كما أن التفريط في مقاصد الشريعة وإنكار ابتناء الأحكام عليها خطأ واضح، فإن مجاوزة الحد في دعوى معرفة المقاصد أيضا خطأ وضلال. إن كون الشرع الحكيم يشتمل على المصالح لا ينكره أحد ولا يدفعه إنسان، والغريزة الإنسانية دائما تميل إلى المصلحة، لكن الاسترسال في دعوى المصلحة بدون ضابط شرعي مظنة انزلاق فكري وانحراف ديني. ودعوى المصلحة بدون سند شرعي – أو المعارضة لدليل شرعي ثابت – غير مقبولة.
والذين أفرطوا في المقاصد في هذا الزمان –في تقديري- أكثر من الذين فرطوا فيها، فلم يكن إنسان هذا العصر عموما يتمسك بمبدإ رافض لفكرة المصالح وعدم بناء الأحكام عليها، ولكنهم سرعان ما يقبلون ويؤمنون بأي شيء يعتقدون أن فيه مصلحتهم، بغض النظر عن الصواب أو الخطإ، حقا كان أو باطلا. فلذلك نجد أن أصناف الناس الذين بالغوا وغلوا في إثبات المصالح أكثر بكثير من الذين أنكروا تعليل الأحكام.
وقسم الشاطبي هؤلاء المغالين إلى فريقين: فريق يدّعون أن مقصد الشرع ليس في هذه الظواهر ولا ما يفهم منها، إنما المقصود – حسب دعواهم- أمر آخر وراءه، ويطّرد هذا في جميع الشريعة، حتى لا يبقى متمسك يمكن أن يلتمس منه معرفة مقاصد الشارع. وهذا رأي كل قاصد لإبطال الشريعة، وهم “الباطنية”. فإنهم لما قالوا بالإمام المعصوم لم يمكنهم ذلك إلا بالقدح في النصوص والظواهر الشرعية لكي يفتقر إليه على زعمهم.[1]
والفريق الثاني: من يقول إن مقصود الشارع الالتفات إلى معاني الألفاظ بحيث لا تعتبر الظواهر والنصوص إلا بها على الإطلاق، فإن خالف النص المعنى النظري اطرح وقدم المعنى النظري، وهو إما بناء على وجوب مراعاة المصالح على الإطلاق أو على عدم الوجوب ولكن مع تحكيم المعنى جدا حتى تكون الألفاظ الشرعية تابعة للمعاني النظرية.[2] وهم المعتزلة ومن وافقهم.
ولكن الجنوح إلى تغليب المعاني المصلحية على النصوص تزايد مع تزايد ثقافة اتباع الشهوات وغلبة الأهواء، فتكاثرت صور “تأليه” المصالح وإرضاء الرغبات، وزادت على تلك الأنماط القديمة. ويمكن تصنيفهم إلى ثلاثة أصناف: (1) صنف ادعى أن الشريعة ظاهرها غير مقصودة أصلا، والالتزام بها غير مطلوب لمن أدرك بواطن الأمور المطلوبة حسب زعمهم، وهم فرق الباطنية. (2) وصنف ادعى أن العبادات طريقة للارتقاء بالروح إلى الوصول إلى الحقيقة، وإذا وصل الإنسان إلى الحقيقة سقط عنه التكاليف الشرعية، وهذا اعتقاد غلاة ومبتدعة الصوفية. (3) وصنف غلّب النظر العقلي على دليل الوحي، وألغى ثوابت الشريعة بدعوى المصالح المظنونة. وهذا توجه المعتزلة قديما، وسار على ذلك في عصرنا الحاضر أصحاب التيار اللبرالي أو التحرري.
إن أبعد تلك الفرق عن الحق، وأشدهم مغالاة في طمس معالم الشريعة فرقة الباطنية، قال ابن الجوزي: “الباطنية قوم تستروا بالإسلام، ومالوا إِلَى الرفض وعقائدهم وأعمالهم تباين الإسلام بالمرة. فمحصول قولهم: تعطيل الصانع وإبطال النبوة والعبادات وإنكار البعث، ولكنهم لا يظهرون هَذَا فِي أول أمرهم، بل يزعمون أن اللَّه حق، وأن محمدا رَسُول اللَّهِ والدين صَحِيح، لكنهم يقولون لذلك سر غير ظاهر. وَقَدْ تلاعب بهم إبليس فبالغ وحسن لهم مذاهب مختلفة.”[3]
وأشهر فرق الباطنية هي فرقة من الشيعة الإسماعيلية، لزمها هذا اللقب لقولها: “إن للشريعة ظاهرا وباطنا ولكل تنزيل تأويلا.”[4] ولهذه الفرقة ألقاب متعددة منها القرامطة والمزدكية (في العراق) والتعليمية والملاحدة (في خراسان).[5] وصنفت ضمن هذا اللقب أيضا طوائف أخرى شابهتها في أصول عقائدها وهم – عدا الإسماعيلية التي تشمل القرامطة وإخوان الصفا – الدروز والنصيرية. واتفق أتباع كل فرقة من هذه الفرق يعتبرون أنفسهم “الموحدون” أما غيرهم – على حسب زعمهم – فالمسافة شاسعة بينهم وبين التوحيد، لذلك فالدروز يطلقون على أنقسهم مسلك التوحيد باعتبار أنهم وحدهم سلكوا هذا المسلك.[6]
وهناك عقيدة أخرى لا يختلفون فيها أبدا، وهي عقيدة التقية، فالتستر والكتمان عند جميع هذه الفرق فرض لا يجوز التهاون فيه، لأن البوح بأسرار اعتقاداتها إلى غير أهلها تدنيس لها، لذا فقد طالبت الإسماعيلية والدرزية والنصيرية أتباعها بالاستتار وعدم التظاهر بما يبطنون، وهكذا فقد أصبحت هذه العقيدة عادة مستحكمة عند جميع أتباع هذه الفرق لأنها تعني التظاهر بشيء والإيمان بشيء آخر، وبالتالي فقد جعلت هذه العقيدة من أتباعها بؤرة للنفاق والخداع يتصفون به جميعهم، وهذا واضح في تاريخهم.[7] وإن جميع هذه الحركات تطلب من المستجيبين لها عهودا وأيمانا غليظة يجب أن يؤديها حتى يوثق به، ومع ذلك فإنهم لا يسلموه كل الأسرار دفعة واحدة، بل على التدريج وكما هو واضح عند الدروز والنصيرية.[8]
فمذهب الباطنية يقوم على فكر مستبطن غير معلن، وإنما عرفت مذاهبهم وعقائدهم – مع حرصهم وتشددهم في إخفائها- عن طريق من أسلم منهم. أما هم فينكرون تلك المذاهب، ويظهرون لكل ذي ملة أو مذهب ما يحب، فإن أتوا النصارى أظهروا لهم القول بالتثليت وأكدوا لهم ألوهية المسيح، وإن أتوا اليهود أظهروا لهم بغض المسلمين والنصارى، وإن التقوا بزاهد أظهروا الزهد في الدنيا ومجانبة أهلها، فهم يلبسون لكل حالة لبوسها، حتى إذا أمن لهم ألقوا عليه شبهاتهم، ودعوه إلى الدخول في مذهبهم، وكشفوا له عقائدهم، بعد حرص وتحر شديد خشية أن يرتد عنهم. وبلغ التحذير عن هذه الفرقة حيث قال البغدادي في الفرق بين الفرق: “اعلموا – أسعدكم الله – أن ضرر الباطنية على فرق المسلمين أعظم من ضرر اليهود والنصارى والمجوس عليهم، بل وأعظم من الدهرية وسائر أصناف الكفرة عليهم.”[9] وأطبق كتاب الفرق والمذاهب قاطبة أن فرقة الباطنية لم ينشئها منتسب إلى ملة أو معتقد لنحلة أو نبوة، فإن مساقها ينقاد إلى الانسلال من الدين كانسلال الشعر من العجين.[10]
وقد ذكر الغزالي ظروف نشأة هذه الفرقة إذ قال: “… تم في اجتماع لقوم من أولاد المجوس والمزدكية وشرذمة من الثنوية الملحدين، وطائفة كبيرة من ملحدة الفلاسفة المتقدمين، – زاد الديلمي: وبقايا الخرمية واليهود-… جمعهم نادٍ واشتوروا في حيلة يدفعون بها الإسلام. وقالوا: إن محمداً غلب علينا وأبطل ديننا، واتفق له من الأعوان ما لم نقدر على مقابلتهم، ولا مطمع لنا في نزع ما في أيدي المسلمين من المملكة بالسيف والحرب، لقوة شوكتهم وكثرة جنودهم، وكذلك لا مطمع لنا فيهم من قبيل المناظرة لما فيهم من العلماء والفضلاء والمتكلمين والمحققين فلم يبق إلا اللجوء إلى الحيل والدسائس. ثم اتفقوا على وضع حيل وخطط مدروسة يسيرون عليها لتحقيق أهدافهم من خلال الأمور التالية: (1) التظاهر بالإسلام وحب آل البيت والانتصاف لهم. (2) دعوى أن النصوص لها ظاهر وباطن، والظاهر قشور والباطن لبّ، والعاقل يأخذ اللبّ ويترك القشور.[11]
وهذا الزعم الكاذب يريدون من ورائه سلب المعاني عن الألفاظ، والإتيان بمعان باطنية تتفق مع ما يهدفون إليه من الكيد للإسلام. واختاروا أن يدخلوا على المسلمين عن طريق التشيع، وعلى مذهب الرافضة، وإن كان هؤلاء الباطنيون يعتبرون الروافض أيضاً على ضلال، إلا أنهم رأوهم- على حد ما ذكر الغزالي- “… أركّ الناس عقولاً، وأسخفهم رأياً، وألينهم عريكة لقبول المُحَالات، وأطوعهم للتصديق بالأكاذيب المزخرفات، وأكثر الناس قبولاً لما يلقى عليهم من الروايات الواهية الكاذبة، فتستروا بالانتساب إليهم ظاهراً للوصول إلى أصناف الناس، فكان ظاهرهم الرفض، وباطنهم الكفر المحض، ومفتتحه حصر مدارك العلوم في قول الإمام المعصوم…”[12]
ولما عجزوا عَنْ صرف الناس عَن القرآن والسنة صرفوهم عَن المراد بهما إِلَى مخاريق زخرفوها, إذ لو صرحوا بالنفي المحض لقتلوا. فقالوا: معنى الجنابة مبادرة المستجيب بإفشاء المستجيب بإفشاء السر، ومعنى الغسل تجديد العهد عَلَى من فعل ذلك, ومعنى الزنى إلقاء نطفة العلم الباطن فِي نفس من لم يسبق معه عقد العهد، والصيام الإمساك عَنْ كشف السر, والكعبة هي النبي، والباب علي، والطوفان طوفان العلم أغرق به المتمسكون بالشبهة، والسفينة الحرز الذي يحصن به من استجاب لدعوته، ونار إِبْرَاهِيم عبارة عَنْ غضب نمرود لا عَنْ نار حقيقة, وذبح إِسْحَاق معناه أخذ العهد عَلَيْهِ, وعصا مُوسَى حجته, ويأجوج ومأجوج هم أهل الظاهر.[13]
إذا كان الحديث عن عقائد الباطنية يبين العمق الفكري لهذه الشرذمة، فإن ممارساتهم مع المسلمين – عندما يشعرون بنوع من القوة – تبين مدى الحقد الذي يضطرم في قلوبهم تجاه المسلمين، وللتذكير فإن تاريخ المسلمين مع الباطنية تاريخ مليء بالدماء، ونحن في هذه العجالة لن نسطر الكثير من فظائعهم، فيكفينا بعضها، وربما كان الحدث الأعظم الذي حل بالمسلمين من جهة الباطنية في أعظم بقعة وأجلها، وفي خير الأيام وأفضلها، على يد شر البرية وأرذلها، هو ما ذكره الحافظ ابن كثير رحمه الله في كتابه البداية والنهاية حيث يقول: ” فيها – أي في سنة 317هـ – خرج ركب العراق وأميرهم منصور الديلمي، فوصلوا إلى مكة سالمين، وتوافت الركوب هناك من كل مكان وجانب وفج، فما شعروا إلا بالقرمطي قد خرج عليهم في جماعته يوم التروية، فانتهب أموالهم واستباح قتالهم، فقتل في رحاب مكة وشعابها، وفي المسجد الحرام، وفي جوف الكعبة من الحجاج خلقا كثيرا، وجلس أميرهم أبو طاهر – لعنه الله – على باب الكعبة، والرجال تُصرع حوله، والسيوف تعمل في الناس .. وهو يقول : “أنا لله، وبالله، أنا أنا، أخلق الخلق وأفنيهم أنا.” فكان الناس يفرون منهم، فيتعلقون بأستار الكعبة، فلا يجدي ذلك عنهم شيئا، بل يقتلون وهم كذلك، ويطوفون فيقتلون في الطواف، فلما قضى القرمطي – لعنه الله – أمره، وفعل ما فعل بالحجيج من الأفاعيل القبيحة، أمر أن تدفن القتلى في بئر زمزم، ودَفَنَ كثيرا منهم في أماكنهم من الحرم .. ومع هذا لم يغسلوا ولم يكفنوا ولم يصل عليهم، لأنهم محرمون شهداء في نفس الأمر، وهدم قبة زمزم، وأمر بقلع الكعبة، ونزع كسوتها عنها، وشققها بين أصحابه، وأمر رجلا أن يصعد إلى ميزاب الكعبة فيقتلعه، فسقط على أم رأسه فمات إلى النار ، فعند ذلك انكف الخبيث عن الميزاب، ثم أمر بأن يقلع الحجر الأسود، فجاءه رجل فضربه بمثقل في يده، وقال: “أين الطير الأبابيل؟ أين الحجارة من سجيل؟” ثم قلع الحجر الأسود، وأخذوه حين راحوا معهم إلى بلادهم، فمكث عندهم ثنتين وعشرين سنة حتى ردوه …”[14]
إن كل طوائف الباطنية ترى أن الفرائض والعبادات ما هي إلا أغلال وقيود وضعت على الجهلة المقصرين وهم “أهل الظاهر” لعدم اعتقادهم بأسرار الحقيقة الإلهية وظهوراتها، لذلك فقد وضع الله عليهم هذه الفرائض والعبادات كقيود وأغلال لتقصيرهم في ذلك.[15]
فمن مذهبهم القول بآلهين قديمين لا أول لوجودهما من حيث الزمان، إلا أن أحدهما علة لوجود الثاني. قالوا: والسابق لا يوصف بوجود ولا عدم ولا هو موجود ولا هو معدوم ولا هو معلوم ولا هو مجهول ولا هو موصوف ولا غير موصوف, وحدث عَن السابق الثاني، وَهُوَ أول مبدع ثم حديث النفس الكلية، وعندهم أن النبي عَلَيْهِ السلام عبارة عَنْ شخص فاضت عَلَيْهِ من السابق بواسطة الثاني قوة قدسية صافية. وزعموا أن جبريل عَلَيْهِ السلام عبارة عَن العقل الفائض عَلَيْهِ لا أنه شخص. واتفقوا عَلَى أنه لا بد لكل عصر مَعَ إمام معصوم قائم بالحق يرجع إليه فِي تأويل الظواهر مساو للنبي عَلَيْهِ السلام فِي العصمة. وأنكروا المعاد، وقالوا: معنى المعاد عود الشيء إِلَى أصله، وتعود النفس إِلَى أصلها. وأما التكليف فالمنقول عنهم الإباحة المطلقة، واستباحة المحظورات. وَقَدْ ينكرون هَذَا إذا حكى عنهم, وإنما يقرون بأنه لا بد للإنسان من التكليف, فَإِذَا اطلع على بواطن الظواهر ارتفعت التكاليف.[16]
أما الإسماعيلية فالتأويل بالباطن عندها دعامة رئيسية، تضاف إلى الدعامة الأخرى وهي عقيدتهم في وجوب الإمامة من ذرية إسماعيل بن جعفر.[17] وقد ذهب الإسماعيليون أن لكل ظاهر محسوس تأويلا باطنيا لا يعرفه إلا الراسخون في العلم وهم الأئمة، وهؤلاء الأئمة يودعون هذا العلم الباطن لكبار الدعاة بقدر معين. وتزعم الإسماعيلية أن هذا التأويل قد تسلسل في الأئمة من عقب علي، وهم الذين أشار الله تعالى إليهم {والراسخون في العلم} وهم وحدهم الذين لهم حق تأويل القرآن، بما عندهم من العلوم الباطنية، وزعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “أنا صاحب التنزيل وعليٌ صاحب التأويل.[18]
وبما أن الإسماعيلين يزعمون أن لكل ظاهر باطنا، لذا فقد أوجبوا الاعتقاد بالظاهر والباطن، وكفروا من يعتقد بالظاهر دون الباطن “فمن عمل بالظاهر والباطن فهو منا، ومن عمل بالظاهر دون الباطن فالكلب خير منه وليس منا.” ويزعمون أن جعفر الصادق سئل عن الحاجة إلى اتخاذ الباطن في الحجب والعدول بها عن طريق الإيضاح والإظهار، فأجاب: هي الحاجة إلى اتخاذ الحب في أغطية السنابل، والثمار في الأغشية.[19]
وأما النصيرية فالحقيقة عندها هي عبادة علي بن أبي طالب، فالذي عرف سر وباطن هذه الحقيقة فقد سقط عنه العبودية والرق التي كان مقيدا بها وهو تائه عن هذه الحقيقة. ويقولون: إن قول الله {وأن إلى ربك المنتهى} أن الرجل إذا عرف ربه فقد انتهى للمطلوب ورفعت عنه الأغلال والقيود.[20]
فالصيام مثلا في اليوم الطويل والحار هو – كما يزعمون- من الأغلال والآصار التي وضعت على أهل الظاهر نتيجة لتقصيرهم.[21] لهذا فهم لا يمتنعون عن الطعام والشراب في رمضان.[22] ويعتبرون جميع الفرائض الإسلامية بالنسبة إليهم هي ذكر أسماء أشخاص معينين، وليست كما يعملها أهل الظاهر.[23] وأشخاص الفرائض الإسلامية بالنسبة إليهم مرتبة من جملة مراتبهم الدينية، وهي مرتبة النقباء، التي يندرج تحتها سبع درجات وهي: الصلاة والزكاة والحج والصيام والهجرة والجهاد والدعاء.[24]
والصلاة عندهم بالجملة هي (السيد محمد)، وأما التفصيل فلها واحد وخمسون ركعة لواحد وخمسين شخصا، فالوقت الأول – كما يزعمون – صلاة الظهر، ثماني ركعات، وهم القاسم والطاهر وعبد الله وزينب ورقية وأم كلثوم (واسمها آمنة) وفاطمة الزهراء.[25]
ولا أعتقد أن تأويلاتهم تقف عند حد معين أو تلتزم بنقاط محددة، فمع التستر المستمر عبر القرون يتوقع أن تتغير أقوالهم و”تتطور” تحريفاتهم، ولم يحدهم غير رغبتهم في التملص عن حدود الشرع، وطمعهم في تحقيق مآربهم الدنيوية. فمن لم يتقيد بنصوص الدين ودلالتها الظاهرة فإنه يخترق كل الحدود الدينية لا محالة.
قَالَ ابْن عقيل رحمه الله: هلك الإسلام بين طائفتين بين الباطنية والظاهرية، فأما أهل البواطن فإنهم عطلوا ظواهر الشرع بما ادعوه من تفاسيرهم التي لا برهان لهم عليها، حتى لم يبق فِي الشرع شيء إلا وَقَدْ وضعوا وراءه معنى حتى أسقطوا إيجاب الوجب والنهي عَن المنهي. وأما أهل الظاهر فإنهم أخذوا بكل مَا ظهر مما لا بد من تأويله، فحملوا الأسماء والصفات عَلَى مَا عقلوه. والحق بين المنزلتين، وَهُوَ أن تأخذ بالظاهر مَا لم يصرفنا عنه دليل، ونرفض كل باطن لا يشهد به دليل من أدلة الشرع.[26]
ومع أن كلتا الطائقتين جانبت الصواب، إلا أن الظاهرية أشرف وأقرب إلى الحق، لأنهم أثبتوا النصوص وأقروا بالشرع، أما الباطنية فألغوا النصوص وأبطلوا الشرع، وجعلوها ألغازا وألاعيب لا يهتدى بها ولا يفهم من ألفاظها، وفتحوا لكل صاحب هوى أن يدعي معنى يوافق هواه، وجعلوا نصوص الوحي تابعا خاضعا لتخيلاتهم وأقاويلهم الفاسدة، بالتالي لا دين يحكم ولا شريعة تُتبع.
إن تلك الأقاويل الفاسدة لها من علامات البطلان ما هو واضح لكل ذي عينين، ولها من تفاهة الفكر السخيف ما أغنى عن البيان والكشف. لم يستجب لمثل هذا الفكر إلا نوعان من البشر، إما إنسان فاسق متبع الشهوات يريد ما يفكه عن حدود الدين وموجبات الإيمان، وإما إنسان أبله مغفل قد عطل عقله وسلّم فكره لغيره ليملي عليه معاني كاذبة مزخرفة.
إن هذه الطائفة ليست لها شبهة فكر تستحق المناقشة والمناظرة، كما قاله ابن الجوزي، ولكن إذا دعت الحاجة إلى مناظرتهم فنقول لَهُم: إن صحة الفكر تدرك بأحد أمور ثلاثة، أولا: الضرورة العقلية والبداهة بحيث يشهد له ويقره كل صاحب عقل سليم. وقد خالفهم عقلاء الناس. وثانيا، بالنظر، لكن النظر في أمور الدين عند هؤلاء غير مقبول، فإنهم يقولون إن أمور الدين لا بد لا تتلقى من إمام معصوم. فلم يبق لهم إلا دعوى طريق ثالث وهو النقل عن إمام معصوم, قلنا لهم: فما الذي دعاكم إِلَى قبول قوله بلا معجزة وترك قول مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ المعجزات؟ ثم مَا يؤمنكم أن يكون مَا سمع من الإمام المعصوم لَهُ باطن غير ظاهر؟ ثم يقال لهم: هذه البواطن والتأويلات يجب إخفاؤها أم إظهارها؟ فان قالوا يجب إظهارها, قلنا فلمَ كتمها مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وان قالوا يجب إخفاؤها, قلنا مَا وجب عَلَى الرسول إخفاؤه كيف حل لكم إفشاؤه.[27]
لو أن كل إنسان حكّم عقله وأيقظ قلبه لم يكن لهذا الفكر مستجيب، لكنه الهوى الذي ألغى العقول وشلّ الضمائر. وإنما تبنى هذا الفكر – كما رواه فقيه العراق وواعظ بغداد العلامة ابن الجوزي رحمه الله- قوم أرادوا الانسلال من الدين, فشاوروا جماعة من المجوس والمزدكية والثنوية وملحدة الفلاسفة فِي استنباط تدبير يخفف عنهم مَا نابهم من استيلاء أهل الدين عليهم, حتى اخرسوهم عَن النطق بما يعتقدونه من إنكار الصانع وتكذيب الرسل وجحد البعث وزعمهم أن الأنبياء منخرقون ومنمسون[28]. ورأوا أمر مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد استطار فِي الأقطار, وأنهم قد عجزوا عَنْ مقاومته. فقالوا: “سبيلنا أن ننتحل عقيدة طائفة من فرقهم أركّهم عقلا وأسخفهم رأيا وأقبلهم للمحالات والتصديق بالأكاذيب, وهم الروافض فنتحصن بالانتساب إليهم ونتودد إليهم بالحزن عَلَى مَا جرى عَلَى آل مُحَمَّد من الظلم والذل, ليمكننا شتم القدماء الذين نقلوا إليهم الشريعة. فَإِذَا هان أولئك عندهم لم يلتفتوا إِلَى مَا نقلوا, فأمكن استدراجهم إِلَى الانخداع عَن الدين. فَإِن بقي منهم معتصم بظواهر القرآن والأخبار أوهمناه أن تلك الظواهر لها أسرار وبواطن, وأن المنخدع بظواهرها أحمق. وإنما الفطنة فِي اعتقاد بواطنها، ثم نبث إليهم عقائدنا ونزعم أنها المراد بظواهرها عندكم فَإِذَا تكثرنا بهؤلاء سَهْل علينا استدراج باقي الفرق.” ثم قالوا: “وطريقنا أن نختار رجلا مما يساعد عَلَى المذهب, ويزعم أنه من أهل البيت, وأنه يجب عَلَى كل الخلق كافة متابعته, ويتعين عليهم طاعته, لكونه خليفة رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمعصوم من الخطأ والزلل من جهة اللَّه عز وجل. ثم لا تظهر هذه الدعوة عَلَى القرب من جوار هَذَا الخليفة الذي وسمناه بالعصمة. فَإِن قرب الدار يهتك الأستار, وإذا بعدت الشقة وطالت المسافة, فمتى يقدر المستجيب للدعوة أن يفتش عن حال الإمام أَوْ يطلع عَلَى حقيقة أمره؟” وقصدهم بهذا كله الملك والاستيلاء عَلَى أموال الناس والانتقال منهم لما عاملوهم به من سفك دمائهم ونهب أموالهم قديما, فهذا غاية مقصودهم ومبدأ أمرهم.[29]
وللقوم حيل فِي استذلال الناس، فهم يميزون من يجوز أن يطمع فِي استدراجه ممن لا يطمع فيه, فَإِذَا طمعوا فِي شخص نظروا فِي طبعه؛ فَإِن كان مائلا إِلَى الزهد دعوه إِلَى الأمانه والصدق وترك الشهوات، وإن كان مائلا إِلَى الخلاعة قرروا فِي نفسه أن العبادة بله, وأن الورع حماقة. وإنما الفطنة فِي اتباع اللذات من هذه الدنيا الفانية. ويثبتون عند كل ذي مذهب مَا يليق بمذهبه, ثم يشككونه فيما يعتقدوه فيستجيب لهم إما رجل أبله أَوْ رجل من أبناء الأكاسرة وأولاد المجوس ممن قد انقطعت دولة أسلافه بدولة الإسلام، أَوْ رجل يميل إِلَى الاستيلاء ولا يساعده الزمان فيعدونه بنيل آماله، أَوْ شخص يحب الترفع عَنْ مقامات العوام ويروم بزعمه الاطلاع عَلَى الحقائق, أَوْ رافضي يتدين بسبب الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عنهم، أَوْ ملحد من الفلاسفة والثنوية والمتحيرين فِي الدين أَوْ من قد غلبت عَلَيْهِ حب اللذات وثقل عَلَيْهِ التكليف.[30] فلم تنفُذ هذه الدعوة إلا فيمن فقد دينه وعقله أو أحدهما، أما الإنسان السليم الذي اجتمع عنده عقل ودين فلا تنطلي عليه هذه الدعوة المريبة المضللة.
وصنف آخر غلَوا في اعتبار المقاصد على حساب ظواهر الشريعة قوم ادعوا أن المقصود من العبادات والطاعات هو الوصول إلى معرفة الله، وهي الحقيقة المنشودة فإذا بلغ ذلك المبلغ سقط عنه التكليف.
قال الغزالي رحمه الله: “وظن طائفة أن المقصود من العبادات المجاهَدة حتى يصل العبد بها إلى معرفة الله تعالى، فإذا حصلت المعرفة فقد وصل، وبعد الوصول يستغني عن الوسيلة والحيلة، فتركوا السعي والعبادة, وزعموا أنه ارتفع محلهم في معرفة الله سبحانه عن أن يمتهنوا بالتكاليف، وإنما التكليف على عوام الخلق. ووراء هذا مذاهب باطلة وضلالات هائلة، يطول إحصاؤها إلى ما يبلغ نيفاً وسبعين فرقة، وإنما الناجي منها فرقة[31] واحدة؛ وهي السالكة ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه…”[32] وهي صورة لمجانبة الحقيقة بدعوى الوصول إلى الحقيقة.
كما حدا ببعضهم إلى أن يعتقدوا أن الكشف المعرفي مؤذن بترك التكاليف قال الشيخ سعيد حوى: “يربط بعض الصوفية بين الكشف وترك التكاليف، فيرون أن الإنسان متى كشف له شيء من أمر الغيب – وما أكثر ما يتوهون في هذا الشأن – سقط عنه التكليف، فلا صلاة ولا صيام ولا غير ذلك، ويستشهدون على ذلك بقوله تعالى: { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَى يَأتِيَكَ الْيَقِنُ }[33]“.[34]
ولمشابهة هذه الفكرة بفكرة الباطنية لقد تسربت تلك التأويلات الباطنية من محيط التشيع إلى عالم التصوف، واعتنقها الصوفية بتمامها فتبنوا تقسيم الشريعة إلى الظاهر والباطن، والعام والخاص. ومنها تدرّجت وتطرقت إلى التأويل الباطني والتفسير المعنوي، وتفريق المسلمين بين العامة والخاصة، فلقد قالوا: “لا بدّ لكل محسوس من ظاهر وباطن، فظاهره ما تقع الحواسّ عليه، وباطنه يحويه ويحيط العلم به بأنه فيه، وظاهره مشتمل عليه.”
وليست الصوفية في الأصل إلا أناسا أرادوا القربى من الله، فمنهم من وفّق لها – وهم كثر- ومنهم من خانهم الطريق، فأوردوا النصوص في غير معناها الأصلي تقريرا لمعنى تربوي أرادوا تثبيته، وهو عمل مذموم وجناية على النصوص، قال القرطبي: “… وتارة يكون له غرض صحيح فيطلب له دليلا من القرآن ويستدل عليه بما يعلم أنه ما أريد به، كمن يدعو إلى مجاهدة القلب القاسي فيقول قال الله تعالى: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى}[35]، ويشير إلى قلبه، ويومئ إلى أنه المراد بفرعون، هذا الجنس قد يستعمله بعض الوعاظ في المقاصد الصحيحة تحسينا للكلام وترغيبا للمستمع، وهو ممنوع لأنه قياس في اللغة، وذلك غير جائز. وقد تستعمله الباطنية في المقاصد الفاسدة لتغرير الناس ودعوتهم إلى مذاهبهم الباطلة، فينزلون القرآن على وفق رأيهم ومذهبهم على أمور يعلمون قطعا أنها غير مرادة.”[36]
إن من أسباب انزلاق الأقدام وزلة الأفهام هو التشبث بالنصوص المشتبهة التي تحتمل معنى صحيحا وغيره، قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ}[37]
ومن أوسع المنافذ التي دخل منها تلك الأفكار المنكرة ما يسمى بالتفسير الإشاري للقرآن. وهو التفسير الذي لا يلتزم بقواعد اللغة وحدود الألفاظ ليقفز بالآية إلى التقاط معنى لأدنى إشارة وأوهى تشابه، فضلا عن تجاوز التفسير المأثور. قال فيه السيد محمد رشيد رضى: “… ما يسمونه بالإشارة، وقد اشتبه على الناس فيه كلام الباطنية بكلام الصوفية. ومن ذلك التفسير الذي ينسبونه للشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي. وإنما هو للقاشاني الباطني الشهير، وفيه من النزعات ما يتبرأ منه دين الله وكتابه العزيز. وقد عرفت أن الإكثار في مقصد خاص من هذه المقاصد يخرج بالكثيرين عن المقصود من الكتاب الإلهي، ويذهب بهم في مذاهب تنسيهم معناه الحقيقي؛ لهذا كان الذي نعنى به من التفسير هو ما سبق ذكره، أي من فهم الكتاب من حيث هو دين ، وهداية من الله للعالمين، جامعة بين بيان ما يصلح به أمر الناس في هذه الحياة الدنيا، وما يكونون به سعداء في الآخرة.[38]
ومن النصوص التي يستدل بها على فكرة سقوط التكليف بعد المعرفة قوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}[39] وفسروا اليقين بإدراك الحقيقة وهو معرفة الله، فمن أتاه اليقين – حسب رأيهم- استغنى عن تكاليف الدين. مع أن اليقين عند المفسرين هو الموت، وهو الأمر المتيقن الأعظم الذي ينتظره الإنسان في هذه الحياة. قال الطبري رحمه الله في تفسير هذه الآية: يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: واعبد ربك حتى يأتيك الموت، الذي هو مُوقَن به… وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل. [40] ثم ذكر اتفاق السلف في ذلك مثل سالم بن عبد الله ومجاهد وقتادة والحسن البصري.
وقال الألوسي رحمه الله في هذه الآية: “{واعبد رَبَّكَ} أي دم على ما أنت عليه من عبادته سبحانه، … {حتى يَأْتِيَكَ اليقين} أي الموت. كما روي عن ابن عمر . والحسن . وقتادة . وابن زيد ، وسمي بذلك لأنه متيقن اللحوق بكل حي، وإسناد الإتيان إليه للإيذان بأنه متوجه إلى الحي طالب للوصول إليه، والمعنى: دُمْ على العبادة ما دمت حياً من غير إخلال بها لحظة. وقال ابن بحر: اليقين النصر على الكافرين الذي وعده صلى الله عليه وسلم.” ثم أكد أن الآية لا تدل على ما جنح إليه هؤلاء الطائفة المتملصة عن الشرع، قال: “وأياً مّا كان فليس المراد به ما زعمه بعض الملحدين مما يسمونه بالكشف والشهود، وقالوا : إن العبد متى حصل له ذلك سقط عنه التكليف بالعبادة وهي ليست إلا للمحجوبين، ولقد مرقوا بذلك من الدين وخرجوا من ربقة الإسلام وجماعة المسلمين.”[41]
وقال: “وذكر بعض الثقات أن هذا الأمر كان بعد الإسراء والعروج إلى السماء، أفترى أنه صلى الله عليه وسلم لم يتضح له ليلتئذٍ صبح الكشف والشهود ولم يمن عليه باليقين عظيم الكرم والجود؟ الله أكبر! لا يتجاسر على ذلك من في قلبه مثقال ذرة من إيمان أو رزق حبة خردل من عقل ينتظم به في سلك الإنسان.”[42] وليس هناك يقين ومعرفة أعظم مما حصل للنبي صلى الله عليه وسلم في معراجه إلى الله ولقائه به في السدرة المنتهى وقد عبد رسول الله – صلى الله عليه وسلم- ربه بعد المعراج وبعد نزول الآية إلى أن توفي عليه الصلاة والسلام.
ويدل على أن معنى اليقين هو الموت قوله تعالى : {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ . وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ . وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ . وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ . حَتَّى أَتَانَا الْيَقِين}[43] وهو : الموت.
ويؤيد هذا ما أخرجه البخاري في صحيحه في وفاة عثمان بن مظعون، قال عليه الصلاة والسلام: “أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ، وَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِي.”[44]
وقول من قال: إن المراد باليقين انكشاف الحقيقة، وتيقن الواقع لا ينافي ما ذكرنا; لأن الإنسان إذا جاءه الموت ظهرت له الحقيقة يقينا. ولقد أجاد التهامي في قوله:
والعيش نوم والمنية يقظة … والمرء بينهما خيال ساري.[45]
قال العلامة الشنقيطي رحمه الله: اعلم أن ما يفسر به هذه الآية الكريمة بعض الزنادقة الكفرة المدعين للتصوف، من أن معنى اليقين المعرفة بالله جل وعلا، وأن الآية تدل على أن العبد إذا وصل من المعرفة بالله إلى تلك الدرجة المعبر عنها باليقين، أنه تسقط عنه العبادات والتكاليف; لأن ذلك اليقين هو غاية الأمر بالعبادة. إن تفسير الآية بهذا كفر بالله وزندقة، وخروج عن ملة الإسلام بإجماع المسلمين. وهذا النوع لا يسمى في الاصطلاح تأويلا، بل يسمى لعباً كما قدمنا في “آل عمران”. ومعلوم أن الأنبياء – صلوات الله وسلامه عليهم هم وأصحابه – هم أعلم الناس بالله، وأعرفهم بحقوقه وصفاته وما يستحق من التعظيم، وكانوا مع ذلك أكثر الناس عبادة لله جل وعلا، وأشدهم خوفا منه وطمعا في رحمته . وقد قال جل وعلا: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}[46] والعلم عند الله تعالى.[47]
ومما استدلوا به على مخالفة الحقيقة الباطنة لظاهر الشريعة ما ورد في القرآن من قصة موسى عليه السلام مع الخضر في سورة الكهف من الآية 60 إلى الآية 82. وورد أيضا في الصحيح: عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: إن نوفا البكالي يزعم أن موسى ليس بموسى بني إسرائيل إنما هو موسى آخر. فقال: كذب عدو الله! حدثنا أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم: قام موسى النبي خطيبا في بني إسرائيل، فسئل: أي الناس أعلم؟
فقال: أنا أعلم.
فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى الله إليه: أن عبدا من عبادي بمجمع البحرين هو أعلم منك.
قال: يا رب, وكيف به؟
فقيل له: احمل حوتا في مكتل، فإذا فقدته فهو.
ثم فانطلق، وانطلق بفتاه يوشع بن نون، وحملا حوتا في مكتل، حتى كانا عند الصخرة وضعا رءوسهما وناما، فانسلّ الحوت من المكتل، فاتخذ سبيله في البحر سربا، وكان لموسى وفتاه عجبا، فانطلقا بقية ليلتهما ويومهما. فلما أصبح، قال موسى لفتاه: آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا .
ولم يجد موسى مسا من النصب حتى جاوز المكان الذي أمر به.
فقال له فتاه: أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة؟ فإني نسيت الحوت، وما أنسانيه إلا الشيطان.
قال موسى: ذلك ما كنا نبغي!
فارتدا على آثارهما قصصا، فلما انتهيا إلى الصخرة، إذا رجل مسجى بثوب – أو قال تسجى بثوبه -فسلم موسى، فقال الخضر: وأنى بأرضك السلام!
فقال: أنا موسى.
فقال: موسى بني إسرائيل؟
قال: نعم، قال: هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا ؟
قال: إنك لن تستطيع معي صبرا يا موسى! إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم علمكه لا أعلمه.
قال: ستجدني إن شاء الله صابرا، ولا أعصي لك أمرا .
فانطلقا يمشيان على ساحل البحر ليس لهما سفينة، فمرت بهما سفينة فكلموهم أن يحملوهما. فعرف الخضر، فحملوهما بغير نول[48]. فجاء عصفور، فوقع على حرف السفينة فنقر نقرة أو نقرتين في البحر.
فقال الخضر: يا موسى، ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كنقرة هذا العصفور في البحر.
فعمد الخضر إلى لوح من ألواح السفينة فنزعه.
فقال موسى: قوم حملونا بغير نول، عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها !؟
قال: ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا؟
قال: لا تؤاخذني بما نسيت، ولا ترهقني من أمري عسرا.
فكانت الأولى من موسى نسيانا. فانطلقا، فإذا غلام يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر برأسه من أعلاه فاقتلع رأسه بيده. فقال موسى :أقتلت نفسا زكية بغير نفس!!؟
قال: ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا؟
قال ابن عيينة [49]: وهذا أوكد. فانطلقا، حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها، فأبوا أن يضيفوهما، فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض فأقامه. قال الخضر بيده فأقامه.
فقال له موسى: لو شئت لاتخذت عليه أجرا.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: يرحم الله موسى لوددنا لو صبر حتى يقص علينا من أمرهما.[50]
وليس مفاد القصة هو إلغاء ظاهر الشرع بعلم الباطن، بل هو تأكيد للعدالة الشرعية بناء على معلومات يقِينية دقيقة، متجاوزة النظر المستعجل السطحي. والمسائل الثلاثة المذكورة في القصة – كما قال الفخر الرازي رحمه الله- مبنية على حرف واحد وهو “أن عند تعارض الضررين يجب تحمل الأدنى لدفع الأعلى”؛ فهذا هو الأصل المعتبر في المسائل الثلاثة .
أما المسألة الأولى: فلأن ذلك العالم علم أنه لو لم يعب تلك السفينة بالتخريق لغصبها ذلك الملك، وفاتت منافعها عن ملاكها بالكلية فوقع التعارض بين أن يخرقها ويعيبها فتبقى مع ذلك على ملاكها، وبين أن لا يخرقها فيغصبها الملك فتفوت منافعها بالكلية على ملاكها، ولا شك أن الضرر الأول أقل فوجب تحمله لدفع الضرر الثاني الذي هو أعظمهما.
وأما المسألة الثانية: فكذلك لأن بقاء ذلك الغلام حياً كان مفسدة للوالدين في دينهم وفي دنياهم، ولعله علم بالوحي[51] أن المضار الناشئة من قتل ذلك الغلام أقل من المضار الناشئة بسبب حصول تلك المفاسد للأبوين، فهلذا السبب أقدم على قتله.
والمسألة الثالثة: أيضاً كذلك لأن المشقة الحاصلة بسبب الإقدام على إقامة ذلك الجدار ضررها أقل من سقوطه, لأنه لو سقط لضاع مال تلك الأيتام. وفيه ضرر شديد، فالحاصل أن ذلك العالم كان مخصوصاً بالوقوف على بواطن الأشياء وبالاطلاع على حقائقها كما هي عليها في أنفسها، وكان مخصوصاً ببناء الأحكام الحقيقية على تلك الأحوال الباطنة، وأما موسى عليه السلام فما كان كذلك بل كانت أحكامه مبنية على ظواهر الأمور فلا جرم ظهر التفاوت بينهما في العلم.[52]
وأورد ابن حجر في فتح الباري: من استدل بقصة الخضر على أن الولي يجوز أن يطلع من خفايا الأمور على ما يخالف الشريعة ويجوز له فعله فقد ضل، وليس ما تمسك به صحيحا، فإن الذي فعله الخضر ليس في شيء منه ما يناقض الشرع، فإن نقض لوح من ألواح السفينة لدفع الظالم عن غصبها, ثم إذا تركها أعيد اللوح جائز شرعا وعقلا; ولكن مبادرة موسى بالإنكار بحسب الظاهر. وقد وقع ذلك واضحا في رواية أبي إسحاق التي أخرجها مسلم ولفظه : “فإذا جاء الذي يسخرها فوجدها منخرقة تجاوزها فأصلحها.” فيستفاد منه وجوب التأني عن الإنكار في المحتملات. وأما قتله الغلام فلعله كان في تلك الشريعة. وأما إقامة الجدار فمن باب مقابلة الإساءة بالإحسان.”[53]
فبذلك يتبين أن أحكام الخضر – عليه السلام- التي أنكرها عليه موسى لا تخالف الشرع، لأن الحكم بالظاهر لا يلجأ إليه إلا مع تعذر الوصول إلى المعلومات الحقيقية. فأما وقد توفرت لديه معلومات يقينية فينبغي الاستغناء عن المعطيات السطحية غير الدقيقة. ومع ذلك كله، فهذا النهج الخضري المتجاوز للظواهر لا يصح أن يتبع إلا في “قضايا أعيان” كما يسميها الفقهاء، ولا يجوز تعميمه، لأن تعميم هذا النهج يؤدي إلى فوضى دعائية، وفلتان أمني كبير. فلذلك فإن شريعة موسى أصلح للحكم العام من شريعة الخضر التي لا تصلح إلا في حالات محدودة. وأما الحكم العام الصالح لأن يكون قاعدة الشرع العام هو “أن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر.”[54]
ومما يقوي ذلك أن الخضر عليه السلام – كما رآه ابن حجر في الفتح[55]– كان يقيم ببلاد الكفر، ولم يقم آنذاك نظام الحكم الإسلامي، فلم يكن قاضيا منصوبا للحكم على الناس بشكل نظامي، بل كان يتصرف كفرد من أفراد المجتمع، مع أنه نبي مرسل على الراجح. وأما موسى عليه السلام فهو حاكم على بني إسرائيل، فلم يصلح له إلا الحكم بالظاهر، ليعلم الناس الالتزام بالنظام الذي يشمل الكل دون استثناء. فلو اتبع موسى قضايا أعيان باستثناءاتها لضاع النظام واضطرب الحكم لاعتراضات الناس عليها. ولذلك قال الخضر لموسى: “إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم علمكه لا أعلمه.” فالكل مهيَّأ لما بعث له.
واعتقاد أن علم الخضر كان من قبيل الكشف الذي مما لا يمكن تعلمه ليس صحيحا على إطلاقه، فإن معرفة تصرف الملك الذي يغصب كل سفينة صالحة تمر على ولايته كانت معرفة عادية يعرفها أهل المنطقة. وأما مآل الغلام إلى الكفر فذلك من علم الغيب الذي لا يُطلعه الله عباده {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ}[56] والتحقيق أن الخضر كان نبيا من الأنبياء، وهو قول الجمهور كما جزم بذلك الإمام الألوسي[57]، وصرح ابن عاشور بأن ذلك العلم الذي حصل الخضر هو الوحي: “والعلم من لدن الله هو الإعلام بطريق الوحي.”[58]
ودل على ذلك قوله تعالى: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا}[59]
قال العلامة محمد الأمين الشنقيطي: “هذا العبد المذكور في هذه الآية الكريمة هو الخضر عليه السلام بإجماع العلماء ، ودلالة النصوص الصحيحة على ذلك من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الرحمة والعلم اللدني اللذان ذكر الله امتنانه عليه بهما لم يبين هنا هل هما رحمة النبوة وعلمها، أو رحمة الولاية وعلمها، والعلماء مختلفون في الخضر: هل هو نبي أو رسول أو ولي كما قال الراجز :
واختلفت في خضر أهل العقول … قيل نبي أو ولي أو رسول
وقيل ملك ، ولكنه يفهم من بعض الآيات أن هذه الرحمة المذكورة هنا رحمة نبوة، وأن هذا العلم اللدني علم وحي، مع العلم بأن في الاستدلال بها على ذلك مناقشات معروفة عند العلماء .
اعلم أولا أن الرحمة تكرر إطلاقها على النبوة في القرآن، وكذلك العلم المؤتى من الله تكرر إطلاقه فيه على علم الوحي ، فمن إطلاق الرحمة على النبوة قوله تعالى في «الزخرف» : {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ . أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا}[60] الآية، أي: نبوته حتى يتحكموا في إنزال القرآن على رجل عظيم من القريتين ، وقوله تعالى في سورة «الدخان» : {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ}[61] الآية، وقوله تعالى في آخر «القصص» : {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ}[62] الآية، ومن إطلاق إيتاء العلم على النبوة قوله تعالى : {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَم}[63]، وقوله : {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ}[64] الآية، إلى غير ذلك من الآيات. ومعلوم أن الرحمة وإيتاء العلم اللدني أعم من كون ذلك عن طريق النبوة وغيرها، والاستدلال بالأعم على الأخص فيه أن وجود الأعم لا يستلزم وجود الأخص كما هو معروف.
ومن أظهر الأدلة في أن الرحمة والعلم اللدني اللذين امتن الله بهما على عبده الخضر عن طريق النبوة والوحي قوله تعالى عنه: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي}[65]، أي : وإنما فعلته عن أمر الله جل وعلا ، وأمر الله إنما يتحقق عن طريق الوحي، إذ لا طريق تعرف بها أوامر الله ونواهيه إلا الوحي من الله جل وعلا، ولا سيما قتل الأنفس البريئة في ظاهر الأمر، وتعييب سفن الناس بخرقها; لأن العدوان على أنفس الناس وأموالهم لا يصح إلا عن طريق الوحي من الله تعالى، وقد حصر تعالى طرق الإنذار في الوحي في قوله تعالى : {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ}[66]، و«إنما» صيغة حصر. [67]
ثم قال رحمه الله: “وبذلك تعلم أن ما يدعيه كثير من الجهلة المدعين التصوف من أن لهم ولأشياخهم طريقا باطنة توافق الحق عند الله ولو كانت مخالفة لظاهر الشرع، كمخالفة ما فعله الخضر لظاهر العلم الذي عند موسى، زندقة وذريعة إلى الانحلال بالكلية من دين الإسلام، بدعوى أن الحق في أمور باطنة تخالف ظاهره.”[68]
قال ابن حجر رحمه الله: وقع لبعض الجهلة أن الخضر أفضل من موسى تمسكا بهذه القصة وبما اشتملت عليه، وهذا إنما يصدر ممن قصر نظره على هذه القصة ولم ينظر فيما خص الله به موسى عليه السلام من الرسالة وسماع كلام الله وإعطائه التوراة فيها علم كل شيء، وأن أنبياء بني إسرائيل كلهم داخلون تحت شريعته ويخاطبون بحكم نبوته حتى عيسى، وأدلة ذلك في القرآن كثيرة. ويكفي من ذلك قوله تعالى : {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي}[69] .
قال: والخضر وإن كان نبيا فليس برسول باتفاق، والرسول أفضل من نبي ليس برسول، ولو تنزلنا على أنه رسول فرسالة موسى أعظم وأمته أكثر فهو أفضل، وغاية الخضر أن يكون كواحد من أنبياء بني إسرائيل وموسى أفضلهم .وإن قلنا: إن الخضر ليس بنبي بل ولي فالنبي أفضل من الولي، وهو أمر مقطوع به عقلا ونقلا، والصائر إلى خلافه كافر لأنه أمر معلوم من الشرع بالضرورة. قال: وإنما كانت قصة الخضر مع موسى امتحانا لموسى ليعتبر.[70]
وقال الإمام القرطبي في خلاصة هذه المسألة: وعلى الجملة فقد حصل العلم القطعي، واليقين الضروري واجتماع السلف والخلف على أن لا طريق لمعرفة أحكام الله تعالى التي هي راجعة إلى أمره ونهيه، ولا يعرف شي منها إلا من جهة الرسل.[71]
وكما أن قررنا في أكثر من موضع أن الحقائق لا تتناقض، وعلامة الحقيقة هي انسجامها مع سائر الحقائق، وهذا أمر تقره كل العقول السليمة، وتعلمها كل القلوب الصحيحة. فمهما قيل في معان خفية باطنة للقرآن فلا يصح أن تنصدم مع الحقائق الظاهرة الينة الجلية.
وهذه لفتة حرص القرآن على تأكيدها، كقوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}[72] فكلام الله لا يتناقض، لا في الظاهر ولا في الباطن، فمن ادعى عكس ذلك فقد فضح نفسه وكشف عواره.
وفي مثل هؤلاء المبطلين قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}[73]
فمن اتبع المعاني المشتبهة الغامضة تاركا الدلالات الواضحات المحكمات الظاهرات فقد شهد على قلبه بالزيغ. وليس في كتاب الله ما يضلل عباده، ويدلهم على عكس الحقيقة. وظاهر القرآن أحق بالدلالة، لأنه الحجة على الناس، وما خفي عليهم لا ينتهض حجة.
فقد تصدى إمام أهل السنة مالك بن أنس رحمه الله مبكرا لهذا الانحراف الفكري، لما سأله رجل عن شيء من علم الباطن فغضب وقال : “إن علم الباطن لا يعرفه إلا من عرف الظاهر، فإنه متى عرفه وعمل به فتح الله له علم الباطن، ولا يكون ذاك إلا مع فتح القلب وتنويره.” ثم قال للرجل: “عليك بالدين المحض، وإياك وبُنيَّات الطرق، وعليك بما تعرف، واترك ما لا تعرف.” وقال رضي الله عنه: “طلب العلم حسن لمن رزق خيره، وهو قسم من قسم الله عز وجل، ولكن انظر ما يلزمك من حين تصبح إلى حين تمسي فالزمه.” وقال: “ليس العلم بكثرة الرواية وإنما هو نور يضعه الله في القلوب.” وقال: “شر العلم الغريبُ، وخير العلم الظاهرُ الذي رواه الناس.”[74]
ليس للشرع باطن ينقض الظاهر، ولا الظاهر منه يقف عند السطح ويكتفي بالقشر. ولكن الشرع بنيان متكامل، إن المعاني الخفية والمقاصد المعنية التي تحتويها الشريعة الغراء يحملها ظاهرها ويؤديها شكلها. فهي ليست ساحة معركة بين الظاهر والباطن يزيح أحدهما الآخر، ويدفع أولهما الثاني ولا العكس. إن لكتاب الله معاني عميقة وحقائق دقيقة لا يهتدى إليها بالنظر السطحي، ويكشف عنها ويتوصل إليها بالتأمل العميق والملاحظة الدقيقة.
إن كل من يتدبر الآيات القرآنية يعرف أن للقرآن معاني لا تتجلى إلا بعد معاودة النظر وإمعان التأمل. ومما يشهد لهذا المعنى حديث: ” أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، لِكُلِّ آيَةٍ مِنْهَا ظَهْرٌ وَبَطْنٌ.[75]
ويؤيده ما رواه أبو عبيد القاسم بن سلام بسنده عن الْحَسَنِ، يَرْفَعُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلم، قَالَ: مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ آيَةٌ إِلا لَهَا ظَهْرٌ وَبَطْنٌ، وَلِكُلِّ حَرْفٍ حَدٌّ، وَلِكُلِّ حَدٍّ مُطّلع، قَالَ: فَقُلْتُ: يَا أَبَا سَعِيدٍ[76] مَا الْمُطَّلَعُ؟ قَالَ: يَطَّلِعُ قَوْمٌ يَعْمَلُونَ بِهِ.[77]
قال المناوي: فظهره ما ظهر تأويله وعرف معناه، وبطنه ما خفي تفسيره وأشكل فحواه، أو الظهر اللفظ والبطن المعنى، أو الظهر التلاوة والرواية والبطن الفهم والدراية.
قال الطيبي: قوله (ولكل حرف حد) أي منتهى فيما أراد الله من معناه (ولكل حد) من الظهر والبطن (مطلع) بشدة الطاء وفتح اللام، موضع الاطلاع أي مصعد وموضع يطلع عليه بالترقي إليه. فمطلع الظاهر التمرن في فنون العربية وتتبع أسباب النزول والناسخ والمنسوخ وغير ذلك. ومطلع الباطن تصفية النفس والرياضة والعمل بمقتضاه. وقيل: المنع، ومعناه: أن لكل حد من حدود الله وهي ما منع عباده من تعديه موضع إطلاع من القرآن. فمن وفق لإرتقاء ذلك المرتقى اطلع على الحد الذي يتعلق بذلك المطلع.[78]
وقال الرازي: كل مجمل وجد في كتاب الله تعالى قد وجد في العقل أو في الكتاب أو في السنة بيانه.[79]
إن هدي القرآن يرتقى بعقل المؤمن وقلبه، فمن صقل عقله بعلوم اللغة والأثر وأتقنها اطلع على معاني خفية دقيقة، ومن صقل قلبه وزكى نفسه اطلع على حقائق كونية ربانية عميقة تشهد أن شرع الله حق، وأوامره كلها عدل ورحمة ومصلحة، وأن نواهيه كلها حكمة ورأفة ولطف. فمن شهد عكس ذلك فلفساد قلبه وسوء طويته، وإن ادعى الولاية والصلاح والمعرفة. والعارف بالله أكثر تمسكا بدينه وأحرص على امتثال أمره، وعلم الباطن الحقيقي يهدي العبد إلى الاستقامة لا إلى التفلت.
فمن ارتقى بعقله وقلبه ازداد حبا لله وتعلقا بعبادته، ولم ير نعمة أعظم من نعمة العبادة، وتحول التكليف عنده تشريفا وتكريما وإنعاما، فمن وصل إلى معرفة الله لم يعرف شيئا أهم عنده من عبادته، ولم يطمع غير التقرب إليه بالفرائض والنوافل، فهي أحب شيء إليه، وفرائضه أحب إليه من نوافله لأن الله فضلها عليها،[80] ونوافل العبادات أحب إليه من كل ملذات الدنيا لأنها تقربه إلى محبوبه العظيم سبحانه. وهذا هو شأن العارف بالله، ومن كان حاله غير هذا فليراجع نفسه وليتهمها، وليحذر من وساوس الشيطان وزخرفة وحيه الخادعة، لعنة الله عليه، عياذا بالله منه.
والصنف الثالث من الناس الذين أفرطوا في باب المقاصد قوم قدموا عقولهم على النصوص الشرعية، وغلبوا المصالح على الأدلة السمعية، وقديما كان المعتزلة يمثلون هذا الاتجاه، مع أنهم لا ينكرون أدلة الشرع السمعية من كتاب وسنة، ثم تبنى هذا الاتجاه في هذا العصر قوم لا علاقة لهم بعلم الشريعة، ليسوا كالمعتزلة في استيعاب الأدلة السمعية والعقلية، لأنهم دخلاء على العلم الشرعي، لكنهم أقحموا أنفسهم فيه حربا عليه وإبعاد الناس عنه، وفصل الحياة منه. فاعملوا فكرهم وبذلوا قصارى جهدهم ليقنعوا الناس بأن المصالح قد تكون في غير شرع الله، بل المفاسد قد تنجم بتطبيق شرعه. وبنوا ثقافتهم على الفلسفة الغربية منبهرين بكل ما هو غربي، كأثر من آثار الاحتلال الفكري، وكان لهم عقدة النقص تجاه الحضارة الغربية، فوسموا الغرب بألقاب الإيجاب والإعجاب، ووصموا الشرق بالثلب والنقد والقدح. وسمى الدكتور القرضاوي هؤلاء بـ”المعطلة الجدد”.[81] لأن منتهى ما ادعوه من القول بالمصالح والمقاصد هو تعطيل النصوص عن وظيفتها التشريعية، والتذرع بها إلى التملص من إلزامية الشريعة كليا أو جزئيا.
أما المعتزلة فكانت شبهتهم القديمة ومبالغتهم المعروفة في قضايا العقل ما يسمى بالتحسين والتقبيح العقليين أو الذاتيين، وأخّروا بها أدلة القرآن والسنة مبالغة ومغالاة لدور العقل، قال القاضي عبد الجبار[82]: “إن العلم بأصول المقبحات والواجبات والمحسنات ضروري وهو من جملة كمال العقل، ولو لم يكن ذلك معلوما بالعقل لصار غير معلوم أبدا، لأن النظر والاستدلال لا يتأتى إلا ممن هو كامل العقل، ولا يكون كذلك إلا وهو عالم ضرورة بهذه الأشياء ليتوجه عليه التكليف.”[83]
وقال: “كل عاقل يعلم بكمال عقله قبح كثير من الآلام كالظلم الصريح وغيره، وحسن كثير منها كذم المستحق للذم وما يجري مجراه.”[84] وقال أيضا: “ومعلوم أن الملحدة يعرفون قبح الظلم وإن لم يعرفوا النهي والناهي.”[85]
وهذا هو موقف المعتزلة المعروف حيث رأوا أن العقل وحده يمكن أن يعرف المصالح والمفاسد حتى ولو لم يرد الشرع. وقد رد عليهم علماء أهل السنة، وبالغوا.
قال القاضي أبو يعلى[86]: “وطريق وجوب النظر والاستدلال في معرفة الله سبحانه، السمع دون قضية العقل، ولا مجال للعقل في تحسين شيء من المحسنات، ولا تقبيح شيء من المقبحات، ولا إثبات شيء من الواجبات، ولا تحريم شيء من المحظورات، ولا تحليل شيء من المباحات، وإنما يعلم ذلك من جهة الرسل الصادقين من قبل الله تعالى، ولو لم يرد الحكم والأمر من قبل الله تعالى، لما وجب على العقلاء معرفة شيء من ذلك.”[87]
وقال الغزالي: “لا يستدرك حسن الأفعال وقبحها بمسالك العقول، بل يتوقف دركها على الشرع المنقول، فالحسن عندنا ما حسنه الشرع بالحث عليه، والقبيح ما قبحه الزجر عنه والذم عليه.”[88]
وقال ابن الحاجب: “لا حكم إلا بما حكم به الله، فالعقل لا يحسن ولا يقبح، أي لا يحكم بأن الفعل حسن وقبيح لذاته، أو بوجوه واعتبارات في حكم الله تعالى.”[89]
لم يستثنوا في نفيهم دور العقل في التحسين والتقبيح، مع أن قدرة العقل في التمييز بين الحسن والقبيح أمر معلوم بالضرورة، قال فخر الدين الرازي رحمه الله: “الحسن والقبح قد يعنى بهما كون الشئ ملائما للطبع أو منافرا وبهذا التفسير لا نزاع في كونهما عقليين، وقد يراد بهما كون الشئ صفة كمال أو صفة نقص كقولنا العلم حسن والجهل قبيح, ولا نزاع أيضا في كونهما عقليين بهذا التفسير, وإنما النزاع في كون الفعل متعلق الذم عاجلا وعقابه آجلا.”[90]
وقال جلال الدين المحلي: “والحسن والقبح بمعنى ملاءمة الطبع ومنافرته وصفة الكمال والنقص عقلي، وبمعنى ترتب الذم عاجلا والعقاب آجلا شرعي, خلافا للمعتزلة.”[91]
وكان موقف شيخ الإسلام ابن تيمية في هذه المسألة أكثر اعتدالا ممن قبله، قال رحمه الله: “فنفي الحسن والقبح العقليين مطلقا لم يقله أحد من سلف الأمة ولا أئمتها، بل ما يؤخذ من كلام الأئمة والسلف في تعليل الأحكام وبيان حكمة الله في خلقه وأمره وبيان ما فيما أمر الله به من الحسن الذي يعلم بالعقل وما في مناهيه من القبح بالمعلوم بالعقل، ينافي قول النفاة، والنفاة ليس لهم حجة على النفي أصلا.”[92]
وبمثله قال ابن القيم: “وتحقيق القول في هذا الأصل العظيم أن القبح ثابت للفعل في نفسه, وأنه لا يعذب الله عليه إلا بعد إقامة الحجة بالرسالة.”[93]
إن مجال التشريع من التحليل والتحريم لا يُشرك فيه الشارع أحدا، ولم يحكِّم فيه عقلا بشريا، وقد نهى الله نهيا قاطعا عن التدخل والتطفل فيه قال تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ}[94]
وعلى هذا السياق بالتحديد يستقيم قول إمام الحرمين: “من أحكام الشرع التقبيح والتحسين، وهما راجعان إلى الأمر والنهي وفلا يقبَّح شيء في حكم الله تعالى لعينه كما لا يحسن شيء لعينه.”[95] وكلامه رحمه الله – وإن خلط فيه بين التحسين والتقبيح والتحليل والتحريم- له وجاهة إذا حددنا المسألة في الأحكام الشرعية فحسب، لا يشمل الأحكام العقلية العامة.
ثم إن الله عز وجل إنما أقام الحجة على البشر بإرسال الرسل وإنزال الوحي، فلا ثواب ولا عقاب إلا بناء على حجة الوحي المنزل، قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}[96]
ومع ذلك لا نقول إن العقل لا تقوم به الحجة، فإن الإنسان يعرف الحق من الباطل بعقله وضميره ويشهد بذلك في نفسه حتى ولو حاول التنصل بشتى الحجج، قال تعالى: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ}[97] فالعقل السليم يصدّق ويشهد بصحة الوحي وصدق الرسل، لكنه لا يشرع دينا, وليس له أن يحلل أو يحرم.
كما أن كثيرا من المصالح والمفاسد يمكن معرفتها بالعقل, قال العز بن عبد السلام: “ومعظم مصالح الدنيا ومفاسدها معروف بالعقل، وذلك في معظم الشرائع، إذ لا يخفى على عاقل قبل ورود الشرع أن تحصيل المصالح المحضة ودرء المفاسد المحضة عن نفس الإنسان وعن غيره محمود حسن، وأن تقديم أرجح المصالح فأرجحها محمود حسن، وأن درء أفسد المفاسد فأفسدها محمود حسن…. واتفق الحكماء على ذلك، وكذلك الشرائع على تحريم الدماء والأبضاع والأموال والأعراض…. وإن اختلف في بعض ذلك، فالغالب أن ذلك لأجل الاختلاف في التساوي والرجحان… واعلم أن تقديم الأصلح فالأصلح ودرء الأفسد فالأفسد مركوز في طبائع العباد لهم من رب الأرباب… فلو خيرت الصبي الصغير بين اللذيذ والألذ لاختار الألذ، ولو خير بين الحسن والأحسن لاختار الحسن، …”[98]
ثم إن قدرة العقل على الإدراك محدودة بحدود الحواس التي هي منافذها نحو عالم المعرفة، والإنسان جاهل لا يعلم شيئا لولا أنه يسمع ويبصر ثم يعقل ما يسمعه وما يبصره، قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[99]
فالإنسان لا يمكن أن يسمع كل شيء ولا يبصر كل شيء وبالتالي فهو لا يعرف كل شيء. فالعقل الكامل هو الذي يعرف حدوده، أما الذي يدعي معرفة كل شيء فهو أحمق. فلا يعرف كل شيء إلا خالق كل شيء سبحانه.
وليت قصور العقل يقف عند عدم القدرة على معرفة كل شيء، بل أخطر منه أنه من شأنه أن يخطئ. كان العقل يتصور أن الأرض منبسطة مسطحة ثم ظهر أنها كروية، وكان علم الطب القديم يقول إن الإنسان يتخلق من دم الحيض ثم انكشفت حقائق كثيرة مغايرة، وكان الإنسان يتصور الهواء فراغا ثم اطلع أنه مليئ بمواد لا حصر لها. وكم سيكشف لنا الزمان بعد ذلك كله من أخطاء عقولنا مستقبلا بعد تلك الرحلة المعرفية الطويلة …؟ فليس بعاقل من يصدق العقل دائما، كما أن من ألغى عقله أيضا مخبول، إن بداية الاكتشاف هي تشكيك العقل واتهامه بالخطأ والقصور. لو بقي الإنسان يقتنع بعقله فقط لظل جاهلا جامدا فكره لا يتعلم ولا يكتشف شيئا جديدا.
والشرع يرحم العقل ويختصر سعيه ليكشف ما جهله وما عجز عن معرفته من أمور الغيب التي ليس للعقل البشري القدرة على اكتشافها. فلو ترك الإنسان يبحث كيف يعبد ربه لضاع العمر قبل أن يصل إليه، ولو ترك يبحث حقيقة الحياة بعد الموت لهلك الإنسان قبل أن يعرف ماذا يجب أن يعمل. وهكذا، فإن للعقل حدوده ومحدوديته.
ثم العقل أيضا يختلف من شخص إلى آخر، فلو اعتمد كل إنسان على عقله لعاش مختلفا مع غيره في أمور كثيرة، وصارت الحياة تناقضات ليس لها جواب ولا اتفاق. هناك بدهيات اتفق الناس عليها لكنها قليل جدا بالنسبة إلى الأمور المختلف فيها، فالحياة تحتاج إلى حسم في كثير من قضاياها وإلى ضبط في معظم أمورها، فأنزل الله الشرع لذلك رحمة بالناس ونورا وهدى للمؤمنين.
فلذلك أجمعت الأمة على أن النصوص الشرعية مقدَّمةٌ على النظرات العقلية. وحكم الشرع أولى بالاتباع من حكم العقل، والمصلحة التي دعا إليها الشرع أقوى من التي ليس لها دليل من الشرع. والمصلحة التي يثبتها العقل مجردا لا يبطل ما أثبتته نصوص الشرع الثابتة. وإن التحقيق في ذلك أنه لا تعارض بين العقل الصريح والنقل الصحيح، وإذا حصل ما يبدو أنه تعارض بين الوحي والعقل، فهو إما أن يكون النقل والفهم عن الوحي غير صحيح، أو أن العقل بعد التدقيق والتحقيق لا يقتضيه.
وشذ عن هذا الإجماع نجم الدين الطوفي[100] إذ قال في شرحه للأربعين النووية: “… وهذه الأدلة التسعة عشر أقواها النص والإجماع، ثم هما إما أن يوافقا رعاية المصلحة أو يخالفها، فإن وافقاها فبها ونعمت ولا نزاع…. وإن خالفاها وجب تقديم رعاية المصلحة عليهما بطريق التخصيص والبيان لهما، ولا بطريق الافتئات عليهما والتعطيل لهما، كما تقدم السنة على القرآن عن طريق البيان.”[101]
قال: “وتقرير ذلك أن النص والإجماع إما أن يقتضيا ضررا ولا مفسدة بالكلية، أو يقتضيا ذلك، فإن لم يقتضيا شيئا من ذلك فهما موافقان لرعاية المصلحة، وإن اقتضيا ضررا فإما أن يكون مجموع مدلوليهما أو بعضه، فإن كان مجموع مدلوليهما فلا بد أن يكون من قبيل ما استثني من قوله صلى الله عليه وسلم “لا ضرر ولا ضرار”، وذلك كالحدود والعقوبات على الجنايات، وإن كان الضرر بعض مدلوليهما، فإن اقتضاه دليل خاص اتبع الدليل، وإن لم يقتضه دليل خاص وجب تخصيصهما بقوله صلى الله عليه وسلم، جمعا بين الأدلة.”[102]
وقال: “إن رعاية المصلحة أقوى من الإجماع ويلزم من ذلك أنها أقوى أدلة الشرع، لأن الأقوى من الأقوى أقوى.”[103]
وهذا الذي ذهب إليه يعتبر زلة عظيمة من عالم بوزن الطوفي، ومع أنه قرر في شرح مختصر الروضة ما ينقض تقديم المصلحة على النص إذ قال: “لا يجوز للمجتهد أنه كلما لاح له مصلحة تحسينية أو حاجية اعتبرها، ورتب عليها الأحكام حتى يجد لاعتبارها شاهدا من جنسها، ولو لم يعتبر للتمسك بهذه المصلحة وجود أصل يشهد لها، للزم منه محذورات :
أحدها: أن ذلك يكون «وضعا للشرع بالرأي» ؛ لأن حكم الشرع هو ما استفيد من دليل شرعي: إجماع أو نص أو معقول نص، وهذه المصلحة لا تستند إلى شيء من ذلك، فيكون رأيا مجردا.
الثاني: لو جاز ذلك، «لاستوى العالم والعامي»؛ لأن كل أحد يعرف مصلحة نفسه الواقعة موقع التحسين أو الحاجة، وإنما الفرق بين العالم والعامي معرفة أدلة الشرع واستخراج الأحكام منها.
الثالث: لو جاز ذلك، لاستغني عن بعثة الرسل وصار الناس براهمة لنحو ذلك؛ لأنهم قالوا: لا حاجة لنا إلى الرسل؛ لأن العقل كاف لنا في التأديب ومعرفة الأحكام، إذ ما حسنه العقل، أتيناه، وما قبحه، اجتنبناه، وما لم يقض فيه بحسن ولا قبح، فعلنا منه الضروري، وتركنا الباقي احتياطا، فالتمسك بهذين الضربين من المصالح من غير شاهد لهما بالاعتبار يؤدي إلى مثل ذلك ونحوه، فيكون باطلا.”[104]
وهذا الكلام وإن كان واردا في سياق المصلحة التحسينية والحاجية، فإنه لا يرى التفرقة بين تلك المراتب الثلاث في المشروعية. وكان يرفض العمل بالمصلحة مطلقا دون التقيد بالنص، إذ قال: “والعمل بالمصلحة المرسلة إنما هو اجتهادي، فلو اعتبرنا المصلحة المنصوص على عدم اعتبارها، لكان دفعا للنص بالاجتهاد، وهو فاسد الاعتبار.”[105]
وهذا الكلام يكفي للرد على كلامه السابق، خاصة أن هذا وراد في كتاب الأصول، أما كلامه الأول فكان شرحا لحديث، وكان في حالة فوران الحماسة المفرطة للمصلحة، ولم ينتبه لحقائق شرعية مهمة تالية:
أولا: لا يستقيم افتراض مخالفة النص والإجماع للمصلحة بعد إجماع الأمة على كون الشرع يراعي المصلحة، والشرع أعرف بالمصلحة من العقل البشري الناقص وهو يضبط ويحدد المصلحة الحقيقية التي تفيد بني الإنسان ويجنّبهم خطأ النظر الإنساني القاصر عن إدراك كل الحقائق كاملة، قال تعالى: { وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}[106] وقال: { أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا}[107] وكان الرسول صلى الله عليه وسلم أحرص بمصلحة الناس منهم لأنفسهم قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}[108]
ثانيا: ليس اتفاق الناس على رعاية المصلحة دليلا على تقديم المصلحة على النص، فإن البشر كلهم مجمعون على حب اللذة وليس ذلك دليلا على تقديم اللذة على النص. إن قوة النص والإجماع في حجيتهما، وأما المصلحة فقوتها في طلب الناس لها، وبين الأمرين ما بينهما. فمن غلب المصلحة المجردة على النص فقد غلب حكم الناس على حكم الخالق عز وجل، وهو عين الكفر والعياذ بالله.
ثالثا: إن إجماع الناس على رعاية المصلحة ليس إجماعا على تحديدها وتعيينها، فلو ترك النص والإجماع إلى رعاية المصلحة لأدّى ذلك إلى اختلاف أكبر وأخطر، وذلك فتح لباب الاضطراب غير المتناهي، وهل صراع الناس عبر تاريخهم إلا بحجة المصلحة؟
رابعا: إن العلماء الذين قالوا بالاستصلاح قسموا المصالح إلى ثلاثة أقسام: ما شهد الشرع باعتباره وهي المصلحة المعتبرة، وما شهد الشرع بعدم اعتباره وهي المصلحة الملغاة، وما لم يشهد باعتباره ولا إلغائه وهي المصلحة المرسلة. والطوفي كان لا يرى الفائدة من هذا التقسيم،[109] مع أنه لا ينكر أن من المصالح ما ألغى الشارع اعتبارها، وهذا هو ما خالف فيه الطوفي إجماع الأمة، وعند التحقيق دائما يظهر أن المصلحة التي ألغاها الشرع يعارضها مسفدة أعظم أو يزاحمها مصلحة أكبر أولى بالتحصيل. فاتباع نص الشارع أسلم وأحكم وأضبط للمصلحة من حكم العقل الذي لا ينضبط.
كان كل هؤلاء المفرطين السابقين يقرون بحاكمية الشرع، ويدينون بالإسلام شرعا، ولو ظاهرا، ولكن بعد أن أصيب المسلمون بتسلط المحتلين الغربيين وتربى بعض المثقفين على أيدي المستشرقين فرخ الاحتلال ولعوا بحب الغرب وكره الشرق، وتنكروا جذورهم، واستنكروا أصولهم، وضاقت صدورهم بحدود الشرع ذرعا، وبذلوا قصارى جهدهم لنقض عرى الإسلام عروة عروة، وحاولوا أن يحصروا الدين في أضيق زاوية من حياة الناس، واستخدموا مصطلحات غريبة لوصف الشرع، وتكلموا بلغة هجينة لتحليل الدين. ومن أقطابهم في مصر نصر أبو زيد الذي حكم القضاء المصري بالردة وحسن حنفي الذي ما زال في مصر وفي باريس جزائري يقال له محمد أركون وأذيالهم في بلاد المسلمين كثير.
فقد رأوا أن الشريعة تجاوزها الزمان، وأن النص يخضع للتاريخية وهو قول مفاده ترك القرآن والسنة، وهو أوقح من مقولة المعتزلة أن القرآن مخلوق. ووجدوا في القول بالمصلحة متكأً مريحا للاستغناء عن الالتزام بنصوص الشرع. فقد شنوا معركة طويلة على الشريعة الإسلامية لكلي يقنعوا الناس بعدم الالتفات إليها أو التمسك بها.
وعندهم دعاوى كثيرة في المصالح التي ألغوا بها حدود الشرع، اعترضوا على حجاب المرأة المسلمة بحجة حقوق المرأة وحريتها، عارضوا الصيام بحجة الإضرار بالإنتاج، واعترضوا على التدين نفسه بالطائفية والرجعية وحتى الإرهاب. استخدموا عقولهم واجتهدوا في اختلاق حجج متنوعة لإزالة دور الدين عن حياة المسلمين.
وهنا ينبغي التنبيه إلى أن العلمانيين ليسوا كلهم ضد الدين ولا ضد الإسلام, فإن كثيرا منهم يحملون في صدورهم حب الإسلام وبذور الإيمان، ولكن لم يصلهم الإسلام كما ينبغي ولم يستوعبوا الشرع بصورته الصحيحة، إن واقع المسلمين المتخلف جعل المسلمين أنفسهم يسيء الفهم للدين، أضف ذلك إلى الفهم القاصر لدى كثير من بعض المنسوبين إلى العلم الشرعي، إذا اتهم الناس الإسلام بالرجعية فقد وجد في المسلمين من يمثلها حيث رأوا كل جديد بدعة، واعتقدوا أن الاقتداء بالسلف هو صبغ الحياة بكل قديم موروث. وإذا اتهم الناس الإسلام بالجمود والتزمت والانغلاق فإن من المسلمين من يشجع على التقليد ويمنعون الاجتهاد وينغلقون على أنفسهم ومراجعهم الخاصة.
إن جمالية الإسلام ورونقه وبهاءه محجوبة بتخلف المسلمين وبعدهم عن الإسلام الأصيل الذي يدعو إلى كل معاني الخير ويسعى إلى تحقيق كل أنواع المصلحة. والشرع ليس ضد مصلحة الإنسان ولا ضد العقل، إن الشرع ترك للعقل مساحات واسعة ليملأها بنظرات سديدة واكتشافات جديدة، ثم ليس للعقل أن يزاحم الشرع في الحدود التي قد فرغ الشرع من ضبطها وتشريعها. ومن نحاسة الإنسان أن يصر على منازعة الشرع ويغفل عن المساحة المتروكة له التي هي أنفع وأفضل له من معارضة الشارع. لكنه وساوس الشيطان هي التي جعلت آدم يلتفت كثيرا إلى شجرة واحدة ممنوعة ويترك أشجار الجنة الكثيرة الممنوحة.
ثم إن الردود على شبهات العلمانيين كثيرة ومتداولة، ولكننا في مرحلتنا الراهنة والقادمة أحوج منها إلى معالجة جديدة تنقل المسلمين من الجدل العلمي والكلامي إلى ساحة البناء وتقديم نماذج عملية، كفى الناس كلاما عن محاسن الإسلام وبيان حرصه على مصالح الناس، لكن واقعنا يفتقر إلى صور عملية تدل على ذلك.
[1] الموافقات: 2/392
[2] المصدر نفسه: 2/392-393
[3] تلبيس إبليس (1/91-92)، لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)، دار الفكر للطباعة والنشر، بيرزت، لبنان، الطبعة الأولى، 1421هـ/ 2001م.
[4] الحقائق المعتبرة عن الأديان والفرق المنتشرة ص235، د. أحمد حسين سعيد الوصي، مكتبة الفرقان، مكة، 1431هـ.
[5] قاموس المذاهب والأديان ص46، الموجز في الأديان ص126، العقائد الباطنية وحكم الإسلام فيها ص11، نقلا عن الحقائق المعتبرة ص235. انظر أيضا: الملل والنحل للشهرستاني ص191، الفرق بين الفرق ص213، تاريخ المذاهب الإسلامية لأبي زهرة ص54.
[6] الحركات الباطنية في العالم الإسلامي ص431، محمد أحمد الخطيب، مكتبة الأقصى، عمان، الأردن، الطبعة الثانية سنة 1406هـ/1986
[7] الحركات الباطنية ص433-434
[8] المصدر السابق ص434
[9] الفرق بين الفرق: 382
[10] الحقائق المعتبرة ص235
[11] فضائح الباطنية ص 19
[12] المصدر السابق ص 37
[13] تلبيس إبليس 1/97
[14] البداية والنهاية: 11/160
[15] الحركات الباطنية في العالم الإسلامي ص390
[16] تلبيس إبليس 1/97
[17] الحركات الباطنية ص130
[18] ديوان المؤيد في الدين، تحقيق محمد كامل حسين ص102، لمؤيد في الدين داعي الدعاة، دار الكاتب المصري 1949م.
[19] ديوان المؤيد في الدين ص105-106.
[20] كتاب الهفت والأظلة ص53-54، المفضل بن عمر الجعفي، دار المشرق، بيروت، نقلا عن الحركات الباطنية ص390
[21] كتاب الصراط مخطوط ورقة 180ب، المفضل بن عمر الجعفي، من مخطوطات المكتبة الأهلية بباريس رقم 1949 عربي، نقلا عن الحركات الباطنية ص390
[22] إسلام بلا مذاهب ص321، د. مصطفى الشكعة، دار القلم، القاهرة، ط3 سنة 1979م.
[23] الحركات الباطنية ص390
[24] كتاب تعليم الديانة النصيرية -مخطوط ورقة 13ب، لمؤلف مجهول من مخطوطات المكتبة الأهلية بباريس رقم 6182 عربي.
[25] كتاب تعليم الديانة النصيرية ورقة 19 أ.
[26] تلبيس إبليس 1/97
[27] تلبيس إبليس 1/97
[28] منخرقون: أي مكذبون مموهون، والاختراق كالاختلاق في الكذب (المحيط في اللغة: 1338) ومنسمون أي ملبسون على الناس الحق بالباطل. يقال نَمِسَ الوَدَكُ ونَسِمَ إِذا أَنْتَن ونمَّسَ الأَقِطُ فهو مُنَمِّسٌ إِذا أَنتن قال الطرماح مُنَمِّسُ، والنِّمْسُ سَبُع من أَخبث السُّبُع (لسان العرب: 6/243)
[29] تلبيس إبليس: 1/96-97
[30] المصدر السابق: 1/97
[31] لا تستقيم تسمية الناجين بـ”فرقة” وإنما ورد لفظ “فرقة” في حديث افتراق الأمة ويقصد بها طوائف مفارقة للجماعة ومجانبة للحق، ولم يجرِ استعمال الفرقة -في القرآن أو السنة- على الجماعة المسلمة الناجية من نار الضلالة، وإنما يصح إطلاق لفظ الفرقة على من شذ عن خط الأمة الوسط، ويدل على ذلك ما رواه أحمد وغيره “… وَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً يَعْنِي الْأَهْوَاءَ كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً وَهِيَ الْجَمَاعَة.” فسمى الطائفة الناجية الجماعة بالتعريف، لأنها الأصل الذي اجتمعت عليه الأمة، والله أعلم.
[32] إحياء علوم الدين: 3/230
[33] سورة الحجر : 99
[34] تربيتنا الروحية ص 200
[35] سورة النازعات: ١٧
[36] تفسير القرطبي: 1/16
[37] سورة آل عمران: ٧
[38] تفسير المنار (1/18)
[39] سورة الحجر: ٩٩
[40] تفسير الطبري: 17/159
[41] روح المعاني: 10/84
[42] المصدر السابق
[43] سورة المدثر: ٤٣ – ٤٧
[44] أخرجه البخاري: 4/464 رقم: 1166
[45] أضواء البيان: 2/324
[46] سورة فاطر: ٢٨
[47] أضواء البيان: 2/325
[48] أي بدون أجرة.
[49] وهو أحد رواة هذا الحديث.
[50] أخرجه البخاري بطوله في باب ما يتسحب للعامل إذا سئل أي الناس أعلم (1/207 رقم: 119) ومسلم (12/89 رقم: 4385)
[51] بل أكد المحققون من المفسرين أنه ذلك عن طريق الوحي كما سبينه لاحقا.
[52] مفاتح الغيب: 10/240
[53] فتح الباري: 1/195 رقم 119
[54] أورد بعض الفقهاء على أنه حديث نبوي وليس كذلك، قال في تخريجه الحافظ العراقي: لم أجد له أصلا ، وكذا قال المزي لما سئل عنه. (تخريج أحاديث الإحياء: 8/455 رقم: 3955) بل هو كما قال السيوطي: “هذا من كلام الشافعي في الرسالة” (الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة: 1/3) وإنما ورد ما في معناه كما في صحيح مسلم قوله عليه الصلاة والسلام: “إِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ، وَلَا أَشُقَّ بُطُونَهُمْ” (صحيح مسلم: 2/732 رقم: 1064) والحديث المتفق عليه: “إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِي عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ…” (صحيح البخاري: 22/91 رقم: 6634، صحيح مسلم: 9/102 رقم: 3231)
[55] فتح الباري: 1/195 رقم 119
[56] سورة الجن: ٢٧
[57] روح المعاني: 11/315
[58] التحرير والتنوير: 15/369
[59] سورة الكهف: ٦٥
[60] سورة الزخرف: ٣١ – ٣٢
[61] سورة الدخان: ٤ – ٦
[62] سورة القصص: ٨٦
[63] سورة النساء: ١١٣
[64] سورة يوسف: ٦٨
[65] سورة الكهف: ٨٢
[66] سورة الأنبياء: ٤٥
[67] أضواء البيان: 3/322
[68] أضواء البيان: 3/322-324
[69] سورة الأعراف: ١٤٤
[70] فتح الباري: 1/195 رقم: 119
[71] جامع البيان في أحكام القرآن (1/3456)
[72] سورة النساء: ٨٢
[73] سورة آل عمران: ٧
[74] مقدمة مواهب الجليل شرح مختصر خليل (1/30)، محمد بن محمد بن عبد الرحمن الحطاب، دار الفكر، بيروت، الطبعة الثالثة سنة 1412هـ/1992م
[75] رواه ابن حبان (1/147 رقم: 75) وأبو يعلى في مسنده (11/161 رقم: 5275) والطبراني في الكبير (8/435 رقم: 9961) والأوسط (2/284 رقم: 785)، ووثق الهيثمي رجاله (مجمع الزوائد: 7/152 رقم: 11577) وضعفه الألباني في “التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان” (1/197 رقم: 75).
[76] أبو سعيد كنية للحسن البصري رحمه الله.
[77] فضائل القرآن للقاسم بن السلام (1/73 رقم: 64) ورواه البيهقي في شرح السنة (1/262 رقم: 122)
[78] فيض القدير: 3/71 رقم: 2727
[79] تفسير الرازي: 1/275
[80] للحديث القدسي الذي رواه البخاري: “وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ.” أخرجه البخاري: 20/158 رقم: 6021
[81] انظر: دراسة في فقه مقاصد الشريعة ص83
[82] القاضي عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار بن أحمد بن خليل، العلامة المتكلم، شيخ المعتزلة، أبو الحسن الهمذاني، صاحب التصانيف، ولي قضاء القضاة بالري، مات في ذي القعدة سنة 415هـ. (سير أعلام النبلاء: 17/244-245)
[83] المحيط بالتكليف للقاضي عبد الجبار ص234، نقلا عن آراء المعتزلة الأصولية دراسة وتقويما، ص169، د علي سعد الضويحي، مكتبة الرشد، الرياض، السعودية، الطبعة الأولى، 1415هـ/1995م
[84] انظر شرح الأصول الخمسة ص484، نقلا عن آراء المعتزلة ص171
[85] شرح الأصول الخمسة ص311، نقلا عن آراء المعتزلة ص171
[86] القاضي أبو يعلى ابن الفراء الحنبلي محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن أحمد القاضي أبو يعلى الحنبلي، ولد في المحرم سنة 380، وسمع الحديث الكثير، انتهت إليه رياسة الحنابلة، وصنف الكتب، وتولى الحكم بحريم الخلافة، وكان قد جمع بين الزهد والتقشف والصمت عما لا يعنيه، وتوفي عشرين شهر رمضان سنة 458 وهو ابن ثمان وسبعين سنة. (الوافي بالوفيات: 1/306)
[87] المعتمد في أصول الفقه ص21
[88] المنخول ص8
[89] منتهى الوصول والأمل في علمي الأصول والجدل لابن الحاجب ص29
[90] المحصول: 1/123
[91] جمع الجوامع: 1/57-58
[92] الرد على المنطقيين ص421
[93] مفتاح دار السعادة: 2/7
[94] سورة النحل: ١١٦
[95] البرهان:1/87
[96] سورة الإسراء: ١٥
[97] سورة القيامة: ١٤ – ١٥
[98] قواعد الأحكام: 1/5-7
[99] سورة النحل: ٧٨
[100] سليمان بن عبد القوي بن الكريم الطوفي الصرصري، أبو الربيع، نجم الدين (1131 – 1202 هـ / 1719 – 1788 م): فقيه حنبلي، من العلماء. ولد بقرية طوف – أو طوفا – (من أعمال صرصر: في العراق) ودخل بغداد سنة 691 هـ ورحل إلى دمشق سنة 704 هـ وزار مصر، وجاور بالحرمين، وتوفي في بلد الخليل (بفلسطين). (الأعلام: 3/127)
[101] شرح الأربعين حديثا، لنجم الدين الطوفي، نقلا عن المصلحة في التشريع الإسلامي، أ د مصطفي زيد، دار اليسر، جمهورية مصر العربية، ص126. وقد نقل الأستاذ مصطفي زيد في هذه الرسالة نص الطوفي كاملا في شرحه لحديث “لا ضرر ولا ضرار”.
[102] المصدر السابق
[103] المصدر السابق
[104] شرح مختصر الروضة: 3/207-208
[105] المصدر السابق: 3/212
[106] سورة البقرة: ٢١٦
[107] سورة النساء: ١٩
[108] سورة التوبة: ١٢٨
[109] انظر شرح مختصر الروضة: 3/215-217