آفاق المستقبل

تصحيح مفاهيم وتكوين رؤى

مستقبل الإسلام وإسلام المستقبل

th

“مستقبل الإسلام وإسلام المستقبل”* هي مقالة كتبها الأستاذ الدكتور أحمد الريسوني الفقيه الأصولي المقاصدي المعروف. كتبها قبل أكثر من أربع سنوات، وكانت مقالة مهمة مفيدة في حينها، وقد أثارت كثيرا من المواضيع المفصلية التي تهم المسلمين وغير المسلمين. وقصدي في هذه المقالة ليس إعادة ذات الأفكار والمعاني، ولكن بما أن للموضوع بعده الزمني المتحرك ولقضاياه تفاصيلُه المتغيرة فإن لتكرار الموضوع أهمية دائمة حسب المعطيات الواقعية المتجددة مع عدم إهمال أسسه الثابتة.

و”مستقبل الإسلام” موضوع قديم وجديد، قديم لأن القرآن أخبر مسبقا عن مصير هذا الدين إلى قيام الساعة، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم أطلعتنا على الأمور التي ستقع بعد وفاته صلى الله عليه وسلم إلى يوم الحساب، وهو جديد لأن مستقبل هذا الدين بالنسبة لمسلمي هذا العصر غير مستقبله لمسلمي الزمن الماضي أو لمسلمي الزمن القادم، فهو موضوع متجدد يحتاج إلى إعادة البحث فيه.

أما عن “إسلام المستقبل” فهو أيضا يتجدد بتجدد عوامل الزمان، إلا أن الإسلام بمعنى الدين الذي أنزله الله تعالى على عبده محمد صلى الله عليه وسلم لا يتغير ولا يتبدل، فهو دين ثابتة أصوله كاملة أجزاؤه. وهذه حقيقة لا تقبل المساومة ولا المراء قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}[1] وقال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}[2] فالإسلام بهذا المعنى لا يتغير في الماضي ولا في الحاضر ولا في المستقبل. وهو الإسلام المطلق غير المنسوب إلى شيء آخر غير مُنزِله سبحانه.

أما الإسلام المنسوب إلى الخلق كإسلام فلان وإسلام علان فهو موضوع متغير، ويحتاج إلى بحث وإلى التحقق من موافقته أو مغايرته أو مقاربته للإسلام الأصلي الذي أنزله الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم. ومن هنا يأتي البحث عن الإسلام المنسوب إلى زمن معين له أهميته وضرورته، هل الإسلام الذي قام به جيل من الأجيال هو نفسه الإسلام الذي قام به آخرون في زمن آخر ومكان آخر؟ سواء كان ذلك على مستوى الفهم أو مستوى التطبيق.

مستقبل الإسلام بين البشارة والنذارة

أما عن مستقبل الإسلام فأمامنا نوعان من النصوص والأخبار، نوع يبشر بظهور الإسلام وقوته وحفظه إلى يوم القيامة، ونوع يحذر ويخوف من حدوث الفتن والاضطرابات والانحرافات الواقعة والوشيكة.

وأما النصوص التي تبشر بمستقبل مشرق لهذا الدين فكقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}[3]

وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}[4]

وقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا}[5]

وقال تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}[6]

وكقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها.”[7]

وقال صلى الله عليه وسلم: “لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلَا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ، بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ وَذُلًّا يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ.”[8]

وقال عليه الصلاة والسلام: “بشر أمتي بالسناء والرفعة والتمكين في البلاد ما لم يطلبوا الدنيا بعمل الآخرة ، فمن طلب الدنيا بعمل الآخرة لم يكن له في الآخرة من نصيب.”[9]

وقد بشر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة لن يغيب عنها أناس قائمون على الحق منصورون، قال صلى الله عليه وسلم: قال: “لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون.”[10]

وأخبرنا بأن الله سيبعث لهذه الأمة من يعيد لها حيوية وأصالة دينها متجددة بين فترة وأخرى، عن أبي هريرة فيما أعلم عن رسول الله  صلى الله عليه وسلم  قال: “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها.”[11]

وأخبرنا عليه الصلاة والسلام أن نظام الحكم الراشد سيرجع مهما طال الغياب، عن حذيفة قال قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم: “تكون النبوة ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة  فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكا عاضا فيكون ما شاء الله أن يكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا جبريا فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة.”[12]

وهذه الأخبار كلها تبشرنا بأن مستقبل هذا الدين بخير، وأن خيرية هذه الأمة مستمرة … ولكن بجانب هذه الأخبار الصحيحة المبشرة, هناك نصوص أخرى أيضا تخبرنا بأن هذه الأمة مقبلة على فتن حالكة محيرة هائجة مائجة، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “سَتَكُونُ فِتَنٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنْ السَّاعِي، وَمَنْ يُشْرِفْ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ وَمَنْ وَجَدَ مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ.”[13]

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا.”[14]

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتُ، يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ. قِيلَ: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟ قَالَ: الرَّجُلُ التَّافِهُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ.[15]

عن زينب بنت جحش رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزعا، يقول: “لا إله إلا الله، ويل للعرب، من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه.” وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها. قالت زينب بنت جحش: فقلت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: “نعم إذا كثر الخبث”.[16]

وهكذا فإن الأحاديث عن الفتن وأشراط كثيرة، كما أن النصوص التي تبشر بخير في المستقبل أيضا غير قليلة. فبذلك يتكون أمامنا صورتان متقابلتان، صورة الأمة التي ستقبل على خير قادم في المستقبل وصورة أخرى تكشف المخاطر والمصائب القادمة علينا بشكل مخيف. فكيف نجمع بين هذه النصوص التي تبدو متعارضة؟

الحقائق لا تتركب من أخبار مفردة

إن فهم الأخبار إنما هو جزء من تصور الواقع، ولن تستطيع الألفاظ أن تصور الواقع كاملا، وهذا أمر معروف يعرفه كل العقلاء. فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: “لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ.”[17]

فالخبر الواحد – مهما كان- لا يمكن أن يغطي كل الحقائق، فمن أراد الحقائق كاملة فإنه يحتاج إلى جمع الأخبار ودراستها دراسة عميقة. لذلك كان العلماء لا يكتفون برواية واحدة للحكم على الحديث، وكانوا يسعون إلى جمع الروايات وتوفيق النصوص حتى يصلوا إلى معرفة الحديث.

قال الإمام أحمد: “الحديث إذا لم تجمع طرقه لم تفهمه، والحديث يفسر بعضه بعضاً”.[18]

وقال يحيى بن معين : “لو لم نكتب الحديث من ثلاثين وجهاً ما عقلناه”.[19]

وقال علي بن المديني: “الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطأه.”[20]

فكذلك في فهم الأحاديث عن الفتن وأشراط الساعة فإن الأحاديث كلها تعبر عن الحقائق من زوايا مختلفة، والحياة لا تتكون من صورة واحدة، بل هي صور متنوعة ومتركبة لتكوّن شكلها الكامل. فإن قصة النجاح مثلا تسبقها قصة المعاناة والصبر والتحمل والصعاب، ووقائع الشر تبرز من بينها بطولات الخير ونماذج الجلد والشجاعة وأنماط حكمة الرجال وهكذا.

وهكذا مسيرة هذه الأمة، هي أمة مباركة يبعث الله لها علماء مجدّدين مجاهدين، وما تجديد الدين إلا بعد طمس معالم الحق عن الناس وبعد بروز كثير من البدع المشوهة لنصاعة الدين. وكذلك ظهور طائفة منصورة في الأمة فإنهم لم يظهروا ولم ينتصروا إلا بعد طلوع قوى الشر تناوئهم وتقاومهم، فينصرهم الله بعد قدر كبير من تجرع الصعوبات واقتحام المخاطر.

وانتشار الإسلام في العالم أجمع كذلك لا يتم بخارقة إلهية، بل سيأتي وفق سنة الله في الكون، بجهود بشرية وعوامل طبيعية وأعمال متراكمة دؤوب.

فهم الأخبار وفق سنن الحياة

إن الحياة الدنيا تسير وفق سنة الله التي لا تتبدل ولا تتغير، قال تعالى: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا}[21] ولا يصح فهم الأخبار الواردة في مستقبل الأمة إلا وفق فهمنا لسنة الله. فالحياة من أيام ابينا آدم عليه السلام إلى قيام الساعة ما هي إلا عبارة عن اختبار البشر، قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}[22] وقال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}[23]

ومن شأن الاختبار والابتلاء أن يكون فيه عنصر الصعوبة والمخاطرة، وأن يختلط فيه الخير والشر، قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}[24] وهكذا تكون عملية الفرز بين الخبيث والطيب والصالح والطالح.

وتكون حياة المسلمين في الدنيا ليست خيرا خالصا ولا شرا محضا، وليست انتصارا دائما ولا هزيمة مستمرة، {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}[25]

فالأمة ستمر بقترات الضعف وستتعرض لفتن كثيرة، وسينصر الله أهل الحق منهم، وسيظهر الله دينه الحق على سائر الأديان، وهكذا دائما، وقد ضرب الله مثلا ثابتا لهذه الحقيقة المستقرة، قال تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ}[26].

ضرورة مراعاة قانون السببية

كما أن الله أيضا جعل هذه الحياة مبنية على قانون ثابت لا يتخلف، قانون يحكم كل الأحداث ويحدد جميع الأمور ويسيّر مصائر الأشياء، وهو قانون السببية. فكل النتائج في الكون لا تأتي إلا بمقدماتها، ولا يتم أمر من الأمور إلا بأسبابه.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “فليس في الدنيا والآخرة شيء إلا بسبب، والله خالق الأسباب والمسببات.”[27]

وقال ابن القيم: إن القرآن مملوء من ترتيب الأحكام الكونية والشرعية والثواب العقاب على الأسباب بطرق متنوعة، فيأتي بباء السببية تارة كقوله تعالى: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ)[28]، ويأتي باللام تارة كقوله تعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ)[29]، ويأتي بذكر الوصف المقتضي للحكم تارة كقوله تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً)[30]،[31] فالله تعالى اقتضت حكمته ربط المسببات بأسبابها.[32]

إن أخبار عودة الخلافة والانتصار على اليهود وفتح روما وظهور المهدي كل هذه الأخبار التي وردت عن الرسول صلى الله عليه وسلم بأسانيد صحيحة لا تعني أنها أحداث غريبة خارجة عن سنن الحياة خارقة للعادة، إنما هي نتائج جهود قام بها المسلمون حتى يصلوا إلى مواقع القوة ومقومات الحضارة. لن يسود الإسلام العالم إلا بجهود دعاة مخلصين مقتدرين الذين استطاعوا أن يصلوا إلى قلوب الناس وعقولهم، فيدخل الناس في دين الله أفواجا، ولن يعود نظام الحكم الإسلامي الراشد إلا بعد جهود متراكمة لإزالة الظلم السياسي وبلورة النظام السياسي الجديد الذي انطلق من مبادئ الإسلام الأصيلة، وهو تركيب متكون من النضج العلمي والرقي الثقافي والاستقرار الاجتماعي. وكذلك تمكن المسلمين من فتح روما لا يحصل إلا مع زوال هذه الفجوة الكبيرة في موازين القوى بين المسلمين وخصومهم.

فتحول وضع المسلمين من حالة الضعف الراهن إلى موقع القوة الموعودة لا يحصل إلا وفق هذا القانون الرباني الكبير: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}[33]

وهذا القانون العظيم يعني مسؤولية الأمة في تحديد مسارها وتصحيح أحوالها، فتلك الأخبار المبشرة ليست أفيونا يخدر إرادة الناس ولا “حلويات” يتسلى ويلتهي بها الناس عن واقعهم المزري ولا هي قرار الإعفاء عن واجب العمل ومسؤولية التغيير.

إن هذا القانون القرآني لا يجعل تصديقنا لآيات القرآن وأحاديث الرسول حكايات وقصصا تملأ بها الأفواه وتصدع بها المنابر دون تحرك فعلي للواقع وتغيير حقيقي للتفكير والسلوكيات.

لما نسمع قول الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[34] ثم نربطه بهذا القانون نعرف أن تلك البركات الموعودة لأهل التقوى والإيمان نحصلها بالسعي المناسب والمحقق للنتيجة المرجوة، وليس بالخيال والأماني الفارغة.

ثم العلاقة بين “تغيير ما بالأنفس” و”تغيير ما بقوم” هي علاقة بين نقطة البداية وبين النتيجة، فالبداية تبدأ من داخل الأنفس من المعتقدات والقناعات والأفكار والثقافات والمعارف، وتغيير هذه الأمور داخل النفوس والعقول هي التي تحرك الإنسان نحو وضع مختلف.

هذه معادلة قرآنية جعلها ابن خلدون أساسا لتفسيره لتواريخ الأمم ومسارات الدول، وكان يكشف أنماط الحركات التاريخية، وقد توصل بها إلى ما لم يتوصل إليه من قبله، إلا أننا لا بد أن ننطلق مما بناه ابن خلدون لا أن نقف عنده ونجمد عليه.

كان ابن خلدون يرصد عوامل صعود دول وسقوط أخرى، وكان أكثر ما يعتمد عليه نظريته بما يسمى بـ”العصبية” يعني بها قوة الأواصر والتماسك القبلي الذي أدى إلى تفوق قبيلة على أخرى كأساس نهضة للدول، وتلك هي الظواهر المتكررة في عصره وقبل عصره من قيام دول كثيرة قائمة على تسلط قبائل على أخرى، ولكن لنا معطيات كثيرة غير العصبية في عوامل نهوض الدول والحضارات، فإن النهضة الفكرية والعاطفة الإيمانية والرشد الديني والتفوق المعرفي ونجاعة الرؤية الاقتصادية … إلخ كلها عوامل مهمة أكثر تأثيرا من العصبية.

وبذلك نحتاج إلى تحديد الأمور التي تغير مسار الحياة لتتجه إلى تكون مستقبل مشرق رائق.

إسلام المستقبل إسلام التقدم الحضاري

إن الصورة النمطية التي صاغها واقع المسلمين اليوم ليست هي الصورة الصحيحة للإسلام الذي دعا إليه القرآن ولا هي التي قدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم. والإسلام ليس مسؤولا عن تخلف المسلمين ولا عن ضعفهم ولا جهلهم ولا تشتتهم ولا سوء أخلاقهم. إن صور التخلف والمظاهر السلبية التي طبعت حياة المسلمين العامة اليوم ما هي نتائج مخالفتهم وتخلفهم عن المستوى المطلوب من التدين الصحيح الذي دعا إليه القرآن والسنة وقام به صدر هذه الأمة.

وإسلام جيل المستقبل الذي يعز الله بهم الدين بطبيعة الحال ليس هو إسلامنا المشاهد الآن الذي لا يحظى باحترام الأمم ولا يؤدي إلى صلاح الناس ولا يدفع إلى التقدم الحضاري. واسلام المستقبل سيقوم به جيل العزة والعلم والأخلاق والقوة والنظام، وليس جيل الوهن والجهل والفظاظة والفوضى، فقد تكفل الله سبحانه وتعالى بأنه يدخر لهذا الدين جيلا من المؤمنين الأقوياء، قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.[35]

قال ابن كثير رحمه الله: يقول تعالى مخبرا عن قدرته العظيمة أنه من تولى عن نصرة دينه وإقامة شريعته فإن الله يستبدل به من هو خير لها منه وأشد منعة وأقوم سبيلا، كما قال تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ}[36] وقال تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ}[37] أي بممتنع ولا صعب.[38]

وقد تكرر مثل هذا الوعيد في القرآن مرات عدة، قال تعالى في سورة النساء {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا}[39] وقال في سورة إبراهيم: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ . وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ}[40] وقال في سورة الأنعام: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِين}[41]

وليس بضروري أن تكون الردة التي توجب استبدال قوم مكان قوم هي الردة الكلية بأن يرتدوا عن الإسلام كلية ليدخلوا في الكفر الصراح، قد تكون ردة جزئية بأن يفرطوا في قدر كبير من الدين بحيث لا يبقى لإسلامهم معنى ولا لانتسابهم له قيمة، فقد فرط المسلمون في واجب التعلم والتعليم وفرطوا في وحدة الأمة وفرطوا إعداد القوة وفرطوا في إقامة العدل وفرطوا في مقاومة الظلم وفرطوا في بناء النظام … والقائمة تطول جدا.

وإسلام المستقبل الذي يظهر الله به الدين والإسلام الذي يأتي به مسلمون جدد أبرز صفاتهم:

  • يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ﭼ  أي يحبون الله حبا صادقا فيحبهم الله حبا يستوجب النصر والتوفيق ويجلب البركة،
  • ﭽ  أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ﭼ أي يخفضون جناحهم للمؤمنين، ويقدرون قيمة إخوانهم في الدين، ويسعون إلى الوحدة ويحافظون عليها، ويتسامحون في الخلافات الجزئية، ويلتزمون بالشورى التي توصلهم إلى رأي مشترك،
  • أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَﭼ أي يثقون بأنفسهم ولا يذلون أمام أعدائهم، لا تدفعهم العزة إلى الظلم، ولا تغرهم القوة للتجبر، ولا يخضعون لضغوط خارجية، بل لهم استقلالية في قراراتهم وأسبقية قي خطواتهم،
  • يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِﭼ أي يجاهدون في سبيل الله جهادا شاملا متكاملا، جهادا ينصرون به الدين والمظلومين، ويحققون به الاستقرار ومصالح المسلمين، ويجتهدون في بناء حضارتهم اجتهادا جادا، لا يستسلمون للصعوبات، ولا يخافون من التحديات،
  • وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍﭼ أي ينتصرون للحق الصراح، لا يثنيهم عن ذلك هيبة المخالفين ولا كثرة المناوئين.

فهؤلاء يأتون بإسلام صحيح نظيف ناصع، وهو الإسلام المبني على العلم والوعي وليس على التقليد والجهل المتوارث، وهو الإسلام الداعي إلى عمارة الأرض لا الداعي إلى تخريب الدنيا، الإسلام القائم على التوحيد الخالص لا المشوب بالشرك والبدع، الإسلام القادر على بناء الوحدة والتماسك المجتمعي لا الداعي إلى التفرقة والتشتت الاجتماعي، الإسلام الدافع إلى الإنتاج والإبداع لا المقعد ولا المقنع بموقع الاستهلاك والتقليد والتبعية، الإسلام الذي قدم الحلول لمشكلات العالم وليس ذلك الذي يغرق الناس  في الإشكالات والأزمات ولا يخرجهم منها، وذلك هو الإسلام الذي يخرج الناس من الظلمات إلى النور.

والله الموفق إلى سواء السبيل.

* قدمت بجامعة الإيمان في الندوة التي عقدها اتحاد الطلبة الإندونيسيين باليمن

[1] سورة المائدة: ٣

[2] سورة آل عمران: ١٩

[3] سورة الأنبياء: ١٠٥

[4]سورة التوبة: ٣٣

[5] سورة النور: ٥٥

[6] سورة القصص: ٥

[7] أخرجه مسلم (14/68 رقم: 5144)

[8] أخرجه أحمد (34/308 رقم: 16344) وقال الهيثمي: رجال أحمد رجال الصحيح (مجمع الزوائد: 6/14 رقم: 9807)

[9] أخرجه الحاكم في المستدرك (18/268 رقم: 8009) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وأقره الذهبي.

[10] أخرجه البخاري (6/2667 رقم 7881) ومسلم (3/1523 رقم 1921،1922) بلفظ: “لن يزال قوم من أمتي”

[11] أخرجه أبو داود (4/109 رقم 4291) والحاكم (4/568 رقم 8593) والطبراني في الأوسط (6/324 رقم 6527) وقال العجلوني: رواه ابو داود عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخرجه الطبراني في الأوسط عنه أيضا بسند رجاله ثقات وأخرجه الحاكم من حديث ابن وهب وصححه وقد اعتمد الأئمة هذا الحديث (كشف الخفا 1/282).

[12] أخرجه أحمد (4/273) والبزار (7/224 رقم 2796) قال الهيثمي: رواه أحمد في ترجمة النعمان والبزار أتم منه والطبراني ببعضه في الأوسط ورجاله ثقات (مجمع الزوائد 5/189)

[13] أخرجه البخاري (11/435 رقم: 3334) ومسلم (14/58 رقم: 5136)

[14]أخرجه مسلم (1/297 رقم: 169)

[15] أخرجه أحمد (26/369 رقم: 12822) وابن ماجه (12/44 رقم: 4026) وقال الحافظ ابن حجر: إسناده جيد (فتح الباري 13/84)

[16] أخرجه البخاري (3/1221 رقم 3168، 3/1317 رقم 3403، 6/2689 رقم 6650، 6/2609 رقم 6716) ومسلم (4/2207 رقم 2880)

[17] أخرجه أحمد (4/277 رقم: 1745) وابن حبان (25/467 رقم: 6319) والحاكم (7/385 رقم: 3208) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وقال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط ورجاله ثقات (مجمع الزوائد: 1/153 رقم: 686)

[18]الخطيب البغدادي : الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ج2 ص212 .

[19] المصدر السابق

[20] مقدمة ابن الصلاح ص17

[21] سورة فاطر: ٤٣

[22] سورة الملك: ٢

[23] سورة الكهف: ٧

[24] سورة الأنبياء: ٣٥

[25] سورة آل عمران: ١٤٠

[26] سورة الرعد:17

[27] مجموع الفتاوى (8/70)

[28] سورة الحاقة:24

[29] سورة إبراهيم: 1

[30] سورة الطلاق: 2

[31] مدارج السالكين (3/498-499)

[32] مدارج السالكين (3/478)

[33] سورة الرعد: 11

[34] سورة الأعراف:96

[35] سورة المائدة:54

[36] سورة محمد: 38

[37] سورة إبراهيم: 19-20

[38] تفسير القرآن العظيم (2/70)

[39] سورة النساء: ١٣٣

[40]سورة إبراهيم: ١٩ – ٢٠

[41] سورة الأنعام: ١٣٣

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

معلومات

This entry was posted on 15 ماي 2014 by in مقالات.

الابحار

%d مدونون معجبون بهذه: