آفاق المستقبل

تصحيح مفاهيم وتكوين رؤى

عن فقه الواقع وعلومه

إن تحمّسنا في تحقيق تطلعاتنا المستقبلية لا يفوتنا أن نذكر أن التطلع إلى المستقبل لا يتم عن طريق القفز على الواقع، فإن تجاهل الواقع إلغاء للعقل ونطح للصخرة الصماء. وفهم الواقع شرط ضروري للانطلاق إلى بناء المستقبل. وكان العلماء لا يرون وفاء الفقيه بدوره إلا بفقههم للواقع إضافة إلى درايتهم للعلم الشرعي، قال ابن القيم رحمه الله: “ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم: أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علما. والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع. ثم يطبق أحدهما على الآخر؛ فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرا؛ فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله.”[1]

وفهم الواقع لا يتم فقط بمطالعة الأخبار أو سماع كلام عوام الناس، ولكنه يحتاج إلى الإلمام بعلوم العصر. إن بعض التخصصات تتطلب تفرغا تاما مثل الهندسة والطب، وقلّ من يجمع مثل هذه التخصصات في وقت واحد. ولكن العلوم الإنسانية كعلم النفس وعلم الاجتماع والسياسة والحقوق والإدارة لا يصعب على طلاب العلم الشرعي أن يضموها مع تحصيلهم الشرعي. وهي علوم أكثر تأثيرا في حياة الناس وتفكيرهم وأنماط حياتهم. ومع ذلك نكرر ما سبق الكلام عليه أن المستقبل ينتظر عصرا جديدا يشهد الفقيه الحقوقي الاقتصادي المؤرخ، والمفسر المحدث الفقيه المهندس واللغوي الأديب الطبيب وهكذا. إذا رجعت الأمة إلى حب العلم كما في السابق فإن هذه الأمور ليست عزيزة عليها.

وأيضا يكون فقه الواقع بالوعي بمشكلات العصر المفصلية، مثل الإلمام بخلفيات الأزمة الاقتصادية وتداعياتها، وأزمة التعليم والبحث العلمي، ومشكلات العولمة بكل جوانبها الإيجابية والسلبية، ومشاكل البيئة من أزمة الطاقة والاحتباس الحراري … إلى ما هنالك من قضايا العصر التي شكلت أحجار زاوية في مسيرة البشرية بشكل عام، وفي كل بلد وكل منطقة قضايا رئيسية خاصة يقبح من حملة الفقه الجهل بها وعدم الانتباه لها. وإذا لم يقدم  رأيا مسددا في هذه المسائل فلا أقل من ألا يربك الناس فيها برأي ينبئ عن ضحالة الفهم وضعف الثقافة وقلة العلم وغياب الحكمة.

ومن فقه الواقع أن يعرف الفقيه ما يجب على الناس تقديمه وتركيزه في وقت دون وقت وفي ظرف دون ظرف، فإن الواجبات يراعى فيها اختلاف الوقت والحال والناس. قال ابن القيم: “إن أفضل العبادة العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته، فأفضل العبادات في وقت الجهاد: الجهاد، وإن آل إلى ترك الأوراد، من صلاة الليل وصيام النهار، بل ومن ترك إتمام صلاة الفرض كما في حالة الأمن. والأفضل في وقت حضور الضيف مثلا القيام بحقه، والاشتغال به عن الورد المستحب، وكذلك في أداء حق الزوجة والأهل. والأفضل في أوقات السحر الاشتغال بالصلاة والقرآن، والدعاء والذكر والاستغفار. والأفضل في وقت استرشاد الطالب، وتعليم الجاهل الإقبال على تعليمه والاشتغال به … فالأفضل في كل وقت وحال إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال، والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه.[2]

فليس من الفقه أن يعظ الفقيه الناس بالعزلة واجتناب المشاكل في وقت يطالب فيه الناس بإبداء موقفهم ضد المنكرات الظاهرة ومحاربتهم بالتظاهر ضدها والجهر بالحق حيالها. “وأيضا فإن الأفضل في وقت جوع المسلمين الاشتغال بما يسد جوعهم، والأفضل في وقت عريهم الاشتغال بما يكسوهم، والأفضل في وقت انتشار الفرقة والعصبية الاشتغال بما يدفع عنهم ذلك ويجمع كلمتهم … والأفضل في وقت تسكع الشباب وتعطلهم عن العمل الاشتغال بغرس قيم الإسلام في العمل وإصدار الفتاوى المعينة على تحصيل الأعمال ـ ولو لم يكن في فقهنا إلا إحياء الموات لكان كافيا لدفع كل عطالة وبطالة، وفينا النيل ودجلة والفرات وغيرها كثير. والأفضل في وقت انتشار الفساد والإجرام التصدي له بالفتاوى المحددة لمقادير العقوبات والتعزيرات وتقديمها لأجهزة العدل والأمن إبراء للذمة وخروجا من العهدة ..الخ.”[3]

وفقه الواقع ليس تنازلا دائما للواقع، بل مبادرة الفقيه بطرح حلول له، وقد يصيب المجتهد أو يخطئ، وقد يستوفي أو يقصر، لكن بناء المستقبل لن يكون بعقلية الانتظار وردود الأفعال أو اجترار مسائل قديمة وإشغال الناس بها.

ومن فقه الواقع أن يعرف الفقيه نسبية الحقائق الاجتماعية والسياسية، فإن الحكم على مجتمع من المجتمعات لا يصح فيه التعميم بحال من الأحوال، فكل مجتمع فيه الصالح والطالح، والكريم والبخيل والطيب والخبيث. وكذلك في مجال السياسة فإن غالب مسائلها نسبية ليس فيها حق مطلق أو خطأ محض. فعلى الفقيه أن يدقق كثيرا في مثل هذه الأمور، وألا يتحمس أكثر من اللازم ما دام الصواب والخطأ فيها نسبيا يمكن فيها الأخذ والرد. وألا يشن حربا على المخالفين فيها، ففي مثل هذه المسائل يكون اختلاف الآراء ليس فقط مسموحا بل الأصل فيه الخلاف، لأن التوصل إلى رأي موحد فيها عسير إلا بعقد الحوار وتلاقح الأفكار. ولكن لا يجرنا هذا إلى الورع البارد في إنكار الظلم البين والطغيان الواضح والمنكر الظاهر في الحالات المعروفة التي يعرفها القاصي والداني. والله نسأل أن يهدي بصائرنا وينير ضمائرنا.

ومن وسائل فقه نسبيات الحقائق الاجتماعية والسياسية النظر والدراية في لغة الأرقام والإحصائيات، فإن موقف المجتمع الأمريكي مثلا لا يمكن تصوره إلا إذا عرفنا نسبة الآراء والمواقف المختلف فيها. ففيهم العلمانيون المعتدلون الذين يحترمون الأديان، وفيهم المتعصبون الأصوليون الذين يؤمنون بالكتب المقدسة، وفيهم المصلحيون الذين لا يعترفون إلا بفائدة ملموسة وفيهم المسلمون بكافة مذاهبهم. ومن الخطإ أن نحكم على المجتمع الغربي بأنه مجتمع كافر تجب محاربته جملة وتفصيلا، وهو تصور إن صح في غابر الزمان فلا يصح في عصر العولمة، لأن العولمة لا تخترق فقط المجتمعات المسلمة، فإن المسلمين أيضا غيروا واقع الغرب بأشكال مختلفة. فإن نسبيات الأحكام الاجتماعية لا يصورها أدق من لغة الإحصائية والأرقام. ولغة الأرقام أيضا تسهل عملية الموازنة التي أصبحت ضرورية في هذا الزمان الذي لا تخلو فيه قضية إلا واختلط فيها الخير والشر.

ومن فقه الواقع أن يحرص الفقيه على إيجاد الحلول لمشاكل الناس لا أن يطرح أفكارا وأحكاما تربك الناس وتثير الإشكال والجدال. إن واجب الفقيه ليس مجرد إبداء الرأي الفقهي بناء على فهمهه للنصوص فقط، وليس الحكم الشرعي هو “المنتج” الوحيد الذي يملكه الفقيه، فإنه مسؤول أيضا عن بيان مقاصد الشرع من أحكامه، وتحبيب الناس إليه، وتفعيل تعاليمه في حل مشاكل الناس وهداية طريقهم في هذه الحياة الدنيا، إن الأحكام الشرعية ليست طقوسا غامضة ولا تمتمات مجهولة، بل هي أساليب ممارسة الحياة الطيبة، علمها من علمها وجهلها من جهلها.


[1] إعلام الموقعين: 1/113

[2] مدارج السالكين: 1/-109-111

[3] إصلاح الفكر الفقهي، رؤية معاصرة ، د. أبو أمامة نوار بن الشلي، دار السلام، القاهرة، ط 1432هـ/2011م، ص109

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

معلومات

This entry was posted on 4 أفريل 2012 by in مقالات.

الابحار

%d مدونون معجبون بهذه: