إن هذه السطور التي أعددتها في الأصل كمبحث من مباحث رسالة الدكتوراة بعنوان “مقاصد الشريعة ودورها في صياغة المستقبل” أفردتها لما فيها من حقائق هامة تفيد العامة والخاصة. وكنت سردت هذه الحقائق ردا على مقولة شائعة عن المؤرخ الألماني نيتشه[1] الذي قال: “إنه من السنن الأزلية أن يعيد التاريخ نفسه، كما تعيد الشمس كرتها من نقطة الانقلاب.” فكان مفتاحا لأن أتشرف بالعيش مع تاريخ الأنبياء ومسيرة الرسالات السماوية المتتابعة لأصِلَ إلى قمة الرسالات وخاتم المرسلين، لتكشف هذه السطور عن سر مسيرة تاريخ الأنبياء والرسل، وانجلى معنى كبير من خلال تتابع تلك المسيرة الطويل المباركة. لم أعتمد في هذا المبحث على مصدر غير القرآن وصحيح السنة وقد أنقل أقوال العلماء كتأكيد على ما أكده القرآن والسنة. فكانت رحلة ممتعة مع الحقائق الجلية التي لا يأتيها الباطل بين يديه ولا من خلفه.
“التاريخ يعيد نفسه”… مقولة شائعة ترسخت في أذهان كثير من الناس حتى لدى بعض المثقفين. إن لهذه المقولة جناحين، جناح مضيء ينير الطريق ويكشف الحقائق الكامنة، وجناح مظلم يضلل الناظر ويحجبه عن الجواهر الغالية. وهذا الجانب المظلم يحجبنا عن الرؤية المستقبلية الثاقبة ويمنعنا من التطلع المستقبلي الحر كما سنبينه في هذا المبحث بإذن الله.
من المعروف أن الأحداث المتشابهة عبر تاريخ البشرية تخبر لقارئه أنه ينطوي على دروس وعبر، وفي إدراك التجارب السابقة للأسلاف إضافة ثمينة لمخزون الخبرات المكتسبة. ثم إن السنن الإلهية تتحكم في مجريات الأمور وتتبين صورها الواقعية من خلال دراسة التاريخ. وتلك الفوائد يحويها الجناح المضيء لقانون “عودة التاريخ”.
إلا أن لهذه الكلمة إيحاء مضللا، قلما ينتبه الناس من شراكه. وهو تصوُّر أن الأحداث التاريخية لا تعدو أن تكون حقائق مكررة، وحوادث متماثلة، لا تنطوي على زيادة فائدة ولا تتجه إلى نوع من التكامل والترقي. يحسب البعض أن البشرية طوال تاريخها الطويل مُسيَّرة على قوالب ثابتة من المواقف والتصرفات وبالتالي فنتائج الأحداث لا تُكوِّن غير حقيقة واحدة يتيمة.
إن الخطورة لهذا التصور الثابت للتاريخ تكمن في إيحاء التقوقع في ذكريات الماضي والانكفاء على منجزات الأسلاف،…. بل والاستسلام لإيحاءات حقبة من التاريخ مظلمة!!
وثمة خطأ آخر في النظرة إلى التاريخ هو أن البعض دائما يقيسون الحاضر على الماضي دون التفطن للفوارق. وينتج عن هذا عدم الرغبة في إضافة جديد على خير البشرية ظنا منهم أن أفضل ما يقدمه الإنسان لتاريخه هو دغدغة ماضيه التليد دون أدنى قدر من الإثراء والإنماء.
وليس هذا الكلام مجابهة لجهد إحياء التراث النبيل ولا التنكر للانتماء التاريخي المجيد، بل هو العكس تماما، فإن الاعتزاز بالتاريخ المشرف وربط الحاضر بالماضي العظيم هو أرقى ما يحققه الإنسان وأسمى ما يخلفه جيل لجيل. إلا أن إحياء التراث لن تكتمل ولا تُعدّ إنجازا حقيقيا إذا لم يتم معها عملية التكامل التاريخي. إن بقاء التراث قابعا في باحات المتاحف مركونا في رفوف المكتبات لا ينفع حقيقة التقدم الإنساني، بل لابد من إفادتها كمادة تمد البشرية بطاقة تقدح الأفكار للاندفاع نحو الإبداع والتجديد، وتغذي النفوس بعلوم ومعارف تبعث على روح العطاء المتجدد.
إن حركة التاريخ ليست دائرية تعيد نهايتها إلى نقطة بدايتها كما كانت، بل هي حركة تراكمية فيها صعود ونزول، وانتشار وانكماش. تتشابه أجزاؤها حتى يخيل للناظر أنها إعادة أحداث، بل هي مظاهر الانضباط والانسياق وفق سنن الله الثابتة. نعم تتشابه صورها ولكن تتراكم نتائجها. ودور المصلحين -وأولهم الأنبياء والرسل- هو أن يكمل الآخر ما بدأه الأول، ويتم اللاحق ما تركه السابق.
وهذه الرؤية التكاملية للأدوار الحضارية عبر الأجيال ترجع جذورها إلى الأدوار التي قام بها الأنبياء والرسل وأتباعهم. وتدقيق النظر في تاريخ الأنبياء -كما صوَّره القرآن الكريم- يعطينا آفاقا مضيئة لهذا التكامل العظيم عبر تاريخ الشرائع وتتابع الرسالات.
يشهد لذلك ما رواه البخاري ومسلم عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلُ الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنى بَيْتًا فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ إِلاَّ مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ، وَيَعْجَبُونَ لَهُ، وَيَقُولُونَ: هَلاَّ وُضِعَتْ هذِهِ اللَّبِنَةُ فَأَنَا اللَّبِنَةُ، وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ.[2]
لقد شبّه الرسول صلى الله عليه وسلم تلك الجهود المباركة بالبناء الرصين الذي يدعو للإعجاب. ولم لا، فإنه تثميل للخطة الإلهية التي قام بها صفوة من البشر اختارهم الله، وهيأهم كلٌّ حسب زمانه وطبيعة قومه.
ولم يكن بعث نبي بعد آخر مجرد تكرار لجهود متشابهة لا تمايز بينها بقدر ما هو بناء متكامل لجهود متراكمة يبني اللاحق على ما أنجزه السابق، إلى أن يكتمل البناء ويستوي على سوقه ببعث خاتم النبيين محمد عليه وعلى جميع الأنبياء أفضل الصلاة وأتم التسليم.
إن المتأمل للأدوار التي قام بها الأنبياء والرسل يجد أن تعاقب الرسل يشكّل حلقات مترابطة ومتسلسة تتجه إلى بناء موحد رصين أراده الخالق عبر تلك الشرائع. رغم أن تعاليم العقيدة الإسلامية التي جاء بها جميع الأنبياء والرسل واحدة لا تتغير، والتوحيد الذي من أجله أرسل الرسل وبعث الأنبياء لا يختلف، إلا أن كل نبي شغل مع ذلك دوره الخاص بما يتناسب مع الوضع الحضاري والموقع التاريخي للقوم الذي بعث إليهم.
ومن خلال استقراء نصوص القرآن والسنة نعرف أن بعض الأنبياء جاؤوا متعاقبين أحيانا، أو مجتمعين في وقت واحد أحيانا أخرى. وكل نبي يستفيد من تجارب نبي آخر ويذكّر أمته بها، قال نبي الله هود: {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[3]وقال صالح: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}[4]وقال شعيب: {وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ}[5]وقال موسى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ}[6]
فهؤلاء الأنبياء جاؤوا متعاقبين: نوح ثم هود ثم صالح ثم لوط وشعيب. أما الذين بعثوا في عصر واحد: فإبراهيم مع لوط، وإسحاق مع إسماعيل، ويعقوب مع يوسف، وموسى مع هارون، وداود مع سليمان، وزكريا ويحيى مع عيسى.
إن الأنبياء والرسل كلهم يدعون إلى توحيد الله عز وجل والأخلاق الكريمة والحياة الحميدة، ولكن تميز كل نبي بما اختص به قومه آنذاك. فنوح عليه السلام كان يتميز بالصبر والمكث الطويل مع قومه لأنه كان يمثل أول تجربة لمواجهة الشرك المستشري في ذلك العصر. كما روى الطبري في تفسير قوله تعالى {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ}[7] بسنده عن ابن عباس قال: كان بين نوح وآدم عشرة قرون، كلهم على شريعة من الحق، فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين.[8] وقال قتادة وعكرمة: كان الناس من وقت آدم إلى مبعث نوح، وكان بينهما عشرة قرون، كلهم على شريعة واحدة من الحق والهدى، ثم اختلفوا في زمن نوح، فبعث اللّه إليهم نوحا فكان أول نبي بعث، ثم بعث بعده النبيّين.[9]
فكان نوح عليه السلام يطيل النفس وينوّع الأساليب ويكرر المحاولات إلى حد لا يرجى من قومه صلاح ولا توبة، فبعد محاولة طويلة مع قومه دامت 950 سنة، دعا الله بأن ينهي هذه المرحلة بهلاك هؤلاء القوم {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا . إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا}[10]وما كان ذلك بسبب عدم صبره عليه السلام، حاشاه، بل كان من أولي العزم من الرسل الذين أعطوا قوة تحمل فائقة، ولكن الله قد أوحى إليه أن قومه قد بلغ حدا لا تنفع معهم أية محاولة قال تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}[11]فكان ذلك الطوفان العظيم الذي يمثل نتيجة عادلة للعناد المستمر مع أطول محاولة للإصلاح العقدي.
ثم جاء دور هود عليه السلام، وهو مبعوث إلى قوم عاد الذين تميزوا ببسطة في الخلق[12]وعظمة في العمران،[13] فكان عندهم غرور شديد غير مسبوق فقالوا: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً}[14]فكان الجواب المناسب لهم مباشرة: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ}[15]وكان بالإمكان أن يجاب عليهم بذكر جملة من خلق الله كأمثال الجبال والبحار والسماء وغيرها، ولكن بلغ بهم الكبر إلى أن ينظروا إلى الخلق كلهم أنهم أقل منهم قوة وشأنا. ولم يبق عندهم حقيقة مقنعة غير قوة الله التي لا تليق أن تقارن بأي خلق من مخلوقاته، ومع ذلك لم يرعهم هذا إلى شيء من الإذعان.
وكان هود عليه السلام يقابل تلك القسوة والغلظة بنفس القدر من قوة اللهجة وجرأة التحدي، نلحظ ذلك خلال قوله تعالى: {قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ . إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ}[16]وأمام هذا التكبر الغريب والغرور العجيب لم يناسبهم غير ريح صرصر تأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
ثم جاء بعدهم ثمود فرأوا ما حل بعاد من الهلاك المدمر، فكان ثمود ألين من عاد. وكان خطاب نبي الله صالح ألطف من خطاب هود عليهما السلام. وقد ذكر صالح قومه بمصير عاد {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}[17]وكان صالح ذا مكانة مرموقة لدى قومه وحظي باحترام قومه لولا دعوته إلى توحيد الله {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا}[18]قال العلامة الشوكاني: {قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّا قَبْلَ هذا } أي : كنا نرجو أن تكون فينا سيداً مطاعاً ننتفع برأيك، ونسعد بسيادتك قبل هذا الذي أظهرته من ادّعائك النبوّة، ودعوتك إلى التوحيد.[19]
وكان مما تميز به خطاب نبي الله صالح تنويهه على دور عمارة الأرض المطلوبة من الإنسان {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ}[20]ومعنى “واستعمركم”[21] كما قال زيد بن أسلم: أمركم بعمارة ما تحتاجون إليه من بناء مساكن وحفر أنهار وغرس أشجار وغير ذلك. فالسين للطلب، وإلى هذا ذهب الكيا[22]، واستدل بالآية على أن عمارة الأرض واجبة .[23] وكانت لعمارة ثمود آثار باقية مشهودة إلى يومنا هذا، لتكون آية على عبثية العمران المنكر لله رب العالمين.
وكان من لطف نبي الله صالح أن استجاب لسؤال قومه إتيان دليل محسوس على صحة نبوته وصدق رسالته. إذ قالوا: {مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ}[24]وقد يكون بذلك أول نبي جاء بمعجزة مادية محسوسة ملموسة. ورغم وجود هذه الآية البينة المحسوسة الماثلة أمامهم لم يكن ثمود ليرعووا بل تحدّوا صالحا وعقروا الناقة وطلبوا العقوبة العاجلة من شدة عنادهم وعماية بصائرهم {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ . فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِين}.[25]
ثم جاء شعيب عليه السلام، وكان ما تميز به نبي الله شعيب يتمثل في ترشيده للتجّار ومحاربة الفساد الاقتصادي وخاصة في تدقيق الكيل والميزان. قال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيط}.[26]
والقدر المشترك بين هؤلاء الأنبياء من نوح إلى شعيب أن دعوتهم قوبلت بالتكذيب والإنكار إلا عند قلة من المؤمنين المستضعفين فانتهت بالبشرية إلى الهلاك العام شمل كل الخلق، ما عدا هؤلاء القلة. وهكذا كان شأن البشرية مع دعوة التوحيد … إلى أن جاء خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام، فغيّر مسار التاريخ، وأنقذ بني البشر من الهلاك المتكرر، وطوّر من خطاب الدعوة، فكانت تلك النقلة المباركة …
جاء إبراهيم عليه السلام فتى يافع مليء بالحيوية ومفعم بالشجاعة والحماسة، عقل كله ذكاء، وقلب كله عطف ونصح. خاطب أباه في غاية من اللطف والأدب والرفق: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا . يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا . يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا . يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا}[27]فواجهه أبوه برد قاسٍ لا يقبل المساومة {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا}[28]لكن خليل الرحمن ليس إنسانا عاديا، يرد السيئة بمثلها، يندفع لهوى النفس، بل كان قمة في الخلق وجبلا في الصبر، ما زادته قسوة الناس إلا حلما وشفقة {قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا . وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا}[29]وكان أشبه الأنبياء بالحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام خُلُقا وخَلقا، كما ثبت في الصحيحين، قال صلى الله عليه وسلم: وَرَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَأَنَا أَشْبَهُ وَلَدِهِ بِهِ.[30]
خاطب قومه بأسلوب حِواري شيّق يتميز بالعقلانية وقوة الحجة. وكان من روائع أسلوبه أن تدرّج مع قومه بالمنطق الذي كانوا يفكرون به حتى بلغ بهم المطاف إلى حقيقة التوحيد بمبدإ عقلي دامغ، كما نرى ذلك في سورة الأنعام.[31] وكان من ذكائه أن يستخدم دليلا عمليا ملموسا بعد أن انسد الإقناع بالدليل العقلي،[32] وكان تحطيمه للأصنام ليس تهورا نتج عن الحماس الزائد، بل كان أسلوبا عمليا إقناعيا وخطوة مدروسة محسوبة العواقب، وكان إبراهيم عليه السلام يستعد للمواقف الصعبة من أجل إظهار الحقيقة.
وبحكم نشأته في بلاد الرافدين – حيث المدنية المشهودة والحضارة المرموقة – اكتسب إبراهيم ثقافة وعلم أهل عصره، فكان فكره عميقا ومنطقه بليغا، فأفحم أهل زمانه بثقافته العالية وأسكتهم بحججه الدامغة، حتى وصل به الأمر إلى أن خاطب ملك العراق بنفسه، فكانت تلك البديهة الإبراهيمية لا تفارقه عليه الصلاة والسلام {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[33]
وعلى الرغم من كل ما قام به الخليل عليه الصلاة والسلام من دعوة منقطعة النظير إلا أن البشرية آنذاك ظلت على جهلها وأصرت على شركها بالله، وكاد مصير البشرية أن يلحق بالأمم قبلهم من الدمار الشامل والهلاك العام لولا دعوة إبراهيم: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[34]عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم، وكان حقا علينا وعلى كل البشر أن نصلي ونسلم عليه صباح مساء في كل الصلوات والخَلَوات والجَلَوات، فكان منقذا للبشر أجمع ومصححا لمسار تاريخ بني آدم قاطبة…
لم يستجب له قومه، بل حاولوا إحراقه، لولا أن أنجاه الله وجعل النار له بردا وسلاما.. فهجر قومه ذاهبا إلى الشام، فكان منطلقا عالميا لدعوة التوحيد، وكانت النبوة والرسالة لم تخرج من دائرة ذريته إلى يوم القيامة. وورثت ذريته شرف الإمامة الدينية بلا منازع، فصارت ملة إبراهيم قبلة كل مؤمن، وأصبح نهجه نموذجا يحتذى به إلى قيام الساعة. وشكّل إبراهيم قاموسا دعويا يرجع إليه كل من بعده، حتى أمر الله نبيه محمدا خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم باتباع نهجه: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.[35]
حرص سيدنا إبراهيم عليه السلام أن تبقى ذريته متمسكة بدين التوحيد قال تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُون}[36]وفعلًا تمسك أبناء إبراهيم وأبناء أبنائه بدين التوحيد وتواصوا عليه، قال الله في حق إسماعيل: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا}[37]وقال في إسحاق ويعقوب: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِين . وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ}[38]وقال على لسان يوسف: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ}.[39]
ثم كان يوسف عليه السلام، كانت بداية دعوته مع صاحبيه في السجن. فكان رغم معاناته داخل السجن يدعو إلى الله {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ . مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}.[40]
وهكذا كان ديدنه عليه السلام حتى وصل إلى سدة الحكم كوزير الخزانة المصرية، قال تعالى: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ . قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ . وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِين}[41]ويعتبر هذا أولى تجربة لأهل الإيمان في مزوالة المناصب العليا، مما رفع من شأن الدعوة إلى بلوغها الطبقة الحاكمة التي تقوم في الغالب ضد الدعوة الإيمانية.
وكان أثر هذا الموقع بقي طويلا إلى أن وصل صدى دعوته المباركة بعد موته بقرون إلى الأجيال المتلاحقة، كما ذكّر به مؤمن آل فرعون قومه أيام دعوة موسى، فقال مؤمن آل فرعون: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ}[42]فكانت تجربة متميزة في ممارسة الدعوة وإظهار التدين في ظل حكم دولة غالب أهلها مشركون.
وبعد بعثة إبراهيم عليه السلام توقفت تلك السلسلة من العذاب المدمر، واتسمت الدعوة بعد ذلك بالسماحة وطول البال، وطولب الأنبياء بعده بصبر أكثر وحتى عاتب الله نبي الله يونس على استعجاله في مفاصلة قومه.[43] وقد علم الله أن قوم يونس قد أوشكوا على التوبة، فلم يكونوا مصرين على كفرهم وعنادهم بعد أن تركهم يونس عليه السلام. وكان قوم يونس أول جماعة بشرية ذكرها القرآن تستجيب لدعوة الرسل بشكل جماعي، قال تعالى: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ}[44]
قال قتادة في تفسير هذه الآية: لم ينفع قرية كفرت ثم آمنت حين حضرها العذاب، فتركت، إلا قوم يونس، لما فقدوا نبيهم وظنوا أن العذاب قد دنا منهم، قذف الله في قلوبهم التوبة، ولبسوا المسوح، وفَرّقوا بين كل بهيمة وولدها ثم عَجّوا إلى الله أربعين ليلة. فلما عرف الله منهم الصدق من قلوبهم، والتوبة والندامة على ما مضى منهم كشف الله عنهم العذاب بعد أن تدلى عليهم. قال: وذكر أن قوم يونس كانوا بنينوى أرض الموصل.[45]
وهكذا بدأ تاريخ بني آدم يشهد تناميا واضحا في قبول دعوة الأنبياء.
ثم جاء دور موسى عليه السلام بطل المواقف الصعبة وزمر الشجاعة ورباطة الجأش، إن قصة موسى مثيرة في كل تفاصيله، وقد أعد الله مجيء موسى ليقوم بمهام صعبة تغير مجرى التاريخ. كان مجيئه في ظل الحضارة الفرعونية المتجبرة الظالمة. وكان على موسى أن يواجه تلك القوة الطاغية ليبلغ دعوة التوحيد أولا، ولينقذ بني إسرائيل من الاستعباد ثانيا، ثم قيادتهم وتربيتهم ليتأهلوا موقع الإمامة ثالثا. وكل واحد من هذه المهام الثلاث عمل شاق وأي مشقة. ولكن موسى عليه السلام ليس إنسانا من الطراز العادي، فإن الله قد أعده إعدادا خاصا، قال تعالى مخاطبا موسى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي}[46]ونشأته في قصر فرعون كانت تدبيرا مقصودا من عند الله ليرعاه الله رعاية خاصة، كما قال تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي}[47]
فقد تربى موسى تربية ملكية، ونشأ معززا مكرما كفرد مهم من الأسرة المالكة، فاكتسب خلق العزة وثقافة القيادة والريادة وتمكن من الاطلاع على سياسة الدولة. ولكن أصله الإبراهيمي ينزعه إلى الإيمان والإنصاف وعدم الرضى بالظلم، فانتصر للمظلوم مهما كان أصله، وقتل ظالما مصريا انتصارا لإسرائيلي مظلوم، فاضطر إلى الفرار خارج مصر. وعاش عيش البداوة القاسية فترة من حياته. وقد أكسبته هذه التجربة قوة التحمل ومعرفة طرائق العيش في البادية، وقد علم الله أنه سيقود قومه في مزوالة الحياة البدوية . واختار الله له زوجة منها لتُعينه على قسوة الحياة.
قابله الله مقابلة خاصة وكلّمه بدون ترجمان، ليعود إلى مصر بنفسية عالية وروحانية مرتفعة، فواجه أعتى ملوك الأرض بثبات. وبدأ بحوار يعتمد على المنطق ويرتكز على العلم والعقل: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى . قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى . قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى .قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى . الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى . كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى . مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى}[48] {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ . قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ . قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ . قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ . قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ . قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ}[49]ولم يأل موسى جهدا في تبيين الحقائق حتى استنفد كل ما يمكنه أن يقتنع به الإنسان {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى}[50]
والحقيقة أن فرعون كان يعرف صدق موسى وصحة ما جاء به ولكن منعته كبرياؤه وشيطانه عن اعتناق الحقيقة {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}[51]
وكانت لمصر ثقافتها العلمية المتقدمة لكن السيادة فيها للسحرة والكهنة، وليس بين العلم والكهانة والسحر فاصل آنذاك، فكان موسى عليه السلام مزوّدا بكل أنواع التفوق الذي يذعن له أهل زمانه. كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا أُعْطِيَ مَا مِثْلهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ.[52] ولما كان لأهل مصر آنذاك باع طويل في علوم السحر زود الله موسى بما يفوقهم فيما تبجحوا به من خارقة سحرية، فأعطاه الله العصى التي تتحول بإذن الله إلى ثعبان مبين، فواجه لعبة سحرية زائفة بقدرة خارقة حقيقية. فآمن به سحرة فرعون وقد عرفوا أن ما جاء به موسى ليس من قبيل السحر، وبحكم ثقافتهم ومعرفتهم بأسرار السحر وغاياته ميزوا بين السحر الزائف وبين ما هو حقيقي من عند الخالق العظيم، وبذلك نفذت دعوة موسى إلى الطبقة المثقفة المصرية، وإن كان رأس الدولة بقي مصرّا على جبروته مصمّما على محاربة موسى وأتباعه.
ثم كان ذلك التحول التاريخي حيث أمر الله موسى وقومه بمغادرة مصر، وأغرق فرعون ورجالاته في البحر الأحمر خلفهم. فبدأت حياة جديدة حرة متحررة من الطغيان الفرعوني، ليدخل بنوا إسرائيل مرحلة تحمل المسؤولية، بعد إنقاذهم من حياة العبودية فترة طويلة من تاريخهم. وكان ذلك “سيناريو” أعد الله لبني إسرائيل بقيادة موسى، ليري الله عباده حكمته ودقة تدبيره السابق: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ . وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ}[53]
وكان الدور المفترض لبني إسرائيل أن يسودوا الأرض بعد ذهاب فرعون، قال تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ}.[54]
إن نعمة التمكين ليست هدية يتسلى بها، أو مكرمة يلتهى بها، لكنها مسؤولية وتكليف. وإن نعمة الحرية لها تبعة، وكان على بني إسرائيل أن يتحملوها، فقد ميزهم بدين التوحيد، وبعث فيهم أنبياء، وأعطوا كتابا مقدسا منزلا من عند الله، وشاهدوا معجزات لم يتسن لغيرهم رؤيتها، فعليهم أن يحملوا راية الانتصار لهذا الدين، ويقاوموا قوى الظلم والطغيان {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِين}.[55]
كان على بني إسرائيل أن ينفّذوا مشروع سيادة الإيمان على الكفر، وقيادة الناس إلى التوحيد. فأُمِروا بالاستيلاء على الأرض المقدسة لتكون منطلق الدعوة الإلهية ومركز تطبيق الشريعة الربانية فانتكسوا وارتكسوا. إن مهمة قيادة الأمم تحتاج إلى روح الإقدام وقدر كبير من الشجاعة، ولم يكن شيء من ذلك لدى بني إسرائيل {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُون}[56]
لم تكن لديهم مؤهلات السيادة بل لم تزل “قابلية الاستعباد” راسخة في نفوسهم، وكانت اهتماماتهم سخيفة، لم يقدروا على ترك الثوم والبصل والبقل مقابل هدف سام ودور رائد، وقد وفر لهم الله غذاء جاهزا من المن والسلوى والعيون المتفجرة ماء زلالا… {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ}[57]
فضّلوا حياة الذلة مع البصل والثوم والبقل على احتمال شظف العيش من أجل الكرامة والعزة والحرية. فقد أفشلوا مشروع سيادة أهل الإيمان، لأن هذا الجيل الذي عاش في العبودية زمنا طويلا لم ينفض غبار الذل عن نفسه، ولم يكتسب خلق الاعتزاز بالدين وتحمل تبعة المسؤولية ولم تسخ نفوسهم لدفع ثمن الحرية.
ولكن ذلك بداية إعداد شعب جديد، لديهم رصيد طيب غطاه غبار النفس الأمارة بالسوء، فأرسل الله فيهم أنبياء يربيهم ويعلمهم السلوك الإنساني السوي. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمْ الْأَنْبِيَاءُ كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ.[58]
ومما يسر على بني إسرائيل مواصلة الطريق أن ترك موسى لهم التوراة يرجعون إليها ويحكمون بها، بالإضافة إلى وجود أنبياء يعيشون بينهم ويرشدونهم. {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}[59]
وهكذا عاش بنو إسرائيل في ظل شريعة موسى تحت قيادة أنبيائهم جيلا بعد جيل، إلى أن ارتقت نفوسهم واشتاقت إلى عيش الكرامة ووتاقت إلى حياة الأعزة الأحرار {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}[60]ولكن نبيهم في الحقيقة لم يلحظ منهم الاستعداد لخوض تبعات الجهاد، فسألهم:{قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}.[61]
ورغم تلكّؤهم في المسألة، وكان الدافع لديهم ليس دينيا بل دنيويا، مع ذلك سايرهم بأن اختار منهم رجلا يمتلك المقومات القيادية، لأن ظهور الرغبة منهم في القتال فرصة نادرة طال انتظارها. فاختير طالوت ملكا لهم لما فيه من الاستعداد العلمي والجسدي، وميدان القتال يتطلب تفوقا في هذين الأمرين. والعجب أنهم اعترضوا لهذا الاختيار الإلهي –كعادتهم المعروفة – ورأوا أن الفقير ليس له مكان في القيادة وأن المنصب مغنم يتسابق إليه الوجهاء ويتكالب عليه الأثرياء {قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[62]
وفعلاً أثبت طالوت جدارته في قيادة المعركة وقدر على اصطفاء عناصر صالحة لمواجهة عدو فاقهم في العدد والعدة والخبرة القتالية. وبذلك أضيف إلى قاموس الدعوة النبوية مصطلح مهم جديد وهو الجهاد في سبيل الله، ونصرة دين الله …
انتصرت القلة من بني إسرائيل على الكثرة من جيش جالوت. وبهذا الانتصار دخل بنو إسرائيل مرحلة أخرى جديدة، وبدأ مشروع السيادة الإيمانية في الأرض يرى النور ويتجه للظهور.
{فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ}[63]
فمن خلال أحداث المعركة ظهرت براعة داود وبطولته ليظهر بعد ذلك كشخصية قيادية جديدة يستلم مهمة إدارة مملكة أساسها الإيمان وغياتها التقوى وشعارها ذكر الله والتسبيح والتحميد. وهو قرار مكتوب في الزبور الكتاب المنزل على داود: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ . إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ}[64]
قامت مملكة داود عليه السلام – وهي التي تغنّى بها وحلم بها يهود اليوم، وكانت مملكة تقوم على الإيمان والطاعة، والاجتهاد في العبادة والذكر، وليست دولة التجبر والعنصرية والتطاول على عباد الله، قال تعالى: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ . إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ . وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ . وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ}[65]وكان الله يشدد على نبي الله داود ألا يتبع هواه في حكمه على الناس، وهو نبي مؤيد بالوحي قال تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ}[66]
وهذه الدولة لا تقوم إلا بإقامة العدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والعز فيها للمؤمن المستقيم على أمر الله، وأما الناكبون عن الطريق والناكرون للمعروف فعليهم اللعنة، {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ . كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ . تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ}[67]
ثم ورث ابنه سليمان عليه السلام هذا الملك المبارك والحكم الموفّق فكان نعم الوريث، {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ}[68]فبنى على ما تركه أبوه أمورا كثيرة، وحقق على يديه منجزات لا يبلغها غيره. وما يخصنا هنا هو ما يتعلق بتطور الرسالات السماوية بما يشهد أن مسيرة الإنسانية تتنامى مع ما فضل الله به من إنزال الشرائع وإرسال الأنبياء. فما فعله نبي الله سليمان كثير لكن أهم ما يضيفه إلى تاريخ الدعوة هو استغلال موقعه كملك بلاد الشام وما جاوره لدعوة ملكة سبأ إلى الإيمان بالله وتوحيده،[69] فتقدم به النمو المطرد في تاريخ دعوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وانطلق من المحور القومي ليرتقي إلى المحور الدولي الذي تجاوز الحدود الجغرافية والعرقية.
وبلغ من عظمة ملك سليمان أن سخر الله لهم الجن والطير والريح قال تعالى: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ}[70]وقال تعالى: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ . وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ . وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَاد}[71]
ومن تعاسة بني إسرائيل أن اعتبروا هذه المفخرة التي أعطيها سليمان طعنا له في عقيدته وقدحا له في استقامته، وهو نبي مؤيد بالوحي مسدد بأمر الله. لقد اتهم اليهود سليمان بممارسة السحر ورموه بالكفر بالله!! قال محمد بن إسحاق : لما ذَكر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سليمانَ في المرسلين قال بعض أحبارهم -يعني اليهود: يزعم محمد أن ابن داود كان نبياً! والله ما كان إلا ساحراً؛ فأنزل الله عز وجل : {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ولكن الشياطين كَفَرُواْ}[72] وكذبوا وكذبهم الله فقال: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ}[73]
وهذا هو شأن بني إسرائيل وديدنهم مع أنبيائهم، فكان القضاء العدل عليهم أن يبقوا في الذلة والتشتت، قال تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}[74]قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ . وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[75]
انتهى ذلك المشروع السيادي الإيماني وانقسمت دولة اليهود بعد موت سليمان عليه السلام، وتفرق اليهود شذر مذر، وسلط الله عليهم من يسومهم سوء العذاب، سلط عليهم ملك بابل ثم سلط عليهم ملوك الروم، وهكذا، وذلك لإنكارهم أنبيائهم وقتلهم لهم، وكفرهم بالله وقد تكرر ذلك أيام موسى وتفاقم بعد ذلك باستمرار حتى استحقوا ذلك المصير الأليم…
بعث الله عيسى كآخر فرصة لبني إسرائيل، لأن يعودوا إلى رشدهم ويقدروا أنبياءهم. وكان مجيء عيسى على هيئة عجيبة ليعلم اليهود أنه ليس إنسانا عاديا بل كان معجزة إلهية، إنه كلمة من الله ألقاها إلى مريم وروح منه، وقد هيأ الله قبل مجيء عيسى ظواهر مشابهة ليستعدوا مشاهدة مثل هذا الأمر. وكان مولد مريم آية ونشأتها آية ومولد يحيى آية وحياته آية. وكان عيسى مستجاب الدعوة وقد أجرى الله عليه يديه آيات كثيرة، لم ينفعهم كل ذلك بل رموه ورموا أمه الزكية بأبشع التهم، وعادوه إلى أن رفعه الله وظنوا أنهم نجحوا في قتله وصلبه {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ}[76]
قال تعالى على لسان عيسى عليه السلام: {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين}[77]
كان عيسى عليه السلام مبعوثا إلى بني إسرائيل خاصة، ولكن كان أكثر المستجيبين له من غير اليهود، بل كان اليهود أول من عاداه وهم الذين تآمروا عليه، وهذا بدوره يؤكد انتهاء صلاحية بني إسرائيل لتحمل الرسالات، فكان الأنسب أن تنقل هذه المهمة إلى أقوام آخرين. فلم تعد إليهم النبوة أبدا.
وكان عيسى عليه السلام يسيح في الأرض ليبلغ الناس دعوة التوحيد، وكانت معجزاته أمورا خارقة تفوق إمكانية البشر، وكان عصرا انتشر فيه الطب، إلا أن علم الطب آنذاك عاجز عن اكتشاف دواء للبرص والعمى، فأظهر الله على يديه أمورا تدل على أنه إنسان مؤيد من عند الله، والملاحظ أنه عليه السلام لم يكثر من الحجاج العقلي كما فعله إبراهيم وموسى، لأنه كان أكثر ما يتجه إلى البسطاء من الناس، وكان عصر عيسى لم يزدهر فيه العمل العقلي مثلما كان في عهد إبراهيم وموسى. وكان الشام الذي تحرك في أرجائه المسيح عليه السلام تحت حكم الرومان الذين كان شغلهم الشاغل بسط السيطرة وإذلال الشعوب والتباري على القوة الجسدية، فكان عيسى يصب جهوده وكلامه على تصفية الروح والتزهيد في الدنيا مقابل تلك المغالاة في تأليه المادة وعبودية الجسد.
فكانت رسالة عيسى عليه السلام عنوانا بارزا في ترسيخ العقيدة وتهذيب الأخلاق، فقد أثر ذلك على طبع أتباعه بعده فكان يغلب عليهم الرقة والرأفة والرحمة، قال تعالى: {وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ}[78]
وكان من آثار دعوته أن ظهرت صفة الرحمة لدى الروم الذين عاصروا صحابة رسول الله صلى عليه وسلم، حتى قال عمرو في حق الروم: إِنَّ فِيهِمْ لَخِصَالًا أَرْبَعًا إِنَّهُمْ لَأَحْلَمُ النَّاسِ عِنْدَ فِتْنَةٍ وَأَسْرَعُهُمْ إِفَاقَةً بَعْدَ مُصِيبَةٍ وَأَوْشَكُهُمْ كَرَّةً بَعْدَ فَرَّةٍ وَخَيْرُهُمْ لِمِسْكِينٍ وَيَتِيمٍ وَضَعِيفٍ وَخَامِسَةٌ حَسَنَةٌ جَمِيلَةٌ وَأَمْنَعُهُمْ مِنْ ظُلْمِ الْمُلُوكِ.[79] وفي رواية: إِنَّهُمْ لَأَحْلَمُ النَّاسِ عِنْدَ فِتْنَةٍ وَأَجْبَرُ النَّاسِ عِنْدَ مُصِيبَةٍ وَخَيْرُ النَّاسِ لِمَسَاكِينِهِمْ وَضُعَفَائِهِمْ.[80]
ومن آثار دعوته أيضا أن يكون النصارى أقرب الناس إلى الإسلام في الغالب، قال تعالى: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ}.[81]
وكان عليه السلام يبشر أتباعه بنبيّ من بعده اسمه أحمد، فكانت رسالته جسرا ممتدا ليصل بالبشرية إلى دخول مرحلة خاتم الرسالات ونهاية النبوات .
ثم كان من اجتهاد الحواريين بعد مغادرة عيسى لهم أن انتشروا في الآفاق، ونشروا دعوة التوحيد، ومن توفيق الله لهم أن أقبل عليهم الناس، فاعتنق دين المسيح ابن مريم شعوب كثيرة في شتى بقاع الأرض… وصدق الله وعده {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ}.[82]
انتشر دين المسيح خاصة في ظل حكم الرومان الذين كانوا على دين الشرك، فكان أتباع المسيح مستضعفين، ودعاة هذا الدين مطاردون، فلم يتمكنوا من جمع تعاليم عيسى بشكل دقيق، ولم يحفظوا الإنجيل الذي جاء به عيسى، وكان الذي في مكنتهم هو أن يتذكروا رحلاتهم مع عيسى عليه السلام وبعض أقواله ومواقفه، وهذا النقص المنهجي جعل من دين المسيح الذي دعا إلى التوحيد يسهل عليه التحريف لأنه لم يوجد فيهم حفظة، ولم يسرعوا إلى تدوين تعاليم عيسى، ولم ينسخوا الإنجيل الذي أنزل معه. ومما زاد الطين بلة أنه لما تراءى للقسطنطين ملك الروم أن يعتنق المسيحية أجبر علماءهم على تحريف دين التوحيد إلى عقيدة التثليث وفقا لهواه، وقتل وعذب كل من ثبت على التوحيد. وكان القتال بين طوائف المسيحيين ناشبا لا ينطفئ {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}[83]
أضف إلى كل ذلك الفساد المالي المتفاقم في مؤسساتهم الدينية ورجال دينهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}[84]
بعد أن انحرفت المسيحية عن خط التوحيد وتحولت إلى دين يؤلّه المخلوق، وزد إلى ذلك اختلاطها بالخرافات والأساطير البالية واختلاف أهلها إلى فرق شتى وتقاتل بعضها ضد بعض، فكانت البشرية أحوج ما تكون إلى بعث جديد يصحح مسارها ويسدد طريقها وينهض بها إلى مراقي الكرامة الإنسانية بل ويتوج بها لتكتمل مسيرة الحضارة الإنسانية برسالة خاتمة يتم الله بها نعمته على بني آدم.
جاءت بعثة خاتم النبيين محمد عليه الصلاة والسلام بعد مسيرة طويلة من تظافر جهود الأنبياء عليهم الصلاة والسلام شملت 124 ألف نبي وثلاثمائة وبضعة عشر رسولا، كما روي عن أبي ذر مرفوعا رضي الله عنه قَالَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمْ وَفَّى عِدَّةُ الْأَنْبِيَاءِ؟ قَالَ: مِائَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا، الرُّسُلُ مِنْ ذَلِكَ ثَلَاثُ مِائَةٍ وَخَمْسَةَ عَشَرَ جَمًّا غَفِيرًا.[85] وفي رواية: فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمِ النَّبِيُّونَ؟ قَالَ : مِائَةُ أَلْفِ نَبِىٍّ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفِ نَبِىٍّ. قُلْتُ : كَمِ الْمُرْسَلُونَ مِنْهُمْ؟ قَالَ : ثَلاَثُمِائَةٍ وَثَلاَثَةَ عَشَرَ.[86]
تظافرت تلك الجهود المباركة وتراكمت وتكاملت لتضع في الأخير اللبنة المباركة التي أكملت البناء القيمي الإنساني على يد النبي الأمي محمد عليه الصلاة والسلام. وتميزت هذه الرسالة الخاتمة بخصائص تجعلها قادرة على شق طريق صاعدة تأخذ بأيدي البشرية إلى أفق كمالها الحضاري وقمة تمثلها الواقعي. وقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم بعضا من هذه الميزات:
عن جَابِر بْن عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِي الْمَغَانِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً.[87]
وفي رواية عند الإمام أحمد: عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ غَزْوَةِ تَبُوكَ قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يُصَلِّي فَاجْتَمَعَ وَرَاءَهُ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يَحْرُسُونَهُ حَتَّى إِذَا صَلَّى وَانْصَرَفَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ لَهُمْ: لَقَدْ أُعْطِيتُ اللَّيْلَةَ خَمْسًا مَا أُعْطِيَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: أَمَّا أَنَا فَأُرْسِلْتُ إِلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ عَامَّةً وَكَانَ مَنْ قَبْلِي إِنَّمَا يُرْسَلُ إِلَى قَوْمِهِ، وَنُصِرْتُ عَلَى الْعَدُوِّ بِالرُّعْبِ وَلَوْ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ مَسِيرَةُ شَهْرٍ لَمُلِئَ مِنْهُ رُعْبًا، وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ أكُلُهَا وَكَانَ مَنْ قَبْلِي يُعَظِّمُونَ أَكْلَهَا، كَانُوا يُحْرِقُونَهَا، وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسَاجِدَ وَطَهُورًا، أَيْنَمَا أَدْرَكَتْنِي الصَّلَاةُ تَمَسَّحْتُ وَصَلَّيْتُ، وَكَانَ مَنْ قَبْلِي يُعَظِّمُونَ ذَلِكَ، إِنَّمَا كَانُوا يُصَلُّونَ فِي كَنَائِسِهِمْ وَبِيَعِهِمْ، وَالْخَامِسَةُ هِيَ مَا هِيَ؟ قِيلَ لِي: سَلْ، فَإِنَّ كُلَّ نَبِيٍّ قَدْ سَأَلَ فَأَخَّرْتُ مَسْأَلَتِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَهِيَ لَكُمْ وَلِمَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.[88]
بينما كان سليمان عليه السلام سخر الله لها الريح ليقطع بها مسيرة شهر، كان الرسول صلى الله عليه وسلم أعطي ما هو أفضل منه، وهو أن تصل حالة الرعب والخوف إلى أعدائه عن بعد مسيرة شهر، لتنتصر دعوته وجنده بأقل جهد وأكبر إنجاز.
وجعلت الأرض كلها لأمة محمد مسجدا يصلون عليها ويعلنون بها طاعتهم لله، ويتطهرون بها ليسهل لهم التحرك في كل بقاع الأرض، يُشهدون للعالم ركوعهم وسجودهم لله الواحد القهار.
وأحل الله له ولأمته الانتفاع بغنائم الحرب بينما كانت الشرائع السابقة حرمت على أمتها أية استفادة من الغنيمة، بل عليهم إحراقها[89]، ذلك عدل الله وحكمته، لأن منطلق بني إسرائيل للقتال كان دنيويا كما يظهر ذلك على لسانهم: {قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا}[90]فكان الأنسب لهم وأصلح لهم أن يُمنعوا من أكل الغنيمة لئلا يتحول الجهاد إلى التكسب غرضه الدنيوي البحت، في حين أن أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا لا يلتفتون إلى الدنيا في جهادهم وحروبهم، ولما التفت جزء من جيش المسلمين إلى حظ دنيوي أدبهم الله بهزيمة في غزوة أحد تربيهم وتقومهم ليثبتوا على صفائهم الأول، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ما كنت أرى أن أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى نزلت فينا يوم أحد: (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ)[91].[92] لكنها كانت حدثا تربويا فريدا يعلم المسلمين أن الإخلاص في الجهاد والتجرد من الدنيا شرط أساسي لنصرة الله.
ومن أهم ما تميزت به رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: عالميتها وشمولها لكل الناس عابرة الحدود العرقية واللغوية والجغرافية وحتى الحدود الزمنية، بينما كان الأنبياء قبل تختص مهمتهم بأقوامهم فقط. وهذا ما يجعل هذا الدين المحمدي مرنا وقويا في نفس الوقت، المرونة التي تيسر على الناس تطبيقها في كل الظروف، والقوة التي تفرض وجودها في كل البيئات وعلى كل المجتمعات.
إن الطبيعة العالمية للدين الإسلامي المحمدي هي أقوى ميزة مؤدية إلى تفوقها على سائر الدعوات وباقي الرسالات، إنها ليست طموحا بشريا للاستيلاء على العالم –كما فسرها المستشرقون الذي لا يفهمون طبيعة هذا الدين، ويقيسون الإسلام دائما على باقي الديانات – لكنها مهمة ربانية كلف بها الله رسوله صلى الله عليه وسلم وأمته من بعده. وقد ثبت هذا الأمر في القرآن المكي قال تعالى في سورة سبأ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}[93]وهي روح الفطرة التي ينجذب إليها كل قلب سليم وينتصر لها كل عقل رصين. فلم تمنعها الحدود ولم تسدها السدود عن توافد الأمم إليها أفواجا لينضموا إلى صفوف أمة محمد عليه الصلاة والسلام…
إن هذه الرسالة طريق الكمال الإنساني، إن كل الدعوات السابقة تدعو إلى الفضائل والخلق الكريم، لكن دين محمد عليه الصلاة والسلام يتمّم كل دعوات الخير، قال عليه الصلاة والسلام: إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ.[94]نعم إن هذا الدين جاء تتويجا لكل ما سبق من دعوات الأنبياء، وتكميلا لكل الشرائع الماضية، فهي تجمع كل ما تفرق في الكتب السابقة، وتكمل ما فاته الأنبياء السابقون.
قال علال الفاسي[95]: “ولم تزل الإنسانية تخطو في مراحل الترقي والمعرفة حتى تم رشدها الديني بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم، فجاءها بخلاصة ما جاء به الأنبياء والرسل من قبله، وبما لم يأتوا به مما اقتضته درجة الرشد، وحاجة إكمال الدين، وبذلك انتهت التجربة الدينية للإنسان إلى غاية سعيدة هي تآلف العقل والدين، وتزاوجهما في اكتشاف أوامر الله وأحكامه وسننه في خلقه {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}[96]
وحين تم الدين تمت الحاجة إلى إرسال الرسل فكان محمد خاتم النبيين، وكانت رسالته خالدة ودعوته أبدية،…”[97]
وبهذه التطوافة حول تاريخ الأنبياء وتسلسل أدوارهم نعلم أن الإسلام شاهدٌ لتطور الحياة البشرية، ودل عليه ووجّه الناس نحوه. فهؤلاء الأنبياء تابعوا تطورات الحضارات المتعاقبة عبر التاريخ الإنساني المديد. لا نقول أن تطور الحضارات الإنسانية كلها كانت بالدافع أو التوجيه الديني، فإن دوافع التقدم الحضاري متعددة، وهي مركوزة في فطَر الإنسان، وكامنة في طبائع الحياة الإنسنية، ولكن الأنبياء يشهدون دوما على ما توصل إليه الإنسان من تطور علمي وتقدم حضاري، وأقروا ما صح منه ونفع، ونبهوا على ما بطل منه وضر. قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ.[98] فلذلك كان خطابهم دائما على مستوى ما عند الناس من الثقافات والعلوم[99]. ولا شك أن الناس في كل الأزمنة استفادوا من حِكَم الأنبياء فبنوا ثقافاتهم – أو على الأقل جزءا من ثقافاتهم- عليها. وليست مهمة الدين أن يُرجع الإنسانية إلى المربع الأول من الحالة البدائية الأولى.
بناء على ذلك نقول إن دور الأمة المحمدية ليس في الدعوة إلى دين الأنبياء بمفهومه الضيق، بل عليهم أيضا مهمة متابعة التقدم الحضاري الإنساني، بل أكثر من ذلك فإن الأمة المحمدية لهم قدرة ومؤهلات لقيادة التقدم الحضاري إذا أحسنوا فهم هذا الدين واستوعبوا مقاصدها وأدركوا مراميها، ولا يكتفون بالفهم الحرفي والنظر السطحي.
وقد كتب الله لهذه الأمة استمرار الخير فيها وتجدد حيويتها. فعليه ألا نخاف من الجديد في المستقبل ولا ننحصر على الأنماط القديمة التي لا يلزمنا الشرع بها، ولا نتوجس من كل شيء اسمه تطور. إن اتباع الأنبياء ليس انحباسا في قالب الماضي لكنه عملية وصل الماضي بالمستقبل.
إن هذا الدين الذي جاء به النبي الأمي عليه الصلاة والسلام ليس معتقدا تقليديا يتلقاه الإنسان بلا دليل علمي. يبدأ الإيمان الإسلامي المحمدي بالأمر بالقراءة التي تكشف للإنسان حقائق الكون وهي منطلقات إيمانه بالله. قال تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ . خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ)[100]
ولم يكن إيمان أكثر أصحاب محمد رضي الله عنهم مبنيا على مشاهدة خوارق العادة كإيمان أصحاب موسى وعيسى، وإنما إيمانهم ناشئ عن قراءة فكرية ونتيجة علمية. (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ)[101] فهذه الآية دعوة إلى التفكر في صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. ما كانت أمة محمد صلى الله عليه وسلم تحتاج إلى ظهور خوارق غير معقولة ولا عجائب غير مألوفة حتى تصل إلى الإيمان بهذا الدين. وإن كان الله قد أجرى على يد رسوله الكريم معجزات خارقة كثيرة، لكنها ليست الأداة الرئيسة لإقناع الناس بهذا الدين. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا أُعْطِيَ مَا مِثْلهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.[102]
إن القرآن قد دل البشر إلى الإيمان ببرهان المنطق الذي لا يرده أي عاقل ولا تثبت دونه أية حجة {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ . أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ}[103]بل نواميس الكون ومظاهر الطبيعة كافية للدلالة على صحة هذا الدين. {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}[104] فكان ديدنهم قول الشاعر:
ويا عجبا كيف يُعصى الإلهُ أم كيف يجحد الجاحد؟!
وفي كل شيء لــه آيــــــة تــــدل على أنـــه واحــــد..
وقد نشأت عن هذه المبادئ العلمية الحياة الثقافية الزاخرة بالنتاج الفكري المتحرر والمنضبط بقواعد علمية رصينة سادت العالم أكثر من عشرة قرون.
كما أن القرآن علّمنا مبدأ التبيّن والتثبت حتى لا يضيع الحق بالأقاويل الكاذبة، قال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}[105] وقد انبثق عن هذه الآية علم فريد عديم النظير يعد من مفاخر المسلمين وهو علم رواية الحديث ونقدها. وهو علم تفرد به المسلمون لا يجيده غيرهم إلى يومنا هذا.
كما حث القرآن على ملاحظة الكون لكشف الحقائق الكامنة والتوصل إلى المعلومات الغائبة، قال تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ . أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا . ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا . فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا}[106]وقال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا . وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا . وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا}[107]واكتسب المسلمون من هذه الآية منهجية العلم التجريبي، وقد أقر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا المبدأ، مبدأ التجربة في الأمور الدنيوية الفنية، فما أثبتت التجربة نفعه في هذا فهو مطلوب شرعا، وما أثبتت ضرره فهو مرفوض شرعا.[108]
وأوضح مثال لهذا المبدأ: موقفه عليه الصلاة والسلام من قضية تأبير النخل، حيث رأى أصحابه من الأنصار يفعلون ذلك، ولم يكن له بذلك عهد، حيث نشأ بمكة وهي واد غير ذي زرع، فقال لهم كلمة من باب الظن والتخمين، يشير إلى أن هذا العمل لا ضرورة له. وفهم الأنصار منها أنها من أمر الوحي والدين الذي لا يجوز مخالفته. فتركوا التأبير في ذلك الموسم، فخرج التمر رديئا. فلما علم ذلك عليه الصلاة والسلام بين لهم أن كلمته لم تكن من باب الوحي الإلهي، بل من باب المشورة الدنيوية، حسب ظنه الناشئ عن خبراته البيئية المحدودة، ثم قال لهم في النهاية: “أنتم أعلم بأمور دنياكم.” فهذه الشؤون الدنيوية الفنية المحضة متروكة لعقولهم ومعارفهم، يدبرونها وفقا لمصلحتهم. وليس من شأن الوحي أن يتدخل فيها.[109]
مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قوم في رؤوس النخل فقال: ما يصنع هؤلاء؟ قالوا: يلقحونه يجعلون الذكر في الأنثى. قال: ما أظن ذلك يغنى شيئا. فأخبروا بذلك فتركوه. فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: إن كان ينفعهم فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظنا, فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا أخبرتكم عن الله عز وجل بشيء فخذوه، فإني لن أكذب على الله شيئا.[110]
وفي صحيح مسلم[111] من رواية رافع بن خديج[112] أنه قال لهم: “إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر.”[113]
وفيه من رواية عائشة وأنس[114] رضي الله عنهم أجمعين: أنه صلى الله عليه وسلم قال لهم بعد أن أخرج التمر شيصا –بسرا رديئا- ما لنخلكم؟! قالوا: قلت كذا وكذا. قال: أنتم أعلم بأمر دنياكم.[115]
فليس من الغريب أن يكون ابن الهيثم[116] هو أول من اكتشف منهج العلم التجريبي في وقت مبكر جدا قرنين قبل روجر بايكون[117] الذي ادعى الغربيون أنه هو المكتشف لهذا المنهج.
وحث الإسلام على ابتكار الأمور المفيدة للناس، ولم بحبذ الجمود والسلبية والبطالة الفكرية، قال النبي عليه الصلاة والسلام: مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ.[118]
وقد ابتكر الرسول هو نفسه أسلوب الإحصائيات في قياس منجزات الدعوة فقد روى البخاري ومسلم عن حذيفة بن اليمان[119] رضي الله عنهما قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “احصوا لي كم يلفظ بالإسلام”[120] حتى لفظ “الإحصاء” استعملها.
وفي رواية البخاري في صحيحه أنه قال: “اكتبوا لي من يلفظ بالإسلام من الناس”. قال حذيفة: فكتبنا له ألفا وخمس مائة رجل.[121]
إن هذه الأسس العلمية والأعمال الابتكارية جعلت من حياة المسلمين فيما بعد تتقدم وتتطور بشكل ملحوظ، فأحدثوا أنماطا جديدة من العلوم والفنون والنظم والعمران، مما جعل الحضارة الإسلامية شاهدة على قدرة الدين لدفع حركة التقدم المدني، وهو الأمر الذي لم يحصل في التاريخ قبل بزوغ فجر الإسلام، فإن الدين غالبا ما يكون في صراع مستمر مع التقدم المدني إلا بعض استثناءات. ففي الحضارة الإسلامية تزوج الإيمان بالعلم، والدين بالدنيا. وهكذا وصل بالكمال الديني الذي حققته الرسالة المحمدية، لتقدم نموذجا فريدا من الحضارة الإنسانية التي تجمع بين الدين والدنيا، والعلم والإيمان. وإذا كانت شريعة محمد عليه الصلاة والسلام قمة لشرائع الأنبياء، فأمته المباركة خير الأمم، وهي التي تواصل تلك المسيرة المباركة من يوم آدم إلى قيام الساعة..
{ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}[122]
وقد شهدت هذه الأمة ما جرى بين الرسل وأقوامهم {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا . رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}[123]
فقد شاء الله أن يتوج تاريخ البشرية بأمة تشهد لله أمام كل البشر أن الرسل والأنبياء قد بلغوا الرسالة وأدوا الأمانة وأن الله قد أقام الحجة على البشر. {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}[124]
وهذا هو الموقع الذي أراده الله لهذه الأمة، أن تقف وسطا[125] بين الأمم تشهد لله ما قامت به الأمم خلال هذا التاريخ المديد…
لقد جاءت أمة محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن تجمّع لدى البشرية رصيد غني بتجارب الأمم، ولا غرو أن تكون هذه الأمة أكثر حظا بتلك التجارب، والفضل لله أولا وآخرا، وله الحمد. قال الرسول صلى الله عليه وسلم: وَإِنَّكُمْ تُتِمُّونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ.[126]
وإن على هذه الأمة أن تواصل الجزء المتبقي من مسيرة خلافة أبناء آدم على الأرض. وقد عرض عليها صبر نوح وحِلم إبراهيم وشجاعة موسى وزهد عيسى، وعاش بينهم خلق محمد عليه وعلى سائر الأنبياء أفضل الصلاة وأتم التسليم. وأضف إلى ذلك رؤيتها لعواقب الأمم الهالكة وتوبة قوم يونس وثبات أصحاب الكهف وصبر أصحاب الأخدود وحكمة ذي القرنين … إلى آخر ذلك الكم الضخم من كنوز الماضي الذي حواه القرآن وفصلته السنة وأضافه التاريخ…
فبذلك فقد تهيّأ لأمة محمد صلى الله عليه وسلم أن تشق طريقها بنفسها، لا تعوزهم الحاجة إلى وجود الأنبياء بينهم مثل بني إسرائيل. قَالَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمْ الْأَنْبِيَاءُ، كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي، وَسَيَكُونُ خُلَفَاءُ فَيَكْثُرُونَ. قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: فُوا بِبَيْعَةِ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ، أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ.[127]
نعم إن سياسة هذه الأمة موكولة إلى الخلفاء وهم أشخاص غير معصومين، وقد ائتمنهم الله على المصالح العامة لهذه الأمة. وإن مسؤولية إرشادها منوطة على علمائها لأنهم ورثوا ما عند الأنبياء من العلم. قال رسول الله عليه وسلم: وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ.[128]
إن ما تفضّل الله به على هذه الأمة يكفي لتأهيلها تحمُّل هذه المسؤولية العظيمة، وإن الله تكفّل بإتيان “البدائل” إذا حدث فيها ارتداد أو انتكاس عن الخط المستقيم قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[129]
وتوالت الأجيال والأقوام والشعوب في حمل هذه الرسالة الخاتمة ونشرها والذود عنها والدعوة إليها، وظلت هذه الأمة تشق طريقها وستظل على طريقها، وقد حدث فيها سقوط أو ركود أو كبوة، وانحرف فيها من انحرف، وفتن من فتن، لكنها لم تعدم فيها من يقوم لله بالحق، قلّوا أو كثروا..
وأول كبوة اعترت هذه الأمة كانت في نظام الحكم والأمور السياسية. قال صلى الله عليه وسلم: لَيُنْقَضَنَّ عُرَى الْإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً فَكُلَّمَا انْتَقَضَتْ عُرْوَةٌ تَشَبَّثَ النَّاسُ بِالَّتِي تَلِيهَا وَأَوَّلُهُنَّ نَقْضًا الْحُكْمُ وَآخِرُهُنَّ الصَّلَاةُ.[130]
هي كبوة ظلت قرونا وقرونا ولكنها لا تدوم، ولم تخل من محاولة إصلاح أو فترات صعود بعد هبوط، فقد قال عليه الصلاة والسلام: تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيَّةً فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةً عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ ثُمَّ سَكَتَ.[131]
وهو شأن هذه الأمة التي لا تتوقف عن تصحيح مسارها وتقويم اعوجاجها، فقد أخبر الصادق المصدوق عن هذا التجدد المستمر وهذه الحيوية غير المنقطعة فقال: لَا يَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ.[132] وعند أبي داود: لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ حَتَّى يُقَاتِلَ آخِرُهُمْ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ.[133] وفي رواية لمسلم: لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَالَ: فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَقُولُ أَمِيرُهُمْ: تَعَالَ صَلِّ لَنَا، فَيَقُولُ: لَا إِنَّ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ أُمَرَاءُ، تَكْرِمَةَ اللَّهِ هَذِهِ الْأُمَّةَ.[134]
فهذا هو تاريخ أمة محمد عليه الصلاة والسلام وتاريخ الأمم قبلها، كما قاله القرآن وأخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم. إنه تاريخ يشمل ثباتا في المعيار وارتقاء في النتيجة، وينضبط وفق سنن الله التي لا تتبدل، ولكنه يتوسع في أنماط التقدم العلمي والحضاري، فميزان الله لا يتغير ولكن مدده يزيد.
فكما أنا لحظنا تصاعدا في خط التاريخ فإنا نرى أيضا أفقا مشرقا في المستقبل، وخاصة إذا انضممنا في صف هؤلاء الذين لا يزالون متمسكين بهذا الدين، فإن المستقبل موعود لهم، كما أخبرنا الله ورسوله.
ولا نغفل عن التحذيرات التي حذرنا الرسول صلى الله عليه وسلم، لقد حذرنا بوقوع الفتن، وأيام الصبر، والزلازل والخسوف، وانتشار الزنا، وظهور الهوى، نعم هي حقائق ثابتة – وإن كانت المبالغة فيها أيضا جناية على عقولنا وقتلاً لأملنا – ولكن قد كثر كلام الناس فيها، وهي كلها نصف القصة وشطر الحقيقة، وغفل الناس عن النصف الآخر وأهملوا الشطر الباقي. والإيمان قائم على التوازن بين الخوف والرجاء، والحكمة راكزة على المزاوجة بين الأمل والحذر.
[1] فريدريك فيلهيلم نيتشه (بالألمانية: Friedrich Nietzsche) ولد 15 أكتوبر1844– 25 أغسطس 1900م،فيلسوف وشاعر ألماني، كان من أبرز الممهدين لـعلم النفس، وكان عالم لغويات متميزاً. كتب نصوصاً وكتباً نقدية حول المبادئ الأخلاقية، والنفعية، والفلسفة المعاصرة، المادية، المثالية الألمانية، الرومانسية الألمانية، والحداثة عُموماً بلغة ألمانية بارعة. يعد من بين الفلاسفة الأكثر شيوعا وتداولا بين القراء. ( Wicks, R. (Summer 2011) “Friedrich Nietzsche”. The Stanford Encyclopedia of Philosophy, Edward N. Zalta (ed.) Retrieved on: 2011-10-06.)
[2]أخرجه البخاري في: كتاب المناقب: باب خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، ومسلم في:كِتَاب الْفَضَائِلِ: بَاب ذِكْرِ كَوْنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ
[3] سورة الأعراف: ٦٩
[4] سورة الأعراف: ٧٤
[5] سورة هود: ٨٩
[6] سورة إبراهيم: ٩
[7] سورة البقرة: 213
[8] تفسير الطبري 4/275 وهو مخرج عند الحاكم في مستدركه (9/255 رقم: 3968) وقال: صحيح على شرط الشيخين.
[9] تفسير البغوي: 1/271
[10] سورة نوح: ٢٦ – ٢٧
[11] سورة هود: ٣٦
[12] دل عليه قوله تعالى: (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً) [ سورة الأعراف: 69]
[13] دل على ذلك قوله تعالى: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ . وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [ سورة الشعراء: 129-130] وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ . إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ . الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ} [ سورة الفجر 6-8]
[14] سورة فصلت: ١٥
[15] سورة فصلت: ١٥
[16] سورة هود: 53-56
[17] سورة الأعراف: ٧٤
[18] سورة هود: ٦٢
[19] فتح القدير: 3/460. وللمفسرين أقوال في معنى “مرجوا” ولا تخلو من التكلف، والمعنى الذي اخترناه هو الأظهر. وهو اختيار الطبري رحمه الله (تفسير الطبري: 15369)
[20] سورة هود: ٦١
[21] للمفسرين في معنى قوله تعالى: “واستعمركم” ثلاثة أوجه: أحدها معناه أعمركم فيها بأن جعلكم فيها مدة أعماركم ، قاله مجاهد ، من قولهم أعمر فلان فلاناً داره فهي له عمرى . الثاني: امركم بعمارة ما تحتاجون إليه فيها بناء مساكن وغرس أشجار قاله علي بن عيسى. الثالث: أطال فيها أعماركم، قال الضحاك، كانت أعماركم ألف سنة إلى ثلاثمائة سنة. (تفسير الماوردي [النكت والعيون]: 2/207)
[22]علي بن محمد بن علي، عماد الدين، أبو الحسن إلْكِيا، بكسر الكاف، وبعدُ، الياءُ آخر الحروف، الهرَّاسي، بتشديد الراء وبعد الألف سين مهملة. تفقَّه بنيسابور مدة على إمام الحرمين. وكان مليح الوجه، جهوري الصوت، فصيحاً، مطبوع الحركات، زكي الأَخلاق. ولي تدريس النظامية ببغداذ إلى مات سنة 504 هـ. وحظي بالحشمة والجاه والتجمّل، وتخرّج به الأصحاب، وروى عنه السِّلفي. وكان يستعمل الحديث في مناظراته. والكِيا بالعجمي هو الكبير القدر المقدم. ومولده سنة 454 هـ. (الوافي بالوفيات: 7/32)
[23] تفسير الألوسي 8/288
[24] سورة الشعراء: ١٥٤ – ١٥٥
[25] سورة الأعراف: ٧٧ – ٧٨
[26] سورة هود: ٨٤
[27] سورة مريم: ٤٢ – ٤٥
[28] سورة مريم: ٤٦
[29] سورة مريم: ٤٧ – ٤٨
[30] أخرجه البخاري (11/255 رقم: 3182) ومسلم (1/396 رقم: 245) واللفظ له
[31] سورة الأنعام: ٧٥ – ٨٣
[32] سورة الأنبياء: ٥١ – ٦٧
[33] سورة البقرة: ٢٥٨
[34] سورة إبراهيم: ٣٦
[35] سورة النحل: ١٢٣
[36] سورة البقرة: ١٣٢
[37] سورة مريم: ٥٥
[38] سورة الأنبياء: ٧٢ – ٧٣
[39] سورة يوسف: ٣٨
[40] سورة يوسف: ٣٩ – ٤٠
[41] سورة يوسف: ٥٤ – ٥٦
[42] سورة غافر: ٣٤
[43]ذكر الله هذا العتاب في ثلاثة مواضع في القرآن: في سورة الأنبياء الآية 87-88، وفي سورة الصافات الآية 139-148، وفي سورة القلم الآية 48-50.
[44] سورة يونس: ٩٨
[45] تفسير ابن كثير 4/297
[46] سورة طه: ٤١
[47] سورة طه: ٣٩
[48] سورة طه: ٤٩ – ٥٥
[49] سورة الشعراء: ٢٣ – ٢٨
[50] سورة طه: ٥٦
[51] سورة النمل: ١٤
[52] أخرجه البخاري: 15/378 رقم: 4598
[53] سورة القصص: ٥ – ٦
[54] سورة الأعراف:137
[55] سورة المائدة: ٢٠ – ٢١
[56] سورة المائدة: ٢٢
[57] سورة البقرة: ٦١
[58] أخرجه البخاري (11/271 رقم: 3196) ومسلم (9/378 رقم: 3429)
[59] سورة المائدة: ٤٤
[60] سورة البقرة: ٢٤٦
[61]سورة البقرة: ٢٤٦
[62] سورة البقرة: ٢٤٧
[63] سورة البقرة: ٢٥١
[64] سورة الأنبياء: ١٠٥ – ١٠٦
[65] سورة ص: ١٧ – ٢٠
[66] سورة ص: ٢٦
[67] سورة المائدة: ٧٨ – ٨٠
[68] سورة ص: ٣٠
[69] سورة النمل: 22-44
[70] سورة النمل: ١٧
[71] سورة ص: ٣٦ – ٣٨
[72] تفسير القرطبي: 1/281
[73] سورة البقرة: ١٠٢
[74] سورة آل عمران: ١١٢
[75] سورة الأعراف: ١٦٧ – ١٦٩
[76] سورة النساء: ١٥٧
[77] سورة آل عمران: ٤٩
[78] سورة الحديد: ٢٧
[79] أخرجه مسلم: 14/87 رقم: 5158
[80] أخرجه مسلم: 14/88 رقم: 5159
[81] سورة المائدة: ٨٢
[82] سورة الصف: ١٤
[83] سورة المائدة: ١٤
[84] سورة التوبة: ٣٤
[85] أخرجه أحمد 45/252 رقم: 21257
[86] أخرجه الحاكم في المستدرك (9/441 رقم: 4131) والبيهقي في السنن الكبرى (8/1259) وشعب الإيمان (1/143 رقم: 124) قال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح. (مجمع الزوائد: 1/120) وصححه التبريزي في مشكاة المصابيح (3/246 رقم: 5737) وحسنه الألباني (السلسلة الصحيحة: 6/167 رقم: 2668)
[87] أخرجه البخاري (2/58 رقم: 323، 2/218 رقم: 419) ومسلم (3/107 رقم: 810)
[88] أخرجه أحمد في مسنده: 14/309 رقم: 6771
[89] كما ثبت ذلك فيما رواه الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزَا نَبِيٌّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَقَالَ لِقَوْمِهِ لَا يَتْبَعْنِي رَجُلٌ مَلَكَ بُضْعَ امْرَأَةٍ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَ بِهَا وَلَمَّا يَبْنِ بِهَا وَلَا أَحَدٌ بَنَى بُيُوتًا وَلَمْ يَرْفَعْ سُقُوفَهَا وَلَا أَحَدٌ اشْتَرَى غَنَمًا أَوْ خَلِفَاتٍ وَهُوَ يَنْتَظِرُ وِلَادَهَا فَغَزَا فَدَنَا مِنْ الْقَرْيَةِ صَلَاةَ الْعَصْرِ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ لِلشَّمْسِ إِنَّكِ مَأْمُورَةٌ وَأَنَا مَأْمُورٌ اللَّهُمَّ احْبِسْهَا عَلَيْنَا فَحُبِسَتْ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَجَمَعَ الْغَنَائِمَ فَجَاءَتْ يَعْنِي النَّارَ لِتَأْكُلَهَا فَلَمْ تَطْعَمْهَا فَقَالَ إِنَّ فِيكُمْ غُلُولًا فَلْيُبَايِعْنِي مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ رَجُلٌ فَلَزِقَتْ يَدُ رَجُلٍ بِيَدِهِ فَقَالَ فِيكُمْ الْغُلُولُ فَلْيُبَايِعْنِي قَبِيلَتُكَ فَلَزِقَتْ يَدُ رَجُلَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ بِيَدِهِ فَقَالَ فِيكُمْ الْغُلُولُ فَجَاءُوا بِرَأْسٍ مِثْلِ رَأْسِ بَقَرَةٍ مِنْ الذَّهَبِ فَوَضَعُوهَا فَجَاءَتْ النَّارُ فَأَكَلَتْهَا ثُمَّ أَحَلَّ اللَّهُ لَنَا الْغَنَائِمَ رَأَى ضَعْفَنَا وَعَجْزَنَا فَأَحَلَّهَا لَنَا. أخرحه البخاري (10/367 رقم: 2692) ومسلم (9/185 رقم: 3287)
[90] سورة البقرة: ٢٤٦
[91] سورة آل عمران: 152
[92] رواه البيهقي في دلائل النبوة (3/242 رقم: 1078) وابن أبي حاتم في تفسيره (15/325 رقم: 4378) ورواه الطبراني في الأوسط وأحمد في حديث طويل تقدم في وقعة أحد ورجال الطبراني ثقات (مجمع الزوائد: 3/145)
[93] سورة سبأ: ٢٨
[94] أخرجه أحمد (18/138 رقم: 8595) بلفظ “صالح الأخلاق”، والبيهقي في الشعب (17/9 رقم: 7748) والحاكم في المستدرك (2/670 ، رقم 4221) وقال: صحيح على شرط مسلم قال الهيثمي: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح (مجمع الزوائد 3/469 باب مكارم الأخلاق والعفو عمن ظلم، 4/61 باب حسن معاشرته)
[95]علال الفاسي (1326 – 1394 ه / 1908 – 1974 م) علال أو محمد علال بن عبد الواحد بن عبد السلام بن علال بن عبد الله بن المجذوب الفاسي الفهري: زعيم وطني، من كبار الخطباء العلماء في المغرب. ولد بفاس وتعلم بالقرويين ومن مصنفاته: “مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها” و”الدفاع عن الشريعة” (الأعلام 4/246)
[96] سورة المائدة: ٣
[97] مقاصد الشريعة ومكارمها ص9-10
[98] أخرجه مسلم 9/380 رقم: 3431
[99] كما في الحديث: “نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم”. روي في جزء من حديث أبي بكر بن الشخير من حديث عمر أخصر منه . وعند أبي داود من حديث عائشة ” أنزلوا الناس منازلهم ” . (تخريج أحاديث الإحياء: 1/133 رقم: 133)
[100] العلق: ١ – ٢
[101] الأعراف: ١٨٤
[102] أخرجه البخاري: 15/378 رقم: 4598
[103] سورة الطور: ٣٥ – ٣٦
[104] آل عمران: ١٩٠
[105] الحجرات: ٦
[106] عبس: ٢٤ – ٢٧
[107] النبأ: ٦ – ٨
[108] الرسول والعلم ص48
[109] الرسول والعلم ص48-49
[110] أخرجه أحمد (1/162 رقم 1395)
[111] الإمام مسلم بن الحجاج بن مسلم بن وردكرشان القشيري النيسابوري، صاحب الصحيح، أحد الأئمة الحفاظ وأعلام المحدثين، توفي سنة 261هـ (شذرات الذهب 1/144)
[112] رافع بن خديج بن رافع بن عدي الأنصاري الصحابي من الأنصار شهد أحدا وما بعدها مع رسول الله وكنيته أبو عبد الله وأمه حليمة بنت عروة بن مسعود توفي سنة 74هـ (النجوم الزاهرة 1/192)
[113] أخرجه مسلم (4/1836 رقم 2362)
[114] أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار أبو حمزة الأنصاري الخزرجي خادم رسول الله واحد المكثرين من الرواية عنه خدم النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين ودعا له النبي بكثرة المال والولد، اختلف في وفاته فقيل سنة ثلاث وتسعين وقيل إحدى وتعين وقيل سنة تسعين (الإصابة 1/126-128)
[115] أخرجه مسلم (4/1836 رقم 2363)
[116]الحسن بن الحسن بن الهيثم(354 – 430 ه/965 – نحو 1038 م)، أبو علي أصله من البصرة ثم انتقل إلى الديار المصرية وأقام بها إلى آخر عمره. وكان فاضل النفس قويَّ الذكاء متفنناً في العلوم لم يماثله أحدٌ من أهل زمانه في العلم الرياضي ولا يقاربه. وكان دائم الاشتغال كثير التصنيف وافر التزهُّد محبّاً للخير وقد لخَّص كثيراً من كتب أرسطو وشرحها وكذلك كتب جالينوس، وكان خبيراً بأصول الطبِّ وقوانينه. مات بالقاهرة سنة 430هـ وكان على اعتقاد الأوائل صرَّح بذلك. (انظر ترجمته في: الوافي بالوفيات 4/129-130، الأعلام: 6/83، معجم المؤلفين: 3/215)
[117]روجر بايكون (Roger Bacon)(1214–1294)، ويعرف أيضاً باسم Doctor Mirabilis أي “المعلم المذهل” باللاتينية، كان فيلسوفا أنجليزيا وراهباً فرانسيسكياً وهو الذي وضع التأكيد على التجربة. ويشكر أحياناً على إنجازه كأول أوروبي يتكلم في قوانين المنهج العلمي وقد أثرت أعمال أفلاطون عليه عندما رأى العلوم الإسلامية. (انظر:
– Randall Noon(1992). Introduction to Forensic Engineering.CRC Press.
– Moorstein, Mark: Frameworks: Conflict in Balance, page 237, iUniverse, Inc., June 9, 2004, 308 pp, ISBN 978-0-595-31824-7
– Sayed Khatab and Gary D. Bouma(2007). Democracy in Islam.Routledge. ISBN 0415425743.
[118] أخرجه مسلم: 5/189 رقم: 1691
[119] حذيفة بن اليمان العبسي صاحب السر المكنون في تمييز المنافقين ولذلك كان عمر لا يصلي على ميت حتى يصلي عليه حذيفة يحشى أن يكون من المنافقين توفي سنة 36هـ (شذرات الذهب 1/44)
[120] أخرجه مسلم (1/131 رقم 139)
[121] أخرجه البخاري (3/1114 رقم 2895)
[122] سورة الجمعة: ٤
[123] سورة النساء: ١٦٤ – ١٦٥
[124] سورة البقرة: ١٤٣
[125] تعددت أقوال المفسرين في تفسير كلمة “وسطا” على ثلاثة معان هي: العدل والخيرية والتوسط ولا تعارض بين هذه المعاني لأن كلها منطبقة على وصف الأمة جملة.
[126] أخرجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن (10/262 رقم: 2927) والنسائي في السنن الكبرى (6/439) وابن ماجه (12/343 رقم: 4278) وأحمد (23/203 رقم: 11158، 40/481 رقم: 19160)
[127] أخرجه البخاري (11/271 رقم: 3196) ومسلم (9/378 رقم: 3429)
[128] أخرجه أبو داود (10/49 رقم: 3157) والترمذي (9/296 رقم: 2606) وأحمد (44/192 رقم: 20723) وابن حبان (1/171 رقم: 88) ورواه البخاري معلقا في كتاب العلم بَاب الْعِلْمُ قَبْلَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ.
[129] سورة المائدة: ٥٤
[130] أخرجه أحمد (45/134 رقم: 21139) وابن حبان (27/471 رقم: 6839) وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/138 رقم: 572)
[131] أخرجه أحمد (37/361 رقم: 17680) والطبراني في الكبير (1/159 رقم: 372) والبيهقي في دلائل النبوة (7/413 رقم: 2843) حسنه التبريزي في مشكاة النبوة (3/167 رقم: 5378) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1/4 رقم: 5)
[132] أخرجه البخاري (22/286 رقم: 6767)
[133] سنن أبي داود (6/487 رقم: 2125)
[134] صحيح مسلم (1/373 رقم: 225)