آفاق المستقبل

تصحيح مفاهيم وتكوين رؤى

قضايا في تكوين المجتمع الإسلامي

 إن تكوين المجمتع الذي يلتزم بشرع الله وتسود فيه تعاليم الإسلام وقيمه ومثله العليا واجب من واجبات الدين.

“والإسلام لا يتصور الإنسان وحده، ولهذا توجهت التكاليف إليه بصيغة الجماعة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ولم يجئ في القرآن “يا أيها المؤمن”. وذلك أن تكاليف الإسلام تحتاج إلى التكاتف والتضامن في حملها والقيام بأعبائها، يستوي في ذلك العبادات والمعاملات.

فإذا نظرنا إلى فريضة كالصلاة وجدنا أنها لا يمكن أن تقام كما يريد الإسلام إلا بمسجد يتعاون المجتمع على بنائه، ومؤذن يعلن للناس بمواقيت الصلاة، وإمام يؤمهم، وخطيب يخطبهم، ومعلم يعلمهم، وهذا كله لا يقوم به الفرد، وإنما ينظمه المجتمع.

وقد جعل الله أول أعمال الدولة المسلمة إذا مكن لها في الأرض: أن تقيم الصلاة، كما قال تعالى: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ)[1] الآية.

ومثل ذلك يقال في فريضة الصوم، وضرورة ترتيب أمور الحياة في رمضان ترتيبا يعين على الصيام والقيام والسحور وغيرها.

ومن باب أولى الزكاة، فالأصل فيها أنها تنظيم اجتماعي تشرف عليه الدولة، بواسطة “العاملين عليها” الذين نص عليهم القرآن. وكذلك كل شعائر الإسلام وأركانه.

أما الأخلاق والمعاملات فلا يتصور أن تقوم –كما ينشدها الإسلام- إلا في ظلال مجتمع ملتزم بالإسلام، يتعبد لله بإقامة حياته على أساس الإسلام.

وقد علم الإسلام المسلم أن يقول إذا ناجى ربه في صلاته (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)[2] فهو يتكلم بلسان الجماعة، وإن كان وحده. وكذلك إذا دعا دعاه بصيغة الجمع: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)[3] فالجماعة حية في وجدانه، حاضرة على لسانه.”[4]

 

المطلب الأول: في رسم الأهداف

والحقيقة تقال أن وعي المسلمين وتصورهم لمواصفات المجتمع المسلم الذي يمثل تلك المثاليات التي نشدها القرآن وتحققت في القرون المفضلة من الغموض بمكان مما يترك مساحة كبيرة للتناقضات في الآراء والمواقف. وينتج عن ذلك ثلاثة أمور خطيرة.

الأول عدم وضوح الأهداف والمعايير في تحقيق هذا الواجب. وهذا بدوره يؤدي إلى التحرك العائم الذي لا يدري صاحبه كم المسافة بينه وبين المثاليات التي يسعى لتحقيقها. وتلك الجهود التي بذلت والأوقات التي استغرقت كم قربت أو بعدت عن الأهداف. قد يبرح هذا العامل مكانه مع بذل الجهود وهو لا يشعر أن ذلك مشكلة. أو أنه قد قدمت من الخطوات الشيء الكثير وهو لا يشعر بأي إنجاز إذ مثالياته لم تتحقق مائة بالمائة. فهو لم ير إلا الجزء الذي لم يتحقق ولم يحسب القدر الذي تحقق. إنه لا يكفي أن نمضي بدافع فقط أننا يجب أن نمضي. لا بد أن نعرف هدف المضي والمعايير التي يقاس بها مدى نجاح أو فشل هذا المضي.

والخطر الثاني أنكى من الأول وهو تضارب الآراء والمواقف والتناحر بين أصحاب المشروع الإسلامي أنفسهم. من المؤسف جدا أن اتفاق أبناء الصحوة على العمل للإسلام لا يكفي لألفتهم وشد بعضهم بعضا كالبنيان. إذ اختلاف التصور في توصيف المجتمع المسلم الذي يريده الله من المسلمين يؤدي إلى عدم اتفاقهم في المساحة المشتركة التي تجمعهم. ولا أعتقد أن الحل هو حمل الكل على تصور واحد لا يسع فيه خلاف. بل يكفي أن يتفق الجميع على القواسم المشتركة وأن يعترف الكل أن ليس بين أصحاب المشروع الإسلامي ما يستوجب الفرقة إن كانوا فعلا يريدون الإسلام ويعملون من أجله. وأي خلاف في إطار ثوابت القرآن والسنة يمكن احتماله. يحقق هذا أن يجتمع العلماء والدعاة وأصحاب الرأي في مباحثة هذه القضية بهذه الروح.

والخطر الثالث الناجم عن هذا الغموض هو تشوّه صورة الإسلام واستغلال أعداء الإسلام من بعض التصورات التي لا تتفق مع الذوق العام لينفروا الناس من الإسلام والمشروع الإسلامي وأصحاب المشروع الإسلامي. ليس المخرج أن نصور الإسلام كما يريده أعداؤه، فإن النفور من الخير كثيرا ما يحدث من أصحاب الطباع المنكوسة والفطرة الممسوخة. بل مكمن الخطر الحقيقي في هذا هو أن هذا الغموض يفتح ثغرات كثيرة في خط الدفاع عن الإسلام من خلال بعض التصورات والممارسات الخارجة عن إطار الفهم السليم والتطبيق السليم للإسلام. فيجب وضع تصور مؤصل عن ملامح المجمتع المسلم كما يريده الله وكما يسعى إليه أصحاب المشروع الإسلامي.

وقد سبق الأستاذ القرضاوي حفظه الله أن طرق هذا الموضوع بكتابه “ملامح المجتمع الإسلامي الذي ننشده.” وقد وفق إلى حد كبير في خدمة الموضوع. ولكني أعتقد أننا بحاجة إلى التعدد في هذا التصور على روح التفاهم والتكامل والتعاون على البر والتقوى لأننا أمام واقع الاختلاف في جهتين. جهة فهم الناس لهذا الموضوع، وجهة احتمال النصوص أيضا لذلك التعدد. وأنا أتصور أن إيجاد التعدد بهذه الروح الأخوية التعاونية يقرب كثيرا إلى المثاليات التي نشدها الدين الإسلامي. والله أعلم.

 

·        التجديد الشامل

إن تبشير الرسول صلى الله عليه وسلم يبعث من يجدد الدين على رأس كل مائة سنة يفهم منه أن هذا الدين يحتاج إلى تذكير ما نسيه الناس والإتيان بما تركه الناس والتقوية فيما ضعف فيه الناس وتفقيه ما غلط فيه الناس. وهكذا فإن مرور الزمن يقتضي التآكل في كل شيء فيحتاج إلى الترميم والتصليح. وهذا أمر تقتضيه الطبيعة في كل شيء.

وهناك فرق بين لفظ التجديد الذي بشر بظهوره في الأمة وبين لفظ الإحداث الذي حذر من الوقوع فيه. أما الأمور المحدثات التي أنكرها النبي صلى الله عليه وسلم فهي ما لم يكن معروفا في كتاب ولا سنة ولا إجماع[5] وتضاهي الشرعية كما قاله الشاطبي.[6] وأما التجديد فهو إحياء ما اندرس وبناء ما انهدم وتقويم ما انحرف كما دل عليه لفظ التجديد الذي يعني جعل الشيء جديدا، ولم يكن معناه إيجاد شيء لم يكن موجودا.

وكما قال المناوي: أنه يجدد ما اندرس من أحكام الشريعة وما ذهب من معالم السنن وما خفي من العلوم الظاهرة والباطنة.[7]

“والتجديد لشيء ما هو إلا محاولة العودة إلى ما كان عليه يوم نشأ وظهر، بحيث يبدو مع قدمه كأنه جديد، وذلك ذلك بتقوية ما وهى منه وترميم ما بلي ورتق ما انتفق، حتى يعود أقرب ما يكون إلى صورته الأولى.”[8]

وبناء على ذلك فالمجدد هو الذي يعرف الدين ويفقهه على نصاعته الأولى وكماله الأوفى ويميز الأصيل منه والدخيل.

والحقيقة فإن قدر حاجة الأمة إلى التجديد يقاس بقدر التخلف الموجود لدى المسلمين على مستوى الفهم والتطبيق. ودور المجدد يشمل كل تلك المساحة التي تخلف عنها المسلمون. فدور المجدد دور علمي وعملي في نفس الوقت.

 

المطلب الثاني: في آلية التغيير والبناء

إن المسألة إذا كانت متجذرة في الأصول لا بد من تغييرها من نقطة بدايتها وقلع المشكلة من جذورها. وإن من أوائل ما يلزم خطة التغيير الاجتماعي هو تصور مكونات المجتمع ومعرفة آلية تكوّنه حتى يعرف كيف تتفاعل العوامل الموجودة على تشكيل الأوضاع. ومن ثم تكون عملية التغيير مستفيدة من التحركات الإيجابية الموجودة وتعدل أو تحيّد التحركات السلبية.

·       هيلكة بناء المجتمع

إن كل نظام من النظم ما هو إلا ترجمة عملية وانعكاس طبيعي للمبادئ والقيم. فترسيخ المبادئ وتثبيت القيم يجب أن يكتمل قبل تقنين القوانين وإنشاء النظم. إن مقارعة النظم رأسا والمطالبة بتغيير النظام قبل تغيير قناعة الناس وإقناعهم بمبادئ وقيم جديدة تعتبر عملية معكوسة منكوسة.

وفي تاريخ الدعوة أقوى دليل وأوضح سبيل لاكتشاف هذه الحقيقة حيث بدأت الدعوة بترسيخ العقيدة والإيمان بالله واليوم الآخر. وما أقيم نظام الحكم الجديد في المدينة إلا بعد رسوخ تلك العقيدة وتمكن تلك الأفكار في ضمائر أنصار الإسلام.

قالت عائشة رضي الله عنها: “إنما نزل أول ما نزل منه –أي من القرآن- سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام، نزل الحلال والحرام. ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندع الخمر أبدا. ولو نزل لا تزنوا لقالوا: لا ندع الزنا أبدا.  لقد نزل بمكة على محمد صلى الله عليه وسلم وإني لجارية ألعب (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ)[9] وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده- أي في المدينة.”[10]

فهذه الشهادة من فقيهة هذه الأمة التي تربَّت في حضن رسول الله صلى الله عليه وسلم لها دلالة ناصعة على هذا المبدأ المهم. إن التشريعات لا تفيد ولا تعمل إلا في القلوب التي تؤمن بالمبادئ التي تكون أساسا لها.

ولا يقاس رسوخ المبادئ وانتشار المبادئ بكثرة المؤلفات وتكرر الخطب والمواعظ لدى ألسنة الناس. بل لا بد من ظهور ذلك في سلوكيات الناس وأخلاقياتهم.

 ولا أقصد بالمبادئ والقيم التي تؤسس الأنظمة الإسلامية هي فلسفة النظم ومبادئها الفكرية فقط، على شاكلة النظم الوضعية الأخرى. فإن إقناع الناس بذلك وقناعتهم به لا يكفي أن يكون ضمان النجاح لتطبيق الشريعة. إن المبادئ والأسس التي تبنى عليها الأنظمة الإسلامية هي الإيمان بكل مكوناته من الجوانب المعرفية والعاطفية والسلوكية التي سبق ذكرها في المبحث السابق. أقول إن ذلك لا يكفي لأن الشريعة الإسلامية تحتاج إلى أناس مؤمنين إيمانا صحيحا حتى تطبق تطبيقا صحيحا ملتزما. إذ إن التطبيق الصحيح المنضبط للشريعة يعتمد على الأمانة. والولاية أمانة وابتلاء ولا يؤديها حق أدائها إلا من خاف الله والتزم بأحكامه.

فبدء نزول القرآن بالآيات عن الإيمان بالله واليوم الآخر والحث على التحلي بالأخلاق السليمة إنما يأتي ممهدا لإنزال الأوامر التشريعية. كما يتضح ذلك من كلام أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.

·       النمو الطبيعي كشجرة طيبة

ولكن لا يفهم من ذلك أن بناء المجتمع يكون على نحو بناء البيوت والعمائر بمعنى أن مرحلة بناء الأساس مثلا ليس فيها جدار، والسقف لا يكون إلا بعد قيام الجدران. فيكون كما فهمه بعض الجهال أن الدعوة في المرحلة المكية لا تشريع فيها، فلا يصلون ولا يزكون، ولا يهتمون بالقضايا الاجتماعية والاقتصادية وهكذا.

وهذا الفهم خطأ من وجهين. الأول أن مراحل التشريع قد اكتملت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم. وليس مهمة المسلم أو الحركة في هذا العصر أن تعيد تلك المراحل من جديد ويبدأ العمل من الصفر، وأن يرفع بعض الوحي وينزل مرة أخرى، فهذه ليست مهمة أي واحد من البشر. قد ثبتت الأحكام وأحكمت الآيات. وإنما مهمة المصلحين أن يجددوا هذا الدين الموجود لا أن ينسفه ثم يأتي بشيء جديد.

والوجه الثاني أن النفس الإنسانية والحياة البشرية لا تشبه البناء المادي من كل وجه. فلا يتصور في مرحلة تأسيس المبادئ والقيم أن يعيش الإنسان بدون علاقة اجتماعية ولا يتعامل مع بعض النظم الاقتصادية. إن التصور الصحيح لعملية التدرج هو مثل نمو الشجرة، فبعد زرع البذرة تنبت البذرة ورقا صغيرا مع ساق يناسب حجمه ثم تكبر كل الأجزاء معتدلة ومتناسبة هكذا حتى يشتد ويثمر.

فعملية التغيير لا بد أن تكون على هذه الشاكلة. فتكون لعملية البناء خطوط متفرعة متوازنة (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ).[11]

 

·       العوامل التي تشكل أوضاع المجمتع

العوامل التي تشكل أوضاع المجمتع نوعان؛ نوع منظم إرادي ونوع عشوائي غير إرادي.

فمن النوع المنظم الإرادي ثلاثة معسكرات معسكر خير وإيمان ومعسكر شر وكفر والثالث معسكر متأرجح يمكن تسخيره للخير وللشر أيضا.

فمن معسكر الخير والإيمان الحركات الإسلامية والجمعيات الخيرية والعلماء والدعاة ومعهم الملائكة الحفظة الكرام البررة. وأول سمات هذا المعسكر أنه بني على أساس الإسلام ويكون الإسلام هو هدفه.

ومن معسكر الشر والكفر الحركة الصهيونية والماسونية والحركات التنصيرية وشركات المخدرات والفساد والجماعات الدينية المنحرفة ووراءهم إبليس وجنوده. وهذا المعسكر تكوّن أساسا لمحاربة الخير أو محاربة الإسلام على وجه التحديد.

والمعسكر الثالث قابل لأن يكون مع أي واحد من المعسكرين، والغالب يكون اتجاهه تبعا لاتجاه قيادته وإن كانت قاعدته قد لا تميل إلى الاتجاه نفسه. ومن هذا المعسكر وفي مقدمته هو الحكومات ثم المؤسسات الشعبية الأهلية التي تقوم على جهود أفراد المجمتع. فالحكومة في الحقيقة في وضع متأرجح، وليس بصحيح أن نصنفها دائما في مواجهة المشروع الإسلامي (ولا العكس أيضا حيث تعتبر الحكومة مع الحق دائما، ومخالفتهم تعتبر معصية منكرة في كل الأحوال). فمكونات الحكومات أفراد مسلمون، إلا أن الوضع العام للمسلمين البعيد عن الإسلام هو الذي يحدد اتجاه الحكومات. والملاحظ أن وضع حكومة ما في دولة ما يعكس دائما تركيبة الشعب نفسه. فالشعب الذي يغلب عليه التدين وحب الدين وإن كان مع الجهل والبعد عن كثير من تعاليمه يكون أفراد الحكومات على هذه الشاكلة. وإذا كان الشعب يغلب عليه الانحلال وكراهية التدين يكون أفراد الحكومة على الاتجاه نفسه. لا ننفي وجود حكومة عميلة تكون ضد الشعب لحساب الأعداء، ولكن التعميم والإطلاق في هذا جناية على الحقيقة الموضوعية.

وحتى دولة مثل الولايات المتحدة الأمريكية لا يصح أن نتصور أنها كتلة واحدة ولها اتجاه واحد. بل يختلف الشعوب عن الحكام. والجهات الموجهة لها متنوعة من الشركات المتعددة الجنسية وشركات الأسلحة واللوبي اليهودي والجماعات الدينية وضعط الشعب إلى آخره، وهذه كلها ألوان وأشكال قد تتفق وقد تختلف.

ثم النوع الثاني من العوامل نوع عشوائي[12] لا إرادي. وهذا قسمان؛ قسم يدفع إلى الخير والصلاح وقسم يوقع في الشر والفساد. فمن القسم الأول فطرة الإنسان وقيم الخير والمثل العليا الموجودة في المجتمع مما يتفق مع الإسلام الحنيف وكل الكون في الأصل ما وضع إلا للخير إلا ما جعله الله فتنة للناس وابتلاء. ومن القسم الثاني شهوات الناس والاعتقادات الخاطئة والأفكار المنحرفة.

إن النظرة العشوائية كثيرا ما تجعلنا نقع في معركة لا داعي لها وتفوت علينا إمكانية الاستفادة من الأشياء التي من المفروض أن نستفيد منها. وعلينا أن نضيق دائرة المعركة مهما أمكن ولا نصور المشاكل أكبر من حجمها. وبعض العوامل المعادية يمكن تحييدها أو صرفها عن الوجهة المعاكسة لنا. فالعدو الذي لا يتحول ولا يتبدل أبدا هو الشيطان وحده. أما الإنسان فقلبه بيد الله يقلبه كيف يشاء.

إننا بحاجة إلى أن نعرف أن ما منّ الله علينا من الإمكانات والأعوان وكل العوامل المساعدة ما يكفي لمواجهة التحديات. وكيف لا يكون كذلك فالمصلحون معهم الله الذي بيده الخيركله؟ إلا أن الله سبحانه تعالى يريد من عباده شيئا من الصدق والجد ما يميز به الخبيث ومن الطيب، (ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ).[13]وقال تعالى: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ).[14]

ولا يجوز التهوين أيضا من حجم التحديات ولا التهويل في قدر الإمكانات، فالواقعية والدقة والموضوعية كلها ضروري. ولكن النفسية المنهزمة كثيرا ما تجني على صاحبها قبل وأكثر مما جنى عليه أعداؤها.

 

·       التعامل مع نسبيات المجتمع

ولا تكون الخلافات الموجودة دائما داخل جسم الأمة تقف عائقة أمام خطوات التقدم. بل العمل على التقدم إلى الأمام مع وجود هذه الخلافات شيء ممكن. وذلك بالآتي:

1-              استغلال القواسم المشتركة للتعاون في العمل المشترك وتحقيق مصالح مشتركة.

2-              دفع كل اتجاه في خندقه الخاص مع التأييد المعنوي في حالة تعذر التعاون العملي في العمل المشترك.

3-              العمل على إذابة الحواجز النفسية والحزازة القلبية بالزيارات وتبادل التهاني وإيجاد علاقة طيبة مع كل الأطراف.

وعلى التيار الوسطي أن يكون أوسع فهما وأرحب صدرا لهذه الخلافات، ولا يبقى في موقف المطالب بفهم الآخرين له أو طلب الاعتذار له، بل يسبق ويبادر بتفهم المخالفين وعدم التضايق من خلافهم والاستعداد للتنازل في الأمور الثانوية النسبية القابلة للنقاش والأخذ والرد.

وفي التعامل مع كل القضايا الخلافية لا بد من التذكير والتأكيد على النقاط المتفق عليها. من أجل الحفاظ على القضايا المتفق عليها التي تكون في الغالب إن لم يكن دائما أهم من الخلافيات. حتى يكون محور العلاقة هي تلك الأمور المتفق عليها.

 

·       الحقائق بين نسبيات وثوابت

إن فهم الواقع وإدراك الحقائق لا يتم إلا بالتمييز بين ما هو نسبي متغير وما هو مطلق ثابت. فمن الأمور النسبية:

–       نسبية صفات الأشخاص ومواقفهم أي أن صفات الناس قد تتغير وكذلك مواقفهم، وإن كان تغيير الصفات أصعب وحصوله في الناس قليل لكنه ممكن ووارد.

–       نسبية المصالح والأغراض، أي أن المصالح قد تتغير إذا تغيرت الأوضاع فتتغير أغراض الناس تبعا لذلك.

–       نسبية الشعوب والمجتمعات أي أنه لا يصح أن يتصور أن شعبا أو مجتمعا ما كأنه كتلة واحدة لا تتجزأ ولا تتنوع، بل هناك مواقف متباينة في شعب واحد ومصالح قد تكون متعارضة ورؤى قد تكون متعاكسة وهكذا. لنسمع –على سبيل المثال- حكم الله في أهل الكتاب (لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ).[15]

–       نسبية الأحكام المنوطة بالظنيات أو المستندة إليها، أي أن الأحكام قد تختلف باختلاف مناطها وتعلقاتها أو بظنية أدلتها.

–       نسبية الخطط المرحلية، أي أن الأهداف المرحلية ومعاييرها يجب أن تتغير بتغير الظروف الملابسة لها.

–       نسبية الآراء، أي أن رأي الإنسان -مهما كان- يحتمل الخطأ والقصور.

وهناك أمور ثوابت لا يجوز الخلاف فيها ولا التنازل عنها، منها:

–       أن الله الخالق هو المستحق للعبادة لاشريك له وأن ما أنزله الله من الوحي يجب الإيمان به والعمل به والذود عنه.

–       أن القرآن حق ومحمد رسول من الله حقا ويجب الإيمان به اعتقادا وقولا وفعلا.

–       أن الخير مع الإيمان وأهله والشر مع الكفر وأهله.

–       أن الصراع بين الإيمان والكفر سنة الحياة بغض النظر عمن يكون ممثّلا لكل واحد منهما.

–       أن النجاة في الوقوف مع معسكر الإيمان مهما أصيب من أذى ونكبة في جولة من جولات الصراع.

 

·       تعميم فقه الاختلاف وآدابه

إن ظاهرة اختلاف الأمة وخاصة بين العاملين للإسلام تأكل وتهدر من الطاقات وتضيع من الفرص والأوقات ما يندى له الجبين. وقد سعى العلماء والدعاة لتفادي هذا الداء العضال وبذلوا جهدا مشكورا. إلا أن الملاحظ دائما أن هذا الأمر يكون أكثر وأشد في الأتباع وعوام الناس. لا نزهد في طرح ومعالجة هذا الأمر في وسط العلماء والدعاة والمفكرين إلا أن ذلك لا يتم إلا إذا نزل هذا الوعي إلى مستوى عوام الناس.

وأخص بالذكر المنتسبين إلى الحركات الإسلامية لأنهم أكثر الناس فاعلية وتأثيرا من واقع العمل الإسلامي. والتناحر فيما بينهم أشد خطرا وأقوى ضراوة. فإن لم يرب المصلحون أتباعهم على الفقه المتزن للخلاف وآداب الخلاف ستشهد الساحة واقعا مؤلما ومصيرا مؤسفا. والتعويل الأكثر على التيار الوسطي إذ هم أكثر الناس تفهما للقضية وأقرب الأطراف إلى التعامل مع المخالفين.

 

·       التدرج مع الإصرار

إن نصح العقلاء والحكماء بأن يتدرج المرء في تحقيق أهدافه وبلوغ مراده وألا يهجم على القضية هجمة واحدة لا بد أن يصحبه الإصرار والثبات على المبدأ. فإن أسهل ما يفقده المكافح هو الثبات على الهدف المرسوم. فكثرة العوائق قد تصرفه عن وجهته الأولى، والاحتجاج بالتدرج قد يضعف عزيمته على المضي في الطريق، وتشعب القضية قد يضله عن الوجهة الأصيلة.

ومن هذا الباب كان التكرار بطلب الهداية مهما إذ يقول المؤمن دائما في صلاته وغيرها (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ).[16] ومن هنا أيضا يعرف قدر أمر الله نبيه صلى الله بالاستقامة، قال تعالى: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)[17]، قال أيضا: (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ)[18]، وقد كان أمر الله بالاستقامة هو الذي شيب النبي صلى الله عليه وسلم[19]، وهو من هو في القوة النفسية.

والأهداف المرحلية نوعان نوع يجوز تجاوزه أو الإتيان بغيره بدلا عنه ونوع لا يجوز تجاوزه ولا يمكن الإتيان بغيره بدلا عنه.

فالنوع الأول هو ما كان مجرد وسيلة إلى الهدف النهائي. فما دام أنه مجرد وسيلة فيمكن استبداله إذا تحقق الهدف بدونه أو هناك وسيلة أخرى أنفع وأحسن. والنوع الثاني هو ما كان هدفا وسيلة في نفس الوقت، مثل الصلاة شرعت للذكر، ولكنها غاية بذاتها لا يجوز التخلي عنها.

 

·       الإحصاء وليس الانطباع

لا شيء أدق لقياس نجاح العمل أو فشله من استعمال لغة الأرقام. وقد سبق أن ذكرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجري إحصائية لمعرفة عدد المسلمين الموجودين آنذاك. فمن الخطأ أن نعتمد في محاسبة الأعمال وتقويمها على مجرد الانطباع العام من المسؤول تجاه الإنجاز. بل لا بد من عملية القياس المنضبط حتى يعرف مدى تحقق الأهداف.

 

·       الأرقام ودلالتها

إن الأرقام تصور الحقيقة أكثر وأدق من الكلام المجرد لأنها لا تترك مساحة لاختلاف التفسيرات ولا تسمح مجالا للمبالغة. إننا لن ندرك الحقيقة لو قلنا مثلا: أننا قد أنجزنا أعمالا كثيرة أو نقول: “أن الوضع بخير والكل على ما يرام.” إذا أردنا أن نعرف الحقيقة لا بد نأتي بكلام محدد مقيس. نقول مثلا: لقد أسلم على أيدي دعاتنا في هذا الشهر عشرة أشخاص. أو إذا أردنا أن نصور الوضع نقول: إن عدد المصلين في مساجد منطقة كذا عشرة آلاف مثلا. وهكذا.

ولكن هناك مسافة يجب أن نعرفها بين ما تدل عليه الأرقام وبين ما نفهمه ونستنتج من تلك الأرقام. إن الأرقام لا تدل إلا على جزئية محددة، والذي نريد أن نتعرف عليه دائما أكبر وأوسع من دائرة تلك الجزئية. فمثلا إذا أردنا أن نعرف نسبة التدين لدى أفراد مجموعة ما، لا يمكن إلا أن نجري إحصائية على بعض الجزئيات مثلا على نسبة صلاة الجماعة في الشهر أو كم يختم القرآن أو كم ساعة يقضيها الشخص للعمل الإسلامي خلال الأسبوع وهكذا. فإن هذه الجزئيات التي نريد أن نقيسها فقط بعض الأجزاء من التدين. فيجب في التعامل مع الأرقام أن نعرف نسبية دلالتها ولا نستطيع إلا أن نقرب إلى الحقيقة لا أن نصل إليها حقيقة. وللتقريب من التصور الدقيق لا بد أن نعدد المعايير مهما أمكن. ولا نجمد على معيار واحد. بل كما يجب أن يدرس الوضع يجب أيضا أن يدرس المعيار لقياس الوضع.

 

·       قسم البحث والتطوير

ولا بد أن يكون في كل مؤسسة قسم خاص للبحث والتطوير لدراسة أهدافها وجودة أدائها وكفاءة أفرادها وتنمية إمكاناتها وطرح طرق تطويرها. ولا يجوز اعتبار هذا القسم نافلة من نوافل العمل، بل هو من ضرورياته، لأن أهمية هذا الجهاز تصب في مبرر وجود المؤسسة نفسها. إذ ليس للمؤسسة معنى إذا لم تعرف ما إذا حققت أهدافها أم لا؟ أجادت عملها أم أساءت؟ سلكت طريقا جيدا لوصول الهدف أم طريقا سيئا؟ استخدم أفضل وسيلة أم لا؟ وضع هيكل تنظيم مناسب أم فيه قصور؟ العلاقة بين الأفراد مؤدية إلى إلى إنجاز جيد أم فيها مشاكل؟ إلى عشرات من الأسئلة لا يمكن معرفتها على وجه الدقة إلا بقيام جهاز متخصص لدراسة كل ذلك.

 

المطلب الثالث: أهلية التغيير والتمكين

إن لأهل التغيير مواصفات وللتمكين مؤهلات وللنصر موجبات. قال تعالى: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ . الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ).[20]

فالذين يستحقون التمكين هم المؤتمنون على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وقيام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. هم الذين يؤدي تمكينهم إلى قيام الشعائر وأداء الحقوق وظهور الفضائل واندحار الرذائل.

وقال الله تبارك وتعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).[21]

وهنا وعد للمؤمنين العاملين للصالحات بالاستخلاف وتمكين الدين والأمن. ووصفهم بالعبادة وعدم الشرك مع أنهما داخلان في الإيمان والعمل الصالح له دلالة مهمة، كأنهما سبب ومبرر لهذا الوعد الكريم. وإرداف عدم الشرك بالله على عبادة الله يؤكد معنى الإخلاص في العبادة والسلامة من كل أنواع الشرك.

ثم لما نسمع قول الله عز وجل: (هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)[22] تبين بعد آخر للاستحقاق.

قال الطبري رحمه الله في تفسير هذه الآية: وإن تتولوا أيها الناس عن هذا الدين الذي جاءكم به محمد صلى الله عليه وسلم فترتدوا راجعين عنه يستبدل قوما غيركم أي يهلككم ثم يجيء بقوم آخرين غيركم بدلا منكم، يصدقون به ويعملون بشرائعه. ثم لا يكونوا أمثالكم أي ثم لا يبخلوا بما أمروا به من النفقة في سبيل الله ولا يضيعون شيئا من حدود دينهم ولكنهم يقومون بذلك كله على ما يؤمرون به.[23]

فإن الله ربط استبدال قوم بقضية البخل عن الإنفاق في سبيل الله. لأن الإنفاق برهان الإيمان ودليل صدق العبادة وأمارة على التجرد عن الدنيا وعدم حبها. كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “والصدقة برهان.”[24] وهذه الحقيقة تسلمنا إلى نقطة أخرى مهمة، وهي:

 

·       الحاجة إلى الزهد الجماعي

كأن الآية السابقة تقول أن من يبخل ولا ينفق في سبيل الله لا يستحق ذلك التشريف. وهذا يذكرنا بأمر وهو أن من موانع النصر هو حب الدنيا. قال تعالى ميبنا سبب هزيمة المسلمين في أحد: (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ).[25]

ويؤكد ذلك الحديث الذي رواه أبو داود قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم: “يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها.

فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟

قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن.

فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟

قال: حب الدنيا وكراهية الموت”.[26]

فحب الدنيا -ويدخل فيه كراهية الموت لأنها نتيجتها- وهن وضعف وسبب خذلان الله للمسلمين. ومن هنا نعرف أن المسلمين لا يستحقون النصر ما داموا يحبون الدنيا.

ويجب أن نتنبه أن هذا الداء يكفي لحرمان المسلمين كلهم من النصر إذا أصيب البعض بهذا الداء، فإن الله قال: “(مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا)” وليس الكل. بل أثبت أن هناك من يريد الآخرة لكنه لا يعفيهم عن الحرمان.

ومن هنا تبين أننا نحتاج ليس فقط إلى زاهد أو زاهدين في جملة المسلمين، بل لا بد أن يكون المسلمون زهادا في الدنيا –وخاصة رواد الصحوة. أن تفرغ قلوبهم عن التعلق بالدنيا وإن كانت أيديهم تمسكها.

ومن أهم صور الزهد في هذا المجال الزهد في السلطة والجاه فإنه مزلق خطير. لأن الإسلاميين لما طلبوا بإقامة شرع الله ولم تصف نفوسهم من حب الظهور وطلب السلطة كان عملهم مشوبا بحظوظ النفس والشهوة الخفية المكسوة بطلب الحق والدفاع عنه. والله يقول في الحديث القدسي: “من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه.”[27]

لنتصور حال من تركه الله. هل سينصره؟ هل سيوفق عمله؟ هل سيبارك عمله؟ فأنى له ذلك؟!

والزهد الذي نحتاجه كما سبق ليس وصف فرد أو اثنين، بل يجب أن تكون الجماعة العاملة لنصرة الإسلام زاهدين في الدنيا، وإلا لن يؤهلوا لأن يعطيهم الله حكم الدنيا تكريما.

وإذا تصورنا أن يؤتى قوم الدنيا مع حبهم لها فلن يكون ذلك تكريما لهم بل سيكون بلا ريب فتنة وبلاء لهم.

 

·       الحاجة إلى إحساس وشفافية شديدة في النية والدوافع، والانتباه إلى الشهوة الخفية

وبناء على ذلك يجب أن يكون لدى أبناء الصحوة وأعيان النهضة حساسية شديدة من الميل إلى الدنيا والتطلع لها. وتكون لهم شفافية مع ضمائرهم ومراقبة شديدة لقلوبهم. فإن المحك هنا ليس في الأمور الظاهرة التي يسهل تصنيفها ضمن الآثام. فالخطر يأتي من الطاعات التي أريد بها غير الله.

إن بعض الأعمال تشترك فيها مقاصد شرعية ومصالح دينية مع مطامع شخصية ودوافع شهوات خفية. فهذا هو مكمن الخطر. فإن العمل الإسلامي إذا لم تصفُ فيها النية فإن الله لا يقبل والعمل لايبارك الله فيه.

وخاصة على أصحاب القرارات، فإنه من السهل تبرير عمل ما أو اتخاذ موقف معين أنه إن إريد به إلا الإصلاح، ولكن هل فعلا أنه صادق فيه؟ وقد كان الإنسان أكثر شيء جدلا.

وليس هذا الكلام كله في التزهيد في العمل الإسلامي ولا التشكيك في نوايا الناس. إن هذا إلا تذكير وتحذير من الأمور التي قد تقع بسبب التقصير في مراقبة القلب وإنكار الذات ولوم النفس. فإن الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت.

ونسأل الله التوفيق والسداد، إنه ولي ذلك والقادر عليه.


[1]  سورة الحج: من الآية41

[2]  سورة الفاتحة:5

[3]  سورة الفاتحة:6

[4]  ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده ص6-7، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، الطبعة الثانية، 1422هـ-2001م

[5]  النهاية (1/344)

[6]  الاعتصام (1/42)

[7]  فيض القدير (1/10)

[8]  من أجل صحوة راشدة ص34، د. يوسف القرضاوي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1422هـ-2001م

[9]  سورة القمر:46

[10]  أخرجه البخاري (4/1910 رقم 4707)

[11]  سورة الفتح: 29

[12]  لا اقصد بالعشوائية هنا أنها لا تخضع لأي نظام بل هذه العوامل تعمل وفق سنة الله، لكن كونها عشوائية من قبيل أنه لا يحركها إرادة بشرية أو وفق خطة معينة.

[13]  سورة محمد: من الآية4

[14]  سورة آل عمران: 179

[15]  سورة آل عمران:113

[16]  سورة الفاتحة:6

[17]  سورة هود:1121

[18]  سورة الشورى:15

[19]  انظر الجامع لأحكام القرآن (9/2)

[20]  سورة الحج:41

[21]  سورة النور:55

[22]  سورة محمد:38

[23]  جامع البيان (26/65)

[24]  جزء من حديث أخرجه مسلم (1/203 رقم 223)

[25]  سورة آل عمران: 152

[26]  أخرجه أبو داود (4/111رقم 4297)

[27]  أخرجه مسلم (4/2289 رقم 2985)

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

معلومات

This entry was posted on 24 أفريل 2012 by in مقالات.

الابحار

%d مدونون معجبون بهذه: