلاق ومؤذي لمشاعر الفقير، فكيف نعمل بقول الله تعالى: { وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ }[21] فقد أمر هنا بالتحدث بالنعمة؟
والجواب: إن أصل الخطاب في الآية كان للنبي صلى الله عليه وسلم، وشموله للأمة يأتي تبعا على قاعدة أن الأصل مساواة الأمة لنبيها فيما فرض عليه ما لم يدل دليل على الخصوصية. ووجوب التحدث بالنعمة على النبي صلى الله عليه وسلم ظاهر على أصل الأمر بالوجوب، ولم يُخَف منه الرياء والتفاخر، وأما في حق الأمة فقال العلامة ابن عاشور رحمه الله: “أَمَّا الْأُمَّةُ فَقَدْ يَكُونُ التَّحَدِيثُ بِالنِّعْمَةِ مِنْهُمْ مَحْفُوفًا بِرِيَاءٍ أَوْ تَفَاخُرٍ. وَقَدْ يَنْكَسِرُ لَهُ خَاطِرُ مَنْ هُوَ غَيْرُ وَاجِدٍ مِثْلَ النِّعْمَةِ الْمُتَحَدَّثِ بِهَا. وَهَذَا مَجَالٌ لِلنَّظَرِ فِي الْمُعَارَضَةِ بَيْنَ الْمُقْتَضِي وَالْمَانِعِ، وَطَرِيقَةِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا إِنْ أَمْكَنَ أَوِ التَّرْجِيحِ لِأَحَدِهِمَا.”[22]
ولذلك اشترط العلماء مشروعية التحدث بالنعمة بخلوه عن الرياء والافتخار.[23]
وهذا فقه دقيق، يجب أن ينتبه له، لأن الفرق بين التحدث بالنعمة المشروع وبين الافتخار الممنوع دقيق جدا، إذ الظاهر أن لا فرق بينهما، إنما يقدر على التمييز من راقب قلبه ودان نفسه وقهر هواه.
وهذا ما سماه الإمام الشاطبي تحقيق المناط الخاص، وهو في الحقيقة ناشىء عن نتيجة التقوى المذكورة في قوله تعالى: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا}[24].[25]
وقال رحمه الله عن هذا النوع من الاجتهاد الذي سماه تحقيق المناط الخاص: “فتحقيق المناط الخاص نظر في كل مكلف بالنسبة إلى ما وقع عليه من الدلائل التكليفية، بحيث يتعرف منه مداخل الشيطان، ومداخل الهوى والحظوظ العاجلة، حتى يلقيها هذا المجتهد على ذلك المكلف مقيدة بقيود التحرز من تلك المداخل.”[26]
يقصد أن المؤمن يجتهد في التعرف على مداخل الشيطان ومداخل هوى النفس في الأعمال المكلف بها حتى يعرف ما يصلح منها وما لا يصلح، فإن الإنسان يحدث الناس بما أنعم الله عليه من النعم، قد يريد به المراءاة والتفاخر والتباهي، وقد يريد به التعبير عن الشكر لله وبث السرور في الناس، فلا بد أن يتحقق المؤمن من صدق نيته وأنه لا يريد به إلا وجه الخير الذي أمر الله به، ويسلم من محاذير الرياء والتباهي والتفاخر المنهي عنها.
“وهو النظر فيما يصلح بكل مكلف في نفسه، بحسب وقت دون وقت، وحال دون حال، وشخص، دون شخص إذ النفوس ليست في قبول الأعمال الخاصة على وزان واحد.”[27]
وثمة أمر آخر يجب أن ينتبه منه من أراد أن يحدث الناس بالنعمة التي أنعم الله عليه بها دونهم، وهو شر حاسد إذا حسد، فليس كل إنسان يفرح بفرح أخيه، فهناك من يتنغّص ويثور غيظه إذا رأى خيرا لأحد غيره. فهنا ناسب أن يعمل الإنسان بالحديث الذي رواه الطبراني في معاجمه الثلاثة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان ، فإن كل ذي نعمة محسود.”[28]
فالتحدث بالنعمة يصلح أن يقال بين الأحباب والناس الثقات الذين لا يريدون بإخوانهم إلا خيرا ولا يتمنون لهم شرا، أما في وسط مجتمع يغلب عليه التحاسد والتباغض، فكتمان النعمة أدعى إلى حفظها.
ويصلح أيضا أن يقال في مقام إغاظة العدو لإظهار قوة الإسلام وعافيته، كما كانت هذه الآية الكريمة في سورة الضحى ردا على مقالة قريش أن محمدا عليه الصلاة والسلام قد تركه ربه.
روى البخاري ومسلم عَنْ جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «احْتَبَسَ جِبْرِيلُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ: أَبْطَأَ عَلَيْهِ شَيْطَانُهُ، فَنَزَلَتْ: {وَالضُّحَى . وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى . مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى . }[29]
ففي مثل هذه المناسبات يحسن بالمسلم أن يظهر الفرح ويتحدث بالنعمة، قال تعالى: { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ }[30]
وعودا على قصة الصاحبين، فقد أهلك الله أموال ذلك المفتخر بعاصفة قاصفة تأكل الأخضر واليابس، لم تبق لصاحب الجنتين منهما سوى ذكرى أليمة وعقبى وخيمة، لم تملك إلا أن تعض أصابع الندم … { وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا . وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا . }[31]
وهذا درس بليغ لمن اتكأ على عصا زائلة وحيطان مائلة، أما من اعتمد على الله فقد آوى إلى ركن شديد، { هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا }[32]
ثم عقب الله قصة الرجلين بتقرير عن حقيقة الدنيا ومآل الأمور فيها، فقال: { وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا }[33]
إن هذه الحياة الدنيا فصول ومراحل، من التهَى بجو الربيع فاجأه حر الصيف، ومن انهمك بالعاجلة لم يستعد للآجلة. ومن استغل الأمطار من أجل الزرع استفاد يوم الحصاد. هي آتية ذاهبة، فالكيس من عرف الواجب حين أتت، وفعل المطلوب لما ذهبت. لم يغره الموجود ولم يقنطه المفقود.
قال تعالى: { إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون }[34]
وهكذا تتشكل الأمور في هذه المعمورة، عدم ثم بداية وجود ثم نمو فثمار ثم ذبول أو دمار مفاجئ، يكون التلاشي هو نهاية الأمر في كل الأحوال، سواء كان تلاشيا متدرجا متوقعا، أو تلاشيا مفاجئا مباغتا، وهناك وجود يستفاد منه، وهناك وجود فائت يتحسر عليه.
لكل شيء إذا ما تم نقصان …. فلا يغر بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دول …. من سره زمن ساءته أزمان
فالناظر إلى الدنيا بعين الجهل والغفلة يحسب أنها كل شيء، بينما هي أقل من ذرة صغيرة في وسط الكون الكبير المترامي الأطراف، ولحظة يسيرة من الأحقاب الطويلة التي سيقطعها الإنسان في هذه الحياة وبعدها… مع ذلك الحجم الصغير والوقت القصير فإنها إلى الزوال، ستنتهي لا محالة.
ما يراه الإنسان من هذه الحياة الدنيا مفاتن تخدع الجاهل بحقيقتها، أما العالِم فيعرف ما ينفعه منها وما يضره، ما كان منها حقيقة وما كان سرابا، فلذلك يقول المصطفى عليه والصلاة والسلام: “أَلَا إِنَّ الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلَّا ذِكْرُ اللَّهِ وَمَا وَالَاهُ وَعَالِمٌ أَوْ مُتَعَلِّمٌ.”[35]
بيّن الله في هذه السورة ما يكون للإنسان من دنياه نفع حقيقي في الدنيا والآخرة، وما يكون منها عرض زائل، قال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا }[36]
الأموال والأولاد في هذه الحياة مما تنجذب لها طبيعة البشر، فهي تتجمل أمامه وتتزين، ومن الطبيعي أن يحبها الإنسان، كما قال تعالى: { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ }[37] وقال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ }[38]
أن يُقبل الإنسان على ما يحب ويستكثر منه تلك غريزة الإنسان، يستوي فيه عالم وجاهل، كبير وصغير، ذكر وأنثى، ولكن أن يميز بين ما ينفع منه وما يضر، فهذه الفارقة بين العالم والجاهل، بين العاقل وغير العاقل. خلقت الدنيا مزينة لتميز بين الغافل والواعي.
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، ليَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ.[39]
جاءت قصة الرجلين وضرب مثل الحياة الدنيا لتصوير الوضع الحقيقي للقيم التي اعتمدها معظم البشر مقابل القيم التي عرضها القرآن عليهم ليقارنوا بين القيم المادية التي سحرت الناس وأسرتهم وبين القيم الإيمانية التي لا نقول إنها تجاوزت الماديات، لكنها شملتها وزيادة، بل ما زاد وما فاق القيم المادية أثقل وزنا وأدوم بقاء منها. وفي هذا السياق تأتي هذه المقارنة والمفاضلة: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ﭟ }[40]
والقرآن دقيق في تعبيره عن هذه الحقيقة، لم يقل إن الأموال والأولاد ليس لها قيمة، ولم يقل أنها معيار نجاح الإنسان ومقياس كماله وشرفه، بل قال إنما هي زينة، والزينة لها قيمة جمالية ظاهرة، قد تكون باقية ثابتة وقد تكون ذاهبة زائلة، فلذلك قارنها سبحانه بالأمور الباقية الثابتة، يقول عز وجل: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا }[41] فما لم يكن باقيا فهو معدوم القيمة في النهاية، فلينتبه الإنسان من هذه النقطة، فلا يغتر بالمظاهر الحاضرة، وليفكر في تحصيل ما يؤدي به إلى النجاح والفلاح في نهاية الأمر. فلا يقف عند المظاهر الجمالية الزائفة، ولكن ليتعرف على ما يبقى وما يصلح، فغير الباقي زائل معدوم، وغير الصالح ضار ومذموم.
فما هي تلك “الباقيات الصالحات”؟
معنى “الباقيات الصالحات” واضح من حيث اللغة، فإنهما وصفان لأشياء باقية إلى أبد الآبدين وصالحة نافعة لمستحقيها، فقد اختلف المفسرون في ما هي تلك الباقيات الصالحات في هذه الآية؟ على أربعة أقوال:
الأول: أنها التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل ولا حول ولا قوة إلا بالله، قاله عثمان بن عفان وابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيب ومجاهد وعطاء بن أبي رباح وابن جريج.
الثاني: أنها الصلوات الخمس، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال ابن مسعود، ومسروق، وإبراهيم النخعي.
الثالث: أنها الكلام الطيب، رواه العوفي عن ابن عباس.
الرابع: أنها جميع أعمال الخير، قاله ابن عباس في رواية علي بن أبي طلحة وبه قال قتادة، وابن زيد.[42]
أما القول الأول فعليها أدلة كثيرة مستفيضة صريحة، فعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: “استكثروا من الباقيات الصالحات.” قيل: “وما هي يا رسول الله؟” قال: “التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد ولا حول ولا قوة إلا بالله.”[43]
عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ، رَفَعَ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ خَفَضَ، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ قَدْ حَدَثَ فِي السَّمَاءِ شَيْءٌ، فَقَالَ: أَلَا إِنَّهُ سَيَكُونُ بَعْدِي أُمَرَاءُ يَكْذِبُونَ وَيَظْلِمُونَ، فَمَنْ صَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ وَمَالَأَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَلَيْسَ مِنِّي وَلَا أَنَا مِنْهُ، وَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْهُمْ بِكَذِبِهِمْ وَلَمْ يُمَالِئْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَهُوَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ، أَلَا وَإِنَّ دية الْمُسْلِمِ كَفَّارَتُهُ، أَلَا وَإِنَّ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ هُنَّ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَات.[44]
عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “خذوا جُنّتكم.” قلنا: “يا رسول الله، أمن عدوٍ حضَر؟” قال: “لا ، جُنّتكم من النار: قول سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، يأتين يوم القيامة مقدمات معقبات مجنبات، هن الباقيات الصالحات.”[45]
وهذه الأحاديث كلها تفيد بشكل صريح أن هذه الأذكار هن الباقيات الصالحات، وقد ورد أن الباقيات الصالحات لا تنحصر في هذه الأذكار، فعن سعد بن جنادة قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فعلمني {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا}[46]، و{قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ}[47]، و{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}[48]، وسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. وقال: “هن الباقيات الصالحات.”[49]
وقد يظهر أن الإشارة تشمل الأذكار والآيات الكريمة. ويقوي ذلك ما أخرجه ابن جرير في تفسيره عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، منَ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ”[50] والظاهر أن “من” هنا للتبعيض.
ولذلك تعددت الروايات عن ترجمان القرآن عبد الله بن عباس في ذلك، مع أن الروايات المرفوعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صريحة جدا، ولكن هذه الأقوال لا تتنافى وبعضها أعم من الآخر، فلذلك رجح إمام المفسرين أبو جعفر محمد بن جرير الطبري أن الآية عامة، والعامة تشمل الخاصة وزيادة، وإثبات الخاص لا ينفي العام.
قال الإمام ابن جرير الطبري: “وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: هنّ جميع أعمال الخير، كالذي رُوي عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس، لأن ذلك كله من الصالحات التي تبقى لصاحبها في الآخرة، وعليها يجازى ويُثاب، وإن الله عزّ ذكره لم يخصص من قوله (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا) بعضا دون بعض في كتاب، ولا بخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإن ظنّ ظانّ أن ذلك مخصوص بالخبر الذي رويناه عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك بخلاف ما ظن، وذلك أن الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ورد بأن قول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، هنّ من الباقيات الصالحات، ولم يقل: هنّ جميع الباقيات الصالحات، ولا كلّ الباقيات الصالحات، وجائز أن تكون هذه باقيات صالحات، وغيرها من أعمال البرّ أيضا باقيات صالحات.”[51]
ووافقه على ذلك الإمام الشوكاني رحمه الله، قال: “وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ كُلُّ عَمَلِ خَيْرٍ، فَلَا وَجْهَ لِقَصْرِهَا عَلَى الصَّلَاةِ كَمَا قَالَ بعض، وَلَا لِقَصْرِهَا عَلَى نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الذِّكْرِ كَمَا قَالَهُ بَعْضٌ آخَرُ، وَلَا عَلَى مَا كَانَ يَفْعَلُهُ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ بِاعْتِبَارِ السَّبَبِ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ.”[52]
وهذا من اختلاف التنوع الذي أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، قال: “الخلاف بين السلف في التفسير قليل، وخلافهم في الأحكام أكثر من خلافهم في التفسير، وغالب ما يصح عنهم من الخلاف يرجع إلى اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، وذلك صنفان: أحدهما: أن يعبر كل واحد منهم عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه، تدل على معنى في المسمى غير المعنى الآخر مع اتحاد المسمى…[53] إلى أن قال: “الصنف الثاني: أن يذكر كل منهم من الاسم العام بعض أنواعه على سبيل التمثيل، وتنبيه المستمع على النوع لا على سبيل الحد المطابق للمحدود في عمومه وخصوصه، مثل سائل أعجمي سأل عن مسمى [لفظ الخبز] فأرى رغيفًا، وقيل له: هذا، فالإشارة إلى نوع هذا لا إلى هذا الرغيف وحده.”[54]
وقد رأى الإمام الألوسي أن قول الرسول صلى الله عليه وسلم “هن الباقيات” يفيد الحصر، وفلا عموم فيه.[55] وأجيب بأن الحصر المزعوم إنما استفيد عن طريق مفهوم المخالفة وهي دلالة غير قطعية، وقد عرف الخلاف فيها بين علماء الأصول. فلو كان كل خبر معرّف يفيد الحصر لكان قول الله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ}[56] نفيا لرسالة من سبقوه من الأنبياء والرسل وذلك باطل فتأمل.
وكان من بلاغة القرآن هنا أن جاء بالوصف دون الموصوف، وذلك أوسع في الدلالة وأقوى في التنصيص على الصفات المطلوبة، دون تحديد الموصوف. والله أعلم.
وعلى الرغم أن الآية عامة، إلا أن التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل لها أسرار عجيبة ومنافع عظيمة، لذلك خصها الرسول صلى الله عليه وسلم بالذكر، وعلمها أصحابه في مناسبات كثيرة، وأمرهم بالإكثار منها. قد يبدو من سخافة التصور أن تكون “كلمات” هي أفضل وأكثر أهمية من الأشياء الملموسة المحسوسة الواضحة كالأموال والأولاد. وإن تفضيل هذه الكلمات على الأموال والأولاد يحتاج إلى تأمل عميق حتى نعرف كنهه.
نقول وبالله التوفيق: إن قيمة الكلام البشري تكتسب من ثلاثة أمور:
أقلها أهمية وأدناها وزنا هي قيمته الصوتية. إن الصوت هو أظهر مكونات الكلام، لكنه ليس ذا قيمة تذكر إذا لم يحمل معنى ولم يعبر عن مقصد. كلام البشر إذا خلا عن هذين الأمرين – أي المعنى والمقصد- فهو يصنف من ضمن الأصوات غير المفهومة كزقزقة العصفور ونهيق الحمار ونباح الكلب وما إلى ذلك من الأصوات المجردة. فالكلمات لا تكتسب أهميتها بشكل أساس من مظهرها الصوتي، ولكن الصوت ضروري من أجل إسماع الغير، لولا الصوت لا يكون للمعنى وعاء ولا للقصد رسول. ومن أجل التفاهم يستخدم البشر إخراج أصوات معينة من أفواههم على شكل كلمات تعارفوا على معانيها ليدركوا مقاصد كل واحد منهم. فالقيمة الصوتية تكتسب من دلالتها على المعاني والمقاصد. فهي وسيلة وقيمتها تابعة ومبنية على قيمة الغاية التي توسل بها إليها.
أما الأمر الثاني الذي تكتسب منها قيمة الكلام البشري هو قيمة المعنى الذي حمله ذلك الكلام، فكل كلمة في لغات البشر تعارف الناس على معناها وتفاهموا بتداولها بينهم. فالكلام عالي القيمة إذا حمل معنى مهما، قد يعبر عن منافع عظيمة أو يدل عل معارف دقيقة أو يحوي مشاعر عميقة إلى ما هنالك. فوزن الكلام بوزن المعنى الذي يحمله.
والأمر الثالث الذي يُكسِب للكلام قيمة هو القصد الذي أراد المتكلم التعبير عنه. فالقصد النبيل الذي أراده المتكلم يجعل كلامه ذا وزن، والقصد السيئ يجعل الكلام رديئا.
هذه عن القيمة الذاتية للكلمة التي تحمل المعاني وتعبر عن المقاصد، وقيمة الكلمة أيضا تقاس بما تفضي إليه من نتائج وما تتركه من آثار، فتعظم قيمة الكلمة إذا جلبت خيرات كثيرة وسببت آثارا كبيرة، وتقل إذا خلت عن ذلك كله.
وإذا كان الأمر كذلك، فكيف تكون لكلمات التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير تلك الأوزان التي تفوق الأموال والأولاد؟
لا ندرك مدى ثقل هذه الكلمات بدون الإدراك بمعانيها، فهي تحمل أهم المعاني التي يجب أن يعرفها الإنسان، وتعبر عن الحقائق الكبرى التي يقوم عليها الكون ويرتكز عليها الدين.
أما معنى التسبيح فهو في اللغة بمعنى التنزيه، فأصل هذه الكلمة من السَّبح وهو البُعد، قال الأزهري في تهذيب اللغة: “ومعنى تنزيه الله من السوء تبعيده منه، وكذلك تسبيحه تبعيده، من قولك: سبحتُ في الأرض إذا أبعدتَ فيها، ومنه قوله جلّ وعزّ: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}[57]، وكذلك قوله: {وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا}[58].[59]
فالتسبيح هو إبعادُ صفات النقص من أن تُضافَ إلى الله، وتنزيهُ الربِّ سبحانه عن السوء وعمَّا لا يليقُ به، “وأصلُ التسبيح لله عند العرب التنزيه له من إضافة ما ليس من صفاته إليه، والتبرئة له من ذلك”.[60]
فقول الإنسان “سبحان الله” يعني تنزيه الله عن كل النقائص، وتطهير القلب عن كل تصور واعتقاد لا يليق بجلال الله وجماله وكماله. فهو ارتقاء تصوري عقدي من الإنسان، وإرضاء للرحمن والتبرئة مما يقوله الجاهلون في حق الله ظلما وجورا، وهذه الأرض تعج بمقولات تنسب إلى الله ما لا يليق بمقام الله جل في علاه، فهناك ملايين من الناس من وصفه بالحاجة إلى الشركاء، وهناك من نسب إليه الولد والصاحبة، وهناك من اتهمه بالظلم عياذا بالله، وهناك من وصفه بالفقر، تعالى الله عما يصفون علوا كبيرا.
وأما “الحمد لله” فهو فهو إثبات لكل الصفات الحميدة والأوصاف الكريمة لله عز وجل، فهو تعبير عن العرفان بالكمال المطلق لرب العالمين، ومجيئه بعد التسبيح يناسب كون الإثبات بعد النفي. أي بعد أن ننفي عن الله كل صفات النقص، نثبت لله كل أوصاف الكمال.
فهو صعود تصوري فكري للإنسان، أن يصل هذا العقل إلى حقيقة هي أهم الحقائق، وهي مركز مدركات المسلم. تقف كل مبادئه وتصوراته على هذا الإدراك، به يؤمن بهذا الدين، وبه يتبع منهجه.
ولسعة مضمونه وعظم وزنه يمتلئ به ميزان الإنسان اللاهج بذكره، يقول الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام: “والحمد لله تملأ الميزان”.[61] والتسبيح والتحميد كلمتان يلهج بهما العابدون من الملائكة والناس والدواب وسائر الكائنات فلذلك يقول المصطفى عليه الصلاة والسلام: “وسبحان الله والحمد لله تملآن – أو تملأ- ما بين السماوات الأرض.” قال تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}[62]
وأما كلمة “لا إله إلا الله” فهي كلمة التوحيد التي هي خلاصة هذا الدين، وتعني هذه الكلمة نفي الألوهية عن أي مخلوق، وإثباتها لله وحده، والإله هو المعبود، ولا أحد يستحق العبادة إلا الله سبحانه. وهذه هي الحقيقة التي من أجلها أرسل الرسل وأنزلت الكتب وأقيم الدين وبعثت الدعوات وفرض الجهاد، وهي الفاصلة بين الإيمان والكفر، بين التوحيد والشرك، بين النور والظلمات. فهي كلمة مركزية للشريعة الإسلامية، وشعار مميز للمسلمين، وراية مرفوعة لهذا الدين الخاتم.
وأما “الله أكبر” فهي كلمة تعظيم لله، تعني أن الله أكبر من كل شيء، وأن هذا الرب الجليل فوق كل شيء ذاتا وصفاتا، فهو أكبر من كل المعبودات، أكبر من كل المخلوقات المنظورات والمسموعات والمتصورات. ما خاف الإنسان من شيء إلا أن الله أكبر منه، وما رغب الإنسان في شيء إلا أن الله أكبر منه، وما تعلق الإنسان بشيء إلا أن الله أكبر منه، وما تعجب الإنسان من شيء إلا أن الله أكبر منه.
فما أعظم ما حوته هذه الكلمات من المعاني! وما أهم ما حملته من الحقائق! إنها ليست كلمات تقال فحسب، لكنها معاني عظيمة تعلن، ومشاعر نبيلة تعبر، حقائق جليلة تصعد من الأرض إلى السماء، وينطق بها العبد المؤمن ويسمعها الكون ويرضاها الرب الجليل من فوق السبع السماوات…
إنها حقاً أفضل مما طلعت عليه الشمس وغربت، وهي خير من الأرض وما فيها…
لذلك ندرك ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة من فضل الذكر عامة وفضل هذه الكلمات الأربع خاصة. وقد تظافرت جهود العلماء في سردها وبيان ما فيها من المعاني والفوائد، فألفوا فيه تآليف عديدة ككتاب الأذكار للإمام النووي والكلم والطيب لشيخ الإسلام ابن تيمية والوابل الصيب لتلميذه ابن القيم رحمهم الله جميعا. والبحث في فضل ذكر الله يطول جدا، ونكتفي هنا باختيار من ذلك الكم الهائل من النصوص أصحها ثبوتا وأوضحها دلالة على المقصود.
من أصرح ما ورد في تفضيل ذكر الله على غيره من الأعمال ما رواه الترمذي عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى.[63]
ويقوي ما دله الحديث قول الله تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ}[64] على أحد أقوال المفسرين في قوله تعالى: { وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} أي أن ذكر الله أكبر وأفضل من سائر الأعمال، وللعلماء فيه تفسيرات عدة:
أحدها: ولَذِكْرُ الله إِيَّاكم أكبرُ من ذِكْركم إِيَّاه، رواه ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وبه قال ابن عباس، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ومجاهد في آخرين.
والثاني: ولَذِكْرُ الله تعالى أفضلُ من كل شيء سواه، وهذا مذهب أبي الدرداء، وسلمان، وقتادة.
والثالث: ولَذِكْرُ الله تعالى في الصلاة أكبرُ ممَّا نهاك عنه من الفحشاء والمُنكَر، قاله عبد الله بن عون.
والرابع: ولذكر الله تعالى العبدَ- ما كان في صلاته- أكبرُ من ذكر العبد لله تعالى، قاله ابن قتيبة.[65]
ويدل على أفضلية ذكر الله ما أخرجه الطبراني في معجمه الكبير من طريق عبد الله بن لهيعة، أَنَّ رَجُلا سَأَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: أَيُّ الْمُجَاهِدِينَ أَعْظَمُ أَجْرًا؟ قَالَ:”أَكْثَرُهُمْ لِلَّهِ ذِكْرًا”، قَالَ: وَأَيُّ الصَّائِمِينَ أَعْظَمُ لِلَّهِ أَجْرًا؟ قَالَ:”أَكْثَرُهُمْ لِلَّهِ ذِكْرًا”، ثُمَّ ذَكَرَ الصَّلاةَ وَالزَّكَاةَ وَالْحَجَّ وَالصَّدَقَةَ، كُلُّ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:”أَكْثَرُهُمْ لِلَّهِ ذِكْرًا”، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ:”يَا أَبَا حَفْصٍ ذَهَبَ الذَّاكِرُونَ اللَّهَ بِكُلِّ خَيْرٍ”، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:”أَجَلْ.”[66]
ومثل ذلك ما أخرجه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنقال رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ. قَالُوا: وَمَا الْمُفَرِّدُونَ؟ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: الذَّاكِرُونَ اللهَ كَثِيرًا، وَالذَّاكِرَاتُ.[67]
وتلك بعض الأحاديث عن فضل ذكر الله عموما، أما بخصوص التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير فيدل عليه هذه الأحاديث:
عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” أَحَبُّ الْكَلَامِ إِلَى اللهِ أَرْبَعٌ: سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ، لَا يَضُرُّكَ بِأَيِّهِنَّ بَدَأْتَ.”[68]
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَأَنْ أَقُولَ سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ»[69]
عَنْ أُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: قَالَتْ: مَرَّ بِي ذَاتَ يَوْمٍ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي قَدْ كَبِرْتُ وَضَعُفْتُ – أَوْ كَمَا قَالَتْ – فَمُرْنِي بِعَمَلٍ أَعْمَلُهُ وَأَنَا جَالِسَةٌ. قَالَ: سَبِّحِي اللَّهَ مِائَةَ تَسْبِيحَةٍ، فَإِنَّهَا تَعْدِلُ لَكِ مِائَةَ رَقَبَةٍ تُعْتِقِينَهَا مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَاحْمَدِي اللَّهَ مِائَةَ تَحْمِيدَةٍ، تَعْدِلُ لَكِ مِائَةَ فَرَسٍ مُسْرَجَةٍ مُلْجَمَةٍ تَحْمِلِينَ عَلَيْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَكَبِّرِي اللَّهَ مِائَةَ تَكْبِيرَةٍ فَإِنَّهَا تَعْدِلُ لَكِ مِائَةَ بَدَنَةٍ مُقَلَّدَةٍ مُتَقَبَّلَةٍ، وَهَلِّلِي اللَّهَ مِائَةَ تَهْلِيلَةٍ، – قَالَ ابْنُ خَلَفٍ أَحْسِبُهُ قَالَ: تَمْلَأُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ – وَلَا يُرْفَعُ يَوْمَئِذٍ لِأَحَدٍ عَمَلٌ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِ مَا أَتَيْتِ بِهِ.[70]
وعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقِيتُ إِبْرَاهِيمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَقْرِئْ أُمَّتَكَ مِنِّي السَّلَامَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الْجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ عَذْبَةُ الْمَاءِ، وَأَنَّهَا قِيعَانٌ، وَأَنَّ غِرَاسَهَا سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ.[71]
هذه نصوص في فضل التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير مجموعة، وهناك نصوص من القرآن والسنة تبين فضل كل من هذه الكلمات على حدة، أما ما يتعلق بالتسبيح: فقد ورد ذكر التسبيح في القرآن الكريم أكثر من ثمانين مرة[72]، بصِيغ مختلفة وأساليب متنوِّعة، فورد تارة بلفظ الأمر كما في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ﰁ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﰅ }[73] ، وتارة بلفظ الماضي كما في قوله تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[74]، وتارة بلفظ المضارع كما في قوله تعالى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}[75]، وتارة بلفظ المصدر كما في قوله تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ}[76].
ومن الأحاديث ما ثبت في صحيح البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، حُطَّتْ خَطَايَاهُ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ البَحْرِ.”[77]
وثبت في صحيح مسلم عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِي: “سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ” مِائَةَ مَرَّةٍ لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلَّا أَحَدٌ قَالَ مِثْلَ مَا قَالَ أَوْ زَادَ عَلَيْهِ.[78]
في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي المِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ العَظِيمِ، سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ “.[79]
وأما ما يخص الحمدلة فقد ورد الحمد في القرآن الكريم في أكثر من أربعين موضعاً، جُمع في بعضها أسباب الحمد، وفي بعضها ذُكرت أسبابه مفصّلةً، فمن الآيات التي جُمع فيها أسباب الحمد قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[80]، وقوله: {لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ}[81]، وقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}[82].
ومن الآيات التي ذُكر فيها أسباب الحمد مفصّلة قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ}[83]، ففيها حمده على نعمة دخول الجَنّة. وقوله تعالى: {فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[84]، ففيها حمده على النصر على الأعداء والسلامة من شرّهم. وقوله تعالى: { فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[85]، ففيها حمده على نعمة التوحيد وإخلاص العبادة لله وحده. وقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ}[86]، ففيها حمده سبحانه على هبة الولد. وقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا}[87]، ففيها حمده سبحانه على نعمة إنزال القرآن الكريم قيّماً لا عِوج فيه {قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا}[88]. وقوله تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا}[89] ففيها حمده سبحانه لكماله وجلاله، وتنزّهه عن النقائص والعيوب، والآيات في هذا المعنى كثيرة، فالله تبارك وتعالى هو الحميد المجيد.[90]
وفي صحيح البخاري عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَآَنِ – أَوْ تَمْلَأُ – مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَالصَّلَاةُ نُورٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ، وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا»[91]
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا»[92]
وعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا مَلَكَ الْمَوْتِ، قَبَضْتَ وَلَدَ عَبْدِي؟ قَبَضْتَ قُرَّةَ عَيْنِهِ وَثَمَرَةَ فُؤَادِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَمَا قَالَ؟ قَالَ: حَمِدَكَ وَاسْتَرْجَعَ. قَالَ: ابْنُوا لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَسَمُّوهُ بَيْتَ الْحَمْدِ.[93]
وأما عن فضل كلمة التوحيد لا إله إلا الله، فإن الله تبارك وتعالى جعلها زبدةَ دعوة الرسل، وخلاصةَ رسالاتهم، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}[94]، وقال تعالى: { يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ }[95]، وقال تعالى: وكان من أوائل ما أوحى الله لموسى عليه السلام قوله تعالى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}.[96]
ومما ورد في السنة عن فضل لا إله إلا الله ما أخرجه الشيخان في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ، إِلَّا أَحَدٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ.”[97]
ومن فضائلها: أنَّها أفضل ما قاله النبيّون، لما ثبت في الحديث عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَفْضَلُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ قَبْلِي عَشِيَّةَ عَرَفَةَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»[98]
وفي لفظ: “خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.”[99]
وهي من أفضل ما يذكر به العبد ربه، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ” قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا رَبِّ عَلِّمْنِي شَيْئًا أَذْكُرُكَ بِهِ وَأَدْعُوكَ بِهِ، قَالَ: يَا مُوسَى قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، قَالَ: يَا رَبِّ كُلُّ عِبَادِكَ، يَقُولُ هَذَا، قَالَ: قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ يَا رَبُّ، إِنَّمَا أُرِيدُ شَيْئًا تُخُصُّنِي بِهِ، قَالَ: يَا مُوسَى لَوْ كَانَ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ، وَعَامِرُهُنَّ غَيْرِي، وَالْأَرَضِينَ السَّبْعُ فِي كِفَّةٍ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فِي كِفَّةٍ مَالَتْ بِهِنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.[100]
أما التكبير فقد تكاثرت النصوص في الحث عليه والترغيب فيه وذكر ثوابه. يقول الله تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا}[101] ، وقال تعالى في شأن الصيام: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[102]، وقال تعالى في شأن الحج وما يكون فيه من نُسك يَتقرَّب فيه العبدُ إلى الله: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِين}[103]، وقال تعالى: { يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ . قُمْ فَأَنْذِرْ . وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ }[104].
والتكبير في الإسلام يحتل مكانة متميزة عن سائر الأذكار، فهي شعار الصلاة والأذان والأعياد، والمسلم يكبر الله في كل ركعة من صلاته خمس تكبيرات، وإذا كان مجموع ركعات الصلوات المفروضة سبع عشرة ركعة، فالقدر الواجب على المسلم في اليوم أن يكبر خمسة وثمانين تكبيرة في الصلوات الفرائض.
لعلنا قد أطلنا الكلام عن الذكر والتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير نوعا ما، فهو في حقها قليل، فإن هناك أسرارا وفوائد وتفاصيل كثيرة جدا لم نذكرها في هذا السياق، ولكن نختم كلامنا عن الذكر بحقيقة مهمة، قد تكون صادمة أو مفاجئة، وهي أن ذكر الله هو ضمان استمرار الحياة على الأرض، فإذا انقطع الناس عن ذكر الله فلا بقاء للحياة الدنيا وقامت الساعة حينئذ، فقد ثبت في صحيح مسلم عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُقَالَ فِي الْأَرْضِ: اللهُ اللهُ.”[105]
وحُقّ للأرض أن تطوي صفحتها، لأنها خلقت من أجل إقامة ذكر الله،[106] قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[107] وإن السماوات والأرض لتهتز وتكاد تتفطر وتتشقق بصعود كلمات لا تليق بحق خالقها عز وجل، قال تعالى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا . أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا }[108]
فإذا خلت الأرض عن لسان ذاكر بحمد الله، فلا تقوى السماوات أن تحمل نفسها، تتزلزل الأرض من هول ما يفعله الإنسان من المعاصي على سطحها، ويكون الكون كله يثور ويفور لأمر ربه، فإن الخالق سبحانه قد أذن بطي صفحته، نسأل الله السلامة والعافية.
والدنيا في الأصل ليس لها قيمة عند الله إلا ما ذكر فيها اسمه جل جلاله ومن علمه أو تعلمه، فعن أَبي هُرَيْرَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: أَلَا إِنَّ الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلَّا ذِكْرُ اللَّهِ وَمَا وَالَاهُ وَعَالِمٌ أَوْ مُتَعَلِّمٌ.[109]
ليس كل ما سبق تقريره عبارة عن ترك الدنيا جملة وتفصيلا، ولا دعوة إلى الزهد المتطرف الذي يدعو إلى إهمال هذه الحياة، ولا حربا شعواء على كل ما هو مادي، فالإسلام دين متكامل متوازن، يجمع الدنيا والآخرة، ويزاوج الروح بالمادة، لا يغالب الظاهر بالباطن ولا يناقض الباطن بالظاهر. إنما هي التذكير بألا نلهو نذكر الفرع وننسى الأصل، نذكر الثمر وننسى الشجر، ونذكر النتائج وننسى المقدمات، “ونذكر الحادث وننسى المحدث” نلهو بالمخلوق ونغفل على الخالق.
فالإسلام يعرف قيمة هذه الحياة ولا ينكرها جملة، والحديث عن لعن الدنيا ليس على إطلاقه –كما يتوهمه الجهلة- فهو مبيّن بالاستثناء المتصل (إلا ذكر الله وما والاه … إلخ)، فالمذموم ليس كل الدنيا، وإنما ذم ما شغل عن ذكر الله وطاعته، كما قال تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}[110]، وأما ما أعان على طاعة الله من الدنيا فليس بمذموم، قال تعالى: { رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ﭥ }.[111]
ومما يدل على أن ليس كل الدنيا ملعونة أن الله وضع فيها البركة، قال الله عن الأرض: {وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ}[112] فهذا في عموم أقوات الأرض، وهناك بركات خاصة بالأراضي المقدسة،[113] وبركات خاصة بالأنبياء والصالحين،[114] وهكذا فهذه الأمور غير داخلة في الذم واللعنة، لأن المقصود هو ما خلا عن ذكر الله وما أبعد عن ذكر الله، وإن معظم المخلوقات تسبِّح بحمد الله، قال تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا}[115].
بطبيعة الحال، فإن المبالغة في أي شيء لا يُقرها الإسلام. ورغم تشديد الإسلام تأكيده على التزهيد في الدنيا إلا أن الشرع لم يأمر بإهدار الحياة الدنيا لأنها مزرعة الآخرة وميدان الجهاد وحلبة السباق.
أخرج الترمذي والحاكم عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ قَالَ: مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ. قَالَ: فَأَيُّ النَّاسِ شَرٌّ؟ قَالَ: مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ.[116]
لذلك كان دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم: اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي، وَاجْعَلْ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلْ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ.[117]
فهذا غاية في التوازن، فلم يفرد الرسول صلى الله عليه وسلم دعاءه بالمصالح الدينية ولا بالمصير الأخروي بل دعا أيضا لصالح الحياة الدنيا التي لا غنى للإنسان عنها، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}[118]
وهذا الوعي بهذا التوازن كان حاضرا عند صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فعن أبي أمامة الباهلي عن أبي بكر الصديق ، قال: دينك لمعادك، ودرهمك لمعاشك، ولا خير في امرء بلا درهم.[119]
فلما ذم رجل الدنيا عند علي بن أبي طالب رضي الله عنه وبالغ فيه، فقال علي: “الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار نجاة لمن فهم عنها، ودار غناء لمن تزود منها، مهبط وحى الله، ومصلى ملائكته، ومسجد أنبيائه، ومتجر أوليائه، ربحوا فيها الرحمة، فاكتسبوا فيها الجنة.”[120]
عودا على بدء، فإن هذه القيم التي كرسها القرآن عموما وسورة الكهف خصوصا هي لبنات بناء مجمتع فاضل يعبد الله ولا يشرك به شيئا، يسود فيه العدل ولا يظلم القوي فيه الضعيف، ولا يفخر الغني فيه على الفقير، لا يخاف الضعيف أن يقول كلمة الحق في وجه القوي، ولا يمنع الفقير أن يحصل على حقه باحتكار الغني.
وبين القصتين، قصة أصحاب الكهف وقصة الصاحبين، انتقال نوعي، انتقال من وضع سيء إلى أحسن شيئا ما. فإن المجمتع الذي يعيشه أصحاب الكهف كان مجتمعا ظالما، يستبد فيه القوي، يفرض معتقده على الناس، بينما يكون مجتمع الصاحبين مجتمعا منفتحا إلى حد كبير، لا يخاف الضعيف أن يعلن ما اعتقده مخالفا عما اعتقده من هو أقوى منه. ولكن بقي مشكلة نفسية خلقية لدى الأغنياء، أنهم يفتخرون ويفاخرون ما لديهم من الأموال والأولاد. وهو سلوك كثير من الأثرياء، ومن حسن حظ الناس حينئذ ألا يبقى هذا السلوك السيء يمضي بلا رادع، ويتمادى بلا عقاب. فتكون قصة صاحب الجنتين عبرة للناس لئلا يغتروا بذلك العطاء الزائل، فاتعظ الناس كما يقول من رأى مصير قارون: {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ}[121]
والمجتمع الذي يتمتع بالحرية والعدالة ينطلق في بناء مستقبله انطلاقا قويا، لا يمنعه القمع ولا ينهكه الظلم، كل فرد فيه يدرك قيمة نفسه ويقدّر غيره، فيتعاونون على تحقيق مصلحة الجميع، فهو مجتمع قوي بأفراده، لا يعلقون مصيرهم على حاكم فرد مسيطر على كل الأمور. بل أفراد المجتمع هم كلهم قوام البلد وحُماته وبُناته.
والقيم والأخلاق أهم ما يُبنى به مستقبل الأمم، وهي أهم من الأموال، فإن الأموال تذهب بسوء القيم وسوء تصرف أصحابها، وتحصل وتزدهر برقيها ورقي تصرف أصحابها.
يقول الشاعر:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت …. فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا
إن واقع العالم الإسلامي اليوم يشهد فقرا منتشرا في أرجائه، حتى ليكاد الفقر اليوم سمة من سمات الشعوب الإسلامية في هذا الزمان باستثناء قلة من أجزائه. ولكن إذا نظرنا إلى معدل النمو الاقتصادي لهذه البلاد، فإن بعض بلدان المسلمين تعد من أكثر بلدان العالم نموا اقتصاديا كالهند وتركيا وماليزيا وإندونيسيا. فليس الفقر هو القدر الملازم للمسلمين.
لا نقلل من أهمية المال فإنه قوام الحياة كما قال تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا}[122]، ولكنه ليس هو الخير بذاته، إنما الخير هو في حسن التصرف فيه، وتجنب الأخلاق السيئة المتعلقة بالأموال، كالجشع والشح والتناحر والتكالب من أجله. فلذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلّم الصحابة في هذا الشأن، وأخبرهم أن مشكلة المسلمين الكبرى والتحدي الأكبر ليس هو الفقر، بل الأخطر عليهم هو الغنى ووفرة المال إذا لم يتقوا الله فيه ويكبحوا جماح أهواءهم تجاهه.
ثبت في الصحيحين أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ إِلَى الْبَحْرَيْنِ، يَأْتِي بِجِزْيَتِهَا، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ صَالَحَ أَهْلَ الْبَحْرَيْنِ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمُ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ، فَقَدِمَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِمَالٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ، فَسَمِعَتِ الْأَنْصَارُ بِقُدُومِ أَبِي عُبَيْدَةَ، فَوَافَوْا صَلَاةَ الْفَجْرِ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْصَرَفَ، فَتَعَرَّضُوا لَهُ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَآهُمْ، ثُمَّ قَالَ: «أَظُنُّكُمْ سَمِعْتُمْ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَدِمَ بِشَيْءٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ؟»
فَقَالُوا: أَجَلْ يَا رَسُولَ اللهِ.
قَالَ: «فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ، فَوَاللَّهِ مَا الفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ»[123]
فقدر هذه الأمة هو الرفعة والتمكين في الأرض، وإن اعترتها فترة – طالت أو قصرت – من الضعف والركود والهوان، لكنها ستعود بإذن الله إلى دينها، ويفتح الله عليها مشارق الأرض ومغاربها، كما أخبره المصطفى عليه الصلاة والسلام: ” إِنَّ اللهَ زَوَى لِي الْأَرْضَ، فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا”.[124]
وعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلَا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ، بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ، وَذُلًّا يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ.[125]
وعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « بَشِّرْ أُمَّتِي بِالسَّنَاءِ وَالرِّفْعَةِ وَالتَّمْكِينِ فِي الْبِلَادِ مَا لَمْ يَطْلُبُوا الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ، فَمَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ ».[126]
ولا يحسب أحد أن هذا التمكين وذلك الفتح قد تحقق في عصور مضت ثم لن يعود ذلك الماضي العتيق، فإننا مقبلون على قيام الساعة، فلم يبق أمامنا إلا الفتن والذل والهوان، فإن ذلك ظن خاطئ، فالإسلام سيعود إلى مجده، والدين سيظهر كما وعده الله، وسيأتي عصر الخير الذي يفيض فيه المال حتى لا يقبله أحد لتوفره عند الناس.
أخرج الشيخان عَنِ ابْنِ المُسَيِّبِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسِطًا، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الجِزْيَةَ، وَيَفِيضَ المَالُ حَتَّى لاَ يَقْبَلَهُ أَحَدٌ»[127]
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ خَلِيفَةٌ يَقْسِمُ الْمَالَ وَلَا يَعُدُّهُ».[128] وفي رواية: «يَكُونُ بَعْدِي خَلِيفَةٌ يَحْثِي الْمَالَ حَثْيًا، وَلَا يَعُدُّهُ عَدًّا»[129]
ولا نقول أن ذلك سيحصل قريبا سنة أو سنتين، وقد ندرك ذلك الزمان وقد لا ندركه، فمهما يكن من أمر، فإننا لا نقيد أنفسنا بحصول ذلك الوضع المادي، فإن فرصة العمل مفتوحة في كل زمان، وطاعة الله ممكنة في كل الأحوال. بل قد يكون شظف العيش أفضل للإنسان من الغنى المطغي، وقد ربى الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه على تحمل المشاق وتقدير ما هم عليه من الخير الإيماني والرقي الأخلاقي والصفاء الروحي.
أخرج الترمذي عن عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه يَقُولُ: إِنَّا لَجُلُوسٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي المَسْجِدِ إِذْ طَلَعَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ مَا عَلَيْهِ إِلَّا بُرْدَةٌ لَهُ مَرْقُوعَةٌ بِفَرْوٍ فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَكَى لِلَّذِي كَانَ فِيهِ مِنَ النِّعْمَةِ وَالَّذِي هُوَ اليَوْمَ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَيْفَ بِكُمْ إِذَا غَدَا أَحَدُكُمْ فِي حُلَّةٍ وَرَاحَ فِي حُلَّةٍ وَوُضِعَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ صَحْفَةٌ وَرُفِعَتْ أُخْرَى وَسَتَرْتُمْ بُيُوتَكُمْ كَمَا تُسْتَرُ الكَعْبَةُ»؟
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مِنَّا اليَوْمَ، نَتَفَرَّغُ لِلْعِبَادَةِ وَنُكْفَى المُؤْنَةَ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَأَنْتُمُ اليَوْمَ خَيْرٌ مِنْكُمْ يَوْمَئِذٍ»: “.[130]
وعَنِ الْحَسَنِ أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ يَوْمًا فَرَآهُمْ بِحَالٍ شَدِيدَةٍ , قَالَ الصَّائِغُ – وهو أحد رواة الحديث- فِي حَدِيثِهِ: وَكَانَ أَهْلُ الصُّفَّةِ قَوْمًا يَجِيئُونَ مُهَاجِرِينَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى غَيْرِ أَهْلٍ , وَإِلَى غَيْرِ عَشِيرَةٍ , وَإِلَى غَيْرِ مَالٍ , ثُمَّ اتَّفَقَا وَكَانُوا إِذَا مَسَّهُمْ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَيَنْطَلِقُ الرَّجُلُ بِالرَّجُلَيْنِ وَالرَّجُلُ بِالثَّلَاثَةِ , وَمَا بَقِيَ مِنْهُمْ أَدْخَلَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْتَهُ , فَأَطْعَمَهُمْ مَا كَانَ عِنْدَهُ , ثُمَّ يَكُونُ مَأْوَاهُمْ وَمَقِيلُهُمْ صُفَّةُ الْمَسْجِدِ , فَقَالَ لَهُمْ يَوْمًا: ” أَنْتُمُ الْيَوْمَ خَيْرٌ أَمْ أَنْتُمْ يَوْمَ تَغْدُونَ فِي حُلَّةٍ وَتَرُوحُونَ فِي حُلَّةٍ , وَتَغْدُو عَلَيْكُمْ قَصْعَةٌ وَتَرُوحُ أُخْرَى؟ “
فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ , نَحْنُ الْيَوْمَ بِخَيْرٍ , وَإِنَّا لَنَرَانَا يَوْمَئِذٍ خَيْرًا مِنَ الْيَوْمِ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” كَلَّا وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ, لَأَنْتُمُ الْيَوْمَ خَيْرٌ مِنْكُمْ يَوْمَئِذٍ “[131]
نعم، حال هؤلاء الصحابة الكرام مع فساوة عيشهم وقلة ذات أيديهم أفضل بكثير من حال بعضنا الآن الذي لا يغيب عنه طعام ولا شراب، تتنوع عنده الأطعمة والملابس والمراكب والمساكن، مع غفلة عن ذكر الله وعجز عن عبادة الله وقعود عن نصرة دين الله، والله المستعان ولا وحول ولا قوة إلا بالله…
يتبع…
______________________________________________________________________________
[1] سورة الكهف: ٣٢ – 34
[2] في ظلال القرآن 5/63
[3] سورة الكهف: ٧
[4] سورة الكهف: 34
[5] سورة النور: ١٥
[6] أخرجه البخاري في كتاب الرقاق باب حفظ اللسان.
[7] أخرجه البخاري في كتاب الرقاق باب الغنى غنى النفس ومسلم في كتاب الزكاة باب بَابُ لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ.
[8] أخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها بَابُ الصِّفَاتِ الَّتِي يُعْرَفُ بِهَا فِي الدُّنْيَا أَهْلُ الْجَنَّةِ وَأَهْلُ النَّارِ.
[9] سورة النمل: ٤٠
[10] سورة القصص: ٧٨
[11] سورة الحديد: ٢٠
[12] سورة الفجر: ١٥ – ١٦
[13] سورة الهمزة: ٢ – ٣
[14] سورة البلد: ٦
[15] سورة الكهف: 35-36
[16] سورة إبراهيم: ٧
[17] سورة الكهف: ٣٧
[18] سورة الكهف: 38
[19] أخرجه أبو يعلى وابن مردويه ابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب.
[20] سورة الكهف: ٣٨ – ٤١
[21] سورة الضحى: ١١
[22] التحرير والتنوير (30/404)
[23] تفسير الألوسي (15/383)
[24] سورة الأنفال: ٢٩
[25] الموافقات (5/24)
[26] المصدر السابق (5/24-25)
[27] المصدر السابق (5/25)
[28] أخرجه الطبراني في الكبير والصغير والأوسط والبيهقي في الشعب وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (3/436)
[29] سورة الضحى: ١ – ٣
[30] سورة يونس: ٥٨
[31] سورة الكهف: ٤٢ – ٤٣
[32] سورة الكهف: ٤٤
[33] سورة الكهف: ٤٥
[34] سورة يونس: ٢٤
[35] أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب (8/302 رقم: 2244) وابن ماجه (12/136 رقم: 4102) والبيهقي في الشعب (4/232 رقم: 1669) وصححه الألباني في السلسلة (6/296 رقم: 2797)
[36] سورة الكهف: ٤٦
[37] سورة آل عمران: ١٤
[38] سورة الأنفال: ٢٨
[39] أخرجه مسلم في كتاب الرقاق باب أَكْثَرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْفُقَرَاءُ وَأَكْثَرُ أَهْلِ النَّارِ النِّسَاءُ وَبَيَانِ الْفِتْنَةِ بِالنِّسَاءِ.
[40] سورة الكهف: ٤٦
[41] سورة الكهف: ٤٦
[42] انظر تفسير الطبري (18/32-36) وزاد المسير (3/88)
[43] أخرجه أحمد وابن حبان وسعيد بن منصور وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم وصححه وحسن إسناده الهيثمي (مجمع الزوائد: 4/370).
[44] أخرجه أحمد (37/311 رقم: 17360) قال الهيثمى: فيه راو لم يسم ، وبقية رجاله رجال الصحيح (مجمع الزوائد: 5/247).
[45] أخرجه البيهقي في الشعب (2/169 رقم: 627) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (6/213 رقم: 2714)
[46] سورة الزلزلة: ١
[47] سورة الكافرون: ١
[48] سورة الإخلاص: ١
[49] أخرجه الطراني في الكبير (5/296 رقم: 5349) وأبو نعيم الأصبهاني في معرفة الصحابة (9/132 رقم: 2856) قال الهيثمي: رواه الطبراني وفيه الحسين بن الحسن العوفي وهو ضعيف. (مجمع الزوائد: 3/247)
[50] أخرجه الطبري في تفسيره (5/162) صححه الألباني في السلسلة (7/758 رقم: 3264)
[51] جامع البيان (18/36)
[52] فتح القدير (3/433)
[53] مقدمة في أصول التفسير ص11
[54] المصدر السابق ص14
[55] روح المعاني (8/272)
[56] سورة الفتح: ٢٩
[57] سورة يس: ٤٠
[58] سورة النازعات: ٣
[59] تهذيب اللغة (4/338)
[60] جامع البيان لابن جرير (1/211)
[61] جزء من الحديث الشريف سيأتي ذكره كاملا.
[62] سورة الإسراء: ٤٤
[63] أخرجه الترمذي وابن ماجه وأحمد والحاكم وصححه وقال الهيثمي: إسناده حسن (مجمع الزوائد: 10/72) وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/92 رقم: 1493)
[64] سورة العنكبوت: ٤٥
[65] زاد المسير: 3/409
[66] أخرجه الطبراني في الكبير قال الهيثمي رحمه الله: “وفيه زبّان بن فائد وهو ضعيف وقد وُثِّق، وكذلك ابن لهيعة” (10/74).
لكن له شاهدٌ مرسلٌ بإسناد صحيح، رواه ابن المبارك في الزُّهد قال: أخبرني حيوةُ قال: حدّثني زُهرة بنُ معبَد أنّه سمع أبا سعيد المقبُري يقول: قيل: يا رسول الله أيُّ الحاج أعظم أجرًا؟ قال: “أكثرهم لله ذكرًا”، قال: فأيُّ المصلّين أعظم أجرًا؟ قال: “أكثرهم لله ذكرًا”، قال: فأيّ الصّائمين أعظم أجراً؟ قال: “أكثرهم لله ذكراً”، قال: فأيُّ المجاهدين أعظمُ أجراً؟ فقال: “أكثرهم لله ذكرًا”. قال زُهرة: فأخبرني أبو سعيد المقبُري: أنّ عمر بن الخطّاب قال لأبي بكر: ذهب الذّاكرون بكلِّ خير. (الزهد رقم:1429).
وله شاهدٌ آخر أورده ابن القيِّم في كتابه الوابل الصيِّب قال: وقد ذكر ابن أبي الدنيا حديثاً مرسلاً أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم سُئل أيُّ أهل المسجد خير؟ قال: “أكثرهم ذكرًا لله عز وجل “، قيل: أيُّ أهل الجنازة خير؟ قال: “أكثرهم ذكرًا لله عز وجل “، قيل: فأيُّ المجاهدين خير؟ قال: “أكثرهم ذكرًا لله عز وجل “، قيل: فأيُّ الحُجّاج خير؟ قال: “أكثرهم ذكراً لله عز وجل “، قيل: وأيُّ العوّاد خير؟ قال: “أكثرهم ذكرًا لله عز وجل “، قال أبو بكر: ذهب الذّاكرون بالخير كلِّه. (الوابل الصيب ص152)
[67] أخرجه مسلم (4/2062 رقم: 2676)
[68] أخرجه مسلم (3/1685 رقم: 2137)
[69] أخرجه مسلم (4/2072 رقم: 2695)
[70] أخرجه أحمد (45/347 رقم: 25675) والنسائي في السنن الكبرى (6/211 رقم: 10680) والبيهقي في الشعب (2/183 رقم: 641) حسن إسناده الهيثمي (مجمع الزوائد: 10/92 رقم: 16866) والألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3/109 رقم: 1553)
[71] أخرجه الترمذي (11/365 رقم: 3384) وقال هذا حديث حسن غريب، وحسنه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير (13/145 رقم: 5773)
[72] فقه الأدعية والأذكار، د. عبد الرزاق عبد المحسن العباد (1/202)
[73] سورة الأحزاب: 41-42
[74] سورة الحديد: ١
[75] سورة الجمعة: ١
[76] سورة الصافات: ١٨٠
[77] أخرجه البخاري (8/86 رقم: 6405)
[78] أخرجه مسلم (13/202 رقم: 3858)
[79] أخرجه البخاري (8/86 رقم: 6406) ومسلم (4/2072 رقم: 2694)
[80] سورة الفاتحة: ٢
[81] سورة القصص: ٧٠
[82] سورة سبأ: ١
[83] سورة الأعراف: ٤٣
[84] سورة المؤمنون: ٢٨
[85] سورة غافر: ٦٥
[86] سورة إبراهيم: ٣٩
[87] سورة الكهف: ١
[88] سورة الكهف: ٢
[89] سورة الإسراء: ١١١
[90] فقه الأدعية والأذكار (1/227-228)
[91] أخرجه البخاري (1/203 رقم: 223)
[92] أخرجه مسلم (4/2095 رقم: 2734)
[93] أخرجه الترمذي (4/154 رقم: 942) وأحمد (40/210 رقم: 18893) وابن حبان (7/210 رقم: 2948) قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (3/482 رقم: 1408)
[94] سورة الأنبياء: ٢٥
[95] سورة النحل: ٢
[96] سورة طه: ١٤
[97] أحرجه البخاري (4/126 رقم: 3293) ومسلم (1/418 رقم: 597)
[98] أخرجه الطبراني في الدعاء (1/273 رقم: 874)، قال المباركفورى فى تحفة الأحوذى (10/33) : قال القارى : رواه الطبرانى وسنده حسن جيد كما قاله الأذرعى (جامع الأحاديث للسيوطي: 5/252 رقم: 4092)
[99] أخرجه الترمذي (12/8 رقم: 3509) وحسنه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير (3/235 رقم: 5585)
[100] أخرجه النسائي في السنن الكبرى (6/209 رقم: 10670) والحاكم في المستدرك (1/710 رقم: 1936) وابن حبان في صحيحه (14/102 رقم: 6218) وصححاه.
[101] سورة الإسراء: ١١١
[102] سورة البقرة: ١٨٥
[103] سورة الحج: ٣٧
[104] سورة المدثر: ١ – ٣
[105] أخرجه مسلم (1/131 رقم: 148) وأحمد (24/147 رقم: 11601) وابن حبان (28/240 رقم: 6975) وغيرهم
[106] خُلِقت الأرض من أجل الإنسان لقول الله تعالى: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا) وخلق الإنسان من أجل العبادة (وما خلقت الجن والإنسان إلا ليعبدون) فالغاية النهائية من خلق الأرض هو عبادة الله.
[107] سورة الذاريات: ٥٦
[108] سورة مريم: ٩٠ – ٩١
[109] أخرجه الترمذي (8/203 رقم: 2244) وابن ماجه (12/136 رقم: 4102) حسنه الألباني (صحيح وضعيف الجامع الصغير: 6/436 رقم: 2489)
[110] سورة المنافقون: 9
[111] سورة النور: 37
[112] سورة فصلت: ١٠
[113] سورة آل عمران: 98، سورة الأعراف: 137، سورة الإسراء: 1، سورة الأنبياء: 71 و81، سورة سبأ: 18
[114] سورة الأعراف: 97، سورة مريم: 31، سورة المؤمنون: 29، سورة الصافات: 113
[115] سورة الإسراء: ٤٤
[116] أخرجه الترمذي (8/217 رقم: 2252) وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وأخرجه الحاكم في مستدركه (3/271 رقم: 1202) وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي (5/329)
[117] أخرجه مسلم: 13/249 رقم: 4897
[118] سورة الأحزاب: ٢١
[119] أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (3/290 رقم: 1246) وانظر كنز العمال: 3/732 رقم: 8602
[120] أخرجه ابن عساكر في تاريخه (5/34) وانظر جامع الأحاديث للسيوطي: 30/361 رقم: 33356، وكنز العمال: 3/732 رقم: 8603
[121] سورة القصص: ٨٢
[122] سورة النساء: ٥
[123] أخرجه البخاري (5/84 رقم: 4015) ومسلم (4/2273 رقم: 2961)
[124] أخرجه مسلم (4/2215 رقم: 2889)
[125] أخرجه أحمد (28/154 رقم: 16957) قال الهيثمي: رجال أحمد رجال الصحيح (مجمع الزوائد: 2/449)
[126] أخرجه الحاكم (4/354 رقم: 7895) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وتعقبه الذهبي بقوله: “فيه من الضعفاء محمد بن أشرس السلمي، وغيره”. (مختصر تلخيص الذهبي: 6/3009 رقم: 1016)
[127] أخرجه البخاري (3/82 رقم: 2222) ومسلم (1/135 رقم: 155)
[128] أخرجه مسلم (4/2235 رقم: 2914)
[129] أخرجه أحمد (18/39 رقم: 11456) صححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (2/1355 رقم: 8153)
[130] أخرجه الترمذي (4/647 رقم: 6476) وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
[131] أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (12/536)
جزاكم الله خيرا