إن الأمة الإسلامية اليوم في الحقيقة تعاني أزمة فكرية جعلتها تسلك طريقا بعيدة عن سلك التقدم، ونحتاج إلى التفصيل في نمط التفكير الدافع إلى التحرك نحو تحقيق التقدم، وإلى الفقه الذي يطلق الطاقة البشرية نحو آفاق البناء الحضاري المنشود. ولا نفصل هنا عن أبعاد هذه الأزمة، فقد كفانا مؤنة ذلك أناس كثر، ولكننا نتوجه مباشرة إلى تفصيل الفكر الذي نراه أصلح لديننا ودنيانا. فإن حل المشكلة هو في تحديد ما نريده لا في ترديد ما لا نريده، وإنه لا جدوى من إكثار الشكوى.
المطلب الأول: الدور الاستباقي للفقه
إن القرآن الكريم أشار إلى أن التفقه في الدين ينبغي أن يقترنه الاطلاع على الخطوة الاستباقية للتحديات القادمة، والفقه الحقيقي مئنّة الوعي بتحديات المستقبل، لنتأمل قول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُون} حث الله سبحانه وتعالى، المؤمينين على تشكيل فرقة منهم لتتفقه في الدين. وفي قوله تعالى {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} قولان: أحدهما: ليتفقهوا في أحكام الدين ومعالم الشرع ويتحملوا عنه ما يقع به البلاغ وينذروا به قومهم إذا رجعوا إليهم. الثاني: ليتفقهوا فيما يشاهدونه من نصر الله لرسوله وتأييده لدينه وتصديق وعده ومشاهدة معجزاته ليقوى إيمانهم ويخبروا به قومهم. فعلى القول الأول، يكون نفير الطائفة إلى رسول الله لاقتباس العلم، وعلى القول الثاني يكون نفير هذه الطائفة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن خرج إلى غزاة أو مع سراياه.
وليس بين القولين تنافٍ فالتفقه في الدين يحصل بطريقتين: طريقة تلقي العلم النظري، وطريقة كسب المعرفة من الميدان العملي. وكلتا الطريقتين لا بد أن تكشفا أمورا يجب إبلاغها للناس. وعبر القرآن هذا التبليغ بالإنذار، وهو إبلاغ خاص، لأن معنى الإنذار هو التبليغ والتنبيه على أمور خطيرة قادمة لم تقع بعد، وهو يشمل كل مطلوب لمواجهة التحديات القادمة، فدور المتفقه في ديننا في الأصل ليس إنتاج ردود أفعال، “إذا حدث كذا فحكم الشرع كذا”، بل المفروض أن يكون للفقيه رأيه الثاقب في متطلبات المرحلة القادمة. فبذلك نعلم قصورنا في الاكتفاء بالمسائل القديمة أو إجابات عن أمور حاصلة فرضها الواقع.
ويجب ألا نحصر معنى الإنذار المذكور في الآية على إنذار من الوقوع في الآثام وعقوبة الآخرة، فإن نتاج التفقه أبعد من ذلك إذا أحسن المتفقه تطوير فكره وتوسيع مداركه، وعبارة القرآن لا تخصص ولا تضيق. والقاعدة المعروفة تقول إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
ومن الرؤية الاستباقية المطلوبة تقديم التطلعات المستقبلية المستفادة من مقاصد القرآن والسنة. وكان للشيخ القرضاوي أسبقية في هذا المنوال في كتاباته مثل “جيل النصر المنشود” و”ملامح المجتمع الإسلامي الذي ننشده” و”الإسلام حضارة الغد”. لكن الاهتمام بمثل هذه المواضيع ما زالت محدودا لدى فئة قليلة من المسلمين. ولا يغني في هذا الموضوع آراء شخصية أو جهود فردية، فهو يحتاج إلى وعي مشترك يسود قناعات الأمة بشكل عام، ولا أنفع في الموضوع من استنطاق المقاصد الشرعية المستنبطة من القرآن والسنة لصياغة الدين والتدين كدوافع وصور التقدم في المستقبل.
فلو أن فقهنا المعاصر يعي الدور المطلوب في هذا المعنى لسبق المسلمون غيرهم في فرض واقع نابع عن رؤيتهم المستقبلية الخاصة. إن نمط التدين الغالب في أمتنا الإسلامية هو التقيد بأشكال محددة من الأفعال، فالأحكام الفقهية تحدد ما يجب فعله على المسلم أو غيره من المندوبات أو المباحات أو المكروهات أو المحرمات.
إنه لفرق كبير بين إنسان لاحت أمامه أهداف واضحة يجتهد في الوصول إليها بطريقها المشروعة، وبين آخر إنما يمتثل المأمورات ويتجنب المنهيات ليس له تفكير بالأهداف والمقاصد. فالأول منطلق حر راغب في تحقيق أدوار مشرفة، والثاني محدد الخطوات رهين فتاوى المفتين لا يدري ما وراء الأوامر والنواهي من آفاق المقاصد والأهداف.
المطلب الثاني: المقاصد أولا ثم الأحكام ثانيا
إن الاقتصار على فقه الأحكام يكوّن إنسانا أشبه بالإنسان الآلي الذي لا يتحرك إلا بإشارة ويتوقف بدونها. أما الانطلاق والتحرك المبنيان على رغبة تحقيق المقاصد فهمان اللذان يكوّنان إنسانا حرا يعي دوره ويتحرك برغبته الجامحة وفكره الطليق. لكن الأهم من ذلك أن المقاصد الشرعية تقود بالفكر إلى الأمام ولا يقف بها النظر عند حدود الزمان وقيود المكان.
وليس نهج الارتكاز على المقاصد أمرا مستحدثا في الدين، بل هو نهج قرآني ونبوي أصيل، والعودة إلى القرآن والسنة يجب ألا يتكرر فيها خطأ فصل الأحكام عن مقاصدها، فإن القرآن لم يضع الأحكام الشرعية مفصولة عن مقاصدها البتة. وقد سبق تقرير ذلك في الباب الأول في الكلام عن تاريخ علم المقاصد.
ومن استقى معرفته الفقهية من القرآن والسنة لا تخفى عنه هذه الحقائق المهمة، لكن المتأخرين من الفقهاء ابتعدوا عن الطريق الأصيل للأسف الشديد. قال ابن الجوزي: “كان الفقهاء فِي قديم الزمان هم أهل القرآن والحديث، فما زال الأمر يتناقص حتى قَالَ المتأخرون: “يكفينا أن نعرف آيات الأحكام من القرآن، وأن نعتمد عَلَى الكتب المشهورة فِي الحديث، كسنن أبي داود ونحوها.” ثم استهانوا بهذا الأمر أيضا، وصار أحدهم يحتج بآية لا يعرف معناها وبحديث لا يدري أصحيح هو أم لا؟ وربما اعتمد عَلَى قياس يعارضه حديث صَحِيح، ولا يعلم لقلة التفاته إِلَى معرفة النقل. وإنما الفقه استخراج من الْكِتَاب والسنة، فكيف يستخرج من شيء لا يعرفه؟ ومن القبيح تعليق حكم عَلَى حديث لا يدري أصحيح هو أم لا؟ ولقد كانت معرفة هَذَا تصعب، ويحتاج الإنسان إِلَى السفر الطويل والتعب الكثير حتى تعرف ذلك. فصنفت الكتب وتقررت السنن وعرف الصحيح من السقيم، ولكن غلب عَلَى المتأخرين الكسل بالمرة عَنْ أن يطالعوا علم الحديث، حتى إني رأيت بعض الأكابر من الفقهاء يَقُول فِي تصنيفه عَنْ ألفاظ فِي الصحاح: “لا يجوز أن يكون رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ هَذَا.” ورأيته يحتج فِي مسألة فيقول: “دليلنا مَا روى بعضهم أن رَسُول اللَّهِ قَالَ كذا.” ويجعل الجواب عَنْ حديث صَحِيح قد احتج به خصمه أن يَقُول: “هَذَا الحديث لا يعرف.” وهذا كله جناية عَلَى الإسلام.”
وبمثل ذلك ضعف نور الإسلام وغابت روح الدين وخفيت مقاصد الشرع. فمن أراد الفقه الأصيل مرتبطا في بيان الحكم بمقاصده فما عليه إلا أن يتجه إلى القرآن والسنة. ولما استغنت الأمة عنهما في معرفة أحكام دينها كانت تلك النتيجة المؤسفة.
فمن هنا نعلم أنه من المهم أن نعيد تدوين مسائل الفقه من أجل الوعي الكامل للأحكام، فإن الأمور بمقاصدها، والأفعال بأهدافها، والتحركات بدوافعها. ولا يوفر لنا البيان الشامل للأحكام والمقاصد كبيان القرآن والسنة. فإنا لا نستمد الدافعية نحو التقدم إلا بالقرآن وبالسنة، فكما أن القرآن والسنة هما المنطلقان لتقدم الجيل الأول، فكذلك الجيل الأخير الراغب في العودة والنهوض، والعملية كما قال الإمام مالك رحمه الله وأسكنه فسيح جناته: “لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.”
المطلب الثالث: الفقه من الظواهر إلى الجواهر
قد تعارف الناس على أن الفقه علم خاص بالجانب العملي من الدين، واشتهر عند العلماء بأنه: العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية. وكانوا يخصون الفقه فقط في المسائل العملية أي المتعلقة بالعمل القلبي كالنية، أو غير القلبي مما يمارسه الإنسان مثل القراءة والصلاة ونحوها من عمل الجوارح الباطنة والظاهرة. والمراد أن أكثرها عملي، إذ منها ماهو نظري، مثل اختلاف الدين مانع من الإرث. واحترز بها عن الأحكام العلمية والاعتقادية، كأصول الفقه، وأصول الدين كالعلم بكون الإله واحداً سميعاً بصيراً. وتسمى العملية أحياناً: ( الفرعية) والاعتقادية: (الأصلية). وكما عرفه صاحب الدر المختار من الحنفية.
ومن المعلوم أن معنى الفقه في الأصل أوسع من ذلك، ولذلك عرفه أبو حنيفة رحمه الله تعالى بأنه: “معرفة النفس مالها وما عليها.” وهو تعريف عام يشمل أحكام الاعتقاديات، كوجوب الإيمان ونحوه، والوجدانيات أي الأخلاق والتصوف، والعمليات كالصلاة والصوم والبيع ونحوها، وهذا هو الفقه الأكبر. وعموم هذا التعريف كان ملائماً لعصر أبي حنيفة الذي لم يكن الفقه فيه قد استقل عن غيره من العلوم الشرعية. وكان أرباب السلوك يعرفون الفقه بأنه: الجمع بين العلم والعمل، لقول الحسن البصري: إنما الفقيه المعرض عن الدنيا الزاهد في الاخرة، البصير بعيوب نفسه.
وليس في هذه المصطلحات إشكال من حيث هي، وكان العلماء يقولون لا مشاحة في الاصطلاح ما دام المقصود صحيحا مقبولا، ولكن الخطأ والخطر في اعتبار الفقه المصطلح عليه هو كل الدين لا شيء قبله ولا بعده. فصار الناس لا يهتمون بإصلاح الأنفس وتطهير القلوب ومراعاة المقاصد، لا لأنهم لا يعرفون أهمية ذلك ولكن ذلك بسبب أن الكلام عن صحة الأعمال في كتب الفقه لا تتطرق إلى هذه الحقائق القلبية. وصارت صحة العمل أو صحة العقد من حيث النظر الفقهي لا يتعلق بقبوله عند الله ولا بتحقق مقاصده في الحياة. وهو فهم مبتور ينسف أساس التدين، الذي كان المقصود هو تهذيب النفس، ليتحول بذلك إلى مجرد إقامة المظاهر ورعاية الظواهر.
وهذا التدين الصوري الذي لا يراعي المقاصد هو الذي أفسد واقع الأمة، تجد المصلين ولا تجد فيهم أثر الصلاة، تجد صورة الإسلام ولا تجد حقيقته. فتنفيذ الأوامر دون تحقيق مقاصدها خطر كبير وبلوى عظيمة.
فمن هنا نتأكد أهمية إعادة النظر في منهجية تعليم الفقه والتأليف فيه، ولا يجب أن نستمر على فصل المقاصد عن الأحكام، ولا ضرورة لإفراد الأمور العملية عن الأحوال القلبية. وإن خطر فصل المقاصد الشرعية عن الأحكام يشمل مجالات كثيرة لا تقتصر على المسائل القلبية، وقد خصصنا مبحثا مستقلا في الباب الأول في تلك المخاطر الجسيمة، فليرجع إليه.
المطلب الرابع: التحسينيات قبلة النهوض
ومن بدهيات الحقائق العملية أنه من سعى إلى الأقل فلن يحصل على الأكثر، ومن اشتغل بالأدنى فلن يصل إلى الأعلى. وإذا أردنا تحريك الناس إلى تحقيق المقاصد الكبرى للشريعة بقصد الوصول إلى تقدم الأمة في المجالات المختلفة فإنه من الضروري أن نضع نصب أعيننا أهدافا طموحة تستهوي رغبة الطموحين، وتجتذب عقول الغيورين. وهذه النقطة تدعونا إلى مراجعة مسائل عدة مهمة:
الأولى: في الأهداف العليا للشريعة، قد شاع في الكلام المقاصدي أن أهداف الشريعة العليا هي حفظ الضروريات الخمس، وقد بينا في الباب الأول أصل هذا التصور بدءا من أبي الحسن العامري ومرورا بإمام الحرمين حتى استقر عند الغزالي الذي قال: “ومقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة … وهذه الأصول الخمسة حفظها واقع في رتبة الضرورات، فهي أقوى المراتب في المصالح.” وتناقل الناس بعده عنه هذا التصور.
إن الإمام الغزالي وغيره من العلماء السابقين – رحمهم الله – أدوا ما عليهم من واجب الاجتهاد، وكانوا يفكرون في ظروف كان المسلمون فيها أقوى الأمم، وحياتهم أرقى حياة في ذلك الزمان، وكل الأمم كانت أقل حظا منهم دينا ودنيا، فكان من المعقول أن يكتفي الإمام الغزالي ومن معه بحفظ ما لديهم من تلك الأصول. أما نحن الذين عشنا في زمان النقصان أو العدم فغير مقبول منا أن نقول للناس: إن أعظم أهداف الشريعة هو حفظ دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم. فإن كثيرا من الناس الذين سحقت حقوقهم ليس لديهم ضروريات أصلا لتحفظ، فقد قال بعضهم: “إن أولى المقاصد الشرعية اليوم هي طلب الضروريات وليست حفظها.” ثم إن توفرت الضروريات لدى البعض فهل من المقنع أن نقول إن أقصى ما يطلبه الإسلام هو حفظ تلك الضروريات فقط؟ إذن ستبقى الأمة في الضعف، إذ أن دينهم لا يحث إلا على حفظ الأمور الضرورية لا أكثر. وبطبيعة الحال إن هذه الاعتراضات ما كانت ببال أحد من العلماء القائلين بذلك حتى أُلزموا بها، ولا قصدوا تلك اللوازم، فإن أقصى ما يعنونه أن تلك الأصول الكلية اعتنى الشرع بحفظها.
ومن هنا نعلم ضرورة تقديم صياغة جديدة للمقاصد الشرعية أقرب إلى روح النصوص أولا وإلى طبيعة العصر وتحديات المستقبل ثانيا. إن استقراء النصوص الشرعية يدل على أن روح الشريعة هي روح التنمية الشاملة والدفع نحو الاستزادة من كل أنواع الخير، وليست روح المحافظة الجامدة بمعنى الاكتفاء بالموجود.
فأما في الدين فقد صرح القرآن بأن قصد إرسال الرسول بالهدى ودين الحق إنما هو لإظهار هذا الدين على سائر الأديان، وهو مطلب واضح في الاستزادة والتوسع الأفقي لتأثير الدين، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} أما الدين بمعنى التدين فطلب الشرع بالإحسان في الفرائض والإكثار من النوافل وزيادة الإيمان، إضافة إلى الحث على دعوة الناس إليه ونشره في العالم. وقل مثل ذلك في العقل والنفس والنسل والمال، فإن الشرع لا يطلب فقط بحفظها بل بتوفيرها وتنميتها.
ثم ما هي الضروريات بالضبط؟ إن الناس بعد الغزالي لم يعترض عليه في تحديد تلك الأصول الخمسة (الدين والعقل والنفس والنسل والمال) هي الضروريات. وهو أيضا ليس تصورا دقيقا، فإن قسما منها ليس من الضروريات ألبتة، فإن النوافل وملح العلم وزوائد المال التي لا يحتاجها الإنسان ليست من الضروريات. لولم يأت بعده الإمام الشاطبي لبقي الناس على هذا التصور المبهم. قال رحمه الله: : “فأما الضروريات فمعناها أنها لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين.” وقال في موضع آخر أن هذه الضروريات إذا انخرمت لم يبق للدنيا وجود – يعني ما هو خاص بالمكلفين والتكليف – وكذلك الأمور الأخروية، لا قيام لها إلا بذلك.
فالضروريات أدنى قدر من مقومات الحياة التي تتعذر حياة الإنسان بدونها. ورغم أن الإمام الشاطبي أوضح من الإمام الغزالي لكنه رحمه الله أكد أن الضروريات هي تلك الأصول الخمسة التي ذكرها الغزالي. قال: “ولو عدم الدين عدم ترتب الجزاء المرتجى، ولو عدم المكلف لعدم من يتدين، ولو عدم العقل لارتفع التدين، ولو عدم النسل لم يكن في العادة بقاء، ولو عدم المال لم يبق عيش.” وذلك صحيح في الجملة، لكن النظر التفصيلي لا يقر ذلك فإن من الدين ما كان ضروريا ومنه ما كان حاجيا ومنه ما كان تحسينيا. فحسب قوله فإن التشريعات الرافعة للمشقة من الحاجيات ، وأحكام الطهارة من التحسينيات. فتقسيم المقاصد إلى الضروريات والحاجيات والتحسينيات يجري على كل تلك الأصول الخمسة. فهي – يعني الأصول الخمسة – أمور كليات تتفاوت أهمية كل جزء منها حسب النظر التفصيلي، وإن كان وجود هذه الأصول الخمسة بالجملة أمرا ضروريا لا غنى للإنسان عنه.
إن ذلك التقسيم الثلاثي من ضروري وحاجي وتحسيني يفتح للعلماء منهج الموازنة بحيث تتقدم الضروريات في سلم الأولويات على الحاجيات والتحسينيات، فمن الظلم أن تقدم النوافل على الفرائض، ومن الخيانة الإنفاق على الأمور التكميلية ببذخ كبير بينما يعاني الناس من فقدان ضروريات أقواتهم. وهذا فقه الأولوية لا يجوز التغاضي عنه، فإنه ينقذ الأمة من الظلم ويدلها على ترتيب اهتماماتها.
لكن فقه الأولوية يكمله ويتبعه فقه التحسينيات، إذا وفرت الأمة الضروريات وتهيأت لها من الإمكانات فوق قدر الضروريات، فإن الأمة تحتاج إلى وجهة شرعية تقودها نحو رتبة متقدمة وترفعها إلى حال أحسن. ولا يجب أن يكون الاشتغال بالضروريات هو الحال الدائم للأمة، فإنها يطلب منها التحرك نحو الأحسن. ومن هنا نحتاج إلى تأسيس فقه التحسينيات لتتحرك الأمة من مرحلة توفير الأسس الضرورية للنهوض إلى مرحلة تثبيت الاستقرار بتوفير الحاجيات ثم تنطلق إلى مرحلة تحقيق المميزات بالاهتمام بالتحسينيات والتكميليات. ولا يجوز أن نعتقد أن الضروريات هي قبلة الجهود دائما. فهنا نعرف أن النظر لا بد أن يتجه إلى مرحلة التحسينيات كوجهة مطلوبة ووضعية مرغوبة،
ولكن ما هي تلك التحسينيات التي نتجه إليها؟ تبينها المسألة الثانية: عن ماهية التحسينيات المرغوبة شرعا. إن أكثر المتكلمين في المقاصد يمثلون التحسينيات بالأمور الزائدة عن الحاجات. وبهذا التصور يصح أن يقال إن التحسينيات لا تستحق أن نولي فيها اهتماما كبيرا. والاشتغال بما لا يحتاج إليه الإنسان مذموم شرعا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيه.”
ولكن الشرع طالب بالتحسين في غير ذلك المعنى الشائع في باب التحسينيات، قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ.” وهناك بون شاسع بين صور الإحسان المطلوبة وبين التحسينيات بمعنى “المآكل الطيبات والملابس الناعمات، والغرف العاليات، والقصور الواسعات، والمراكب النفيسات ونكاح الحسناوات، والسراري الفائقات” كما مثله بعض العلماء.
ونحن إذ نقول بأن مرتبة التحسينيات يجب القصد إليها والحرص على تحقيقها نقصد الإحسان الذي أمرنا الشرع به، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا.”
فالأمة بأسرها مطلوبة بأن تحسن عملها وتتقن أداء دورها، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلًا أَنْ يُتْقِنَهُ.” فالتحسينيات بهذا المعنى مطلوبة في الدين والعقل والنفس والنسل والمال.
وقد أتى على الأمة الإسلامية حين من الدهر كان همهم فقط الحفاظ على الضروريات حتى في الدين، فكانوا يدافعون عن الخط الأخير من الإيمان الذي ليس بعده إلا الكفر. وكان حفظ العقل حائما حول القدر الضروري من العلم الديني والدنيوي البسيط الذي لا يبني حضارة ولا يشيد تقدما، وهكذا في سائر المجالات. فدبت عوامل الضعف تسري في جسد الأمة بعد أن كانت أقوى الأمم دينا ودنيا، فيجب أن نطوي صفحة تلك المرحلة المزرية بتكريس أهمية التحسينيات المشروعة المطلوبة، وينبغي أن نرتقي بفهمنا لمتطلبات الشرع خارجين عن مؤثرات تلك المرحلة الماضية، وإن كنا لا ننكر أن جزءا غير قليل من الأمة لم تخرج منها، وذلك واجب من له فضل زاد ليعود به على من لا زاد له، ومن له فضل ظهر ليعود به على من لا ظهر له. وفقه الأولويات بتقديم الضروريات ثم الحاجيات ثم التحسينيات مطلوب، ولا يجوز قفز مرحلة قبل الوفاء بمتطلباتها، ولكن الخطر أن نتصور أن توفير الضروريات مهمة لا تنتهي ومرحلة لا تنقضي.
الثالثة: إن نصوص الكتاب والسنة وضع الكمال الإيماني والأخلاقي هدفا لازما لا يحسن التنازل عنه. وإن كان الخوارج والمعتزلة قد دفعوا جمهور الأمة إلى الدفاع عن إيمان مرتكبي الكبيرة، وعن صحة إيمان الناقص، فألجأهم ذلك إلى عدم الاستفادة الكاملة من مثل حديث “لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ.” وحديث: “وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ قِيلَ وَمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَايِقَهُ.” ومثل قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} ومثل قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}
بذل علماء السنة في شرح وتفسير هذه النصوص جهودا معاكسة للاتجاه الذي قصدته النصوص مبدئيا، كان الشرع أراد شحذ الهمة للارتقاء بمستوى إيمان وأخلاق المسلمين، ولكن لما كان الخوارج والمعتزلة يرون أن الإيمان لا يتجزأ، فنفوا الإيمان عن كل من لم تتحقق فيه هذه الخصال، وبالتالي كفّروا كثيرا من المسلمين، تصدى علماء أهل السنة والجماعة للرد على هذه الشبهة، فقالوا: إن هذه النصوص التي ظاهرها نفي الإيمان فإن المراد منها هو نفي كمال الإيمان وليس نفي أصل الإيمان. واستند الجمهور إلى نصوص كثيرة من الكتاب والسنة تدل على صحة إيمان عصاة الموحدين وإيمان مرتكبي الكبيرة، والحق مع الجمهور واستقراء النصوص يدل عيه. لكن الخطأ في المسألة أن يقف الإنسان عند هذا الحد، فقد شغلت الناس هذه المسألة حتى نسوا مغزى تلك النصوص.
كان الإشكال في تطرف فئتين، فئة تكفر المسلمين بالمعصية وأخرى تقول بأن الإيمان لا تضره معصية ألبتة. واهتدى الجمهور من أهل السنة إلى المذهب الوسط، لكن هذا الخلاف خفف من حرارة تلك النصوص التي تشعل الهمة وتوقدها لتكسب كمال الإيمان. واستعمل القرآن والسنة أسلوب الحصر بـ”إنما” والإثبات بعد النفي ليؤكدا تأكيدا بالغا أن الإيمان لا يعول عليه إذا لم تتحقق تلك الصفات. كأن تقول: ليس برجل من لم يغَر على عياله، فهو ليس نفيا لأصل الرجولة ولكن لا قيمة لرجل خلا عن هذه الصفة.
وعلى أية حال فإنه يجب ألا يشغلنا الدفاع عن أصحاب الكبائر وناقصي الإيمان عن السعي إلى كمال الإيمان المطلوب، وليس ذلك ببعيد المنال. قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله: “وهذا قد يعدّ من الصعب الممتنع، وليس كذلك، إذ معناه لا يكمل إيمان أحدكم حتى يحب لأخيه في الإسلام مثل ما يحب لنفسه، والقيام بذلك يحصل بأن يحب له حصول مثل ذلك من جهة لا يزاحمه فيها، بحيث لا تنقص النعمة على أخيه شيئا من النعمة عليه، وذلك سهل على القلب السليم، إنما يعسر على القلب الدغل. عافانا الله وإخواننا أجمعين.”
إن تربية الأمة بمثل هذه النصوص ضرورية في إشاعة ثقافة الرقي الإنساني. فحث الرسول صلى الله عليه وسلم على أن يحب المؤمن لأخيه المؤمن كما يحب لنفسه، هو تكريس لمعنى الوعي بالحقوق المشتركة، فإذا كان أفراد المجتمع لا يهتم إلا بمصلحة نفسه، نتج عن ذلك مجتمع هش ضعيف عرضة لكل تناوش أجنبي، وأول ثغرة تدخل منها قوى أجنبية هي وجود أناس لا يهمهم إلا أنفسهم وليس لهم ولاء ولا نصح لبني قومهم. لم ينفذ التدخل الأجنبي إلى أمة متماسكة كل فرد منهم يكن ولاءه وحبه لأمته وإخوانه المؤمنين.
إن حرارة الإيمان المتقدة ومظاهرها القوية ومستوياتها العالية التي ذكرت في تلك النصوص هي التي جعلت الجيل الأول من المسلمين قادرين على تحقيق إنجازات كبيرة والصمود أمام التحديات الجسام، فلما ضعفت الهمم وتراجع الإيمان إلى خطه الأخير لم تقدر الأمة على حمل مسؤوليتها ومواجهة أعدائها.
إن الشرع في الحقيقة يدفع الإنسان نحو أحسن وأفضل ما يمكن تحقيقه، وهذه هي الروح التي تبثها آيات القرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم. ومحاولة العلماء في تجنيب الناس عن التطرف المغالي لا يعني تشجيعهم على التوسط المائل إلى الحالة الدونية والقناعة بالحد الضروري، فأحاسن الأمور مع أصحاب اليمين، والمقربون هم القادرون على تحقيق أعلى المطالب والوصول إلى أرقى المراتب.
وإن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان شغلهم الشاغل هو السعي نحو الأفضل من الأعمال، فعَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ: أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: حَجٌّ مَبْرُورٌ.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ حَرِيصٌ، تَأْمُلُ الْغِنَى وَتَخْشَى الْفَقْرَ، وَلَا تُمْهِلْ حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ قُلْتَ لِفُلَانٍ كَذَا وَلِفُلَانٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلَانٍ.
عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ. قُلْتُ: فَأَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: أَعْلَاهَا ثَمَنًا وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا. قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ؟ قَالَ: تُعِينُ ضَايِعًا أَوْ تَصْنَعُ لِأَخْرَقَ. قَالَ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ؟ قَالَ: تَدَعُ النَّاسَ مِنْ الشَّرِّ، فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ تَصَدَّقُ بِهَا عَلَى نَفْسِكَ.
وعن عَبْد اللَّهِ بْن مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الصَّلَاةُ عَلَى مِيقَاتِهَا. قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ. قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَسَكَتُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي.
وهكذا فإن التطلع إلى الأفضل كان مطلبا شائعا لدى الصحابة، كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم أيضا بذلك علم مبدأ الأولويات، كما أن الأفضلية أيضا أمر نسبي حسب الأشخاص والأحوال، لذلك لم يجب الرسول صلى الله عليه وسلم إجابة واحدة مماثلة، وإنما أعطى لكل سائل ما يناسبه ولكل حال ما يلائمها.
وأبعد من ذلك فإن الحياة والموت خلقهما الله من أجل تحقيق الأحسن، قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} وقال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}
وبهذا وغيره نعرف أن نصوص القرآن والسنة تميل إلى التحسينيات في أمور الدين، فينبغي توجيه مجال التحسينيات في تحقيق المقاصد الكبرى التي هي محاور الشريعة الغراء.
المطلب الخامس: من الوسطية المتحفظة إلى الوسطية المتقدمة
إن الشريحة العريضة والأغلبية الساحقة من الأمة اختارت المذهب الوسط الذي يتجنب الإفراط والتفريط في أمور دينهم ودنياهم. وذلك اختيار سليم وموفق، وهو أمر مبشر بمآل طيب، وهذا الخط الوسطي عريض يشمل حدود الضروريات والحاجيات والتحسينيات، فالإفراط هو ما يتجاوز حدود التحسينيات، والتفريط هو ما لم يصل إلى حد الضروريات. وما بين الحدين خيارات مشروعة.
إن كثيرا من الخطابات الوسطية تجنح إلى الوقوف عند حد الضروريات فقط، ويُعتقد أنه هو المتعين، وما عدا ذلك فهو إفراط أو تفريط. مثلما كان خطاب فقه الأولويات ينادي بعدم التفريط في الضروريات مقابل الاهتمام الزائد بالتحسينيات، كان الخطاب الوسطي يميل إلى مثل هذا الاتجاه. وقد كانت ضرورة الواقع تدفع لذلك. ولكن إلى متى تبقى الأمة محصورة في بوتقة الصراع على الضروريات لا تخرج عنها؟
لا نتجاهل الواقع المأساوي الذي جعل الناس يفكرون هذا التفكير، والخروج منه يبدأ بالتفكير المتمرد على ذلك الواقع، ولن يجدوا المخرج إلا إذا فكروا فيه واتجهوا إليه، ولا يجوز أن يكون الفقهاء آخر الناس في الكلام عنه أو التفكير فيه، وإلا ستتكرر تجربة استيلاء الذين يجهلون دين الإسلام على المسلمين في أغلب بلدان المسلمين.
ومن ذلك التمسك بقاعدة “درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة”، التي جعلت بعض المفتين يتجنبون المخاطرة ويحذرون من كل حركة جريئة تحقق مصالح كبيرة على حساب قدر ضيئل من الضرر اليسير المتحمل.
إن قاعدة تقديم درء المفسدة لها مجالها الواسع ولها تطبيقاتها الصحيحة الكثيرة، ولكن لا يستقيم التشبث بها دائما، خاصة في حالة رجحان المصلحة على تحمل يسير المفسدة. وقد كان للعز بن عبد السلام وابن تيمية رحمهما الله رأي مسدد في مثل هذه الموازنة.
قال العز رحمه الله: “إذا اجتمعت مصالح ومفاسد فإن أمكن تحصيل المصالح ودرء المفاسد فعلنا ذلك امتثالا لأمر الله تعالى فيهما لقوله سبحانه وتعالى : {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} ، وإن تعذر الدرء والتحصيل فإن كانت المفسدة أعظم من المصلحة درأنا المفسدة ولا نبالي بفوات المصلحة …. وإن كانت المصلحة أعظم من المفسدة حصلنا المصلحة مع التزام المفسدة، وإن استوت المصالح والمفاسد فقد يتخير بينهما وقد يتوقف فيهما، وقد يقع الاختلاف في تفاوت المفاسد.”
ومثل العز بن عبد السلام في مذهب الموازنة المطلقة لم يجنح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى تقديم دفع المضار دائما على جلب المنافع، بل يُحتمل بعض المضار أحيانا دفعا لما هو أكبر مفسدة، أو تحصيلا لما هو أعظم نفعا، قال: “أن السيئة تحتمل في موضعين: دفع ما هو أسوأ منها إذا لم تدفع إلا بها، وتحصل بما هو أنفع من تركها، إذا لم تحصل إلا بها. وأن الحسنة تترك في موضعين: إذا كانت مفوتة لما هو أحسن منها, أو مستلزمة لسيئة تزيد مضرتها على منفعة الحسنة.” قال: “ومن أصول الشرائع أنه إذا تعارض المصلحة والمفسدة قدم أرجحهما.” وهكذا بإطلاق.
وقال: “التعارض إما بين حسنتين لا يمكن الجمع بينهما، فتقدم أحسنهما بتفويت المرجوح، وإما بين سيئتين لا يمكن الخلو منهما، فيدفع أسوأهما باحتمال أدناهما. وإما بين حسنة وسيئة لا يمكن التفريق بينهما، بل فعل الحسنة مستلزم لوقوع السيئة، وترك السيئة مستلزم لترك الحسنة، فيرجح الأرجح من منفعة الحسنة ومضرة السيئة.” هكذا فليس الشرع دائما يحث على موقف الدفاع الذي يحد الإنسان عن التقدم، بل الإقدام في تحصيل الخير مقابل شيء من الخطر اليسير هو الأصل. وإنما دفع المفسدة عبارة عن جلب المصلحة، لأن التخلص من المفسدة مصلحة بحد ذاتها.
ومن أبرز مجالات تطبيق هذه القاعدة هي باب الجهاد بكل مسائله فإن فيه خطرا معروفا ومضار غير خافية، لكنه يشرع إما لجلب منفعة أعظم أو لدفع مسفدة أكبر. ومثل ذلك واجب إبداء كلمة حق عند سلطان جائر، فهو مصلحة لا يجوز غيابها في الأمة، وكم من مصائب حصلت في الأمة بسبب السكوت عن الظلم احتجاجا بتقديم درء المفاسد، مع أنه من الممكن أداؤه مع التقليل من المفاسد المحتملة. وكذلك في باب الاقتصاد فإنه لا تنمو التجارة إلا مع قدر من المخاطرة. فاحتمال ضرر يسير مقابل نفع كبير أمر يسلم به كل العقلاء. لكن الفاجعة العظيمة إذا اختلطت الموازنة في الشؤون العامة حيث لبِّس الحق بالباطل، وركبت المفاسد على صور المصالح. فهذه فتنة عظيمة لا يُسدد فيها إلا قلة من الحكماء.
والناس في حالة اختلاط المفاسد والمصالح دائما على خلاف يصبح فيه الحليم حيران. وقرر ابن تيمية فيه قاعدة أنه إذا اختلطت الحسنات بالسيئات ووقع الاشتباه والتلازم، والناس هذا على أقسام: الأول: أقوام ينظرون إلى الحسنات فيرجحون هذا الجانب وإن تضمن سيئات عظيمة. الثاني: أقوام ينظرون إلى السيئات فيرجحون هذا الجانب وإن تضمن ترك حسنات عظيمة. الثالث: المتوسطون الذين ينظرون إلى الأمرين فيرجحون الراجح منهما.”
فالفئة الأولى لا يبالون بالفتن العامة ولا الفوضى العارمة فهم مجازفون متهورون، والفئة الثانية يخافون يسير الضرر ويضخمون قليل الخطر فهم مثبطون محطمون للأمل، فأحكم الناس أقدرهم على الموازنة وتحصيل أكبر المنافع بأقل المفاسد. وليس بلازم أن يتم الخيار في ترجيح أحد الخيارين، وقد يجد الحكيم حصيف الرأي دقيق الملاحظة واسع الثقافة طريقا آخر ثالثا يجمع بين تحقيق المنافع والسلامة من المضار أو احتوائها.
المطلب السادس: قصة سُلَّم المقاصد في عالمنا المعاصر
إن سلم المتطلبات التي يحتاجها الإنسان متدرج، بدءا من الضروريات التي لا تقوم بغيرها الحياة، ومرورا بالحاجيات التي ضاق بدونها العيش, إلى الكماليات التي توفرت بها رفاهية الحياة. وهذا تصور المسلمين منذ عشرة قرون ماضية، ومن المفترض أن يتحرك التصور الإسلامي من الإجمال إلى التفصيل، ليخرج من عالم التنظير إلى ميدان التفعيل.
لنترك عالمنا الإسلامي قليلا لنرى ما حصل لدى غيرنا في هذا المجال، فقد جاء عالم أمريكي يدعى أبراهام ماسلو منتصف القرن الماضي (1954) بنظرية جديدة عن سلم احتياجات الإنسان، فقد حاول جمع مجموعة كبيرة من البحوث المتعلقة بالدوافع البشرية. وقد ركز الباحثون قبل ماسلو عموما على الدوافع البشرية في حقول مختلفة كل على حدة.
افترض ماسلو التسلسل الهرمي للاحتياجات البشرية على أساس مجموعتين: الاحتياجات الضرورية (deffiency needs) واحتياجات النمو (growth needs). فأما الاحنتاجات الضرورية، فيجب أن تتوفر في الإنسان أولا أقل حاجاته مستوى ليحصل بعده على ما هو أعلى مستوى. وفي حالة لم يتم استيفاء كل من هذه الاحتياجات، لا بد أن يندفع الإنسان إلى تحصيلها في وقت ما في المستقبل لسد ذلك النقص.
وأول أربعة مستويات الحاجات البشرية حسب نظريته هي:
1- الحاجات الفيسيولوجية التي تشمل مقاومة الجوع والعطش وتحصيل الراحة الجسدية،
2- السلامة والشعور بالأمن من الخطر،
3- الانتماء والحب ويشمل قبوله في الناس وحصوله على احتوائهم،
4- كسب الاحترام يشمل القدرة على الإنجاز وإثبات المؤهلات وإحراز الاستحسان والتقدير.
ووفقا لنظريته فإن كل إنسان له استعداد للعمل على تحصيل احتياجات النمو فقط إذا تمت تلبية الاحتياجات الضرورية.
وكانت النظرية الأولية لماسلو في احتياجات النمو تمثلت في عبارة واحدة فقط هي تحقيق الذات. ثم فصّل ماسلو لاحقا احتياجات النمو بذكر أدنى مستويين قبل تحقيق الذات وأخرى أعلى منه. وهي:
5- الحاجات المعرفية وهي أن تعرف وتفهم وتكتشف،
6- والحاجات الجمالية (Aesthetic) ويشمل التوازن (symmetry) والنظام (order) والحسن (beauty)،
7- تحقيق الذات ويشمل الوفاء بتطلعات الذات وتحقيق طاقة الفرد،
8- الارتقاء بالذات (Self-transcendence) بالاتصال مع شيء خارج دائرة “الأنا” لمساعدة الآخرين في العثور على الوفاء بأنفسهم وتحقيق قدراتهم.
رأى ماسلو أن من توصل إلى تحقيق الذات وارتقائه روحيا أصبح أكثر حكمة، ويعرف بشكل تلقائي ما يجب عليه القيام به في طائفة واسعة من الحالات. وأشار دانييلز (2001) إلى أن استنتاج ماسلو في نهاية المطاف أن أعلى مستويات تحقيق الذات ومتعال في طبيعتها قد تكون واحدة من أهم إسهاماته في دراسة السلوك البشري والدافع.
نشر ماسلو (1943) نظريته لأول مرة منذ أكثر من 60 عاما، وأصبحت منذ ذلك الحين واحدة من النظريات الأكثر شعبية. وكثيرا ما يُستشهد به في الدوافع البشرية. وإن ظاهرة مثيرة للاهتمام تتعلق بعمل ماسلو هي أنه على الرغم من عدم وجود أدلة لدعم التسلسل الهرمي له إلا أنه يتمتع بقبول واسع النطاق.
وعبر دراسات قليلة رائدة تمت صياغة ذلك التسلسل الهرمي للحاجات، وخلصت إلى أن هناك ثلاثة مستويات من الاحتياجات البشرية. افترض وليام جيمس (ت1962) المستويات المادية (تشمل الفسيولوجية والسلامة) والاجتماعية (تشمل الانتماء والاحترام)، والروحية.
وطرح ماثس (1981) مستويات ثلاثة هي: الفسيولوجية والانتماء وتحقيق الذات، واعتبر أن الأمن واحترام الذات يبدو لا مبرر له.
ثم وضع ألدرفر(1972) التسلسل الهرمي للمقارنة مع نظريته التي تقول بمستويات الحاجات الثلاثة تتمثل في الوجود والصلة والنمو.
اعترف ماسلو أنه ليس كل الناس يتبع التسلسل الهرمي الذي اقترحه، فإنه يمكن اعتبار اختلاف الفروق الفردية يحدد طبيعة الدوافع البشرية، ومن أشهر شواهد هذه الظاهرة التفرقة بين شخصية انطوائية وأخرى اجتماعية. فإعادة تنظيم هرم ماسلو على أساس عمل ألدرفر السالف الذكر – بناء على التفرقة بين الشخصيتين الانطوائية والاجتماعية – تنتج ثلاثة مستويات تفرق بين الشخصتين في خانتين مستقلتين. هذا التنظيم يوحي أنه قد يكون هناك جانبان من كل مستوى، مما يعني أن نفرق كيفية تعامل الناس مع كل مجموعة من الاحتياجات. إن الشخصيات المختلفة قد تتصل بأكثر من بعد واحد من الآخر. فعلى سبيل المثال، فإن صاحب الشخصية الانطوائية قد يكون أكثر اهتماما بتصوراته الشخصية في انخراطه داخل مجموعة، في حين أن الاجتماعي في ذلك المستوى نفسه أعطى المزيد من الاهتمام بالآخرين في كيفية انخراطهم.
عند هذه النقطة هناك القليل من الاتفاق حول تحديد الاحتياجات الأساسية للإنسان، وكيف أنها مرتبة. على سبيل المثال، أشار الباحثان ريان و ديسي (2000) إلى ثلاث حاجات أيضا، رغم أنها ليست بالضرورة مرتبة هرميا: الحاجة إلى الاستقلالية، والحاجة إلى الكفاءة، والحاجة إلى الصلة. وقرر طومسون وغريس وكوهين (2001) أن أهم الاحتياجات للأطفال هي: التواصل والتقدير والقدرة. وقدم نوريا ولورانس و ولسون (2001) أدلة على نظرية البيولوجيا الاجتماعية في الدوافع أن البشر لديهم أربعة احتياجات أساسية هي: (1) اكتساب الأشياء والتجارب، (2) والارتباط بالآخرين في علاقات طويلة الأمد ذات الاهتمامات والالتزامات المتبادلة، (3) والمعرفة وإيجاد معنى للعالم ولأنفسنا،(4) وحماية أنفسنا وأحبّائنا ومعتقداتنا وثرواتنا من الضرر. طرح معهد التميز الإداري 2001) ) أن هناك تسعة احتياجات إنسانية أساسية: (1) الأمن (2) المغامرة (3) الحرية (4) المبادلة (5) والسلطة (6) والتوسع (7) والقبول (8) المجتمع (9) والتعبير.
يلاحظ أن أن الترابط والصلة هما المكون لكل النظريات المذكورة، مع أن كل نظرية من النظريات المذكورة لا تشبه إحداها الأخرى. أشار فرانكن (2001) إلى أن هذا الاختلاف مرده إلى اختلاف فلسفات الباحثين أكثر من كونه اختلافا حول البشر نفسه. بالإضافة إلى ذلك، فهو يعرض بحثا يظهر أن أسلوب الشخص التفسيري أو النسبي سيعدل تلك القائمة من الاحتياجات.
ولذلك يظهر أنه من الأنسب أن يُسأل الناس ما يريدون، وكيف يمكن تلبية احتياجاتهم بدلا من الاعتماد على نظرية غير معتمدة. فعلى سبيل المثال، اقترح ويتلي حيازة تصور الشخص ماذا ستكون عليه الحياة إذا لم يكن الوقت والمال موضوعا في حياة الشخص، يعني ما الذي من شأنه أن يفعل هذا الاسبوع، هذا الشهر، الشهر المقبل، إذا كان لدى الشخص كل الأموال والأوقات المطلوبة للمشاركة في الأنشطة وتُؤمَن أنها ستكون متاحة مرة أخرى في العام المقبل. مع بعض أسئلة المتابعة لتحديد ما الذي يمنع الشخص من حدوثه الآن، وهذه المقاربة المفتوحة ومن المرجح أن تحدد الاحتياجات الأكثر أهمية للفرد.
هذا الذي جرى النقاش حوله في مقاصد الناس عموما، وبنيت عليه تصورات وآليات ومواقف في العالم الغربي، ورغم مؤاخذاتنا لبعض جوانبها يجب الاعتراف بميزات هذه النظريات، فإنها تتميز بأمور آتية يجدر بنا الاستفادة منها:
1- الاتجاه إلى التفصيل، فإن الاكتفاء بتصورنا الثلاثي لا موجب له. بل الأجدر بالمسلمين بعد تقرير العلماء لتلك الأمور أن يتجهوا إلى البناء عليه وتكميله وتحسينه وهكذا، ويجب التوجه نحو التفصيل فإنه أقرب إلى التأثير وأدعى إلى تغيير الواقع وإصلاحه وتوجيهه.
2- اشتماله على مستويات مختلفة متدرجة، بدءا من الأمور المادية ثم النفسية ثم العقلية إلى الحاجات الروحية، وإن كانت تصوراتهم في الأمور الروحية مظلمة غير واضحة.
3- تقديمها برسم بياني يسهل الاستيعاب ويلخص الحقائق المعقدة في صورة واحدة، وأن رسول الله صلى الله وسلم قدم كثيرا من بيانه بالرسوم البيانية، فإن ذلك أبلغ في البيان وأسرع في الإفهام.
4- مناقشاتها وتعديلها وطرح تصورات بديلة أو مكملة مما يجعل الفكر الإنساني يتحرك نحو الأكمل والأحسن، ولا يقف بهم الإعجاب عند حد التكرار والترداد كما حدث في عالمنا الشرقي والإسلامي.
ومع تلك الإيجابيات فإن القصور الواضح الذي لا ينفك عنه الفكر الغربي دائما هو الضبابية في القضايا الروحية، ومع أن التوصل إلى إدراك أهمية الروح أمر محمود إلا أن كل تلك الأطروحات لا تصل إلى كيفية واضحة في إشباع الروح، اللهم ما كان من قبيل الأعمال الخيرية كمساعدة الناس في الارتقاء بأحوالهم، وهذا أمر إنساني رفيع يجب تقديره، ولكن المسلمين يدركون أن الحاجة الروحية هي أهم حتى من الحاجات البيولوجية، بل الامتناع عن الثانية بشكل معين هو طريق إلى الأولى كما في الصوم، ومن الناحية الأخلاقية فإن الإسلام يشير إلى فضل الإيثار حيث التنازل على حظوظ النفس مقابل تفضيلها للغير، رقي روحي لا تدركه الفلسفة المادية.
قد تكون تصوراتنا الإسلامية في هذه الحاجات مدرجة في تفاريع المسائل، لكن السعي في تنظير هذه التصورات إسلاميا يؤدي إلى بروز معالم الحياة الإسلامية كيف يرتقي الإنسان ويتحرك من أدنى مستوياته إلى أعلاها. وكشف آفاق التطلعات الإنسانية يدعو إلى تحريك الناس نحوها.
إن ما يهمنا في سرد هذه الأطروحات الغربية ليست كونها نظريات تقال أو آراء تروى، لكن أثر هذه الأطروحات على الحياة العملية كان واسعا وعميقا، فتسيير الأمور في العالم الغربي لم يمش منفصلا عن الحركة العلمية، وصناع القرار والمسؤولون أناس متابعون لبحوث العلماء وخاصة فيما يتعلق بالشؤون العامة والظواهر النفسية والاجتماعية. وفي المقابل فإن البحوث العلمية لم تعمل في البرج العاجي المنفصل عن الحياة العامة.
ولا نريد تكرار مثل تجربة تسرب نقص المنطق الأرسطي في فقهنا وأصوله، باستيراد علوم أجنبية دون تمحيص دقيق ونقد شديد، بل نأمل دائما أن يكون العقل الإسلامي هو الأكمل والأسبق إلى مصالح الناس، ولا يتم ذلك بالدعاوى العريضة والإطراء الفارغ، وينبغي الاعتراف بأننا متأخرون في تفصيل هذه الاحتياجات، ولكننا لم نُسبَق بعد في الإدراك بالحاجات الروحية، ولن يصل إليه غيرنا إلا إذا تبنوا عقيدتنا رأسا، ولكن بقي علينا اللحاق في حلبة التفصيل والترتيب في حاجات الإنسان عموما.
والأخطر من ذلك هو أن العلم الشرعي بات قرونا طويلة لم ينزل إلى الواقع الاجتماعي بشكل كثيف، وإن تقلصت هذه الظاهرة مع حركة الصحوة الشاملة التي بدأت تستدرك هذا القصور شيئا فشيئا، وهذه العزلة الطويلة هي التي جعلت العلم الشرعي لا يلامس بشكل مباشر احتياجات الإنسان التفصيلية، أضف إلى طبيعة التنظير الفقهي المستند فقط إلى النصوص وآلاتها الاستنباطية، ولم يلتفت بشكل كثيف إلى تفاصيل الواقع. بينما علم الاجتماع المعاصر ظل يعتمد على الواقع كمصدر أساس مع جملة من الفلسفات التي تفسر الظواهر، يمكن الاستغناء عنها أو التصرف فيها. ومن هنا نؤكد أهمية استيعاب علماء الشريعة لعلوم أخرى غير شرعية، وفي هذا المجال يكون الاطلاع على علم الاجتماع وعلم النفس ضروري إلى حد كبير.
إن العلمانية المفروضة على العالم الإسلامي قد تكون سببا مقبولا في عدم مسايرة البحوث الشرعية لما يحتاجه الناس من الأطروحات الجديدة، لكن توجيه اللوم لا يحل المشكلة، إن الاجتهاد في إثراء هذا المجال ليس معضلة عويصة. فاستيعاب العلوم الإنسانية عموما أمر يقدر عليه العلماء وطلاب العلم، وتوجيه علم المقاصد في هذا السلك مطلب قريب المنال.
المطلب السابع: الفقه المولد للمشاريع
لننتقل إلى خطوة أخرى في كلامنا عن “الفقه التقدمي” المنشود، وتتمثل في صياغة الفقه الإسلامي الذي يولد أفكارا رائدة لتنبثق عنها مشاريع نهضوية. إن الإسلام في أولى نشأته قد جاء بمشاريع نهضوية طموحة استقطبت أعدادا كبيرة من العناصر العاملة النوعية. إن مشروع الجهاد في سبيل الله كان مشروعا ناجحا في رفع شأن تلك الأمة، ومشروع الدعوة إلى الله بث تلك الطاقات الكامنة لدى قبائل الجزيرة في أرجاء العالم فنشأت أمة قائدة رائدة بعناصرها المقتدرة، بل أكثر من ذلك فإن تلك المشاريع أنشأت أمما كانت مغمورة معزولة عن سياق تفاعل الحضارات فأصبحت دعائم الحضارة الإسلامية.
وفي ظرفنا الراهن فإن التعامل مع تعاليم الدين ينبغي أن تتولد من خلاله مشاريع الخير بمعناها الواسع وبآفاقها المترامية وصورها المتجددة. إذا كان في السابق نشأت وظائف وأعمال لم تعهد البشرية بمثلها بسبب ظهور هذا الدين الجديد، فينبغي ألا تتوقف تلك الابتكارات لدى المسلمين في هذا العصر.
وظائف استحدثها الإسلام
إن تاريخ هذه الأمة شهد ابتكارات في مجالات عمل لم يعرفها الناس قبل ظهور الإسلام. وأعظمها ما شوهد في مجال الأوقاف، فقد أنعشت الأوقاف الأنشطة الاقتصادية وحركت الحياة المدنية. وكانت الأوقاف اتخذت صورا متعددة حتى ذكر المؤرخون وجود وقف على تعويض كل من انكسرت عنده الأواني فيستبدل آنيته من مال الوقف. وكان الوقف على طلبة العلم ونفقة الفقهاء أقوى الأوقاف على الإطلاق حتى اليوم قامت عليه قوائم الحضارة الإسلامية.
إن شعائر العبادات انبثقت من خلال تنظيمها مجالات العمل المتعددة، فالصلاة مثلا جلبت قوى عاملة من إمام ومؤذن وقائم بشؤون المسجد فردا أو فريقا، وإن كان في جواز أخذ الأجرة على الإمامة والأذان خلاف فقهي معروف، إلا أنه لا خلاف في مشروعية بقية الوظائف المتعلقة بتنظيم أمور المسجد.
وشعيرة الزكاة أحدثت وظيفة العامل عليها وهي في عصرنا الحاضر لا يمكن أن يقوم بها فرد واحد لكثرة الناس المزكين والمستحقين. وتعدُّد مصارف الزكاة أيضا فتح أنواعا من التخصصات من أجل حسابها والاعتناء بها. ومع تطور نمط حياة المسلمين فإن مؤسسة الزكاة لا بد أن تشكل مؤسسة اقتصادية غير ربحية متطورة ليغطي متطلبات مصارف الزكاة المذكورة في القرآن.
وأصبح صيام رمضان أيضا موسما اقتصاديا متميزا، لم يبق صيام رمضان مجرد إمساك الناس عن الأكل والشرب، فقد تحول هذا العمل عبارة عن إحداث أنماط جديدة من الحياة، فغيّر اهتمام الناس وحرك نشاطهم الاقتصادي. وقام الناس ببرامج جديدة تخدم مصالح الصائمين، وقدموا خدمات متنوعة تلبي رغبات الناس بشتى أنواعها, فشهر رمضان نشاط اقتصادي مميز، وإن كان بعض الممارسات قد لا تتفق مع روح الصوم إلا أن الجزء الحلال المبارك يبقى سيد كل تلك الأنشطة.
وشعيرة الحج وما أدراك ما الحج؟ فهو مشروع اقتصادي ضخم، ومصالح دنيوية حلال مع عظمة هذه العبادة، تحرك عالمي وانفتاح على كل الشعوب الإسلامية بشكل مذهل، كم من الأموال أنفقت؟ وكم من العلاقات عقدت؟ وكم ومن المصالح تمت؟ وكم من العظمة والبهجة حصلت؟
الجهاد المدني آفاق واسعة للتنمية
إن الجهاد في سبيل الله هو أهم مشروع قامت به الأمة الإسلامية عبر قرونها المتلاحقة وما زالت طائفة منها مباركة قائمة لهذا الواجب خاصة في الأرض المقدسة فلسطين، والمفترض لهذه الأمة كلها أن تكون روافد وفية سخية لهذا المشروع الرئيس. إلا أن آفاقا واسعة من صور الجهاد في سبيل الله لم تزل مفتوحة الثغرات بل مجهولة لدى البعض، مستغربة لدى الآخر، مستنكرة لدى الفئة الثالثة. لقد أصرت بعض العقول القاصرة أن يكون الجهاد هو القتال لا غير. وقد أنزلت آيات الجهاد على المسلمين في مكة ولم يكن القتال مأذونا آنذاك. مثل قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ}.
ومثل قوله تعالى: {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا}.
بل لقد وسع الرسول صلى الله عليه وسلم أيضا: مفهوم الجهاد فسمى الحج والعمرة جهادا: فعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ عَلَى النِّسَاءِ مِنْ جِهَادٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، عَلَيْهِنَّ جِهَادٌ لَا قِتَالَ فِيهِ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ.
وقد سمى الرسول صلى الله عليه وسلم بر الوالدين أيضا جهادا: فعن عَبْدِ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الْجِهَادِ فَقَالَ: أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ.
فلا غرو أن وسَّع ابن القيم رحمه الله مفهوم الجهاد أكبر من مساحة القتال فقال: “فالجهاد أربع مراتب: جهاد النفس، وجهاد الشيطان، وجهاد الكفار، وجهاد المنافقين.
فجهاد النفس أربع مراتب أيضا:
إحداها: أن يجاهدها على تعلم الهدى، ودين الحق الذي لا فلاح لها، ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به، ومتى فاتها علمه شقيت في الدارين.
الثانية: أن يجاهدها على العمل به بعد علمه، وإلا فمجرد العلم بلا عمل إن لم يضرها لم ينفعها.
الثالثة: أن يجاهدها على الدعوة إليه وتعليمه من لا يعلمه، وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من الهدى والبينات، ولا ينفعه علمه، ولا ينجيه من عذاب الله.
الرابعة: أن يجاهدها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله، وأذى الخلق، ويتحمل ذلك كله لله.
فإذا استكمل هذه المراتب الأربع، صار من الربانيين، فإن السلف مجمعون على أن العالم لا يستحق أن يسمى ربانيا حتى يعرف الحق، ويعمل به ويعلمه.
وقال: وأما جهاد الشيطان، فمرتبتان، إحداها: جهاده على دفع ما يلقي إلى العبد من الشبهات والشكوك القادحة في الإيمان.
الثانية: جهاد على ما يلقي إليه من الإرادات الفاسدة والشهوات.
فالجهاد الأول يكون بعُدة اليقين، والثاني يكون بعُدة الصبر. قال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ) ، فأخبر أن إمامة الدين إنما تنال بالصبر واليقين، فالصبر يدفع الشهوات والإرادات الفاسدة، واليقين يدفع الشكوك والشبهات.
قال: وأما جهاد الكفار والمنافقين، فأربع مراتب: بالقلب، واللسان، والمال، والنفس، وجهاد الكفار أخص باليد، وجهاد المنافقين أخص باللسان.
وأما جهاد أرباب الظلم، والبدع، والمنكرات، فثلاث مراتب: الأولى: باليد إذا قدر، فإن عجز انتقل إلى اللسان، فإن عجز جاهد بقلبه.
فهذه ثلاثة عشر مرتبة من الجهاد.”
إذا تتبعنا القرآن الكريم نجد أن لفظ الجهاد استخدم بأسلوبين اثنين، أن يستخدم فعل الجهاد متعديا بنفسه مثل قوله تعالى: {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} ومثل وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} فهذه الآيات تتكلم عن الجهاد الضدي، وهو هنا جهاد ضد الكفار والمنافقين.
والنوع الآخر أن يتعدى لفظ الجهاد بحرف “في” كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}. قال ابن عطية نقلا عن القاضي عياض: فهي قبل الجهاد العرفي وإنما هو جهاد عام في دين الله وطلب مرضاته.
قال العلامة ابن عاشور: وهذا الجهاد هو الصبر على الفتن والأذى ومدافعة كيد العدو وهو المتقدم في قوله أول السورة { ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه } إذ لم يكن يومئذ جهاد القتال.
كما أن الرسول سمى بر الوالدين جهادا، أليس من الصواب أيضا أن يكون التعليم والتعلم مجالا من مجالات الجهاد؟ وكيف بمحاربة الفقر؟ وإيجاد وظائف توجه طاقات الأمة في وجوه الخير وإنقاذهم من مستنقع الفقر، أليس هذا جهادا في سبيل الله؟
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : مَرَّ بِهِمْ رَجُلٌ فَتَعَجَّبُوا مِنْ خُلُقِهِ فَقَالُوا: لَوْ كَانَ هَذَا فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَأَتَوُا النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم :« إِنْ كَانَ يَسْعَى عَلَى أَبَوَيْهِ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَهُوَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ يَسْعَى عَلَى وَلَدٍ صِغَارٍ فَهُوَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ يَسْعَى عَلَى نَفْسِهِ لِيُغْنِيَهَا فَهُوَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ.
ذلك الجهاد الاقتصادي والاجتماعي، فهناك الجهاد العلمي الذي يمثل رأس حربة في تقدم كل أمة، فما أحوج الأمة إلى توسيع مجالات الجهاد في هذه الميادين الشاغرة!
الواجبات الدينية يكتنفها مصالح دنيوية
إننا نجد في كلام الله ربط مصالح دنيوية بالقيام بالواجبات الدينية، نجد مثلا قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
قال ابن كثير رحمه الله: لَمَّا حَجَر عليهم في التصرف بعد النداء وأمرهم بالاجتماع، أذن لهم بعد الفراغ في الانتشار في الأرض والابتغاء من فضل الله. كما كان عرَاك بن مالك رضي الله عنه إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد، فقال: “اللهم إني أجبتُ دعوتَك، وصليتُ فريضتك، وانتشرت كما أمرتني، فارزقني من فضلك، وأنت خير الرازقين.” رواه ابن أبي حاتم.
وروي عن بعض السلف أنه قال: من باع واشترى في يوم الجمعة بعد الصلاة، بارك الله له سبعين مرة، لقول الله تعالى: { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ }
ونجد أيضا قول الله تعالى في الحج: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ}
قال القرطبي: ففي الآية دليل على جواز التجارة في الحج للحاج مع أداء العبادة ، وأن القصد إلى ذلك لا يكون شركاً ولا يخرج به المكلف عن رسم الإخلاص المفترض عليه.
وقد قرن الله الرزق بالعبادة في قوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ . مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ . إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} ومفاد هذه الآيات أن أمر الرزق مضمون عند الله فلا يحمل العبد هم الرزق، وإنما المطلوب منه أن يجتهد في العبادة. والعبادة –كما قال ابن تيمية- اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، ويشمل العبادة أيضا كسب الحلال لصون الوجه من مذلة السؤال وإنفاق من تجب إعالته، والكسب من إجل تقوية المسلمين ونشر الدين.
فالمؤمن يجمع بين الاجتهاد في العمل من ناحية السعي وبين راحة البال وطمأنينة النفس من ناحية نتائجه.
وهذا المعنى لخصه النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه عن الله عز وجل: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا ابْنَ آدَمَ تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي أَمْلَأْ صَدْرَكَ غِنًى وَأَسُدَّ فَقْرَكَ وَإِلَّا تَفْعَلْ مَلَأْتُ صَدْرَكَ شُغْلًا وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ.
كما أن الله تبارك وتعالى يجازي المؤمنين المتقين بالأرزاق المباركة في الدنيا قبل الآخرة، قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ}
مقاومة البطالة
“ليست تنزل في أحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها” هكذا قال الإمام الشافعي في بيان اتساع القرآن لكل مشاكل الحياة. وقد نزل بالأمة في هذا العصر مشاكل عدة، إلا أن اللجوء إلى هدي القرآن بات أمرا محدودا لدى فئة قليلة من الأمة، فتبقى الحالة المأساوية لأمة القرآن هي المسحة الغالبة على ظاهرها الحالي.
إن الفقر والبطالة والأمية أصبحت تحتل أولى المعضلات التي تواجه أكثر الدول الإسلامية. ولم تكن هذه المشاكل بدعا من مسيرة الأمم السابقة. لم يسلم من هذه المشكلة دولة من الدول حتى تلك الدول المتقدمة. بل وقد عانى صدر هذه الأمة أيضا تلك الحالات. لم تكن بداية النهضة التي قام بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بداية مترفة، وقد كان الفقر حالة سائدة لدى المهاجرين الأوائل بما فيه قائدهم رسول الله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، ولكن حسن التدبير مع حق التوكل أخرجا تلك الأمة الناشئة من الضعف الاقتصادي إلى حالة الاستقرار والاكتفاء.
وكان مئات من المهاجرين تركوا أموالهم وفقدوا “وظائفهم” إلا أن حالة البطالة والعجز الاقتصادي لم تدم طويلا بسبب وجود مشروع بل مشاريع كبرى مجهَّزة لهؤلاء القوة العاملة المجاهدة في سبيل الله.
إن كون البطالة والفقر مشكلة كل الدول – في أغلب الحالات – إنما يحدث بسبب قلة المشاريع التنموية التي تستقطب الأيادي العاملة. وما قلّت المشاريع إلا بسبب ضمور الأفكار التنموية وانسداد آفاق التطوير الطموح. قال مالك بن نبي: “لا يقاس غنى المجتمع بكمية ما يملك من (أشياء) بل بمقدار ما فيه من أفكار.”
قد يكون العزو إلى قلة الموارد ونضوب السيولة النقدية مقنعا في إيضاح سبب ارتفاع معدل البطالة، وهذا جزء من الحقيقة، ولكن بقي جزء آخر وهو أننا نجد علاقة طردية بين نسبة البطالة وعدد المشاريع التنموية لدى البلد أو حتى لدى الأفراد. إنه من لا يتبنى في نفسه مشروعا معينا سيعتمد على مشاريع الآخرين، ويكون جل اهتمامه أن يكون موظفا أو عاملا يستلم الراتب آخر الشهر. وهذا الذي ربَّت عليه المؤسسات التعليمية التقليدية أبناء الدول غير المتقدمة. والبلدان التي لا تتبنى مشروعا تنمويا طموحا أيضا ستعاني من مشكلة البطالة المتنامية بسبب زيادة السكان غير المسايرة لزيادة الموارد، ولن تأتي الموارد الاقتصادية في الغالب خارج سياق المشاريع التنموية.
مقاصد الشريعة ومشاريع استراتيجية
وقد استقر لدى العلماء – رحمة الله عليهم – أن الشرع الإسلامي أنزل لتحقيق مصالح الدنيا والآخرة، وربط الإسلام أعمال العبادة لله بآفاق العمارة في الأرض. فنشاط المسلم لا يقتصر على مصالح الآخرة، بل جعل نفع الناس وخدمة الكون سلّما لمراقي مراتب جنة الآخرة. فخدمة المصالح العامة جزء من عبادة الله التي تعبدنا الله بها. فالمشاركة والمساهمة بل الريادة في المشاريع التنموية التي شمل نفعها لكل الناس من صميم روح الشريعة ومن أهم أعمال العبادة، فمن المهم مثلا أن يقدم المسلمون جهودهم في اختراع مصادر الطاقة المتجددة كطاقة الشمس المتوفرة في بلاد المسلمين. ومن المهم أيضا أن تتركز الجهود في مراكز تدريب الأعمال الحرة لكيلا يعجز الشباب المسلم في حالة عدم الحصول على الوظيفة الشاغرة عن مزاولة عمل حر. فينشط ميدان العمل بمشاريع اقتصادية مستقلة تعتمد على القوى الشابة وتجنب الشباب شبح البطالة القاتلة. وهكذا، تنبعث روح العطاء الإسلامي إلى كل ميادين الحياة
مجالات جديدة
إن سنة تولد المشاريع الإسلامية الفريدة التي تنبثق من رغبة المسلمين في أداء حاجاتهم الدينية يجب أن تستمر في عصرنا الحاضر. إذا كان الوقف الإسلامي في السابق أحدث مجالات العمل وأنشأ آفاق العلوم واخترع الخدمات الصحية التي لم تعرفها البشرية قبل إنشائها في بلدان المسلمين، فينبغي أن يواصل مسلمو هذا العصر ذلك النهج الرائد الذي أثبت للتاريخ أن المسلمين هم أساتذة الحضارة المبنية على الإيمان الذي ربط عمارة الأرض بعبادة رب الأرض والسماء.
مراكز دراسات دعوية ميدانية
من تلك المشاريع التي يحتاجها المسلمون اليوم هو إنشاء مراكز الدراسات الميدانية التي ترصد مجريات الواقع لخدمة الدعوة. إن الدعاة الإسلاميين اليوم يرون الواقع بنظر جزئي لايعتمد على الإحصائيات الدقيقة والمعلومات المتجددة. إن بعض الدعاة يخاطبون الناس كأنهم هم الذين عاشوا قبل مائة عام. والخطاب الدعوي السائد غالبا لا يراعي أن الناس تغيروا، وظن بعض الدعاة أن نسبة التدين ثابتة في كل عصر. بل يرى كثير من الدعاة أن حالة الناس دائما تتجه إلى الأسوء، وأن الشر دائما في نمو، والخير دائما في ضمور، فيبث روح التشاؤم في الناس. وكان الأحرى للدعاة والمنظمات الدعوية أن يهتموا برصد تغيرات الناس فكريا وسلوكيا من خلال عمل الاستفتاءات الدورية، حتى يكون الدعاة على بينة من أمر الناس.
تصميم الفن الإسلامي
من المجالات التي لا يتوقف نشاطها ولا يفتر إنتاجها ولا ينتهي تجددها هو مجال الإنتاج الفني، وهو مجال يحتوي على مجالات متعددة، إلا أن المسلمين ما زالوا في معركة مع أنفسهم حيث الجدل القديم والخلاف المعروف فيما يحل ويحرم في هذا الباب. وهذا بدوره يؤدي إلى ضمور إنتاج المسلمين. كثير من المسلمون غفلوا أن مساحة ما اتفق عليه المسلمون من الفن الحلال أكبر بكثير من المساحة المحرمة والمشبوهة. وقد كان مسلمو الأندلس ومهندسوها تجاوزوا الخلاف في حرمة الصور غير المجسمة فأنشأوا القصور وزينوا المباني بطراز فني فريد فاق ذلك الفن الروماني المولع بالتصاوير والتماثيل. وكل من رأى مدينة إستنبول يعرف أن ما تركه الفن العثماني تفوّق على سابقه البيزينطي في ربوع تركيا. وفي الأزياء فقد شهد التاريخ تفنن المسلمين وإبداعاتهم في ملابسهم بدءا من الذوق المغربي وانتهاء إلى التفنن الآسيوي. وكله يلتزم بشرع الله يؤدي وظيفته من ستر العورة وحفظ المروءة.
تصميم وتصنيع هاتف نقال إسلامي
إن عصر المعلومات وثورة الاتصالات قد طبعت على الناس نمطا جديدا، قد تبارت شركات النقال في جمع مختلف وسائل الحياة في هذا الجهاز الصغير، وقد نجحوا أيما نجاح. أصبح بإمكان التكنولوجيا الحديثة أن تختصر شتى مصالح الناس في قبضة اليد لا تفارقه في حضر ولا في سفر. وبما تتميز به حياة المسلم من مراعاة أوقات الصلاة ومعرفة اتجاه القبلة والحاجة إلى سماع القرآن أو قراءته وسماع الأحاديث والمواعظ الدينية في كل وقت إلى أشياء كثيرة يحتاجها المسلم كل يوم، فإنه بإمكان الهاتف النقال أن يوفر كل تلك الحاجات، وليس من الصعب أن يجتهد مستثمرون مسلمون أن يتبني فكرة الهاتف النقال الإسلامي، وخاصة أن الدول الإسلامية مثل ماليزيا وإندونيسيا تمتلك الإمكانات الفنية لمثل هذا المشروع. وقد بدأ هذا المشروع في إندونيسيا قبل سنوات عدة وكان شهر رمضان موسم تسويق مثل هذه الجوالات، إلا أن إنتاجها عالميا يحتاج إلى إمكانية أكبر ورغبة أوفر.
خدمات السياحة الإسلامية
إن حاجة المسلمين في ترتيب السفرات الملتزمة بأحكام الدين الإسلامي ماسة في ظل اختلاط أماكن الفساد بأماكن المصالح العامة. والمسلمون لهم أغراض واحتياجات في سفراتهم، فالمسافرون لغرض التجارة يحتاجون إلى من يدلهم على تكاليف غير باهظة في سكناتهم وتنقلاتهم. والمسافرون لغرض السياحة يحتاجون إلى منتزهات مريحة لا تشوبها شوائب المعاصي. وتشجيع الناس لزيارة الأماكن التاريخية الإسلامية أيضا مصلحة من المصالح الدينية ما لم تقترن بالبدع والشرك. إن الخدمات التي تنظم مثل هذه الأغراض في سفرات المسلمين تجعل تحركات المسلمين مرتبة ومريحة أكثر وتأتي بالنتائج المرجوة بشكل أفضل.
مساجد ومرافقها الاقتصادية
إن المساجد نقطة تمركز المسلمين في كل بلد. وكل مصلحة ترتبط بالمسجد تكون مظنة للبركة والفضل الإلهي. وكان المسلمون الأوائل يقيمون أسواقهم قريبا من مساجدهم. وكانت المدينة المنورة خير شاهد على حسن الجوار وشدة الترابط بين الحياة الاقتصادية في أسواق المدينة والروحانية العالية في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام. والجامع الأموي في سوريا يصدق هذا التوجه لدى المسلمين، ومثله صنعاء القديمة في اليمن وأيضا جامع الزيتونة والقيروان في تونس، ومدينة القرويين القديمة في المغرب أيضا تشهد تزاوجا قويا بين مساجدها وأسواقها. إن إقامة مرافق اقتصادية في جوار المسجد سنة ماضية لدى المسلمين حتى في مدن جنوب شرق آسيا التي تأخر دخول الإسلام فيها نسبيا عن بقية البلدان. فكل مدينة أنشأها المسلمون في تلك البلاد موحدة التصميم من حيث تمركزها على ميدان مربع يكتنفه مسجد في جهة وسوق في جهة أخرى ومبنى حكومي في جهة ثالثة (غالبا يكون سكن الوالي أو قصره الملكي إذا كان ملكا) وبيوت الناس من ناحية رابعة. وهذا الربط يجعل حياة المسلمين ومصالحهم مقترنة بالجو من العبادة والالتزام الديني، وهو من أقوى العوامل على تثبيت جذور الدين في الحياة العامة. فالمفترض من المحسنين المتبرعين لبناء المساجد ألا يقصروا اهتمامهم على بناء مساجد للصلاة، فإن إنعاش شيء من النشاط الاقتصادي هو دأب المسلمون الأصلاء.
برامج حماية الانترنت من الصور الخليعة المحرمة والمواد السامة المفسدة
ومن الحاجات الملحة لدى المسلمون اليوم أيضا صيانتهم من تلوث الصور الخليعة مع شدة حاجتهم إلى خدمة الإنترنت التي لا يستغني عنها كل من يمارس الحياة المواكبة لتطورات العصر. ولكن ينغص هناءة هذه الخدمة ما يبثه فاسدو الأخلاق من صور خليعة تزعج الإنسان وتفسد الإيمان. وكانت بعض الحكومات إسلامية وغير إسلامية تعمل على الحد من هذه الآفات، ولكن الحاجة إلى الحماية من تلك الصور فردية لدى كل مسلم غيور، ولا يوجد إلى الآن لحد علمي برنامج يمكن تشغيله في الكمبيوتر الشخصي يعمل على منع مثول هذه الصور أمام أعين المسلم الملتزم.
مجمعات سكنية قرآنية
رغبت شريحة من الأسر المسلمة الجديدة بنت حياتها على حب الدين في بيئة تساعدهم على الحياة الروحية والاجتماعية الإسلامية. وإن بعض شركات العقارات قد لبت مثل هذه الرغبة فبنوا مجمعات سكنية وصفوها بالإسلامية. ولم تكسد سوق هذه المجمعات في ربوع وضواحي جاكرتا الإندونيسية، إلا أنها بقيت مشاريع صغيرة مقارنة بغيرها من المجمعات السكنية العادية. وإن كانت فكرة هذه السكنات بسيطة وهي عبارة عن المجمع السكني الذي يصمم طبقا لحاجات الأسرة المسلمة من تمركز المسجد للبيوت ووجود مؤسسة تعليمية إسلامية قريبة من المسجد، وزادت بعض المشاريع حتى اشترطوا على السكان عدم ممارسات سلوكية مخلة بالأخلاق مثل التدخين والتسكع في الطرقات.
أبواب الطب البديل
ومن أخصب المجالات التي فتحت أمام المسلمين هو الاستثمار في تطوير الطب البديل بكل أنواعه، فإن لثقافة الطب الشعبي الشرقي رصيدا هائلا من المعلومات الطبية التي تفوق الطب الكيميائي الحديث في نجاعتها وسهول تطبيقها ورخص تكلفتها وتنوع خياراتها. وهي أبواب كثيرة، وليس الطب النبوي الذي جمعه ابن القيم رحمه الله هو المخزون الطبي الإسلامي الوحيد، بل لتراث ابن البيطار مجالات عذراء لم تتطرق إليه يد التحقيق العلمي والتطوير التقني إلى هذا الوقت. والاستشفاء بالعسل طرق وأبواب، وكذلك فوائد الحبة السوداء لم تزل تتزايد تجلياتها، ثم لنظام الغذاء الإسلامي أسرار صحية كثيرة، وأسرار الزيتون والتمر وغيرهما من النباتات المباركة تمدنا بآفاق متجددة. ثم للحجامة والكي والفصد أبواب غير محصورة. وما وراء ذلك كل آفاق وآفاق واسعة.
آفاق غير محدودة
إن أمامنا آفاقا غير محدودة من المشاريع التي يمكن إحداثها، ولم تعدم الأمة رؤوس أموال ولم تفتقر أيدي عاملة كفوءة، لكن خصوبة الأفكار تحتاج إلى دفع وزرع ورعاية أكبر، واستثمار العقول ينبغي التركيز عليه من قبل أصحاب النفوذ، فإنه أهم وأحسن أنواع الاستثمار.
ليس كل إنسان يجيد صناعة أحلام ترسم مستقبلا زاهرا، لكن تشكيل نمط تفكير يؤدي إلى هذا النوع من المهارة مطلب في متناول اليد. إن فهم مقاصد الشرع إذا غذي بخيال واسع تولد به تطلعات مستقبلية رائعة.
إن الأمة لا تحتاج فقط إلى العلماء لكنها أيضا تحتاج إلى الشعراء والأدباء الذين يتغنون بتلك المعاني المقاصدية التطورية التقدمية التوسعية، وقدرتهم على التصوير والتفصيل غالبا ما تفوق قدرة العلماء، فهذا النوع من التكامل يدفع بعلم المقاصد من دائرته العلمية التقليدية ليخرج إلى الساحة العامة يشارك فيها الناس في بنائها وتشييدها. إن الثورة الصناعية التي فاجأت العالم بتلك الأنماط الجديدة لم تقم على العلم وحده، بل غذاه خيال الأدباء ورسوم الفنانين الذين جمعوا بين الفن والعلم والفلسفة. إذا افترقت هذه الأمور الثلاثة لن يحصل ذلك التقدم المدني الباهر.
وتجدر الإشارة هنا إلى بداية اهتمام فقهاء العصر بفقه المستقبل، ومن ذلك عقد ندوة العلوم الفقهية التي تقام سنويا في سلطنة عمان كان موضوعها في سنة 2009م بعنوان: “الفقه الإسلامي والمستقبل.. الأصول المقاصدية وفقه التوقع.” ومع أن هذا التوجه مؤشر خير، ولكن فقه التوقع لا يقطع إلا نصف الطريق، ولا ينقذ الفقه من القصور في الدور التوجيهي للأحداث والسياسات. لا يكفي من الفقه والفقهاء أن يتوقعوا فقط، لأن هذا ليس دورا رياديا بقدر ما يكون أقرب إلى انتظار الأمور. فالفقه المطلوب هو فقه الإيقاع وليس التوقع، نريد من الفقه أن يوجه الأحداث، لا أن يتوقعها أو يترقبها فقط.
المطلب الثامن: فقه الواقع وعلومه
ومع تحمّسنا في تحقيق كل ما سبق فإنه لا يفوتنا أن نذكر أن التطلع إلى المستقبل لا يتم عن طريق القفز على الواقع، فإن تجاهل الواقع إلغاء للعقل ونطح للصخرة الصماء. وفهم الواقع شرط ضروري للانطلاق إلى بناء المستقبل. وكان العلماء لا يرون وفاء الفقيه بدوره إلا بفقههم للواقع إضافة إلى درايتهم للعلم الشرعي، قال ابن القيم رحمه الله: “ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم: أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علما. والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع. ثم يطبق أحدهما على الآخر؛ فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرا؛ فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله.”
وفهم الواقع لا يتم فقط بمطالعة الأخبار أو سماع كلام عوام الناس، ولكنه يحتاج إلى الإلمام بعلوم العصر. إن بعض التخصصات تتطلب تفرغا تاما مثل الهندسة والطب، وقلّ من يجمع مثل هذه التخصصات في وقت واحد. ولكن العلوم الإنسانية كعلم النفس وعلم الاجتماع والسياسة والحقوق والإدارة لا يصعب على طلاب العلم الشرعي أن يضموها مع تحصيلهم الشرعي. وهي علوم أكثر تأثيرا في حياة الناس وتفكيرهم وأنماط حياتهم. ومع ذلك نكرر ما سبق الكلام عليه أن المستقبل ينتظر عصرا جديدا يشهد الفقيه الحقوقي الاقتصادي المؤرخ، والمفسر المحدث الفقيه المهندس واللغوي الأديب الطبيب وهكذا. إذا رجعت الأمة إلى حب العلم كما في السابق فإن هذه الأمور ليست عزيزة عليها.
وأيضا يكون فقه الواقع بالوعي بمشكلات العصر المفصلية، مثل الإلمام بخلفيات الأزمة الاقتصادية وتداعياتها، وأزمة التعليم والبحث العلمي، ومشكلات العولمة بكل جوانبها الإيجابية والسلبية، ومشاكل البيئة من أزمة الطاقة والاحتباس الحراري … إلى ما هنالك من قضايا العصر التي شكلت أحجار زاوية في مسيرة البشرية بشكل عام، وفي كل بلد وكل منطقة قضايا رئيسية خاصة يقبح من حملة الفقه الجهل بها وعدم الانتباه لها. وإذا لم يقدم رأيا مسددا في هذه المسائل فلا أقل من ألا يربك الناس فيها برأي ينبئ عن ضحالة الفهم وضعف الثقافة وقلة العلم وغياب الحكمة.
ومن فقه الواقع أن يعرف الفقيه ما يجب على الناس تقديمه وتركيزه في وقت دون وقت وفي ظرف دون ظرف، فإن الواجبات يراعى فيها اختلاف الوقت والحال والناس. قال ابن القيم: “إن أفضل العبادة العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته، فأفضل العبادات في وقت الجهاد: الجهاد، وإن آل إلى ترك الأوراد، من صلاة الليل وصيام النهار، بل ومن ترك إتمام صلاة الفرض كما في حالة الأمن. والأفضل في وقت حضور الضيف مثلا القيام بحقه، والاشتغال به عن الورد المستحب، وكذلك في أداء حق الزوجة والأهل. والأفضل في أوقات السحر الاشتغال بالصلاة والقرآن، والدعاء والذكر والاستغفار. والأفضل في وقت استرشاد الطالب، وتعليم الجاهل الإقبال على تعليمه والاشتغال به … فالأفضل في كل وقت وحال إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال، والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه.
فليس من الفقه أن يعظ الفقيه الناس بالعزلة واجتناب المشاكل في وقت يطالب فيه الناس بإبداء موقفهم ضد المنكرات الظاهرة ومحاربتهم بالتظاهر ضدها والجهر بالحق حيالها. “وأيضا فإن الأفضل في وقت جوع المسلمين الاشتغال بما يسد جوعهم، والأفضل في وقت عريهم الاشتغال بما يكسوهم، والأفضل في وقت انتشار الفرقة والعصبية الاشتغال بما يدفع عنهم ذلك ويجمع كلمتهم … والأفضل في وقت تسكع الشباب وتعطلهم عن العمل الاشتغال بغرس قيم الإسلام في العمل وإصدار الفتاوى المعينة على تحصيل الأعمال ـ ولو لم يكن في فقهنا إلا إحياء الموات لكان كافيا لدفع كل عطالة وبطالة، وفينا النيل ودجلة والفرات وغيرها كثير. والأفضل في وقت انتشار الفساد والإجرام التصدي له بالفتاوى المحددة لمقادير العقوبات والتعزيرات وتقديمها لأجهزة العدل والأمن إبراء للذمة وخروجا من العهدة ..الخ.”
وفقه الواقع ليس تنازلا دائما للواقع، بل مبادرة الفقيه بطرح حلول له، وقد يصيب المجتهد أو يخطئ، وقد يستوفي أو يقصر، لكن بناء المستقبل لن يكون بعقلية الانتظار وردود الأفعال أو اجترار مسائل قديمة وإشغال الناس بها.
ومن فقه الواقع أن يعرف الفقيه نسبية الحقائق الاجتماعية والسياسية، فإن الحكم على مجتمع من المجتمعات لا يصح فيه التعميم بحال من الأحوال، فكل مجتمع فيه الصالح والطالح، والكريم والبخيل والطيب والخبيث. وكذلك في مجال السياسة فإن غالب مسائلها نسبية ليس فيها حق مطلق أو خطأ محض. فعلى الفقيه أن يدقق كثيرا في مثل هذه الأمور، وألا يتحمس أكثر من اللازم ما دام الصواب والخطأ فيها نسبيا يمكن فيها الأخذ والرد. وألا يشن حربا على المخالفين فيها، ففي مثل هذه المسائل يكون اختلاف الآراء ليس فقط مسموحا بل الأصل فيه الخلاف، لأن التوصل إلى رأي موحد فيها عسير إلا بعقد الحوار وتلاقح الأفكار. ولكن لا يجرنا هذا إلى الورع البارد في إنكار الظلم البين والطغيان الواضح والمنكر الظاهر في الحالات المعروفة التي يعرفها القاصي والداني. والله نسأل أن يهدي بصائرنا وينير ضمائرنا.
ومن وسائل فقه نسبيات الحقائق الاجتماعية والسياسية النظر والدراية في لغة الأرقام والإحصائيات، فإن موقف المجتمع الأمريكي مثلا لا يمكن تصوره إلا إذا عرفنا نسبة الآراء والمواقف المختلف فيها. ففيهم العلمانيون المعتدلون الذين يحترمون الأديان، وفيهم المتعصبون الأصوليون الذين يؤمنون بالكتب المقدسة، وفيهم المصلحيون الذين لا يعترفون إلا بفائدة ملموسة وفيهم المسلمون بكافة مذاهبهم. ومن الخطإ أن نحكم على المجتمع الغربي بأنه مجتمع كافر تجب محاربته جملة وتفصيلا، وهو تصور إن صح في غابر الزمان فلا يصح في عصر العولمة، لأن العولمة لا تخترق فقط المجتمعات المسلمة، فإن المسلمين أيضا غيروا واقع الغرب بأشكال مختلفة. فإن نسبيات الأحكام الاجتماعية لا يصورها أدق من لغة الإحصائية والأرقام. ولغة الأرقام أيضا تسهل عملية الموازنة التي أصبحت ضرورية في هذا الزمان الذي لا تخلو فيه قضية إلا واختلط فيها الخير والشر.
ومن فقه الواقع أن يحرص الفقيه على إيجاد الحلول لمشاكل الناس لا أن يطرح أفكارا وأحكاما تربك الناس وتثير الإشكال والجدال. إن واجب الفقيه ليس مجرد إبداء الرأي الفقهي بناء على فهمهه للنصوص فقط، وليس الحكم الشرعي هو “المنتج” الوحيد الذي يملكه الفقيه، فإنه مسؤول أيضا عن بيان مقاصد الشرع من أحكامه، وتحبيب الناس إليه، وتفعيل تعاليمه في حل مشاكل الناس وهداية طريقهم في هذه الحياة الدنيا، إن الأحكام الشرعية ليست طقوسا غامضة ولا تمتمات مجهولة، بل هي أساليب ممارسة الحياة الطيبة، علمها من علمها وجهلها من جهلها.