يجب على المسلمين أن يكون لهم “مذهبهم” الخاص في بناء حضارة المستقبل. نعم إنه من الواجب على هذه الأمة التي تحمل رسالة رب العالمين أن يكون لهم دور رائد في توجيه مسار البشرية لأن هذا الدين لم ينزل إلا كافة للناس وما أرسل الله محمدا صلى الله عليه وسلم إلا رحمة للعالمين. وليس من الصواب أن تبقى دائرة الهداية الإلهية على أوساط محدودة، بل لا بد أن نحقق عالمية هذا الدين وأن نوصل رسالته الإنسانية إلى جميع البشر.
فالإسلام لا بد أن يكون له كيانه الحضاري الذي يؤدي به دوره في إسعاد البشر وإنقاذهم من الحضارة القائمة التي تورطت بسبب انسلاخها عن فطرتها وتمردها أو جهلها عن الهدي الإلهي.
كلما اتسعت مساحة قضية ما، ضعف وعي الناس بها. فكل إنسان يجيد النظرة إلى جزئية معينة ولكن لما اتسعت الجزئية أو تكاثرت, بقدر ذلك قل من يكون له وعي مناسب لأبعادها. فكذلك الإسلام، فإن أكثر المسلمين يعرفون الإسلام كجزئية أو عدة جزئيات متناثرة لا تربطها نظرة كلية أو مقاصد شاملة.
ومن جهة أخرى فإن القضية كلما دقت خفيت عن الإدراك وصعبت على الفهم، مثل ذلك أيضا فهم الناس للإسلام كثيرا ما يكتفون بالعموميات ويقفون عند السطحيات دون الغوص في دقائق الأدلة التفصيلية والتمكن في الأحكام الجزئية.
فالإسلام مظلوم من جهتين. من النظرة الجزئية التي تجهل مقاصد الشرع العامة وطبيعة الدين الكلية، ومن النظرة العامة العائمة غير المعمقة التي لا تبنى على استيعاب الجزئيات.
والكلام عن الحضارة الإسلامية يحتاج توازنا من هذا النوع. يحتاج إلى النظرة الموسعة الشاملة التي تعتمد على إدراك الجزئيات متقيدة بها، لا تلك النظرة التي تعمم القضايا وتعوِّمها فتنفرط عن الانضباط بالأحكام الجزئية التي أثبتتها النصوص الشرعية الثابتة ودلت عليها القواعد الفقهية الصحيحة.
وتكوين الرؤية الحضارية لا بد أن تصدِّقها قاعدتان مهمتان؛ (1) قاعدة النصوص العامة التي لا تحولها قرائن الأحوال إلى أحكام جزئية، (2) وقاعدة استقراء أحكام الإسلام وقواعده التي تشكل الطبيعة العامة للإسلام وتدل على مقاصده الكلية. ودعوى رؤية إسلامية من غير اعتماد على هاتين القاعدتين أو إحداهما دعوى مردودة على صاحبها.
إن البعض قد يفرق بين الدين الإسلامي وبين الحضارة الإسلامية، فإن الأول وحي إلهي معصوم والثاني جهد بشري موسوم بقابلية الأخذ والرد والخطأ والصواب. وهذا التفريق صحيح لكن وصفها الإسلامي له حقه. فالمخالفات المرتكبة من قبل المسلمين لا يجوز إدراجها تحت ملفات حضارتنا الإسلامية. إذ لا يقرها الإسلام. نعم قد يصح أن نقول أنه حضارة المسلمين لأنهم هم الذين قاموا به. ولكن اسم الإسلام له قداسته وله نسبته المحترمة إلى مُنزِله عز وجل.
وقد يستفاد بل ويجب أن يستفاد من الإنجازات التاريخية التي حققها المسلمون عبر الأجيال المتلاحقة ولكن لا نتبنى منها إلا ما وافق شريعة الله عز وجل.
ويدخل ضمن الحضارة الإسلامية ما أنجزه غير المسلمين إذا كان هذا الإنجاز تحقق في ظل الأوساط الإسلامية التي تحتضنه وتكيفه، والتي لولاها ما تحقق ذلك الإنجاز. لأن مثل هذا ثمرة من ثمار تطبيق دين الله على وجه الأرض والمستفيدون من ذلك مسلمون وغيرهم. بل هذا يعد من مفاخر الحضارة الإسلامية إذ إن هذه الحضارة لا تظلم الناس شيئا. بل وفرت جوا ملائما للتقدم ومساحة رحبة للعطاء والمشاركة وترحيبا مخلصا للاستفادة والمناولة.
ما الذي تعطيه حضارتنا الإسلامية لخير البشرية جمعاء؟ هل المسألة هي رغبة مجموعة من البشر في الاستيلاء على الآخرين؟ أو هي مصلحة سكان بقاع من الأرض في السيطرة على بقية البقاع؟ أم فعلا أن الأمر ينطلق من دافع الواجب الإلهي في إيصال النور إلى كل البشر وتعميم الخير لكل الناس؟
إن الإجابة على هذه الأسئلة تأتي من جهتين؛ من تحديد وتعريف بطبيعة الحضارة التي ينشدها المسلمون، ومن جهة صدق القائمين على هذا المشروع الإسلامي وإخلاصهم لأداء تلك الرسالة الربانية.
قبل أن نتكلم عن مواصفات الحضارة نأتي أولا على الشق الثاني من هذه القضية، فإن هذا الأمر مع أهميته قل من أشار إليه ونبه لذلك. إنه مراجعة لأنفسنا قبل أن يكون إعلانا للناس وترغيبا لهم في هذه الفكرة. ما الضمان أن هؤلاء الذين يصيحون في الناس يدعون إلى الانضمام والمشاركة والتأييد أنهم سيقومون بهذا الواجب إذا استلموا مقاليد الأمور؟
إن حب الإنسان للمال والجاه والشهوات طبيعة إنسانية أصيلة، لا يسلم من شرها إلا من زكى نفسه بالتربية الشديدة والتزكية الأكيدة. فمن هنا يظهر رجحان منهجية التغيير التي تعطي لتربية الأفراد وتزكية النفوس القدر الأكبر والركن الأساسي في برنامجها. ويتبين صواب من جعل إصلاح النفس أول خطوة إلى الخلافة الإسلامية. وشأنه شأن كل مشروع يتكون من مراحل، لا يمكن أن ينجح المشروع إلا إذا نجح تحقيق كل مرحلة قبل التي بعدها. فنجاح المشروع الحضاري الإسلامي مرهون بنجاح مرحلة إصلاح النفوس وصياغتها صياغة إسلامية صحيحة، ثم توسيع دائرتها حتى يتكون المجتمع على تلك الشاكلة. قد يكون مستحيلا أن يكون المجتمع كله على مستوى واحد من الخير، ولكن النجاح يتحقق بأن يكون ذلك الخير هو السائد والطبع المسيطر على حياة الناس عامة. والله المستعان.
وأما عن الذي قدمه الإسلام للبشرية فالكلام فيه يطول ولا يسعه هذا المطلب المحدود، لكننا سنقف وقفة قصيرة مع أجمل وأروع عبارة قيلت في العطاء الحضاري الذي جاء به هذا الدين، ألا وهو قول ربعي بن عامر رضي الله عنه حين قال لرستم: “والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.”[1]
إنه مع اختصار الكلام فقد لخص ربعي بن عامر رضي الله عنه مجامع الرسالة الإسلامية الحضارية في ثلاث كلمات من نور.
إن أهم ما تجنيه البشرية من هذا الإسلام هو الخروج من مستنقع عبودية المخلوقات إلى رفعة وشرف عبادة الله. إن الإنسانية ما لم تتجرد لله في الطاعة المطلقة لن تتحرر من نير عبودية المخلوقات أيا كانت تلك المخلوقات.
وحقيقة العبادة هي الطاعة المطلقة كما بينها الرسول صلى الله عليه وسلم. عن عدي بن حاتم قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب،
فقال: يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك.
فطرحته، فانتهيت إليه وهو يقرأ سورة براءة فقرأ هذه الآية (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ)[2] حتى فرغ منها،
فقلت: إنا لسنا نعبدهم.
فقال: أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتستحلونه؟
قلت: بلى.
قال: فتلك عبادتهم.[3]
فهذه هي حقيقة العبودية، وإن كان الناس لا يعرفون ذلك أو لا يعترفون، كما استنكر عدي رضي الله عنه أول وهلة.
فالإنسان غير المسلم لا يخلو من الخضوع والطاعة لغير الله، فهو إما في عبادة الإنسان كالملوك والكبراء والرسل والأنبياء والأحبار والرهبان، … إلخ، أو في عبادة المخلوقات غير المنظورة كالملائكة والجن والشيطان وغيرها، أو في عبادة الأشياء المحسوسة كالطبيعة والكواكب والحيوانات والأشجار والأصنام، … إلخ، أو في عبادة الذات، عبادة الهوى وهو شر إله عبد في الأرض.
فالإسلام حركة تحرير للإنسانية من ذلة وشقاء عبادة العباد بعضهم لبعض إلى رفعة وفضاء عبادة رب العباد وحده.
والإسلام يخرج الناس من حدود الدنيا الضيقة إلى آفاقها الواسعة. إنه يدل الناس على السعادة الحقيقية بدل ما يتصوره الناس من البهرجة الظاهرة مع الخواء الباطن.
إنه إنقاذ البشرية من سراب مظاهر اللذة والرفاهية التي كثيرا ما تُوقِع البشر في شقاء حيث طلبوا السعادة، توقعهم في ضيق وقلق وهم يبحثون عن السعة والطمأنينة.
إن وصول البشرية إلى قمة في التقدم المادي والرخاء الظاهر لم يوصلهم إلى حقيقة السعادة التي تشرح الصدر وتريح النفس. إن العالم الغربي الذي يتمتع بكل أنواع الرفاهية وغني بكل مظاهر المتعة هو أكثر العالم معاناة نفسية وأزمة روحية. فعدد الجرائم، ونسبة الانتحار خاصة في المراهقين، وانتشار الأمراض النفسية والعقلية، وتفاقم مظاهر التفكك الأسري، وارتفاع نسبة الطلاق، كل هذه الحالات البئيسة التي وصلوا إليها لم يشهد التاريخ لها مثيلا بهذه الدرجة السحيقة المخيفة.[4]
إن الإسلام يدل ويبين طريق الوصول إلى السعادة التي لا شقاء فيها والطمأنينة التي لا قلق فيها والخير الذي لا سوء فيه.
لم يخدر الإسلام شعور البشرية ولا يميت تطلعهم إلى الخير المادي. بل ليس هناك دين أقوى في الحث على العمل والجدية فيه من الإسلام. إن كل إنسان في مجتمع الإسلام مطالب أن يعمل، مأمور أن يمشي في مناكب الأرض ويأكل من رزق الله، كما قال تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ)[5]، وأمر عباده عقب الصلاة أن ينتشروا في الأرض طالبين رزق الله فيها، قال تعالى: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ)[6].
واعتبر الإسلام أن ما أكله الإنسان من كد يده وعرق جبينه هو أطيب وأحسن أرزاقه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده.”[7]
ومن أعجب التوجيهات النبوية في الحث على العمل أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بغرس الفسيلة وإن كان في الوقت الحرج الذي لا يتبقى فيه فرصة للعيش. قال صلى الله عليه وسلم: “إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليغرسها.”[8]
إلا أن الإسلام لا يعتبر متعة الدنيا واللذة الظاهرة فيها هي أقصى ما يطلب في هذه الحياة، إنها دار عمل واجتهاد لا دار راحة واعتماد. قال تعالى: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).[9]
إن فيها عناء وابتلاء ولكن المؤمن يعيش في سعادة غامرة وطيب حقيقي،[10] قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[11].
صدق شيخ الإسلام ابن تيمية حين قال رحمه الله: “إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة.”[12]
إنها جنة الحياة الإيمانية ورياض المنهج الرباني ومتعة المحبة الإلهية.
لا يوجد نظام ينصف الناس جميعا مثل الإسلام. ففي الاقتصاد، البشرية وقعوا إما في ظلم النظام الرأسمالي الذي يبخس حقوق الضعفاء والعجزة الذين لم يقدروا على العمل والمنافسة، أو في ظلم النظام الشيوعي والاشتراكي الذي لم ينصفوا الحقوق الفردية. وكلا النظامين الرأسمالي والشيوعي لم ينصفا إنسانية الإنسان حيث جعلا الإنتاج المادي هو الهدف والمعيار الأساس للتفاضل، فوضعا الإنسان تحت درجة المواد. وفي السياسة ظلم الناس جميعا إما تحت قمع المتجبرين المستبدين أو في ظل خداع ألاعيب الديمقراطية التي تنحاز دائما لأصحاب الأموال الذين يشترون أصواتهم أو لأصحاب النفوذ الذين استغلوا مناصبهم. وفي العقائد وقع الناس في ظلم الأحبار والرهبان والقسيسين الذين حرفوا الدين لجلب طاعة الناس لهم والإنفاق عليهم بدون وجه الحق. وجاء الإسلام يحارب كل هذه الألوان من الظلم وأتى بنظام عادل ورجال أمناء. نسأل الله عز وجل أن يبرم للبشرية أمر رشد يقام فيه العدل ويعز أنصاره ويقمع فيه الظلم ويذل أصحابه ويأمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، فالله ولي ذلك والقادر عليه.
إن الإسلام يحمل رسالة حضارية منفتحة، يرحب كل خير من أي وعاء خرج، ويحث على أخذ الحكمة من كل عين نبعت. قال النبي صلى الله عليه وسلم: “الكلمة الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها.”[13]
والإسلام دائما يتبنى الحوار الحر الذي يتوصل به إلى الحقيقة ويدعو إلى بدء الدعوة من نقطة اتفاق ليصل بذلك إلى الوفاق مهما أمكن، قال تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)[14].
ويحث على اتباع أحسن الطرق للحوار، قال تعالى: (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ).[15]
إن الإسلام لا يرى وهو يحرص على إبلاغ هذا الدين أن يعتنقه أحد تحت قهر الإكراه، قال تعالى: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ)[16]، إن قوة الإسلام في وضوح الحق فيه فلا يحتاج إلى قوة أخرى تجبر الناس على الاقتناع.
والسيف في الإسلام ما هو إلا ضمان لحرية الناس في الاختيار فهو ليس ضد الكفر بحد ذاته، لكن السيف موجه ضد من يمنع الناس من اعتناق الحقيقة. لذلك ظل الذميون والمستأمنون في كنف حماية المسلمين عبر تاريخه المديد. لا يرى التاريخ السماحة الدينية مثل ما شوهد في الحضارة الإسلامية.
ولكن الإسلام أرفع من أن يطمئن إلى سذاجة حسن الظن لأعداء الحرية وأبعد من الوقوع في بلاهة التصديق لكل من يدعي حب السلام ودعوى الوئام.
إن الحضارة التي تدعي حماية السلام العالمي والديانة التي تزعم نشر الرحمة لهي أكثر الناس دموية في تاريخها. فالغزو الصليبي والاستعمار الغربي والعداء الصهيوني كله واقع ماثل أمام البشرية لا يمكن تجاهله. إن الدعوة إلى السلام واجبة لحقن الدماء وإنقاذ البشرية من الشقاء. والتنادي إلى لغة الحوار وأسلوب التفاهم والتعاون بين الجهات أمر مفضَّل عند كل منصف ومريد الخير. إلا أن الواقع والتاريخ لم يشهدا خلو العالم من المحرضين الماكرين أصحاب الجبروت والطغيان. فلا يوقف هذا الأمر إلا قوة دافعة أو رهبة رادعة. فمن هذا الباب أمر الله تعالى بإعداد القوة، قال تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ).[17]
والإسلام دقيق في هذا التشريع، فهو لا يوجه هذه القوة الضاربة إلا تجاه الظلمة أعداء السلام وأضداد الوئام. قال تعالى: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ . إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).[18]
فهذا هو الإسلام دين الرحمة ومعها القوة، دعوة السلام ومعه التوازن، حضارة الحوار ومعه الفطانة.
ففي ظل الحضارة الإسلامية يتسع مجال العطاء والمشاركة في البناء لكل الناس. وينفتح المجال لكل من يساهم في إيصال الخير والنور. إلا أننا نحتاج إلى حفظ أصالتنا والوقوف عند هويتنا الإسلامية. نحتاج إلى التنبه والتيقظ من كل ما يمس صفاء الإسلام وأصالته والذود عن كل ما يكدر نقاء الدين ويبهت نصاعته. فالفلسفات تتلون، والعقائد والأفكار تتشابك وتتشابه.
وفي عملنا لإنضاج رؤانا الحضارية نحتاج أيضا إلى مثل هذه اليقظة. فالأمة تحتاج إلى تأمين في هويتها الفكرية وكيانها الحضاري. لذلك فقد كان الإسلام متوازنا دائما. فمن أجل هذا التأمين جاء مثل قوله تعالى: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ).[19]
ولنتأمل سياق قوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ)[20]، بين سبحانه وتعالى مركز هذه الأمة بين الأمم ودورها الرائد وموقعها الهادي للبشرية. ثم موقف غيرهم من هذه الرسالة وما يمكن أن يلحقوه بهذه الأمة الهادية المهدية، قال تعالى: (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ)[21]. إن هناك دائما من يقف موقفا معاديا لحملة هذه الرسالة. إلا أنه إذا تمسكت الأمة بحبل الله فليس باستطاعة أعداءهم إضرار المسلمين ولا إيقاف حركة دعوتهم. يستطيعون فقط إلحاق الأذى الذي لا يضر مسيرة هذه الحركة. ولا خسارة في ذلك لأن كل أذى في سبيل الله مأجور عليه ومحتسب فيه.
ثم في المقابل بين الله سبحانه حال الأعداء من المضرة والخسارة، قال تعالى: (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ)[22].
إلا أن القرآن دائما يعلمنا التوازن والإنصاف حتى مع المخالفين، قال تعالى في حال هؤلاء أهل الكتاب: (لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ).[23] فأصحاب الخير موجودون في صفهم. فيبقى هناك هامش للتحاور والدعوة بالتي هي أحسن. والله الموفق.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
[1] تاريخ الطبري (2/401)، محمد بن جرير الطبري، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1407هـ
[2] سورة التوبة: من الآية31
[3] أخرجه الترمذي (5/278 رقم 3095) والطبراني في الكبير (17/92 رقم 218) واللفظ له.
[4] انظر للتوسع كتاب الإسلام حضارة الغد في الكلام عن الآفات الآثار السيئة للحضارة الغربية، د. يوسف القرضاوي، ص31-90، مكتبة وهبة، القاهرة، الطبعة الأولى، 1416هـ-1995م
[5] سورة الملك: من الآية15
[6] سورة الجمعة: 10
[7] أخرجه البخاري (2/730 رقم 1966)
[8] أخرجه أحمد (3/191 رقم 13004) والبخاري في الأدب المفرد (1/168 رقم 479) عن أنس بسند صحيح.
[9] سورة يونس:24
[10] راجع الكلام في جزاء العمل الصالح ص195 في الباب الثالث.
[11] سورة النحل:97
[12] ذكره عنه تلميذه في الوابل الصيب ص69، وذكره أيضا في مدارج السالكين (1/454)
[13] أخرجه الترمذي (5/51 رقم 2687) وابن ماجه (2/1395 رقم 4169)
[14] سورة آل عمران:64
[15] سورة العنكبوت:46
[16] سورة البقرة: من الآية256
[17] سورة الأنفال: من الآية60
[18] سورة الممتحنة:8-9
[19] سورة البقرة:120
[20] سورة آل عمران:110
[21] سورة آل عمران:111
[22] سورة آل عمران:112
[23] سورة آل عمران:113