آفاق المستقبل

تصحيح مفاهيم وتكوين رؤى

القناعات الهدامة لمستقبل الإسلام

سيطرت على أفكار كثير من المسلمين قناعات تحول دون التطلع الإيجابي نحو المستقبل، رأت بمنظار أسود إلى كل ما هو جديد، قطعت الأمل عن أي خير قادم، بل رمت بروح عدائية إلى أي شيء حادث. والطامة الكبرى أن تكون تلك المعتقدات ناشئة عن الإيمان ببعض النصوص الدينية، مما دفعت ببعض المؤمنين إلى تنكُّب طريق التقدم الحضاري وتجنّب عمل البناء المستقبلي إيمانا منهم بإيحاءات خاطئة لتلك النصوص. وقد ظلت هذه الأفكار قرونا تسيطر على عقول كثير من المسلمين حتى ظن بعضهم أنها جزء من الإيمان وضرب من التمسك بالدين. سنفنّد في هذا الفصل تلك القناعات المضللة والأفكار الهدامة ونصححها وفقا لما دل عليه مجموع الآيات القرآنية والأحاديث الصحيحة النبوية بإذن الله.

الإشكال الأول: التشاؤم المبرر بالدليل

من أبرز تلك المعتقدات الخاطئة اعتقادهم بأن الزمن لا يأتي إلا بالأسوأ، وأنه كلما تأخرت العصور زاد الشر ولن يرجع ذلك الخير الذي جاء به الإسلام. وبالتالي يتوجسون من كل جديد ويقنطون من كل محاولات الإصلاح، ويتجنبون من كل دعوات إعادة مجد الأمة.

وكانت شبهتهم ناتجة عن فهم مغلوط لبعض الأحاديث مثل حديث “لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه” وحديث “خير القرون قرني” وأحاديث أشراط الساعة التي أخبر فيها الرسول عن الفتن والشرور التي ستقع قرب قيام الساعة.

فهذه الأحاديث في الحقيقة لا تدل على تزايد الشر المستمر وتناقص الخير المطرد بحيث لا أمل قط في إصلاح الأمة وفي نهضتها بعد كبوتها، وعودة مجدها بعد حقبة من تراجعها. ويتبين ذلك بعرض هذه الأحاديث على مجموعة من النصوص التي تفسر مجملها وتحدد مفهومها، فإن نصوص القرآن والسنة وحدة مترابطة وصفحات متناسقة يمسك بعضها بحجز بعض. وقد تقدم الكلام على مثل هذه الأحاديث أنها جزء مكمل لجزء آخر فيه أحاديث تبشر بالخير وتنبئ باستمرار خيرية هذه الأمة وتجدّد قوة هذا الدين. ولكن لزيادة الإيضاح نخصص كلاما لنفض الغبار عن معاني هذه الأحاديث وكيف تفهم فهما صحيحا في ضوء منهجية التكامل الدلالي وليس على طريقة التجزيء الحرفي.

معنى حديث “لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه”

فأما ما رواه البخاري في صحيحه عن الزبير بن عدي[1] قال: أتينا أنس بن مالك فشكونا إليه ما يلقون من الحجاج. فقال: اصبروا، فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده شر منه، حتى تلقوا ربكم، سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم.[2] فالظاهر من الحديث أنه يقصد زمن الصحابة وليس كل الأزمنة، ويفسر هذا أحاديث عدة سيأتي إيرادها.

لذلك قال ابن حجر رحمه الله في هذا الحدبث: ويحتمل أن يكون المراد بالأزمنة المذكورة أزمنة الصحابة، بناء على أنهم هم المخاطبون بذلك، فيختص بهم، فأما من بعدهم فلم يقصد في الخبر المذكور.[3]

واستدل ابن حبان في صحيحه بأن حديث أنس ليس على عمومه بالأحاديث الواردة في المهدي وأنه يملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا. وعقد باب “ذكر الخبر المصرح بأن خبر أنس بن مالك لم يرد بعموم خطابه على الأحوال كلها[4] فأورد حديث لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلا لَيْلَةٌ، لَمَلَكَ فِيهَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.”[5]

وأقوى من استدلال ابن حبان ويؤكد معنى التخصيص بوضوح الحديث المتفق عليه عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما يقول: كان الناس يسألون رسول الله  صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني.

فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟

قال: نعم.

قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟

قال: نعم، وفيه دخَن.

قلت: وما دخنه؟

قال: قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر.

قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟

قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها.

قلت: يا رسول الله صفهم لنا.

قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا.

قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟

قال: الزم جماعة المسلمين وإمامهم.

قلت: فان لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟

قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك.[6]

وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بعد زمن الشر يأتي زمن الخير، فهما متعاقبان، وليس الشر في تنام مستمر أو الخير في تناقص متزايد.

فالحديث يتحدث عن النمط الذي تمر على نحوه مراحل تاريخ هذه الأمة من تعاقب الخير والشر وفق سنة التداول. وسيتكرر تعاقب الخير والشر على هذا النمط. فكلما وصل المسلمون إلى وضع يسود فيه الخير -طال أو قصر- يعقبه امتحان من الله بظهور الشر-طال أو قصر، ثم يزول هذا الشر ويعقبه خير، إلا أن بقية الشر عالقة وإن كانت قليلة بالنسبة إلى الخير السائد، ثم يأتي زمن الشر مرة أخرى، ثم زمن الخير وفيه بقية الشر وهكذا. ولم يشر صلى الله عليه وسلم أن في زمن الشر بقية خير لأن الخير هو الأصل في الكون، وهو الثابت في كل زمان، إلا أن طغيان الشر له جولة وصولة فترة من الزمن تخفي كثيرا من الخير ولم تزله. كما قال تعالى: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ)[7].

ولا يلزم أن يكون الخير الأول مثل الخير الثاني والشر الأول مثل الشر الثاني، ولا قوة أصحاب الحق في مرحلة مثل قوتهم في مرحلة أخرى، وكذلك أهل الشر.

وكذلك حديث “بدأ الإسلام غريبا، وسيعود كما بدأ غريبا، فطوبى للغرباء.”[8] فإنه يتحدث عن فترة من التاريخ وليس مطردا في كل العصور.

قال العلامة الشيخ يوسف القرضاوي: “والذي أراه أن الحديث يتحدث عن دورات أو (موجات) تأتي وتذهب. وإن الإسلام يعرض له ما يعرض لكل الدعوات والرسالات من القوة والضعف، والامتداد والانكماش، والازدهار والذبول، وفق سنة الله التي لا تتبدل. فهو كغيره خاضع لهذه السنن الإلهية، التي لا تعامل الناس بوجهين، ولا تكيل لهم بكيلين. فما يجري على الأديان والمذاهب يجري على الإسلام. وما يجري على سائر الأمم يجري على أمة الإسلام.”[9]

ويؤكد ذلك أيضا ما رواه أبو داود عن أبي هريرة مرفوعا: أن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا.[10]

فهذه الأمة لن تعدم من يقوم بتقوية دعائم الدين ويعيد روحه وينشر نوره. وهو مصداق قول الله عز وجل: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[11]

وقد أخبر الرسول بتجدد حيوية هذه الأمة فقال: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون.[12]

وينضاف إليه ما روي عن أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “مَثَلُ أُمَّتِي مَثَلُ الْمَطَرِ لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ.”[13]

وهذا المعنى ينسجم مع مجموع النصوص التي تدل على أن الله ينصر الحق وأهله، وأنه متم نوره ولو كره الكافرون، وأنه لا يزال طائفة من أمة الإسلام قائمين على أمر الله ظاهرين على الحق منصورين. هذا كله يدل على أن الخير باقٍ في هذه الأمة إلى نزول عيسى عليه الصلاة والسلام، ثم يبعث الله ريحا تقبض روح كل مسلم، فلم يبق إلا شرار الخلق، فذلك عهد شر محض. وهذه النصوص قد سبق بيانها في الفصل السابق في مبحث منافذ المعرفة المستقبلية.

وتاريخ المسلمين يدل على هذه الحقيقة ، فكلما ظهرت الفتنة أطفأها الله، ولكن بقي بعدها بعض آثارها، إلا أن هذا الزمن الثاني خير من الأول. وكلما ظهرت البدع وأهلها بعث من الأمة من يتصدى لها، وكتب الله له الظهور والقبول، وتبعه السواد العظيم من الأمة. وهكذا. وكذلك حكام المسلمين ظهر فترة بعد فترة من يقوم بالعدل، وينشر الخير، وإن تفاوتوا في الخير وقوته. وليس زمن الخير بعد الشر فقط في عهد عمر بن عبد العزيز. فأبو جعفر المنصور وهارون الرشيد أيضا في عهدهما خير كثير، حيث استتب الأمر، وانتشر العلم، وشاع الخير والأمن. وكذلك ظهور أمثال عماد الدين زنكي، ونور الدين محمود، وصلاح الدين الأيوبي، ثم ظهور محمد الفاتح في الخلافة العثمانية، وفي المغرب ظهور عبد الرحمن الناصر ويوسف بن تشفين أيضا دلائل على هذا القانون الثابت، فالدين يتجدد على أيدي العلماء والأمراء وأفراد الأمة المميزين. وإن كان خيرا دون خير، وشرا دون شر. وقد تقدم الكلام عن سنن الكون ونصوص الأخبار المستقبلية ما يؤطر الفهم الصحيح لمثل هذا الحديث.

معنى حديث “خير القرون قرني”

ومن الأحاديث التي أسيئ فهمها ونشأ بسببها التشاؤم من المستقبل ما رواه الشيخان عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ.[14]

وعن عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَيْرُ أُمَّتِي قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ قَالَ عِمْرَانُ فَلَا أَدْرِي أَذَكَرَ بَعْدَ قَرْنِهِ قَرْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا[15] ثُمَّ إِنَّ بَعْدَكُمْ قَوْمًا يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ وَيَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ وَيَنْذُرُونَ وَلَا يَفُونَ وَيَظْهَرُ فِيهِمْ السِّمَنُ.[16] وفي رواية للترمذي: ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِهِمْ قَوْمٌ يَتَسَمَّنُونَ وَيُحِبُّونَ السِّمَنَ يُعْطُونَ الشَّهَادَةَ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلُوهَا.[17]

فهذه الروايات تدل على خيرية وأفضليه الصحابة والتابعين وأتباع التابعين[18] بلا شك. لكن هل هذا يدل ذلك أن من بعد هؤلاء القرون المفضلة ليس فيهم خير ولا يعقد عليهم أمل؟ وهل يعني ذلك أنه ليس لمن بعدهم دور مسموح إلا ترديد ما قالوا وتكرير ما فعلوا؟

بل الأحاديث الأخرى تدل على أن الخير باق في أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة، وَقَدْ رَوَى اِبْن أَبِي شَيْبَة مِنْ حَدِيث عَبْد الرَّحْمَن بْن جُبَيْر بْن نُفَيْر قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ “لَيُدْرِكَنَّ الْمَسِيح أَقْوَامًا إِنَّهُمْ لَمِثْلُكُمْ أَوْ خَيْر – ثَلَاثًا – وَلَنْ يُخْزِي اللَّه أُمَّة أَنَا أَوَّلهَا وَالْمَسِيح آخِرهَا.”[19]

وروى الإمام مالك في الموطّإ ومسلم في صحيحه قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : “وَدِدْت أَنَّا قَدْ رَأَيْنَا إِخْوَاننَا قَالُوا: أَوَ لَسْنَا إِخْوَانك يَا رَسُول اللَّه ؟ قَالَ : بَلْ أَنْتُمْ أَصْحَابِي وَإِخْوَاننَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْد.”[20]

فكل هذه الأحاديث تخبرنا بأن الأجيال التالية بعد القرون المفضلة ليسوا كلهم أناس سوء، بل تمر الأمة بفترات نكوص ثم نهوض.

فالمؤمنون اللاحقون لهم دور متميز موصول بالأدوار السباقة التي قام بها السلف الصالح، ولهم أفضلية الصبر المضاعف على أجر الصحابة فقد رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيث أَبِي ثَعْلَبَة رَفَعَهُ “تَأْتِي أَيَّام لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ أَجْر خَمْسِينَ ، قِيلَ : مِنْهُمْ أَوْ مِنَّا يَا رَسُول اللَّه ؟ قَالَ : بَلْ مِنْكُمْ”[21] وَهُوَ شَاهِد لِحَدِيثِ “مَثَل أُمَّتِي مَثَل الْمَطَر” وقد تقدم الكلام عنه.

هذا مع التبيه بأن كل خير حصّله المتأخرون إنما هو ثمر من ثمار السابقين الأولين، وتضاف حسنات الآخرين على حسنات الأولين لأنهم هم السبب والمنبع. فمسيرة الأمة المحمدية متواصلة مستمرة، لا تقف عند القرون الأولى.

وزد على ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد نهانا عن ذم الناس جملة، بل من نفى عن الناس الخير فهو أشقاهم، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا قَالَ الرَّجُلُ: هَلَكَ النَّاسُ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ.[22]

الفتن وأشراط الساعة

أما أحاديث الفتن وأشراط الساعة فليس القصد منها التيئيس من تحصيل الخير، بل هو تنبيه وتحذير لكي لا ينجرف المسلم في سيل من الانحرافات التي لا ينجو منها إلا من كان عنده علم بها. ومع ذلك يظل المؤمن ينفذ أمر الرسول صلى الله عليه وسلم: “إِنْ قَامَتْ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ.”[23] فمعرفة الفتن وظهور بعض علامات الساعة لا توقف المؤمن عن سير عمل ما كلف به ما استطاع.

فإن وجود الصعوبات ليس مبررا للقعود عن العمل والاستسلام للواقع الخاطئ. بل هذه الأحاديث في الحقيقة تشحذ الهمة وتقوي العزيمة لمواجهة التحديات التي تفرز الصدق والصبر وتصقل المعدن الطيب لدى المؤمنين الأوفياء.

ومهما عظمت الفتن وعم الفساد فإن ذلك لا يخرج عن نطاق قدرة الإنسان على مواجهته، قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}[24] وقال: { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا}[25] والحق دائما يتوسط بين مبالغة المهوِّلين وتساهل المهوِّنين، لأن الله جعل لكل شيء قدرا مقدرا، فلا هي أوضاع تستحيل النجاة فيها، ولا هي أمور يجوز التهاون فيها. والعصمة في ذلك دائما لمن فوض أمره لله والتجأ إليه وتمسك بهديه، وليس الله بغائب في عصر الفتن، ولكن الناس أنفسهم يظلمون. نسأل الله الثبات والنجاة من الفتن فإنه ولي ذلك والقادر عليه.

الإشكال الثاني: هل كل جديد بدعة؟

وشبهة أخرى وسوء فهم آخر استولى على تفكير كثير من المسلمين جعلهم يطنون أن كل شيء جديد لم يكن في عهد السلف بدعة منكرة ينبغي اجتنابها وتجب محاربتها. فهل كل شيء استُحدِث بعد عهد السلف الصالح بدعة منكرة؟ أم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قصد بالبدعة نوعا خاصا من المستحدثات؟ سنعالج هذه المسألة بالرجوع إلى مجموع النصوص المتعلقة بهذا الموضوع لنعرف ما هو المقصود بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن البدعة.

إن الكلام عن البدع يدور على ثلاثة أحاديث:

الأول: حديث العرباض بن سارية: قَالَ صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟ فَقَالَ: أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ.[26]

الثاني: عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَد.[27]

والثالث: عن عَائِشَةُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ.[28]

ولفهم هذه الأحاديث لا بد من تفصيل نقاط ثلاث: ما معنى البدعة الذي قصده الرسول صلى الله عليه وسلم؟ ما هي الأمور المحدثات التي تدخل في مسمى البدعة؟ وهل هذا العموم يدخله تخصيص؟

معنى البدعة لغة واصطلاحا

أما أصل كلمة البدعة في اللغة فهو من أَبْدَعْتُ الشيءَ أي اخترعته عَلى غير مثالٍ سابق.

قال ابن فارس: (بدع) الباء والدال والعين أصلان: أحدهما ابتداء الشيء وصنعُه لا عَنْ مِثال، والآخر الانقطاع والكَلال.

فالأول قولهم: أبْدعْتُ الشيءَ قولاً أو فِعلاً، إذا ابتدأتَه لا عن سابق مثال. والله بديعُ السّمواتِ والأرض. والعرب تقول: ابتدَعَ فلان الرَّكِيَّ إذا استنبَطَه. وفلانٌ بِدعٌ في هذا الأمر. قال الله تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ}[29]، أي ما كنتُ أوّل.

والأصل الآخر قولهم: أُبْدِعَتِ الراحلةُ، إذا كَلّت وعَطِبت، وأُبدِع بالرَّجُل، إذا كَلَّتْ رِكابُه أو عَطِبت وبقي مُنْقَطَعاً به. وفي الحديث: “أنّ رجلاً أتاه فقال يا رسول الله، إني أُبْدِعَ بي فاحمِلْني”.[30] ويقال الإبداع لا يكون إلا بظَلْعٍ. ومن بعض ذلك اشتُقّت البِدْعة.[31]

قال أبو عبيد: قال أبو عبيدة: يقال للرجل إذا كَلَّتْ رِكابه أو عطبيت وبقي منقطعاً به: قد أُبدِع به.

قال: وقال الكسائي مثله، وزاد فيه: أبدَعَت الركاب إذا كَلَّتْ وعطبت، وقال بعض الأعراب: لا يكون الإبداع إلا بظَلْعٍ، يقال أبدَعْت به راحلته إذا ظَلَعتْ.

قال أبو عبيد: وليس هذا باختلاف، وبعضه شبيه ببعضٍ.

وقال اللحياني: يقال أبْدَعَ فلان بفلان إذا قَطَع به وخذله ولم يقم بحاجته ولم يكن عند ظنه به.

وقال أبو سعيد: أبِدْعَتْ حُجَّة فلان أي أبْطِلت، وأبْدَعَتْ حجته أي بطلت.

وقال غيره: أبْدع بِرُّ فلان بشكري وأبدع فضله وإيجابه بوصفي إذا شكره على إحسانه إليه، واعترف بأن شكره لايفي بإحسانه.[32]

نخلص من هذا السرد لأقوال اللغويين بأن كلمة البدعة لها أصلان: الأول معنى اختراعه وحدوثه على غير سابق مثال، والثاني معنى الانقطاع لسبب من الأسباب. فالبدعة على المعنى الأول مقطوعة من جهة أصله وعلى الثاني من جهة استمراره.

أما معناها في اصطلاح الشرع فهو – كما قال ابن رجب الحنبلي: ما أُحْدِثَ ممَّا لا أصل له في الشريعة يدلُّ عليه. فأمَّا ما كان له أصلٌ مِنَ الشَّرع يدلُّ عليه، فليس ببدعةٍ شرعاً، وإنْ كان بدعةً لغةً.”[33]

فهذا التعريف يخصص من محدثات الأمور ما لا أصل له في الشريعة، أما الأمور المحدثة التي تستند إلى أصل شرعي فليس ببدعة. قال ابن دقيق العيد في قوله: “وإياكم ومحدثات الأمور”: إعلم أن المحدث على قسمين: محدث ليس له أصل في الشريعة فهذا باطل مذموم. ومحدث يحمل النظير على النظير، فهذا ليس بمذموم لأن لفظ المحدث ولفظ البدعة لا يذمان لمجرد الإسم بل لمعنى المخالفة للسنة والداعي إلى الضلالة، ولا يذم ذلك مطلقاً.[34] واستدل على ذلك بقوله تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ}[35] فقد وُصف الذكر – أي القرآن- بأنه محدث مع أنه هو ذاته أصل الشرع، وبقول عمر رضي الله عنه في وصف صلاة التراويح: “نعمت البدعة هذه.”[36]

فليس كل ما هو محدَث أو مبتدَع داخلا في النهي المقصود. فقد أحدث المسلمون واخترعوا أمورا غير معهودة في عهد الرسول ولا الصحابة، فتلك المخترعات والمحدثات منها ما له أصل في الشريعة ومنها ما ليس له أصل فيها. فعلم النحو والصرف ومفردات اللغة وأصول الفقه ومصطلح الحديث وسائر العلوم الخادمة للشريعة، فإنها وإن لم توجد في الزمان الأول، فأصولها ثابتة في الشرع، بل هي امتداد ضروري لاستمرار فاعلية الشرع، فإحداثها مطلوب شرعا، ولا يستقيم أمر الدين بدونها.

ولكن هذا التعريف لم يفرق بين الأمور الدينية والأمور الدنيوية أو بين العبادات والعادات. والشاطبي رحمه الله – وإن أورد خلافا في المسألة – أكد أن التعريف مقيد بـ”الدين” وقال إن البدعة هي عبارة عن: “طريقة في الدين مخترعة، تضاهي الشرعية، يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه”.[37]

قال: وإنما قيدت بالدين، لأنها فيه تخترع، وإليه يضيفها صاحبها. وأيضا فلو كانت طريقة مخترعة في الدنيا على الخصوص لم تسم بدعة، كإحداث الصنائع والبلدان التي لا عهد بها فيما تقدم.[38]

وهذا الذي اختاره الشاطبي وغيره هو المشهور، ولكن في المسألة رأيا آخر عند العلماء. وسيأتي تفصيله قريبا بحول الله.

وقد أضاف الشاطبي رحمه الله قيدين آخرين فوق قيد “الدين”. فوصف البدعة بكونها “تضاهي الشرعية” فإن البدعة لا تكون بدعة إلا إذا وضعت موضع الشرعية ونُظِر إليها كأمر له صفة شرعية وقداسة دينية. وهذه اللفتة مهمة، لأن الشرع لا ينهى عن إحداث أمر جديد لكونه جديدا غير معهود، بل نهى عنه لكونه مضاهاة للشرع وافتراء عليه ما لم يكن منه.

فعلى هذا فإن أحسن التعاريف التي قيلت في البدعة هو تعريف العلامة حافظ الحكمي، قال: “… ومعنى البدعة هو: “شرع ما لم يأذن الله به ولم يكن عليه أمر النبي – صلى الله عليه وسلم- ولا أصحابه.”[39] فقد أبرز كون البدعة عبارة عن شرع ما لم يأذن به الله.

وأما القيد الأخير للشاطبي وهو قوله: “يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله” فلا يسلم به لأنه يلزم منه أنه إذا كان القصد غير المبالغة في التعبد لم يكن بدعة، وقد حدثت بدع كان القصد منها أسوأ من ذلك، وهو تغيير معالم الدين وإبعاد الناس عن العقيدة الصحيحة كما عند الفرق الضالة كالجهمية والباطنية وغيرهم. فليس عندهم قصد المبالغة في التعبد بل قصدهم التسيب والتملص من حدود الدين.

وعليه فالتعريف المختار عندي هو: “ما أحدث من أمر الدين مما لا أصل له منه ولا دلّ عليه.” فإن كل ما أحدث في غير أمر الدين فليس من البدعة، وكذلك ما له أصل فيه ودل عليه دليل الشرع. وقد سبق بيان ذلك. فكلُّ من أحدث شيئاً ونسبه إلى الدِّين، ولم يكن له أصلٌ من الدِّين يرجع إليه فهو ضلالةٌ، والدِّينُ بريءٌ منه، وسواءٌ في ذلك مسائلُ الاعتقادات أو الأعمال أو الأقوال الظاهرة والباطنة .[40]

مفهوم البدعة بين التوسيع والتضييق

فقد اختلفت أنظار العلماء في تعريف البدعة وتحديد مفهومها من حيث الإطلاق والتقييد. فمنهم من حصر البدعة في باب العبادات فضيّق مفهومها فقصرها على الابتداع في أمور الدين التعبدية حصراً. ومنهم من وسّع مفهومها فأطلقها على كل محدث من الأمور، وجعلها تنقسم إلى أقسام خمسة: فهي إما واجبة أو مندوبة أو مباحة أو مكروهة أو محرمة. [41]

وقال بهذا الرأي: الإمام عز الدين بن عبد السلام سلطان العلماء وابن الجوزي وأبو شامة المقدسي والنووي والعيني وابن الأثير والقرافي والسيوطي وغيرهم. قالوا: إن البدعة تطلق على كل محدثة لم توجد في كتاب الله سبحانه وتعالى ولا في سنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – سواء أكانت في العبادات أم العادات وسواء أكانت محمودة أو مذمومة. [42]

فأدخلوا في البدعة مع العبادات والعادات ما له أصل شرعي وما ليس له أصل. فهم بالتالي لا يفرقون بين البدعة بمعناه اللغوي ومعناها الشرعي. وبناء عليه قالوا إن البدعة تنقسم إلى حسنة وسيئة، فإن وافقت السنة فهي حسنة محمودة، وإن خالفت السنة فهي سيئة مذمومة.

وقال بالرأي الأول: الإمام مالك والبيهقي والطرطوشي وشيخ الإسلام ابن تيمية والزركشي وابن رجب والشُّمَنِي الحنفي وغيرهم، واختاره جماعة من العلماء المعاصرين.[43] فقد ذهبوا إلى أن البدعة مخالفة للسنة ومذمومة شرعاً، لأنها محدثة لا أصل لها في الشرع. فليس من البدعة المحدثات في الأمور الدنيوية والعادات، وليس من البدعة أيضا المحدثات التي تستند إلى أصول شرعية معتبرة.

وهذا القول أسلم وأقرب إلى فحوى النصوص لأن جمع المحمود والمذموم في مسمى البدعة لا يتناسب مع مطلق إنكار الرسول صلى الله عليه وسلم للبدعة وتعميم ضلالته، ولم يستخدم الشرع لفظ البدعة إلا في سياق الذم. صحيح أن هذا العام مخصوص ببعض المحدثات التي تنشأ من أصول شرعية معتبرة كما قدمنا، ولكن هذا الخلط يؤدي بالنهي إلى عدم الفائدة، لأنه إذا قلنا إن المرجع في رفض المحدثات إلى مخالفة السنة فقط فلا داعي للنهي عن المحدثات لكونها محدثات. فتلك الأحاديث لم تستند إلا إلى كون المحدثات ليس لها عهد ولا أصل يرجع إليه. ولأن الخلط بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي يفتح الباب على كل دعوى استحسان بدعة تأتي بمبررات وحجج متكلفة، وبالتالي فهو يحدث إرباكا كبيرا لدى عامة الناس لعدم وضوح تحديد معنى النهي، ولأنه بذلك يكون المخصوص أكثر من المشمول، والمستثنى أكثر من المستثنى منه، وهو أمر يُخلّ بفصاحة البيان ولا يليق ببلاغة لغة الشرع التي لا عوج فيها ولا التواء.[44]

المحدثات التي ليست بدعا منهيا عنها

ورغم هذا الاختلاف بين القولين فإنهم اتفقوا على أن عموم الحديث “كل محدثة بدعة” مخصوص، فأول ما يخصصه حديث عائشة المتفق عليه “من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه” فهناك قيدان لذلك العموم: الأول قوله “في أمرنا” يعني في أمر الدين وأمر التشريع، والثاني: “ما ليس منه” يعني ما لا أصل له من الدين والشرع.

فعلى المذهب الأول الذي ضيق معنى البدعة يكون هذان القيدان يخصصان مسمى البدعة. وعلى المذهب الثاني الذي وسعه يكون القيدان يخصصان النهي المسلّط على البدعة.

وقد استقر رأي الأمة سلفا وخلفا على إقرار كثير من الأمور التي حدثت وأحدثت بعد عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنها: كتابة المصحف وتدوين الأحاديث وكتابة التفسير وتدوين الفقه والكلام في علوم اللغة. وهذا في أمور الدين كلها لها أصل في الشرع، أما في أمور الدنيا فحدّث ولا حرج، فقد أحدثوا في بناء مدن وإنشاء الدواوين وترتيب الجيوش… إلى آخره.[45] وهكذا فإن الإسلام لا يقف أمام اختراعات الإنسان لصالح أمور دينهم ودنياهم. ولا يشجع الإسلام على البقاء في قالب جامد في التفكير الديني الذي يمنع التصرف الواسع في خدمة الدين وإصلاح الدنيا.

وقد استمر هذا النمط من التوسع في إحداث العلوم وصور العمران قرونا طويلة، حتى دخلت الأمة في عصر الجمود الذي توقفت فيه حركة التوسع الحضاري والإنتاج الفكري، فلم تنتج الأمة أي جديد سوى صور من التكرير والترديد. وبدل أن يبتكروا في الميادين التي سمح فيها الشرع وحث عليها اتجهوا إلى ابتداع أنماط تعبدية واعتقادات دينية ما أنزل الله بها من سلطان. فانقلبت حال الأمة من موقع قائد إلى مقود، ومن سائد إلى مسود، ومن غالب إلى مغلوب.

لماذا مُنعت البدعة؟

وحتى يكتمل فقه المسلم لمسألة البدعة لا بد من استيعاب المغزى الذي قصده الشرع من نهي البدعة والتشديد عليه، ليكون فهمه لهذه المسألة مبنيا على الوعي بما قصده الشرع من جلب المصالح ودفع المضار. فلم يأمر الشرع إلا لتحقيق المصالح ولم ينه عن شيء إلا لدفع المضار.

والحقيقة أن النهي عن البدعة يحقق مصالح متعددة ويجنب مضار متنوعة:

أولا: أن الشرع يريد الحفاظ على أصالة الدين ونقاوته. وأية زيادة على ما وضعه الشرع يهدّد في قوته الأصيلة ويخل بخصائصه المتميزة ويفسد مكوّناته المكتملة. ولقد أكمل الله الدين، وشمل هدي السنة جميع مناحي الحياة البشرية، فإذا نشأت بدعة واحدة انزاحت عن مكانها سنة، كما في الحديث: ما أحدثَ قومٌ بدعةً إلا رُفع من السنة مثلها.[46]

ثانيا: إن الشرع قصد الاقتصار على نمط محدد من صنوف العبادات ليتيح مجالا واسعا في الأعمال الدنيوية. فلو زيد من الأعمال التعبدية على ما علمه الرسول صلى الله عليه وسلم صار ذلك على حساب وقت الناس في أشغالهم الدنيوية ومصالحهم المعيشية. فما شغلت البدعة أوقات الناس إلا تأثر وتعثر بموجبها نشاطهم الدنيوي. وهذا يفسر العلاقة المتلازمة بين انتشار البدع وظهور صور التخلف الحضاري لدى المسلمين. فما تخلّف المسلمون حضاريا إلا بعد سيطرة البدع على حياتهم. فكلما تمسك الناس بالسنة واكتفوا بها انفتحت لهم أبواب التقدم وتهيأت معها طرائق النهضة.

ثالثا: كل ما أحدثه الإنسان من الزيادة على الشرع لم يخلُ من الطبيعة البشرية الملازمة للنقص والقصور، فإذا أضيف هذا إلى الشرع لحِقت بالشرع تلك الوصمة الناقصة المشينة، فهذا ضرر عظيم على الدين وأي ضرر.

رابعا: إن الشرائع السابقة – قبل هذه الشريعة المحمدية – ما انطمست معالمهما ولا انحرف أهلها إلا بسبب زياداتهم على تعاليم أنبيائهم. فالبدع مدخل عظيم لسيل من الانحرافات الدينية التي تجرف بأركان الدين وتقلع دعائمه. فلولا حفظ الله لهذا الدين ببعثة العلماء المجددين المصلحين الداعين إلى السنة والمحذرين من البدعة لذهب هذا الدين وانطفأ هذا النور وهلكت هذه الأمة كما هلك من قبلهم.

خامسا: إن النهي عن البدعة يشكّل توفيرا لجهود المسلمين اللاحقين، لكيلا يتجهوا إلى الاتجاه الخطأ ويجتهدوا في المجال الذي لا يحتاج إلى الاجتهاد، وحتى ينصرفوا إلى المجالات التي تتطلب اجتهادا وتطويرا وابتكارا. فالأمة لا تحتاج إلى “تطوير” سبل التقرب إلى الله والاتصال به، ولا إلى مزيد من الصلوات فوق ما علمنا إياها الرسول صلى الله عليه وسلم، لكنهم طولبوا بتطوير مصالحهم الدنيوية وترقية أوضاعهم العمرانية.

سادسا: إن في الاقتصار على هدي السنة اختصارا لسلوك العباد إلى الله، فإنه طريق مضمونة ورحلة مأمونة، وكل طريق سوى هذه الطريق محظورة نهايتها مجهولة ونتائجها مردودة.

سابعا: التمسك بالسنة واجتناب البدع طريق إلى وحدة الأمة فإن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم واحدة لا تختلف في بلد دون بلد ولا شعب دون شعب، بخلاف البدع فإنها تختلف اختلافا شتى وتتعدد تعددا لا نهاية له. وفي توحيد أنماط العبادات ترسيخ لروح الوحدة وتعميق للشعور بالأخوة والتلاحم والتراحم.

ثامنا: إن في الدعوة إلى السنة دعوة إلى حب الله ورسوله، وسببا لجلب حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}[47]

تاسعا: إن التمسك بالسنة والحذر من البدع سد منيع أمام محاولة أعداء الدين لإبعاد الناس عن دينهم، فإن أعداء الإسلام عرفوا سر قوة هذا الدين الأصيل، فلا يضعف هذه القوة ولا يفسدها إلا اختلاطها بالبدع المستحدثة قصدا لتعكير هذا الدين الناصع وتغطية نوره الساطع.

عاشرا: إن الالتزام بسنة النبي المصطفى عليه الصلاة والسلام والتبري من البدعة مؤهِّل من مؤهلات الورود على حوض الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، قال عليه الصلاة والسلام: أَلَا لَيُذَادَنَّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ، أُنَادِيهِمْ: أَلَا هَلُمَّ! فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ! فَأَقُولُ: سُحْقًا سُحْقًا!![48]

قال الإمام الحافظ أبو عمرو بن عبد البر: كل من أحدث في الدين فهو من المطرودين عن الحوض، كالخوارج والروافض وسائر أصحاب الأهواء، قال: وكذلك الظلمة المسرفون في الجور وطمس الحق والمعلنون بالكبائر، قال: وكل هؤلاء يخاف عليهم أن يكونوا ممن عنوا بهذا الخبر.[49]

وذلك في حق من مارس البدع وتابع الناس على بدعهم، فأما من أحدث البدع واخترعها لأول مرة وروّجها في الناس ودعاهم إليها ونسبها إلى الدين وأعطاها المشروعية المزيفة فقد ارتكب جريمة الافتراء على الشرع، وهو أقبح صور الظلم كما قال الله تعالى: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[50] والوعيد على من افترى الكذب على الله في القرآن كثير.

إن في اختراع البدع مضاهاة للشرع ومزاحمة لسلطة لا يشرك الله فيها أحدا، قال تعالى: { وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا}[51] وقال تعالى: { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ}[52] بل الشرك بالله لم ينشأ إلا بالابتداع، قال تعالى: { قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُون}[53] وقال تعالى: { مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ}[54]

بين الابتداع الديني والإبداع الدنيوي

وبناء على الإدراك لخطورة البدع وفهم معناها الشرعي ننطلق إلى التحقيق فيما ليس فيه حظر عن إحداث الجديد فيه، بل تُطلب الأمة بأن تأتي فيه بجديد. وهذه مسألة قلّ من بحث فيها وأكد على أهميتها وملء فراغها. مع أن هذا من التوازن المطلوب، بين المبالغة في التحذير من البدع فيتخوف الناس من التفكير الإبداعي والعمل الابتكاري، وبين التساهل فيها فينفرط عِقد الدين وتنطمس معالمه.

فهنا يجب التأكيد على التفرقة بين العبادات والعادات، وإن طبيعة البيان الشرعي تفرّق بين المجالين، ففي العبادات يكون البيان فيها مفصلا، لأنه لو ترك لكل إنسان أن يخترع لنفسه عبادة خاصة لابتدع الناس أشياء ما أنزل الله بها من سلطان، ولأن العبادة تتعلق بأمور غيبية لا تعرف الناس ماهيتها فلا يمكن أن يتوصل الناس إلى الشكل الأنسب لهم في مصلحتهم الغيبية.

وأما في العادات والشؤون الدنيوية كالبيع والشراء على سبيل المثال اكتفى الشرع ببيان صور الظلم المحرمة وبيان البيوع الفاسدة، أما العقود المشروعة فلم يحددها الشرع، لأن الإباحة فيها هي الأصل. وقلُ مثل ذلك في الحياة السياسية العامة اكتفى الشارع بوضع الخطوط العريضة والمبادئ الأساسية، كمبادئ الشورى وواجب النصح للمسلمين وحرمة الخيانة إلى آخره… ثم ترك التفاصيل لاجتهاد الناس، لأن تفاصيل الأمور فيها دائمة التغير، وذلك أيضا لكي يتسع المجال للابتكار والتطوير. وهكذا فإن الشريعة رُتّبت على ما هو أصلح للبشر وأنفع للخلق.

وهكذا اقتضت حكمة الشرع أن يوسع المجال للناس لأن يبتكروا ويجتهدوا في أمور دنياهم، قال عليه الصلاة والسلام في قصة تأبير النخل المعروفة: “أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ.”[55] وكما في الحديث: كُلُوا وَاشْرَبُوا وَالْبَسُوا وَتَصَدَّقُوا فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا مَخِيلَةٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: “كُلْ مَا شِئْتَ وَالْبَسْ مَا شِئْتَ مَا أَخْطَأَتْكَ اثْنَتَانِ سَرَفٌ أَوْ مَخِيلَةٌ.”[56]

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “فباستقراء أصول الشريعة نعلم أن العبادات التي أوجبها الله أو أحبها لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع. وأما العادات فهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه، والأصل فيه عدم الحظر.”[57]

وقال أيضا: “أن البدع التي هي محل الكلام هنا هي ما أحدثه الناس في العبادات وشعائر الدين، وشرائعه، كالأعياد المحدثة، والبدع التي أحدثها الناس حول القبور والمزارات والمشاهد، وكالصلوات المحدثة، مثل صلاة الرغائب، والصلاة الألفية، والصيام المحدث، مثل صيام أول خميس من رجب، ونحو ذلك من المبتدعات التي يتعبد الناس بها، أو تصير من شعائرهم وسماتهم الدينية، فهذه الأصل فيها أن لا يشرع منها إلا ما شرعه الله. أما العادات فالأصل فيها الإباحة، إلا ما حرمه الله.”[58]

وقال ابن القيم في الفرق بين باب العبادات وباب العادات: “…والفرق بينهما أن الله سبحانه وتعالى لا يعبد إلا بما شرعه على ألسنة رسله، فإن العبادة حقه على عباده، وحقه الذي أحقه هو ورضي به وشرعه. وأما العقود والشروط والمعاملات فهو عفو حتى يحرمها.”[59]

وقد شدد الشاطبي رحمه الله النكير على من اعتبر المحدثات في أمور العادات بدعا، قال: “إن عدّوا كل محدث من العادات بدعة، فليعدوا جميع ما لم يكن فيهم من المآكل والمشارب والملابس والكلام والمسائل النازلة التي لا عهد بها في الزمان الأول بدعا، وهذا شنيع، فإن من العوائد ما يختلف بحسب الأزمان والأمكنة والاسم، أفيكون كل من خالف العرب الذين أدركوا الصحابة رضي الله تعالى عنهم واعتادوا مثل عوائدهم غير متبعين لهم؟! هذا من المستنكر جدا!!. نعم لا بد من المحافظة في العوائد المختلفة على الحدود الشرعية، والقوانين الجارية على مقتضى الكتاب والسنة. وأيضا فقد يكون التزام الزي الواحد، أو الحالة الواحدة، أو العادة الواحدة تعبا ومشقة؛ لاختلاف الأخلاق والأزمنة والبقاع والأحوال، والشريعة تأبى التضييق والحرج في كل ما دل الشرع على جوازه، ولم يكن ثم معارض.”[60]

إن التشجيع على الابتكار والمبادرة والإبداع في أمور العادات نجد أصله في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ.[61]

فلا حاجة للمسلم أن ينتظر السوابق إذا لاحت له أمارات المصلحة ونادته دواعي الخير، ما لم يصطدم بنص الوحي أو قاعدة شرعية. فالرسول صلى الله عليه وسلم قد شجع على الأخذ بزمام المبادرة والمسارعة إلى الخير غير المسبوق. والسبق والأسبقية له وزنه في الشرع قال تعالى: { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ . أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ}[62]

وكانت الأسبقية والتفرد والإبداع مفخرا معترفا به لدى الأوائل، قال المتنبي:

وإني وإن كنت الأخير زمانه       لآتٍ بما لم تأت به الأوائل

الإشكال الثالث: هل حب الحياة وهن؟

ترسخت لدى كثير من المسلمين قناعة أن الدنيا بجملتها مذمومة، واقتضت الرغبة في الآخرة لديهم تجنب الأعمال الدنيوية، فالصلاح الديني ملازم – عندهم – للفقر المادي، وحسبوا أنه ليس من تقوى الله أن يتعلق أي أمل بالدنيا فهو منافٍ لليقين.

وليست هذه القناعات كلها منكرات، بل فيها حقائق صحيحة تقرّها نصوص القرآن والسنة، لكن الخطورة تكمن في المبالغة فيها ومجاوزتها حد التوازن الشرعي ومخالفتها الهدي النبوي وابتعادها سَمتَ السلف الصالح المشهود لهم بالخيرية.

وردت في القرآن والسنة نصوص تزهّد الإنسان بالحياة الدنيا وتبين دناءتها وهوان وزنها. وورَد فيهما أيضا ما يدل على قيمة الحياة الدنيا وعدم التفريط بها وامتنان الله بها على البشر. فهما وجهان متقابلان، يكمل أحدهما الآخر، ويوازن إحدى كفتيهما الأخرى.

فنورد هنا كلا النوعين من النصوص الشرعية ونعرض كلا اللونين من المواعظ الربانية، كي نفقه حق الفقه ما أراد الله بهذه الحقائق المهمة التي غابت عن كثير من الناس، والله الموفق.

نصوص في ذم الدنيا

إن القرآن الكريم قلّل من قيمة الحياة الدنيا في مواضع كثيرة وزهد الناس فيها، فمنها قول الله تعالى: { اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}[63]

وقال تعالى: { إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}[64]

وقال تعالى: { وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا}[65]

قصد الحق سبحانه وتعالى من هذه الآيات ألا يغترّ الإنسان بالحياة الدنيا، لا لأنها ليس لها قيمة معتبرة وأنها مكروهة شرعا أو ممنوعة، ولكن لأن طبيعة الإنسان أن ينجذب إلى شيء حاضر ظاهر ويغفل ما خلف ذلك من الحقائق الكبرى التي يجب ألا يغفل عنها. فالحياة الدنيا لم تكن غير مرحلة عابرة يتركها الإنسان مهما طالت حياته ومهما توفرت نعمه. فيجب على الإنسان أن يعمل بهذه الحياة الحاضرة القاصرة من أجل ربح مترتب عليها في الحياة الحقيقية الأبدية. فلذلك أعقب الله دائما ذم الدنيا بذكر الآخرة والتذكير بها، قال تعالى: { الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا}[66] وقال تعالى: { وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى}[67] وقال تعالى: { اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاع}[68]

وقال تعالى: { وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}[69] وقال تعالى: { وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}[70]

وأما أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى فمنها ما روي عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ.”[71]

فهذا تصوير بليغ لقيمة الحياة الدنيا، فهي هينة عند الله، فلا تستحق أن يتكالب عليها الإنسان ويستغرق كل حياته للتشبث بها، فهي حقيرة هينة بالمقارنة إلى الدار الآخرة وما وعد الله للمؤمنين. فالله أكرم من أن يجازي المحسنين المخلصين فقط بهذا العطاء الحقير القصير، ولهوانه عند الله فهو سبحانه لا يمنع الكفار الظلمة الفجرة من التنعم فيها.

وكل ما في الدنيا وضع لاختبار الإنسان هل يتصرف فيها تصرفا صحيحا أم أنه يغرق فيها وينسى دوره الأساسي في عبادة الله وعمارة الأرض؟ وعمارة الأرض مطلوبة لا من أجل البقاء فيها، بل من أجل النتائج المنتظرة التي وعدها الله في الآخرة، ووعدُه حق. كما في صحيح مسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ.[72]

فلذلك ربط الرسول صلى الله عيه وسلم حب الله للعبد بزهده في الدنيا، لأن الزهد في الدنيا يدل على إدراك الإنسان بدوره الحقيقي في هذه الحياة فهو ينشأ من رسوخ الإيمان بمنظومة القيم العقدية الصحيحة.

عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا أَنَا عَمِلْتُهُ أَحَبَّنِي اللَّهُ وَأَحَبَّنِي النَّاسُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللَّهُ وَازْهَدْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ يُحِبُّوكَ.[73]

ومن الأحاديث التي ذمت الدنيا بشكل صريح قوله صلى الله عليه وسلم: “أَلَا إِنَّ الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلَّا ذِكْرُ اللَّهِ وَمَا وَالَاهُ وَعَالِمٌ أَوْ مُتَعَلِّمٌ.”[74]

فهذا الحديث ليس على إطلاقه كما هو مبيّن بالاستثناء المتصل (إلا ذكر الله وما والاه … إلخ)، فالمذموم ليس كل الدنيا، وإنما ذم ما شغل عن ذكر الله وطاعته، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}[75]، وأما ما أعان على طاعة الله من الدنيا فليس بمذموم، قال تعالى: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ}.[76]

ومما يدل على أن ليس كل الدنيا ملعونة أن الله وضع فيها البركة، قال الله عن الأرض: { وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ}[77] فهذا في عموم أقوات الأرض، وهناك بركات خاصة بالأراضي المقدسة،[78] وبركات خاصة بالأنبياء والصالحين،[79] وهكذا فهذه الأمور غير داخلة في الذم واللعنة، لأن المقصود هو ما خلا عن ذكر الله وما أبعد عن ذكر الله، وإن معظم المخلوقات تسبِّح بحمد الله، قال تعالى: { تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}[80]. فالذم ليس لذات الدنيا ولكن لما ترتب على الالتهاء بها من البعد عن الله وعصيان أمره.

ومن الأحاديث التي تزهد الناس في الدنيا وتعلمهم أن التعلق بالدنيا خطأ وخطر وضعف ما رواه أبو داود عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا.

فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟

قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ.

فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْوَهْنُ؟

قَالَ: حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ.[81]

فهذا حديث عظيم يشمل فوائد عظيمة، لكن الذي نحن بصدده هو بيان الرسول صلى الله عليه وسلم أن الوهن والضعف الذي أصاب المسلمين هو بسبب حبهم للدنيا وكرههم للموت. نعم إن حب الدنيا وتعلق القلب بها وهنٌ وضعف اليقين وقلة العقل. فالمؤمن الذي يعرف حقيقة الدنيا الفانية لا يتعلق قلبه بها، ولا يطول أمله فيها، فهي فترة تمرّ، وحالة لا تقرّ. فكلما أخلدت قلوب المسلمين إلى الدنيا وتعلقوا بها وخافوا من الموت في سبيل الله وهنت عزيمتهم وضعفت شخصيتهم وهانوا أمام أعدائهم ولم تبق تلك المهابة التي فرضت احترام الناس وتقديرهم، ولم يعد أعداء الإسلام يخافون من مواجهة المسلمين. وهذا هو الذي فتح باب هزيمة المسلمين في عصورهم المتأخرة. ولن يرجع المسلمون مكانتهم المفقودة إلا بإرجاع تلك الروح الجهادية التي أساسها الزهد في الدنيا والحب للتضحية والموت في سبيل الله.

فحب الدنيا وهن، وكراهية الموت في سبيل الله خوَر. ولكن هل يعني ذلك أن نفرّط بحياتنا؟ وأن لا نعطي للحياة الدنيوية أية قيمة؟

قيمة الحياة الدنيا في الإسلام

بطبيعة الحال، فإن المبالغة في أي شيء لا يُقرها الإسلام. ورغم تشديد الإسلام تأكيده على التزهيد في الدنيا إلا أن الشرع لم يأمر بإهدار الحياة الدنيا لأنها مزرعة الآخرة وميدان الجهاد وحلبة السباق.

أخرج الترمذي والحاكم عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ قَالَ: مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ. قَالَ: فَأَيُّ النَّاسِ شَرٌّ؟ قَالَ: مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ.[82]

ومما يدل على قيمة الحياة في الإسلام ما أورده ابن حبان في صحيحه عن طلحة بن عبيد الله قال: قدم على النبي صلى الله عليه وسلم رجلان من بلي، فكان إسلامهما جميعا واحدا، وكان أحدهما أشد اجتهادا من الآخر، فغزا المجتهد فاستشهد، وعاش الآخر سنة حتى صام رمضان، ثم مات، فرأى طلحة بن عبيد الله خارجا خرج من الجنة، فأذن للذي توفي آخرهما، ثم خرج فأذن للذي استشهد، ثم رجع إلى طلحة، فقال: ارجع فإنه لم يأن لك، فأصبح طلحة يحدث به الناس، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فحدثوه الحديث، وعجبوا، فقالوا: يا رسول الله كان أشد الرجلين اجتهادا، واستشهد في سبيل الله، ودخل هذا الجنة قبله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « أليس قد مكث هذا بعده بسنة؟ » قالوا: نعم. قال: « وأدرك رمضان فصامه، وصلى كذا وكذا في المسجد في السنة؟ » قالوا : بلى ، قال : « فلما بينهما أبعد مما بين السماء والأرض ».[83]

إن الشرع لم يقصد دحض كل صور الحب للحياة، ولم يمنع كره الموت بكل أشكاله، ولكن أراد الشرع أن يهذب النفوس ويرقيها بإطلاعها على حقائق ما وراء الحياة الدنيا فتعتدل بذلك المواقف وتتزن العواطف.

عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ؟ فَكُلُّنَا نَكْرَهُ الْمَوْتَ.

فَقَالَ: لَيْسَ كَذَلِكِ وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا بُشِّرَ بِرَحْمَةِ اللَّهِ وَرِضْوَانِهِ وَجَنَّتِهِ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ فَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَسَخَطِهِ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ وَكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ.[84]

لذلك كان دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم: اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي، وَاجْعَلْ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلْ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ.[85]

فهذا غاية في التوازن، فلم يفرد الرسول صلى الله عليه وسلم دعاءه بالمصالح الدينية ولا بالمصير الأخروي بل دعا أيضا لصالح الحياة الدنيا التي لا غنى للإنسان عنها، { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}[86]

وهذا الوعي بهذا التوازن كان حاضرا عند صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فعن أبي أمامة الباهلي عن أبي بكر الصديق ، قال: دينك لمعادك ، ودرهمك لمعاشك ، ولا خير في امرء بلا درهم.[87]

فلما ذم رجل الدنيا عند على وبالغ فيه، فقال على: الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار نجاة لمن فهم عنها، ودار غناء لمن تزود منها، مهبط وحى الله، ومصلى ملائكته، ومسجد أنبيائه، ومتجر أوليائه، ربحوا فيها الرحمة، فاكتسبوا فيها الجنة.[88]

سلوك الصراط المستقيم توازن

إن الصراط المستقيم الذي دعا إليه القرآن ودل عليه الأنبياء هو طريق التوازن بين المطلوبات، وهذا سارٍ في كل التشريعات الإسلامية.

وقد أحسن الإمام الشاطبي في تقرير هذا المعنى. قال رحمه الله ومتّعنا بعلمه: “فإن كان التشريع لأجل انحراف المكلف أو وجود مظنة انحرافه عن الوسط إلى أحد الطرفين كان التشريع رادا إلى الوسط الأعدل، لكن على وجه يميل فيه إلى الجانب الآخر ليحصل الاعتدال فيه، فعلَ الطبيب الرفيق يحمل المريض على ما فيه صلاحه بحسب حاله وعادته وقوة مرضه وضعفه، حتى إذا استقلت صحته، هيأ له طريقا في التدبير وسطا لائقا به في جميع أحواله. ألا أن الله تعالى خاطب الناس في ابتداء التكليف خطاب التعريف بما أنعم عليهم من الطيبات والمصالح التي بثها في هذا الوجود لأجلهم ولحصول منافعهم ومرافقهم التي يقوم بها عيشهم وتكمل بها تصرفاتهم، كقوله تعالى: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ)[89]، وقوله: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ)[90] إلى قوله: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا)[91] وقوله: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ)[92]، إلى آخر ما عد لهم من النعم، ثم وُعدوا على ذلك بالنعيم إن آمنوا وبالعذاب إن تمادوا على ما هم عليه من الكفر. فلما عاندوا وقابلوا النعم بالكفران وشكوا في صدق ما قيل لهم، أقيمت عليهم البراهين القاطعة بصدق ما قيل لهم وصحته. فلما لم يلتفتوا إليها لرغبتهم في العاجلة أخبروا بحقيقتها وأنها في الحقيقة كلا شيء، لأنها زائلة فانية، وضربت لهم الأمثال في ذلك كقوله: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ)[93] الآية وقوله : (إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ)[94]، وقوله: (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)[95]. بل لما آمن الناس ظهر من بعضهم ما يقتضي الرغبة في الدنيا رغبة ربما أمالته عن الاعتدال في طلبها أو نظرا إلى هذا المعنى فقال عليه الصلاة والسلام: “إن مما أخاف عليكم ما يفتح لكم من زهرات الدنيا”[96] ولما لم يظهر ذلك ولا مظنته قال تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ)[97] وقال (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً)[98].”[99]

وقال: ولما ذم الدنيا ومتاعها همّ جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم أن يتبتلوا ويتركوا النساء واللذة الدنيا، وينقطعوا إلى العبادة، فرد ذلك عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: “من رغب عن سنتي فليس مني.”[100] ودعا لأناس بكثرة المال والولد بعد ما أنزل الله: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ)[101]، والمال والولد هي الدنيا وأقر الصحابة على جمع الدنيا والتمتع بالحلال منها، ولم يزهدهم ولا أمرهم بتركها إلا عند ظهور حرص أو وجود منع من حقه، وحيث تظهر مظنة مخالفة التوسط بسبب ذلك وما سواه فلا.[102]

****


[1]  الزبير بن عدي العلامة الثقة أبو عدي الهمداني اليامي الكوفي قاضي الري وثقه أحمد وكان فاضلا صاحب سنة قال العجلي ثقة ثبت من أصحاب إبراهيم يقال مات سنة إحدى وثلاثين ومئة (شذرات الذهب 6/157)

[2]  صحيح البخاري (6/2591 رقم 6657)

[3]  فتح الباري (13/21)

[4]  صحيح ابن حبان (34/444) كتاب الرهن، باب ما جاء في الفتن.

[5] صحيح ابن حبان 34/444 رقم: 6053

[6]  أخرجه البخاري (3/1319 رقم 4311، 6/2595 رقم 6673) ومسلم (3/1475 رقم 1847)

[7]  سورة الرعد: 17

[8]  أخرجه مسلم (1/130 رقم 145)

[9] المبشرات بانتصار الإسلام ص123، د. يوسف القرضاوي، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثالثة، 1418هـ-1998م

[10] أخرجه أبو داود (11/362 رقم: 3743) والحاكم (19/496 رقم: 8738) إسناده حسن رجاله ثقات عدا شراحيل بن يزيد المعافري وهو صدوق حسن الحديث (انظر: المقاصد الحسنة: 17/105 رقم: 235)

[11] سورة المائدة: ٥٤

[12] أخرجه البخاري (6/2667 رقم 7881) ومسلم (3/1523 رقم 1921،1922) بلفظ: “لن يزال قوم من أمتي”

[13] أخرجه الترمذي (1/1056 رقم: 2814) وأحمد (2/4682 رقم: 18498) إسناده حسن رجاله ثقات عدا حماد بن يحيى الأبح وهو صدوق حسن الحديث (انظر المقاصد الحسنة: 38/326 رقم: 951)

[14] أخرجه البخاري (9/133 رقم: 2458) ومسلم (12/357 رقم: 4600)

[15] قال ابن حجر: وقع مثل هذا الشك في حديث ابن مسعود وأبي هريرة عند مسلم، وفي حديث بريدة عند أحمد، وجاء في أكثر الطرق بغير شك، منها عن النعمان بن بشير عند أحمد، وعن مالك عند مسلم عن عائشة” قال رجل: يا رسول الله أي الناس خير؟ قال: القرن الذي أنا فيه، ثم الثاني، ثم الثالث” ووقع في رواية الطبراني وسموية ما يفسر به هذا السؤال، وهو ما أخرجاه من طريق بلال بن سعد بن تميم عن أبيه قال قلت: يا رسول الله أي الناس خير؟ فقال: “أنا وقرني” فذكر مثله. وللطيالسي من حديث عمر رفعه “خير أمتي القرن الذي أنا منهم، ثم الثاني، ثم الثالث” ووقع في حديث جعدة بن هبيرة عند ابن أبي شيبة والطبراني إثبات القرن الرابع ولفظه “خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الآخرون أردأ” ورجاله ثقات، إلا أن جعدة مختلف في صحبته. والله أعلم . (فتح الباري: 10/445)

[16] أخرجه البخاري (20/55 رقم: 5949) ومسلم (12/360 رقم: 4603)

[17] أخرجه الترمذي (8/160 رقم: 2147)

[18] انظر فتح الباري (10/445 رقم: 3377) وشرح النووي على صحيح مسلم (8/314 رقم: 4603)

[19] أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (1/2696 رقم: 18783 والحاكم في مستدركه (1/137 رقم: 4293) ولفظه: لَيُدْرِكَنَّ الدَّجَّالُ قَوْمًا مِثْلَكُمْ أَوْ خَيْرًا مِنْكُمْ، ثَلاثَ مَرَّاتٍ، وَلَنْ يَخْزِيَ اللَّهُ أُمَّةً، أَنَا أَوَّلُهَا، وَعِيسَى بْنُ مَرْيَمَ آخِرُهَا.” قال: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ. والحديث مرسل لكنه حسن بشواهده (انظر روضة المحدثين 3/461 رقم: 1236)

[20] أخرجه مالك في الموطإ (1/78 رقم: 53) ومسلم (2/53 رقم: 367)

[21] أخرجه أبو داود (11/416 رقم: 3778) والترمذي (10/321 رقم: 2984) وابن حبان (2/261 رقم: 386) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1/493 رقم: 494)

[22] أخرجه مالك في الموطإ (6/111 رقم: 1559) ومسلم في صحيحه 13/62 رقم: 4755

[23] أخرجه أحمد 26/59 رقم: 12512، وعبد بن حميد في مسنده 3/340 رقم: 1220، والبزار وقال الهيثمي: رجاله ثقات (مجمع الزوائد 3/63)

[24] سورة البقرة: ٢٨٦

[25] سورة الطلاق: ٧

[26] أخرجه أبو داود (12/211 رقم: 3991) وأحمد (35/9 رقم: 16521) وابن حبان (1/11 رقم: 5)

[27] أخرجه البخاري (9/201 رقم: 2499) ومسلم (9/118 رقم: 3242)

[28] أخرجه مسلم (9/119 رقم: 3243)

[29] سورة الأحقاف: 9

[30] أخرجه مسلم: 9/486 رقم: 3509

[31] مقاييس اللغة: 1/203

[32] تهذيب اللغة: 1/234

[33] جامع العلوم والحكم ص24

[34] شرح الأربعين النووية، لابن دقيق العيد، ص25

[35] سورة الأنبياء: ٢

[36] أخرجه مالك في الموطأ (1/340 رقم: 231)

[37] الاعتصام: 1/47، لأبي إسحاق الشاطبي، تحقيق ودراسة: د محمد بن عبد الرحمن الشقير و د سعد بن عبد الله آل حميد و د هشام بن إسماعيل الصيني، دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية، طبعة 1429 هـ – 2008 م

[38] الاعتصام: 1/47

[39] معارج القبول 3/1228

[40] جامع العلوم والحكم 28/25

[41] انظر: اتباع لا ابتداع قواعد وأسس في السنة والبدعة، المؤلف: د حسام الدين بن موسى محمد بن عفانة، ص23، الطبعة: الثانية، مصححة 1425 هـ – 2004 م، بيت المقدس، فلسطين.

[42] انظر مسالك العلماء في تعريف البدعة في المصادر الآتية: قواعد الأحكام 2/ 172، الاعتصام 1/ 37، تهذيب الأسماء واللغات 3/22، اقتضاء الصراط المستقيم ص 270، تلبيس إبليس ص 16، فتح الباري 5/ 156، جامع العلوم والحكم ص 335، الفروق 4/ 202، تهذيب الفروق 4/ 217، فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 2/ 321، الموسوعة الفقهية 8/ 21.

[43] الفروق 4/ 202، تهذيب الفروق 4/ 229، الحوادث والبدع ص 21، اقتضاء الصراط المستقيم ص 270 – 271، جامع العلوم والحكم ص 335، البدع والمصالح المرسلة ص 103 – 107.

[44] اختلف العلماء في استثناء الأكثر بين المنع والجواز، قال الغزالي: “أما استثناء الأكثر فقد اختلفوا فيه، والأكثرون على جوازه قال القاضي رحمه الله: وقد نصرنا في مواضع جوازه، والأشبه أن لا يجوز؛ لأن العرب تستقبح استثناء الأكثر، وتستحمق قول القائل : رأيت ألفا إلا تسعمائة وتسعة وتسعين، بل قال كثير من أهل اللغة: لا يستحسن استثناء عقد صحيح بأن يقول: عندي مائة إلا عشرة أو عشرة إلا درهما بل مائة إلا خمسة، وعشرة إلا دانقا، كما قال تعالى: { فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما } فلو بلغ المائة لقال فلبث فيهم تسعمائة ، ولكن لما كان كسرا استثناه.” وخلص الغزالي إلى أن استثناء الأكثر جائز في كلام الناس ولكنه قبيح قال: وكلما ازداد قلة ازداد حسنا. (انظر: المستصفى 2/147-149)

[45] انظر: جامع العلوم والحكم ص29، و قواعد الأحكام: 2/380-384، و فتح الباري: 20/330 رقم: 6735.

[46] أخرجه أحمد في مسنده (34/325 رقم: 16356) وأورده ابن حجر في إتحاف المهرة (12/646 رقم: 16243) وفي فتح الباري وجوّده (20/330 رقم: 6735) قال الهيثمي: رواه أحمد والبزار وفيه أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم وهو منكر الحديث. (مجمع الزوائد 1/114)

[47] سورة آل عمران: ٣١

[48] أخرجه مسلم: 2/53 رقم: 367

[49] شرح النووي على صحيح مسلم: 1/402 رقم: 465

[50] سورة الصف: ٧

[51] سورة الكهف: ٢٦

[52] سورة الشورى: ٢١

[53] سورة يونس: ٦٨

[54] سورة يوسف: ٤٠

[55] أخرجه مسلم (4/1836 رقم: 2363)

[56] رواه البخاري في صحيحه معلقا (18/81) وابن ماجه (10/470 رقم: 3595) وأحمد (13/446 رقم: 6408) والحاكم في المستدرك (17/21 رقم: 7265) وصححه.

[57] القواعد النورانية ص 78 – 79.

[58] اقتضاء الصراط المستقيم: 1/70

[59] إعلام الموقعين 1/ 344

[60] الاعتصام: 2/428

[61] أخرجه مسلم (5/198 رقم: 1691)

[62] سورة الواقعة: ١٠ – ١١

[63] سورة الحديد: ٢٠

[64] سورة يونس: ٢٤

[65] سورة الكهف: ٤٥

[66] سورة الكهف: ٤٦

[67] سورة طه: ١٣١

[68] سورة الرعد: ٢٦

[69] سورة الأنعام: ٣٢

[70] سورة العنكبوت: ٦٤

[71] أخرجه الترمذي وقال: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ (8/299 رقم: 2242) ، وأخرجه ابن ماجه (12/134 رقم: 4100) والحاكم وصححه (18/217 رقم: 7958) وصححه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير (19/495 رقم: 9423)

[72] أخرجه مسلم (13/286 رقم: 4925)

[73] أخرجه ابن ماجه (12/124 رقم: 4092) والحاكم وصححه (18/244 رقم: 7985) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (3/18 رقم: 944)

[74] أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب (8/302 رقم: 2244) وابن ماجه (12/136 رقم: 4102) والبيهقي في الشعب (4/232 رقم: 1669) وصححه الألباني في السلسلة (6/296 رقم: 2797)

[75] سورة المنافقون: 9

[76] سورة النور: 37

[77] سورة فصلت: ١٠

[78] سورة آل عمران: 98، سورة الأعراف: 137، سورة الإسراء: 1، سورة الأنبياء: 71 و81، سورة سبأ: 18

[79] سورة الأعراف: 97، سورة مريم: 31، سورة المؤمنون: 29، سورة الصافات: 113

[80] سورة الإسراء: ٤٤

[81] أخرجه أبو داود 11/371 رقم: 3745 والبعوي في شرح السنة باب قول الله سبحانه وتعالى “فلا تخشوا الناس” (1/1012) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (3/32 رقم: 958)

[82] أخرجه الترمذي (8/217 رقم: 2252) وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وأخرجه الحاكم في مستدركه (3/271 رقم: 1202) وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي (5/329)

[83] رواه ابن حبان (12/454 رقم: 3044)

[84] أخرجه البخاري (30/165 رقم: 6026) ومسلم 13(/184 رقم: 4845) واللفظ له

[85] أخرجه مسلم: 13/249 رقم: 4897

[86] سورة الأحزاب: ٢١

[87] أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (3/290 رقم: 1246) وانظر كنز العمال: 3/732 رقم: 8602

[88] أخرجه ابن عساكر في تاريخه (5/34) وانظر جامع الأحاديث للسيوطي: 30/361 رقم: 33356، وكنز العمال: 3/732 رقم: 8603

[89]  سورة البقرة:22

[90]  سورة إبراهيم: 32

[91]  سورة إبراهيم: 34

[92]  سورة النحل:10

[93]  سورة يونس: 24

[94]  سورة محمد: 36

[95]  سورة العنكبوت: 64

[96]  أخرجه مسلم (2/728 رقم 1052) ولفظه: “أخوف ما أخاف عليكم ما  يخرج الله لكم من زهرة الدنيا.”

[97]  سورة الأعراف: 32

[98]  سورة المؤمنون: 51

[99]  الموافقات 2/112-113

[100]  أخرجه البخاري (5/1949 رقم 4776) ومسلم (2/1020 رقم 1401)

[101]  سورة التغابن: 15

[102]  الموافقات 2/113-114

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

معلومات

This entry was posted on 8 جوان 2012 by in مقالات.

الابحار

%d مدونون معجبون بهذه: