إن قناعة الإنسان ومعرفته بقيمة المنفعة وقياس الأمور بمعيار الفائدة المترتبة عليها ركن من أركان الحكمة الإنسانية الأساسية. ومن النضج الفكري أن يجنح الإنسان إليها دائما. ونعرف أيضا أن الشرع الإسلامي مبني على طلب المصلحة ودفع المضرة، وهو مبدأ لا يرفضه عقل ولا ينكره إنسان. فمن هذه الزاوية تلتقي الشريعة بالفلسفة النفعية العامة. ولكن تفاصيل هذا المبدإ توقفنا على اختلاف تحديد ما هي هذه المصالح وما تلك المضار؟
إن شأن هذا الشرع الإسلامي عظيم ولكن قصور الإنسان عن استيعابه جعل من هذا الدين العظيم عرضة لانتقاص المنتقدين وثلمة لاختراق المتحاملين. وإن عظمة هذا الدين لا يتجلى إلا إذا قدرنا على إثبات تفوقه على سائر المبادئ وعلوه فوق كل الفلسفات. ولا ينبغي أن يكون فهمنا لمقاصد هذا الدين أقل استيعابا وأدنى مستوى عن الأفق الذي توصل إليه العقلاء المفكرون الذين لم يتلقوا هذا الدين.
إن آفاق المصلحة التي قصدها الشرع أوسع من أي مبلغ بلغتها الفلسفات البشرية، والمرامي النفعية التي دل عليها الشرع أرقى من تلك التي تصورها وفكّر فيها جميع العقول الإنسانية. ورغم رقي الأهداف الشرعية وعلو مراقيها لم تخرج المثاليات الشرعية عن الواقعية التي مكن الله من بلوغها قدرة بني البشر.
نحتاج في تصور المَبالغ البعيدة العظيمة التي استوعبتها المقاصد الشرعية إلى نوع من النظر الخارجي إلى الداخل الإسلامي. فإن الإنسان الذي بقي داخل بيته ولم يطلع على العالم الخارجي ولم ير بيته من الخارج لن يعرف قدر بيته الحقيقي. فنبدأ معالجة هذا الموضوع بالكلام عن الفلسفة النفعية التي تحكمت بعقول كثير من صناع القرار في أيامنا هذه، لئلا يكون خطابنا المقاصدي على ضحالتها أو نازلا عنها متجاوَزا بها.
قد لا يكون من المستغرب أن يكون هناك التقاء بين تعاليم الدين القويم ونتاج العقل السليم. إذا أمرت الشريعة بتحصيل المصلحة للبشر فإن الفلسفة أيضا تقول بذلك. ومن المشين أن يكون وعي بعض المسلمين أقل من ذلك المستوى، يعني أن يعتقد أن هذا الشرع ليس له علاقة بمصلحة الإنسان أو بمضرته. ولا يقل سوءا أيضا ألا يزيد الإنسان المسلم عن مستوى ذلك الإنسان المتجرد عن الدين، يعني أن يستويا في النفعية.
إن الفلسفة النفعية قد دفعت عجلة الحضارة الغربية بصورة غير مسبوقة – وبالأخص في الدول الأنجلو ساكسونية[1]– حيث اعتبروا أن النفع العملي هو معيار صحة أي جهد يُبذل. فأي نشاط بشري لا يأتي بفائدة فهو عبث. وقاسوا الأفكار أيضا بالمعيار نفسه، فكل فكر لا يترتب عليه نفع ملموس فليس له قيمة. وقد جنبهم هذه الفلسفة من ضياع الجدل الفلسفي العريض الطويل الذي شغل الناس عن العمل. كما دفعهم هذا المبدأ إلى التركيز على الأمور المفيدة التي تبين لهم نفعها. وكما جعلهم أيضا يستقلّون شأن سائر القيم غير قيمة الفائدة. وأخبارهم في ذلك معروفة.
فما العمق الحقيقي لهذه الفلسفة؟ وما الذي ينتهي به أفق هذا الفكر من وضعية الإنسانية؟ وإلى أي مدى قاد هذا المبدأ النفعي مسيرة الحضارة؟
إن بداية الفلسفة النفعية كانت مع مدرسة المتعة (Hedonism) وهي المدرسة التي تقول إن المتعة هي الخير الحقيقي.[2] وأشار المؤرخ الأمريكي جون ولسون المتخصص في تاريخ مصر القديمة إلى وجود هذه الفكرة لدى المصريين القدامى.[3] ولكن ظهور هذا المبدإ كمذهب فلسفي يبدأ مع الفيلسوف اليوناني ديموقريطس[4] الذي تبني فلسفة المتعة بشكل قاطع؛ وقد ادعى أن الهدف الأسمى للحياة هو رضى النفس أو ابتهاجها، مدعيا أن “الفرح والحزن يشكّلان العلامة الفارقة بين الأشياء النافعة والضارة.” [5]
ثم جاء الفيلسوف اليوناني أبيقور[6] الذي عاش بين سنة 270 إلى 343 قبل الميلاد. وقال بفلسفة اللذة حيث رأى أن ركن السعادة التي يطلبها الإنسان هو اللذة. ويتلخص مذهبه في أن اللذة هي وحدها الخير، وهي خير الدوام، ولا توجد اللذة إلا من خلال إقصاء الألم وكل ما يعكر صفو العقل. ولا يقصد باللذة لذَّات أصحاب الشهوات الحسية ولا إدمان الشراب. فاللذة عنده نوعان: لذة جسمية تبلغ أوج صورها في الصحة الجسمية الكاملة، ولذة عقلية وتعني التحرر الكامل من الخوف والقلق. ولا يستطيع الإنسان أن يحيا حياة سعيدة ما لم يقض هذه الحياة في كل ما هو فاضل بالفعل، والحياة الفاضلة هي مصدر اللذة، لأن الإنسان يقضيها في تحصيل العلم أساساً. واللذة هي الشيء الوحيد الذي “هو خير في ذاته”. والألم هو الشيء الوحيد الذي هو “شر في ذاته”، والسعادة تشمل اللذة والتخلص من الألم، وإن رجحان كفة اللذة يعني صيرورة حياة الإنسان مصدراً للمزيد من اللذة.[7]
ورغم أن أبيقور لم يعمد إلى اختزال حقيقة اللذة في المتعة الجسدية، ولكن هذه الفلسفة بشكل عام دفعت الناس إلى تمجيد اللذة أيا كان نوعها. وظلت هذه الروح الشهوانية المنطلقة تسيطر على شعوب أوروبا حتى جاءت الديانة المسيحية التي تحدّ من حدة هذه النزعة القبيحة. سيطرت الفلسفة الإبيقورية على مدن سواحل البحر المتوسط بأكمله، فوجدت مدرسة إبيقورية في أنطاكية، في القرن الثاني قبل الميلاد وتأثرت المذاهب الفلسفية في الاسكندرية بالأفكار الإبيقورية. ومع أن الإبيقورية كانت مزدهرة في القرنين الأول والثاني الميلاديين، فإِنها أخذت تتفكك تدريجياً لتحلّ محلها المسيحية بمؤسستها الكنسية، التي سيطرت على الفكر الأوروبي في القرون الوسطى، ولكن ما إِن بدأ النصف الأول من القرن السابع عشر حتى لوحظ نوع من إِحياء للإبيقورية سببه معارضة التجريبيين[8] لعقلانية ديكارت[9].
فعلى إثر مذهب أبيقور نشأ في قرن 18 الميلادي مذهب المنفعة (Utilitarianism)، وهي مدرسة أخلاقية غربية تقول إن القيمة الأخلاقية للفعل يتحدد بمقدار إسهامه في النفع (utility) العام. بسبب هذا فهي شكل من أشكال العواقبية (consequentialism)، التي تعني أن الفعل يقيّم بحسب ما ينتج عنه. وهو مبدأ شبيه باعتبار المآلات لدى فقهاء المسلمين. لكن النفع يعرّف من قبل عدة مفكرين غربيين على أنه السعادة أو البهجة (pleasure) مقابل المعاناة والألم.
ظهر هذا المذهب في العصر الحديث مع الفيلسوف الإنجليزي جيرمي بنتام[10] ويعدّ زعيم القائلين بمذهب المنفعة، وقدم نظريته في المنفعة في كتابه مقدمة لأصول الأخلاق والتشريع. ومن أقواله: “أن أعظم السعادة لأكبر عدد هو مقياس الصواب والخطأ.”[11] وبعتبر جيرمي بنتام مؤسس مذهب المنفعة، استفاد من كل من سبقوه منتهياً إلى نظرية متكاملة، في رأيه، ومستخدماً إياها على أوسع نطاق.
وبما أن السعادة تختلف تجلياتها من فرد لآخر فإن الخير والشر عندهم شيء نسبي. والحقيقة ليست حكرا لجهة دون جهة لأن أي فرد له الحق في إبداء رأيه. وفي هذا يقول جون ستوارت ميل[12]: “إن البشر جميعًا لو اجتمعوا على رأي، وخالفهم في هذا الرأي فرد واحد، لما كان لهم أن يسكتوه، بنفس القدر الذي لا يجوز لهذا الفرد إسكاتهــم حتى لـو كانت لــه القوة والسلطة.” وعلى هذا الأساس انطلق الفكر الغربي نحو تمجيد الحرية المطلقة في كل الميادين. وقال: “إن كل ما يقيّد المنافسة الحرة هو الشر المطلق، وكل ما يطلقها هو الخير العميم.”[13]
إن نظرية المنفعة الأخلاقية طبعت أتباع هذا المذهب بطابع مميز. إذ كان كل همهم الاهتمام بالحياة الدنيا والاغتراف من لذاتها. ورأوا أن صواب أي عمل من الأعمال، إنما يحكم عليه بمقدار ما يسهم في زيادة السعادة الإنسانية أو في التقليل من شقاء الإنسان، بصرف النظر عن السداد الأخلاقي لقاعدة ما، أو مطابقتها للوحي أو للسلطة أو للتقليد أو للحس الأخلاقي أو للضمير.
ويمكن دفع الناس إلى التصرف على نحو يؤدي إلى السعادة العامة من خلال ما يلي:
1- القانون بحدوده والرأي العام بجزاءاته من ثواب وعقاب، فهما يحولان بين الناس وبين أن يأتوا من الأعمال ما يضاد الصالح العام.
2- المنفعة الذاتية المستنيرة تدل الناس على أن الصالح العام ينطوي في أغلب الأحوال على منفعتهم الخاصة.[14]
إذا كان الفلاسفة البريطانيون ركزوا على المنفعة والفائدة (utility) فإن الفلاسفة الأمريكان ذهبوا إلى أبعد من ذلك. فإنهم لا يقتنعون بدعوى النفع الذي لا يمكن إثباته من الناحية العملية. فيجب أن تكون الفائدة المعتبرة مؤثرة تأثيرا فعليا. فنشأت المدرسة البراغماتية[15] (Pragmatism) التي تتميز بالإصرار على النتائج والمنفعة العملية كمكونات أساسية للحقيقة. تعارض البراغماتية الرأي القائل بأن المبادئ الإنسانية والفكر وحدهما يمثلان الحقيقة بدقة، معارضة مدرستي الشكلية والعقلانية من مدارس الفلسفة.
ويعتبر مؤسسها تشارلز ساندر بيرس[16]، أول من ابتكر كلمة البراجماتية في الفلسفة المعاصرة، وهو صاحب فكرة وضع (العمل) مبدأ مطلقًا؛ في مثل قوله : “إن تصورنا لموضوع ماهو إلا تصورنا لما قد ينتج عن هذا الموضوع من آثار عملية لا أكثر [17]“.وهو أول من أدخل لفظ البراجماتية في الفلسفة في مقالتين له الأولى بعنوان: “التأكد من المعتقد”[18] والأخرى: “كيف نجعل أفكارنا واضحة” حيث ذكر فيها أنه لكي نبلغ الوضوح التام في أفكارنا من موضوع ما فإننا لا نحتاج إلا إلى اعتبار ما قد يترتب من آثار يمكن تصورها ذات طابع عملي، قد يتضمنها الشيء أو الموضوع.[19]
وذهب فيلسوف أمريكي آخر وليم جيمس[20] إلى أبعد من ذلك فيؤكد بأنه لا يعتقد بوجود حقيقة مثل الأشياء مستقلة عنها. فالحقيقة هي مجرد منهج للتفكير، كما أن الخير هو منهج للعمل والسلوك؛ فحقيقة اليوم قد تصبح خطأ الغد؛ فالمنطق والثوابت التي ظلت حقائق لقرون ماضية ليست حقائق مطلقه، بل ربما أمكننا أن نقول : إنها خاطئة.[21]
يجب الاعتراف بأن هذه الفلسفة عنصر أساس من عناصر المنظومة الفكرية التي دفعت التقدم السريع في الدول الصناعية الكبرى وبالأخص بريطانيا وأمريكا، فقد حققت هاتان الدولتان تفوقا ملحوظا في جمع الثروات والتقدم التقني مما جعلهما أكبر قوة اقتصادية وعسكرية وقبلة ثقافية وعلمية مدة غير قليلة من الزمن. والعلاقة واضحة بين هذه الفلسفة وبين شدة الاندفاع نحو تحقيق أشكال الرفاهية الاقتصادية والتطور التقني والتفوق العلمي.
ولكن هذه الفلسفة كما أنها حققت خيرا كثيرا فإنها أيضا قد سبّبت في الوقت نفسه شرا مستطيرا. فإنها جعلت المنفعة فوق كل القيم حتى الأخلاق والعقائد. ووضعت المنفعة معيارا مهيمنا على باقي القيم. فالأخلاق ملغية إذا لم تحقق نفعا، والعقائد باطلة إذا لم تجلب ربحا. فلا عجب أن تنهار الأخلاق والقيم في تلك الدول، ولا غرابة أن تكون الولايات الأمريكية المتحدة هي أكثر دول العالم على الإطلاق من حيث عدد الجرائم. فقد أشارت الإحصائية التي أجراها مركز الوقاية من الجرائم العالمية التابع لمنظمة الأمم المتحدة إلى أن عدد الجرائم المسجلة في الولايات المتحدة سنة 2002 وحدها بلغت أكثر من 11 مليون وثمانيمائة جريمة، وهي تشكل 18% من جرائم العالم كلها. ويليها في العدد: المملكة البريطانية المتحدة حيث نسبة الجرائم فيها شكلت 10% من مجموع جرائم العالم.[22] فبالتالي إن هاتين الدولتين “أنتجتا” ثلث جرائم العالم كلها. وهذا غير الحروب التي أحدثوها والجرائم المرتكبة من جرائها.
إن الفلسفة التي جعلت المنفعة فوق كل القيم تقتضي دفع الناس إلى استحلال كل السبل من أجل كسب مصالحهم الخاصة، وهي التي جعلت الصراع على المصلحة – مهما كان شكله – أمرا مقبولا ومشروعا ما دام القانون لا يلاحقه، وفن التنصل عن ملاحقة القانون دائما يتطور أسرع من تطور تقنية أجهزة الأمن.
كما أن وهم السعادة الواسعة التي قصدوها من خلال تحقيق المنافع التي حددوها وألّهوها لم يخلق لهم تلك الحياة السعيدة كما حسبوه. فإن نسبة الانتحار عالميا دائما مرتفعة في الدول الغنية[23] حيث الحياة المرفهة والثروة المتوفرة. بينما الدول الفقيرة بشكل عام تشهد نسبة منخفضة للانتحار.[24]
إن للولايات الأمريكية المتحدة قِصص كثيرة معروفة في تخبّط سَنّ القوانين جراء هذه الثقافة النفعية. ومن أشهرها قصة منع المشروبات الكحولية (The Prohibition). فقد قامت حركة واسعة للمطالبة بمنع الخمور، قادهها الكنائس البروستنتانية الإنجيلية نشطت في فترة ما بين أربعينيات القرن 19 إلى عشرينيات القرن 20. وبعد مسيرة طويلة من الضغوط السياسية – وبالخاصة أثناء الحرب العالمية الأولى – نجح مشروع حظر الخمر من خلال التعديل الثامن عشر للدستور سنة 1919 م، حيث نص على منع: تصنيع وبيع ونقل المشروبات الكحولية المسكرة واستيرادها وتصديرها من وإلى الولايات الأمريكية المتحدة.
أمضى الكنجرس الأمريكي قانون المنع، ولكن أغلب المدن الأمريكية لم ترحّب بهذا القانون وتركت أجهزة الدولة الفدرالية تهمل مروِّجي الخمور. ورغم أن استهلاك الخمور أخذ يتراجع ولكن الجرائم المنظمة تزايدت بشكل مثير، في الوقت الذي ارتفع فيه طلب المحاصيل (منها العنب) نقدا.
تناقصت شعبية قانون منع الخمور أثناء الكساد الكبير الذي أصاب اقتصاد الولايات المتحدة في ثلاثينيات القرن الماضي. مما شجع عضو الحزب الجمهوري باولين سابين (Pauline Sabin) لإقناع المشرِّعين الأمريكيين بإلغاء قانون الحظر. وقالت: إن قانون منع الخمور ينبغي أن يلغى لأنه – حسب وصفها – جعل الولايات المتحدة دولة منافقة، وقوّض احترامها للقانون. ورغم أن زملائها الجمهوريين اقتنعوا بوجهة نظرها، بل وشاركها في احتفالاتها التي تشرب فيها الخمور، إلا أنهم خافوا من شعبياتهم أمام الناخبين الأمريكيين بموقفهم ضد منع الخمور. فقاد هذا النفاق من الجمهوريين إلى توجهها نحو الديمقراطيين والكاثوليك مؤكدةً أن رفع حظر الخمور سيؤدي إلى جلب مبالغ هائلة من الضرائب التي كانت الدولة في أشد الحاجة إليها، ويؤدي أيضا إلى إضعاف قاعدة للجريمة المنظمة. وتم مشروع إلغاء منع الخمور عبر التعديل الواحد والعشرين للدستور الأمريكي سنة 1933م. وعادت أمريكا إلى سابق عهدها بالخمور استهلاكا وإنتاجا.[25]
كتب أحد الشخصيات الأمريكية البارزة جون روكفللر معلقا على هذه الواقعة: “كنت أتمنى عندما قدّم الحظر، من شأنه أن يحظى بدعم واسع من قبل الرأي العام، وسيتم التعرف على آثار الشر من الكحول. لقد أصبحتُ ببطء وعلى مضض أعتقد أن تلك الأمور لم تكن هي النتيجة، بدلا من ذلك، ازداد الشرب[26] عموما، وحلت الحانة محل الصالون؛ وظهر جيش كبير من منتهكي القانون، وكثير من خيرة مواطنينا تجاهلوا الحظر علناً، وقد تراجع احترام القانون إلى حد كبير؛ والجرائم ارتفعت إلى مستوى لم يسبق له مثيل من قبل.”[27]
وهكذا تتخبط الدولة التي لا تعترف إلا بالفائدة المادية وتستعد أن تضرب كل القيم مقابل المصلحة الضيقة، وقصصهم في ذلك كثيرة ومتكررة. وإن كانت هذه الفلسفة نجحت في دفع الدول إلى كسب الثروات -بغض النظر عن الوسائل- في القرن الماضي، لكن الأيام القادمة ستسفر عن مزيد من تغيّر وتخبط القناعات والمواقف إثر الأزمات الاقتصادية التي تتوسع وتتعمق في عامة الدول الغربية.
من الموضوعية العلمية أن نشهد أن لتلك الفلسفة النفعية إيجابيات وسلبيات. لم يدفعنا الكره الأعمى إلى إنكار جوانب صحيحة مفيدة لها، ولم يقدنا الانبهار بالغرب إلى إغفال المعاني الخاطئة الخطيرة المنطوية فيها. وكما في الحديث: “الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ فَحَيْثُ وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا.”[28] وقصد الشرع لتحقيق المنافع معروف. والشرع أيضا اعتبر النفع معيارا من المعايير التي توزن بها الأمور. فكان أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام قدّم المعيار النفعي بعد عدم اقتناع قومه بالمنطق العقلي، قال عليه الصلاة والسلام: {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ}[29] فالشيء الذي لا يأتي بفائدة ولا يخاف منه أي ضرر لا يستحق أن يتمسك به ولا أن يحذر منه. وهذا الكلام قاله إبراهيم بعد تقديم الدليل العملي المحسوس حيث هُدمت الأصنام ولا تقدر على الدفاع عن نفسها. فهذه حيثيات نفعية يقرها الشرع.
لا نسترسل في الاستشهاد بأدلة الشرع على أمور معروفة في شرعنا بداهة. فإن في رصيدنا الشرعي المعروف ما يميز بين الحق والباطل والنافع والضار. ولكنا أوردنا هذه الفكرة بقصد مراجعة المخزون التراثي لئلا ينزل الخطاب المقاصدي إلى مستوى أدنى من مستوى فكر وضعي لا يخلو من صواب. فإنه يجب الاعتراف بأن تراثنا الإسلامي لا يتمحض بالصواب والنافع. ففي التمييز بين الغث والسمين والمفيد وغير المفيد ارتقاء ضروري بمستوى الخطاب.
وأول شاهد على هذا الأمر هو الإمام الشاطبي الذي نبه على وجوب إجراء هذا التمييز في تراثنا الفقهي والأصولي، فقد اعتبر الشاطبي الخوض في المسائل التي ليس لها أثر عملي أمرا مستهجنا ومذموما شرعا. قال: “كل مسألة لا ينبني عليها عمل فالخوض فيها خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي.”[30] ورأى أن إدخال المسائل التي ليس لها ثمرة عملية في أصول الفقه لا يسوغ إلا باعتبارها دخيلة أو عارية حسب تعبيره رحمه الله.[31] وأكد في مقدمته الثامنة على أن العلم الذي هو العلم المعتبر شرعا – يعني الذي مدح الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أهله على الإطلاق- هو العلم الباعث على العمل.[32]
فقد مر في تاريخنا حين من الدهر لم يترك البحث العلمي من شارد ولا وارد إلا وخاض الناس فيه، وشغلوا به العامة والخاصة، ودُوّنوا كل ذلك الخلاف بغض النظر عن آثاره العملية. ويتمخض عن ذلك تراث ضخم غني بالآراء المطروحة واسعة الطيف تتسم بحرية التعبير وسعة النظر وتنوع الأفكار، ولكننا غير مطالبين بأخذ كله بقضه وقضيضه، مقبوله ومرفوضه. والمفارقة العجيبة أن فكر الإمام الشاطبي المقاصدي في عالمنا الإسلامي ظل مهملا قرونا طويلة، في حين أن الفلسفة النفعية حظيت بالعناية والترويج في العالم الغربي، وهذه المفارقة تفسر التباين الحاصل بين العالمَين في عصورنا المتأخرة، فتلك القرون الخالية شهدت انشغال المسلمين – وما زال كثير منهم – بالمسائل الفرعية التي لا تبني عملا ولا تغير واقعا، في الوقت الذي كان الغربيون يركزون على المسائل التي تصلح أوضاعهم وتقوّي مركزهم، ويتخلون عن الجدل العقيم الذي لا يترتب عليه عمل.
فمن هنا نعلم أن دور فقه المقاصد الذي دعا إليه الإمام الشاطبي لا يقتصر على بناء فقه المقاصد الشرعية وبيان مسائلها الفرعية، ولكنه أيضا دعا إلى تخليص تراثنا مما لا يعود على العمل بفائدة. فالمصالح الشرعية ليست أهدافا فقط لكنها أيضا معايير. وما أحوج الأمة الإسلامية إلى غربلة ما لديها من تراث واسع كبير، فإن حلبة السباق الحضاري لا تشفع لثقيل الأعباء وبطيء الحركة ومقيّد الخطوات.
ومع تبني الإمام الشاطبي لمبدإ المقاصد والمصالح فإنه لم يشطح كما شطح فلاسفة الغرب في اعتبار المنافع والمبالغة في تعظيم مكانتها. فإن طبيعة الحياة ونظام الكون لا يدلان على وجود المنفعة الخالصة التي “تؤهلها” لأن تكون قبلة القيم كلها وحكَم المبادئ جميعها، فإن المنفعة والمصلحة واللذة هي أمور مشوبة بضدها دائما. فهي من حيث الوجود الخالص في هذا العالم منعدمة إلا ويلحقها أو يسبقها أو يقترن بها ألم أو معاناة أو تعب. وهو أمر واضح اتفق عليه العقلاء.
قال الإمام الشاطبي: “فإن المصالح الدنيوية من حيث هي موجودة هنا لا يتخلص كونها مصالح محضة. وأعني بالمصالح ما يرجع إلى قيام حياة الإنسان وتمام عيشه ونيله ما يقتضيه أوصافه الشهوانية والعقلية على الإطلاق، حتى يكون منعما على الإطلاق. وهذا في مجرد الاعتياد لا يكون، لأن تلك المصالح مشوبة بتكاليف ومشاق، قلت أو كثرت، تقترن بها أو تسبقها أو تلحقها، كالأكل والشرب واللبس والسكنى والركوب والنكاح وغير ذلك. فإن هذه الأمور لا تنال إلا بكد وتعب. كما أن المفاسد الدنيوية ليست بمفاسد محضة من حيث مواقع الوجود إذ ما مفسدة تفرض في العادة الجارية إلا ويقترن بها أو يسبقها أو يتبعها من الرفق واللطف ونيل اللذات كثير. ويدلك على ذلك ما هو الأصل: وذلك أن هذه الدار وضعت على الامتزاج بين الطرفين والاختلاط بين القبيلين. فمن رام استخلاص جهة فيها لم يقدر على ذلك. وبرهانه التجربة التامة من جميع الخلائق. وأصل ذلك الأخبار بوضعها على الابتلاء والاختبار والتمحيص.”[33]
وهذه هي النقطة الفارقة بين العقل المستنير بنور الخالق الهادي سبحانه وبين العقل المتجرد عن نور الوحي. فإن العقل البشري كثيرا ما يخلط بين المعدوم والمجهول، وكثيرا ما يلحق ما أغفله بما أنكره. فإن التفرقة بين الأمرين لن تأتي بدليل محسوس، لكنه حكمة منحها الله لمن يشاء من عباده. ولا أعظم من نور الوحي الرباني في كشف هذه المجاهيل. قال تعالى: { وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُون}[34]
فالشرع الحكيم لم يعلق الحكم على المنافع وحدها من حيث الوجود لكن هناك معيار الموازنة الضرورية التي تنقذ الإنسان من التخبط. فالخطاب الشرعي خطاب مستوعب للمصالح بعد الموازنة والمفاضلة، وليس خطابا ميالا مع الغرائز الإنسانية الطائشة. كما قال تعالى في تمهيده للحكم النهائي في الخمر والقمار: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}[35]
فهي إذن موازنة خالصة لا تتدخل فيها الشهوات العمياء. فدعوى المنافع والمصالح غير كافية لتقرير الأحكام العامة. ولا نقول أن الغربيين ليس لهم مبدأ الموازنة، ولكن بأي ميزان يوازنون؟ إنه ميزان الفائدة نفسها. ومن يوازن؟ هم أصحاب المصالح وطلاب المنافع أنفسهم. فهي دائرة التخبط، ودوامة الصراع على المصالح، ماكثين فيها أبدا، ولا يَبغون عنها حِولاً.
إن الخطاب الشرعي لا يحكم لمجرد وجود المصالح، لكنه يُنيط الحكم دائما على المصلحة الغالبة الراجحة. ولا يعلق دائما على النظر العقلي المحدود النسبي، لأن له ثوابت لا يجرى فيها خلاف ولا ويسمح عنها شرود. ومع ذلك لم يهمل الشرع الحقائق النسبية التي لا يناسبها غير الحكم النسبي. ففي الشرع قضايا تكون أصولا قطعية ثابتة، تمثل ركائز هذا الدين ومعالمه الراسخة، ومن مسائلها ما تكون فرعية، وغالبا ما تكون ظنية الدلالة، وخاضعة للتغيرات وقابلة للاختلاف.
وحتى في أبواب الفقه التي يكثر فيها خلاف الفقهاء، فإن الأمور التي اتفقوا عليها هي ركائز أساسية في كل باب. نأخذ مثلا باب الصلاة، نعرف خلاف الفقهاء في وجوب الجهر بالبسملة وقراءة الفاتحة في كل ركعة، وهل تسقط عن المأموم بقراءة الإمام أم لا؟ إلى آخر مسائل الخلاف فيها، لكننا نعلم أن العلماء اتفقوا على وجوب إقامة الصلاة وأنها تشتمل على القيام والركوع والسجود وقراءة القرآن والأذكار والأدعية المأثورة. فصلاة المسلمين لا تختلف في أساساتها، وكلهم متوجهون إلى قبلة واحدة ويعبدون ربا واحدا، ثم لا يضر بعد ذلك بعض الاختلافات في التفاصيل التي لا تؤثر في وحدة المسلمين ولا تضر في علاقتهم مع رب العالمين.
وقد أكد الرسول هذا المعنى فقال: مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَذَلِكَ الْمُسْلِمُ الَّذِي لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ فَلَا تُخْفِرُوا اللَّهَ فِي ذِمَّتِهِ.[36]
وهناك فكرة تهدف إلى هدم بنيان الدين معتمدة على حقيقة أن المسائل الخلافية أكثر عددا من المسائل المجمع عليها، فيقول هؤلاء إن ما هو قطعي ثابت في الشريعة لا يتجاوز نسبة 5% وباقي أجزاء الشريعة نسبية ظنية مختلف فيها، فالشريعة الإسلامية لا تصلح أن تكون منظِّمة للحياة المعاصرة المعقدة لأن معظمها ظنية. فهذا كلام متشابه يلبس فيه الحق بالباطل ويخلط فيه الصحيح بالخطإ.
إن كثرة المسائل الخلافية في كتب الفقه لا تدل على أن معظم الشريعة ظنية غير يقينية، لأن المسائل الأساسية المهمة لا خلاف فيها، فلا خلاف بين العلماء أن إقامة العدل واجبة وإقامة البينة شرط لقبول دعوى قضائية، وكلهم متفقون على أن الربا محرمة والزنا محرمة… إلى آخر المسائل الإجماعية الكثيرة، وهي تمثل الأصول التي تنبني عليها الشريعة. ولا ضرر أن تكون هذه المسائل الأساسية معدودة محصورة، بل الأصلح والأحكم أن تكون الأصول الأساسية محدودة العدد ممدودة المدد. فكل نظام لا يصلح أن ينظم الحياة إلا إذا اشتمل على أسس ثابتة معدودة، وتفرعت عليها فروع فيها مرونة تتماشى مع التغيرات الحاصلة في حياة الناس، وتتغير بتغير الزمان والمكان والأحوال والأشخاص.
وهذا الوضع هو الأنسب والأحكم لتنظيم حياة البشر. فلو كان الدين كله ثابتا لضاق على الناس ولتعذر العمل به في كل الأحوال ومع كل الأشخاص. ولو كانت الشريعة كلها ظنية لسادت الفوضى وتميّعت الحياة وضاع النظام. فكان من حكمة الشريعة أن تشتمل على أصول راسخة ثابتة انبنت عليها الفروع الكثيرة المرنة التي تقبل التغير والاختلاف.
وجاءت الشريعة بالأمور التفصيلية في الأبواب التي تحتاج إلى تفصيل، وجاءت بالأمور المجملة في الميادين التي من طبيعتها التغير واختلاف الأحوال. ففي العبادات جاءت تفاصيل أحكامها، لأنه لو ترك لكل إنسان أن يخترع لنفسه عبادة خاصة لابتدع الناس أشياء ما أنزل الله بها من سلطان، ولأن العبادة تتعلق بأمور غيبية لا تعرف الناس ماهيتها فلا يمكن أن يتوصل الناس إلى الشكل الأنسب لهم في مصلحتهم الغيبية.
وكذلك باب المواريث لو ترك الناس يتصرفون كما يحلو لهم، لغلب الأقوياء على الضعفاء ولضاعت حقوق النساء مع غلبة الرجال، ولكن الله فرض للضعفاء المستحقين فروضا محددة وقدمهم على بقية الورثة؛[37] وخاصة حصص النساء، فإن أغلب ذوي الفروض منهن،[38] وأعطى الباقي للعصبة أصحاب النفوذ. وراعى الشارع فيها الحقوق في موازنة الواجبات، فأعطى للأبناء الذكور مثلي ما أعطى للأناث مراعاة لكثرة الواجبات المالية على الرجال دون النساء.[39] وحجب الإخوة بالأبوين، لأن حاجة الأبوين إلى الدعم المادي أكثر من حاجة الإخوة، بالإضافة إلى أن الأب عليه واجب الإنفاق على إخوة الميت الذين هم أبناء للأب في الغالب، إذا كانوا محتاجين، وشفقة الأم كافية لضمان مصلحة الإخوة.
وأما في مسائل الحياة العامة كالبيع والشراء فيكتفى الشرع ببيان صور الظلم المحرمة وبيان البيوع الفاسدة، أما العقود المشروعة فلم يحددها الشرع، لأن الإباحة هي الأصل في المعاملات. ومثله في الحياة السياسية العامة اكتفى الشارع بإعطاء الإرشادات العامة والمبادئ الأساسية، مثل مبادئ الشورى وواجب النصح للمسلمين وحرمة الخيانة إلى آخره… ثم ترك التفاصيل لاجتهاد الناس لأن تفاصيل الأمور فيها دائمة التغير، ولكي يتسع المجال للابتكار والتطوير.
وهكذا فإن الشريعة رُتّبت على ما هو أصلح للبشر وأنفع للخلق. ففيها الثبات الذي لا يضطرب باختلاف التجارب، مع المرونة التي لا تضيع مع تغير الأوضاع. وفيها الشمول الذي لا يهمل جانبا من جوانب الحياة، والاعتدال الذي لا يجنح بالإنسان إلى التطرف المهلك. وللشريعة الحزم الذي لا يتعطل به القرار بتأخر النتاج العلمي البشري، مع القناعة الراسخة التي لا تعتمد على نسبية الحواس والعقول.
إن المقاصد الشرعية السماوية أرقى من أن تقارَن بفكر بشري أرضي مهما كان بريقه، لكننا نطمح إلى ترقية صياغة خطابنا المقاصدي بمقارنته بأحرص عقل بشري على تحصيل المصالح. ولا نقف عند ذلك الحد فقط، فإن الوعي بمقاصد الشريعة لا يقف عند حرص الإنسان على إفادة نفسه، ولا يجوز أن تنقلب الشريعة إلى مجرد وسيلة لتلبية الرغبات المحددة. بل مقاصد الشريعة – مع ضمانها لمصالح الناس – أمانات مسؤولة ورسالات مؤداة وأدوار مشرِّفة. نعم، إن مقاصد الشريعة تنبئ عن اشتمال الدين للمصالح المرغوبة، ولكن الأمة لن ترتقي حالها ولن تعلو مكانتها إذا وقفت عند مصالحها الذاتية فقط ولم تؤد دورها في نفع الآخرين.
إن حصر مقاصد الشريعة في كونها محققة لمصالح المسلمين دون غيرهم يقلب الدين الإسلامي من كونه رحمة للناس كافة إلى كونه تكريسا لـ”الأنانية الدينية” أو “التشاوفينية”[40] (Chauvinism) الجديدة، وبالتالي وقعوا بذلك فيما وقعت فيه الأمم السابقة من دعوى احتكار الحقوق المقدسة وبخس الآخرين {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[41]
يجب دفع الخطاب المقاصدي إلى تأدية الدور الرسالي الذي ناطه الشرع على أكتاف المسلمين، وقد قال تعالى: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}[42]، فالمسلمون أمة أخرجها الله لتحقيق مصالح الناس من خلال دلالتهم على المعروف وتحذيرهم المنكر. وما المعروف إلا تحصيل المصالح، وما المنكر إلا اجتناب المضار.
فتحصيل المصالح إما أن يكون بموقف الآخذ المستفيد أو بموقف المعطي المفيد. وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى.[43] كما أن للقرآن صورتين للجهاد، صورة اليهود الذين قالوا: {وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا}[44] وصورة المؤمنين الذين خاطبهم الله بقوله: { وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا}[45] والجهاد الأول كان لحظوظ النفس والثاني لنفع الآخرين ونصر المظلومين، وبينهما ما بينهما.
والعالَم اليوم يشهد خطابين عالميَّين غريبين: خطاب “الشعب المختار” الذي لا يعرف لغيرهم حقا، وخطاب الشرطة العالمية والحماة لحقوق الإنسان والحرية والديمقراطية مع النفاق المعروف. فلا ينزل خطابنا المقاصدي إلى المستوى الأول الممقوت بأن يعادي كل مخالف في العقيدة دون تمييز بين مسالم ومحارب، ولا يجنح للخطاب الثاني المزخرف الكاذب بأن يفصل المنطق السياسي عن المبدإ الشرعي الإنساني.
إن تقرير الشرع لحقوق أهل الذمة والمستأمنين والمعاهدين ليس مجاملة يستميل بها الرأي العام العالمي، لكنه احترام لإنسانية من يقدر الحياة الإنسانية السلمية. {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}[46] ووثيقة المدينة التي قرر الرسول فيها الحقوق المشتركة لأهل المدينة بأسرها من مسلمين ويهود ومشركين مهما قيل عن ضعف سندها،[47] فإنها وثيقة رواها ابن إسحاق[48] ولا معارض لها من حيث المتن، فإن كل التشريعات الثابتة بحق أهل الذمة تقر بمضمون الوثيقة، وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم شهدت التزامه الدائم بمحتواها. والفقهاء لم يمانعوا من الأخذ بالحديث الضعيف إذا لم يكن في المسألة نص غيره، فكيف والأدلة الشرعية كلها تظافرت على صدق مبادئ هذه الوثيقة؟ وهي مفخرة عظيمة للمسلمين جميعا. لأنه ثبت بذلك أن الرسول هو أول من بنى دولة دستورية في تاريخ البشر على الإطلاق، ولم تكن هناك دولة قبل ذلك مبنية على مبدإ العقد الاجتماعي كمثل هذا الذي عقده الرسول العظيم – عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم. فأصل تاريخ المسلمين هو العطاء وليس التكالب على المصالح.
ولكن للارتقاء بهذا المستوى الرسالي المعطاء تحدٍ غير هين، فموقع العطاء يشترط المِلك لأن فاقد الشيء لا يعطيه. فالهدف الأسمى يشمل الأدنى وزيادة. ومتطلبات رقي الخطاب تنسحب على مستوى العمل والتحرك والأهداف. وذلك قد يقود الأمة إلى اختيار الطريق الصاعد الأصعب بدل النازل السهل الأقرب. وهو اختيار تلزمه حركة النهوض وتفرضه طريق الريادة العالمية.
ومن يتهيّب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحُفر
إن رفع هذا السقف من الخطاب لا يعلَّق ريثما تتمكن الأمة من إمساك زمام أمورها، لأن الرؤية المستقبلية لا بد أن تسبق الخطوات المتخذة وتتجاوز المرحلة الآنية. فالأمة بمجموعها مدعوة للتفاعل مع هذا الخطاب. ومن النماذج الجيدة للخطاب المقاصدي الرسالي الذي يدعو الأمة إلى التحرك الواقعي هو ما قدمه الدكتور جمال الدين عطية في النقاط الآتية:
أ-1- في الغذاء في مجال حفظ النفس يقع دون مرتبة الضرورات ملايين الضحايا الذين يموتون سنويا نتيجة المجاعات وسوء التغذية.
وفي السكن هناك الملايين من المشردين الذين لا مأوى لهم، حتى الخيام غير متوفرة لسكناهم وما يتعرضون له نتيجة ذلك من برد قاس في الشتاء.
ويقابل ذلك في مرتبة ما وراء التحسينيات ملايين تعيش حياة الترف والإسراف والتخمة سواء في الغذاء أو الكساء أو المسكن.
ب-1- في مجال حفظ الدين يقع دون مرتبة الضرورات أكثر الناس ممن لا يؤمنون بدين، بل ممن يؤمنون إيمانا نظريا لا يمارسون معه أي عبادات.
2- ويقابل هذا في مرتبة ما وراء التحسيني المغالون والمتنطعون والمنقطعون عن الحياة ظنا منهم أن هذا هو المطلوب منهم تقربا إلى الله.
ج-1- في مجال حفظ النسل يقع دون مرتبة الضرورات من لا تمنكه ظروفه من الزواج بالمرأة أو من يتأخر عن الزواج حتى سن متقدمة، وقد يستعيض عن الزواج المشروع بممارسات غير مشروعة، أو يبقى أسير الكبت والحرمان.
2- ويقابل ذلك من يشغله الجنس عن كل ما عداه فيسرف في علاقات غير مشروعة تزيد عما شرع له الزواج أو فطر عليه الإنسان، بل تصل ببعضهم إلى تبديل الأزواج كل أسبوع سعيا وراء متعة تخبو مع الزمن جذوتها وتفقد معناها.
وهكذا في سائر المجالات.[49]
ذلك ارتقاء بمستوى صياغة الخطاب المقاصدي، وثمة ارتقاء آخر مهم، قلّما تطرق إليه المقاصديون بعد الشاطبي رحمه الله. وهو ارتقاء بمستوى مقاصد المكلّفين. فإن النظر المصلحي في ديننا على ثلاث درجات، أعلاها درجة العبودبة الخالصة التي يسمو بها العبد عن حظوظ نفسه مع ضمان الشرع لها، ثم دونها درجة الالتزام الشرعي الذي يوازن فيها العبد بين التكاليف والحظوظ، ثم أدناها درجة الاستغلال التي تجعل الحظوظ هي القبلة المقصودة والغاية المنشودة بغض النظر عن مراد الشارع فيها، وهي حالة مذمومة.
إن فقه المقاصد لا يقتصر على كيفية تحقيق المقاصد المطلوبة لكنه أيضا يوجه ويهذب الدوافع المتعلقة بها. فإن للدوافع آثارا مهمة على مسار تطبيق الشريعة وصيرورة تحقيق المقاصد. فقصد الشارع من المكلَّف – كما أكده الشاطبي- أن يكون قصده فى العمل موافقا لقصده فى التشريع.[50] فالصورة المثالية أن تتجه إرادتا المشرّع سبحانه والمكلف إلى اتجاه واحد. ولكن الناس الممتثلين لأوامر الشرع دوافعهم في الامتثال على درجات؛ فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله. فعلاقة مقاصد الشارع بمقاصد المكلفين على ثلاث مراتب:
أفضل هذه المراتب وأحبها إلى الله وأقربها إلى قصد الشارع الأصلي هي أن يمتثل العبد تعبدا لله بغضّ النظر عن المصالح التي يجنيها من هذا الامتثال. وهذا قمة في الإخلاص وغاية في صفاء النية، لأنه –كما قرره الشاطبي أيضا- إن المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه، حتى يكون عبدا لله اختيارا، كما هو عبد لله اضطرارا.[51]
واستدل الإمام الشاطبي هذه القاعدة على أربع حقائق: الأولى: النصوص الكثيرة تفيد أن العباد خلقوا للتعبد لله، والدخول تحت أمره ونهيه، كقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ . مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ}[52] وقوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ}.[53]
والثانية: قيام أدلة النهي عن اتباع الهوى فقد جعل الله اتباع الهوى مضادا للحق وعده قسيما له كما فى قوله تعالى { يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ }[54] الآية وقال تعالى { فَأَمَّا مَنْ طَغَى . وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا . فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى }[55] وقال فى قسيمه {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى . فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى }[56] وقال { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى . إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى }[57] فقد حصر الأمر فى شيئين الوحى وهو الشريعة والهوى فلا ثالث لهما. وإذا كان كذلك فهما متضادان، وحين تعيّن الحق فى الوحى توجه للهوى ضده. فاتباع الهوى مضاد للحق. وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ }[58] وقال: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ}[59] وقال: { أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُم }[60] وقال: { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُم }[61] وتأمل فكل موضع ذكر الله تعالى فيه الهوى فإنما جاء به فى معرض الذم له ولمتبعيه. وقد روى هذا المعنى عن ابن عباس أنه قال: ما ذكر الله الهوى فى كتابه إلا ذمه.[62] فهذا كله واضح فى أن قصد الشارع الخروج عن اتباع الهوى والدخول تحت التعبد للمولى.
والثالثة: ما علم بالتجارب والعادات من أن المصالح الدينية والدنيوية لا تحصل مع الاسترسال فى اتباع الهوى والمشي مع الأغراض، لما يلزم فى ذلك من التهارج والتقاتل والهلاك الذى هو مضاد لتلك المصالح. ولذلك اتفق العقلاء على ذم من اتبع شهواته، وسار حيث سارت به، حتى إن من تقدم ممن لا شريعة له يتبعها، أو كان له شريعة درست كانوا يقتضون المصالح الدنيوية بكف كل من اتبع هواه فى النظر العقلي.[63]
وهذا التجرد وعدم الالتفات إلى الحظوظ لا يفوّت المصالح عن العباد، بل البركة والفائدة الناتجة عن هذا الإخلاص تتحقق أكثر مما لو كان العبد يلتفت إليها وينشغل بها. لأن موافقة قصد الشارع كافية لضمان حصول المصالح المترتبة على إيقاع الطاعات. وقد سبق الكلام عن ارتباط الصلاح الدنيوي بالصلاح الديني في الباب الثاني ففيه التفصيل للمسألة.
إن الامتثال الكامل والاستسلام المطلق لشرع الله أضمن لمصالح العباد من اعتماد اعتقاد البشر، لأن الخالق سبحانه وتعالى أعلم بالمنافع والمضار قال تعالى: {وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُون}[64]
وقد رأى الشاطبي رحمه الله أن هذا الامتثال المجرد أكمل وأسلم من الالتفات إلى المصالح بالموازاة مع قصد التعبد. وبين ذلك فقال: “أما كونه أكمل؛ فلأنه نصب نفسه عبدا مؤتمرا، ومملوكا ملبيا؛ إذ لم يعتبر إلا مجرد الأمر. أيضا، فإنه لما امتثل الأمر؛ فقد وكل العلم بالمصلحة إلى العالم بها جملة وتفصيلا، ولم يكن ليقصر العمل على بعض المصالح دون بعض، وقد علم الله تعالى كل مصلحة تنشأ عن هذا العمل؛ فصار مؤتمرا في تلبيته التي لم يقيدها ببعض المصالح دون بعض.
وأما كونه أسلم؛ فلأن العامل بالامتثال عامل بمقتضى العبودية، واقف على مركز الخدمة، فإن عرض له قصد غير الله رده قصد التعبد، بل لا يدخل عليه في الأكثر، إذا عمل على أنه عبد مملوك لا يملك شيئا ولا يقدر على شيء، بخلاف ما إذا عمل على جلب المصالح؛ فإنه قد عد نفسه هنالك واسطة بين العباد ومصالحهم، وإن كان واسطة لنفسه أيضا؛ فربما داخله شيء من اعتقاد المشاركة؛ فتقوم لذلك نفسه. وأيضا؛ فإن حظه هنا ممحوّ من جهته، بمقتضى وقوفه تحت الأمر والنهي، والعمل على الحظوظ طريق إلى دخول الدواخل، والعمل على إسقاطها طريق إلى البراءة منها.”[65]
وفي هذا السياق روي عن عن علي رضي الله عنه أنه قال: أن قوما عبدوا رغبة فتلك عبادة التجار, وأن قوما عبدوا رهبة فتلك عبادة العبيد, وأن قوما عبدوا شكرا فتلك عبادة الأحرار.[66]
ومع ذلك فإن ذلك لا ينطبق على المصالح الأخروية والرغبة فيما عند الله والخوف منه تعالى، لأن الله تعالى مدح الأنبياء وهم أفضل من يعبد الله وأعرف من يمتثل أمر الله قال تعالى في حقهم: { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِين}[67] ومدح الصالحين العابدين القانتين بوصفهم {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ}[68]
فالمصالح التي حبذ الشرع عدم الحرص عليها هي المصالح الدنيوية العاجلة كما ورد عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا أَنَا عَمِلْتُهُ أَحَبَّنِي اللَّهُ وَأَحَبَّنِي النَّاسُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللَّهُ وَازْهَدْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ يُحِبُّوكَ.[69]
أما الزهد فيما عند الله فلا يرِد في الشرع ما يدل على استحسانه. بل إن من مقتضى كرمه تعالى أن يحث الناس على طلب ما عنده سبحانه من الفضل والعطاء، قال تعالى: { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِين}[70]
وعَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ. ثُمَّ قَرَأَ: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي}.[71]
إن أهمية تبنّي هذا الموقف تكمن في كونه يدفع إلى تحقق العدالة والإنصاف بين الناس، وتجنيبهم التصارع على الحظوظ، وخاصة إذا كان المتصفون بهذه السمة هم أصحاب النفوذ وصناع القرار. فإن أخطر ما يهدد نزاهة السياسات العامة هو التفافٌ على دعوى المصلحة العامة. ومن روائع فقه الشاطبي أن جعل الولايات العامة والمناصب العامة للمصالح العامة من الأعمال الكفائية التي لم يعتبر فيها الشرع حظ المكلف بالقصد الأول على حال.[72]
ونحن مدعوون إلى تكريس هذا الأمر، وقليل من المتكلمين في موضوع مقاصد الشريعة من يُدخل هذا الموضوع في مباحث المقاصد. وحصل جراء ذلك خلط بين تبني المصالح المشروعة وقصد الحظوظ المحذورة. ونشأ بسبب ذلك متفقهة لا يفرّقون بين تحقيق المقاصد الشرعية العامة وبين التسامي عن حظوظ الدنيا.
إن تحقيق مقاصد الشريعة لا يستلزم الحرص على الحظوظ العاجلة، كما أن الزهد في الدنيا لا يجنب الإنسان عن مزوالة الإعمار في الأرض وتحقيق المقاصد الشرعية التي لا تحصل إلا بالأعمال الدنيوية. وقد يعمل الإنسان الأعمال الدنيوية وقلبه لا يريد إلا ثواب الآخرة، ويعمل آخر الأعمال الأخروية وقلبه لا يطمع إلا في نتائجها الدنيوية العاجلة. والفارق بينهما النية، وهذه النية الصادقة لا تثمرها غير تزكية النفوس وتصفية القلوب، ولا يجيدها من يكتفي بالفقه الظاهر التقليدي.
من هنا تأتي أهمية دمج الفقه بالمواعظ وأحاديث الرقائق، وتتأكد خطورة ترك مادة الفقه جافة خاوية بعيدة عن العناية بالأعمال القلبية. ولا بد للفقه من أن يستفيد من أسلوب القرآن الكريم في معالجة الأحكام بحيث دمج القرآن دائما الأحكام العملية بالحقائق الإيمانية، وربط استقامة الحياة بصلاح القلوب.
ورغم أن التجرد عن الحظوظ أفضل وأرقى لكنّ قدرا من الالتفات إلى المصلحة جائز شرعا. حدد الإمام الشاطبي ذلك في صورتين:
الأولى: أن يقصد بالمصلحة ما فهم من مقصد الشارع في شرعها إذا لم يخلِه من قصد التعبد.
والثانية: أن يقصد بها ما عسى أن يقصده الشارع، مما اطلع عليه أو لم يطلع عليه، وهذه أكمل من الأولى؛ إلا أنه ربما فاته النظر إلى التعبد، والقصد إليه في التعبد، فإن الذي يعلم أنه هذا العمل شرع لمصلحة كذا، ثم عمل لذلك القصد؛ فقد يعمل العمل قاصدا للمصلحة، غافلا عن امتثال الأمر فيها؛ فيشبه من عملها من غير ورود أمر، والعامل على هذا الوجه عمله عادي فيفوت قصد التعبد، وقد يستفزه فيه الشيطان فيدخل عليه قصد التقرب إلى المخلوق، أو الوجاهة عنده، أو نيل شيء من الدنيا، أو غير ذلك من المقاصد المردية بالأجر، وقد يعمل هنالك لمجرد حظه؛ فلا يكمل أجره كمال من يقصد التعبد.[73]
والحقيقة أن الالتفات إلى الحظ ليس كله مذموما أو ممنوعا. بل الشارع الحكيم رتب على ميل الإنسان نحو حظوظه أحكاما توفر لهم مصالحهم. فإن المقاصد الشرعية على ضربين: أحدهما: ما كان للمكلف فيه حظ عاجل مقصود، كقيام الإنسان بمصالح نفسه وعياله في الاقتيات واتخاذ المسكن والملبس وما يلحق بها كالبيوع والإجارات والأنكحة وغيرها. فهذا النوع من المقاصد المشروعة لما كان للإنسان فيه باعث من نفسه يستدعيه إلى طلب ما يحتاج إليه وكان ذلك الداعي قويا بحيث يحمله قهرا على ذلك، لم يؤكد الشرع عليه الطلب إلى نفسه. بل جعل الاحتراف والتكسب والنكاح على الجملة مطلوبا طلب الندب لا طلب الوجوب، كثيرا ما يأتي في معرض الإباحة. كقوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}[74] وقوله: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}[75] وقوله: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا}[76]
والضرب الثاني: ما ليس فيه حظ عاجل مقصود كالعبادات البدنية والمالية من الطهارة والصلاة والصيام الزكاة والحج وما أشبه ذلك، أو من فروض الكفايات كالولايات العامة من الخلافة والقضاء والجهاد وغير ذلك من الأمور التي شرعت عامة لو فرض عدمها أو ترك الناس لها لانخرم النظام. ففي هذا القسم لما لم يكن فيه حظ عاجل مقصود أكد القصد إلى فعله بالإيجاب ونفيه بالتحريم.[77]
إن هذا النظام التشريعي الإسلامي الذي يجمع بين السمو الروحي المتجرد وبين استعياب المصالح بشكل يحقق المقاصد الشرعية العامة يعدّ تجليا من تجليات رحمة الله بعباده وصورة من صور سماحة التشريع، لـم يحارب الإسلام غريزة الإنسان في حرصه على مصلحته بل وجهه توجيها يجنبه الوقوع في مصارع الشهوات ويوصله مواطن البركات.
إن الشرع الحكيم قصد هذا الاندماج بين مصلحتين دنيوية وأخروية، روحية ومادية قال الشاطبي: “… وذلك أن حكمة الحكيم الخبير حكمت أن قيام الدين والدنيا إنما يصلح ويستمر بدواع من قبل الإنسان تحمله على اكتساب ما يحتاج إليه هو وغيره، فخلق له شهوة الطعام والشراب إذا مسه الجوع والعطش؛ ليحركه ذلك الباعث إلى التسبب في سد هذه الخلة بما أمكنه، وكذلك خلق له الشهوة إلى النساء لتحركه إلى اكتساب الأسباب الموصلة إليها، وكذلك خلق له الاستضرار بالحر والبرد والطوارق العارضة، فكان ذلك داعية إلى اكتساب اللباس والمسكن، ثم خلق الجنة والنار، وأرسل الرسل، مُبينةً أن الاستقرار ليس ههنا، وإنما هذه الدار مزرعة لدار أخرى، وأن السعادة الأبدية والشقاوة الأبدية هنالك، لكنها تكتسب أسبابها هنا بالرجوع إلى ما حده الشارع، أو الخروج عنه، فأخذ المكلف في استعمال الأمور الموصلة إلى تلك الأغراض، ولم يجعل له قدرة على القيام بذلك وحده، لضعفه عن مقاومة هذه الأمور، فطلب التعاون بغيره، فصار يسعى في نفع نفسه واستقامة حاله بنفع غيره، فحصل الانتفاع للمجموع بالمجموع، وإن كان كل أحد إنما يسعى في نفع نفسه.
فمن هذه الجهة صارت المقاصد التابعة خادمة للمقاصد الأصلية ومكملة لها، ولو شاء الله لكلف بها مع الإعراض عن الحظوظ، أو لكلف بها مع سلب الدواعي المجبول عليها، لكنه امتن على عباده بما جعله وسيلة إلى ما أراده من عمارة الدنيا للآخرة، وجعل الاكتساب لهذه الحظوظ مباحا لا ممنوعا، لكن على قوانين شرعية هي أبلغ في المصلحة وأجرى على الدوام مما يعده العبد مصلحة {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُون}[78]، ولو شاء لمنعنا في الاكتساب الأخروي القصد إلى الحظوظ، فإنه المالك وله الحجة البالغة، ولكنه رغبنا في القيام بحقوقه الواجبة علينا بوعد حظي لنا، وعجل لنا من ذلك حظوظا كثيرة نتمتع بها في طريق ما كلفنا به، فبهذا اللحظ قيل: إن هذه المقاصد توابع، وإن تلك هي الأصول، فالقسم الأول يقتضيه محض العبودية، والثاني يقتضيه لطف المالك بالعبيد.[79]
إن سماحة الشرع ورحمته في فتح باب المصلحة لا تعني الاسترسال في النظر المصلحي المطلق. لأنه يجب أن لا يخضع المسلم لداعي هواه ليكون عبدا لله. فمن القواعد المقررة في الشرع أن كل عمل كان المتبع فيه الهوى بإطلاق من غير التفات إلى الأمر أو النهي أو التخيير، فهو باطل بإطلاق؛ لأنه لا بد للعمل من حامل يحمل عليه، وداع يدعو إليه، فإذا لم يكن لتلبية الشارع في ذلك مدخل، فليس إلا مقتضى الهوى والشهوة، وما كان كذلك، فهو باطل بإطلاق؛ لأنه خلاف الحق بإطلاق.
فأما العبادات، فكونها باطلة ظاهر، لأن الله لا يقبل فيها الإشراك بأي شكل من الأشكال. وأما العادات، وإن كان لا تشترط في صحة انعقادها النية، ولكن الثواب يترتب على مقتضى الأمر والنهي، إذا تصرف العبد فيها بغير قصد الامتثال لا يستحق الأجر على ذلك، وإن كان لا يأثم ما دام لم يقترف حراما. وكذلك إذا لم يلتفت إلى إذن الشرع لكونه المنعم به المتفضل به سبحانه.
فكل فعل كان الدافع فيه مراعاة أمر الشرع أو نهيه أو تخييره، فهو صحيح وحق؛ لأنه قد أتى من طريقه الموضوع له، ووافق فيه صاحبه قصد الشارع، فكان كله صوابا، وهو ظاهر.
إن النقطة الفاصلة في هذه المرتبة هي قصد التعبد المطلوب مع إرادة المصلحة المأذونة, فإذا انفرد القصد الأول التحق بالمرتبة الأولى، وإذا انفرد الإرادة الثانية هبطت إلى المرتبة الثالثة وهي مرتبة الاستغلال المذموم والتحايل المحرم، وإن امتزج القصدان فالحكم للغالب والسابق.
كما قرره الشاطبي رحمه الله أنه إذا امتزج الأمران، فكان معمولا بهما، فالحكم للغالب والسابق، فإن كان السابق أمر الشارع بحيث قصد العامل نيل غرضه من الطريق المشروع، فلا إشكال في إلحاقه بالقسم المقبول، وهو ما كان المتبع فيه مقتضى الشرع خاصة؛ لأن طلب الحظوظ والأغراض لا ينافي وضع الشريعة من هذه الجهة؛ لأن الشريعة موضوعة أيضا لمصالح العباد، فإذا جعل الحظ تابعا، فلا ضرر على العامل. إلا أن هنا شرطا معتبرا، وهو أن يكون ذلك الوجه الذي حصل أو يحصل به غرضه مما تبين أن الشارع شرعه لتحصيل مثل ذلك الغرض، وإلا فليس السابق فيه أمر الشارع. وإن كان الغالب والسابق هو الهوى وصار أمر الشارع كالتبع، فهو لاحق بالقسم المذموم.
وعلامة الفرق بين القسمين تحري قصد الشارع وعدم ذلك، فكل عمل شارك العامل فيه هواه، فانظر؛ فإن كف هواه ومقتضى شهوته عند نهي الشارع، فالغالب والسابق لمثل هذا أمر الشارع، وهواه تبع، وإن لم يكف عند ورود النهي عليه، فالغالب والسابق له الهوى والشهوة، وإذن الشارع تبع لا حكم له عنده، فواطئ زوجته وهي طاهر محتمل أن يكون فيه تابعا لهواه، أو لإذن الشارع، فإن حاضت فانكف، دل عل أن هواه تبع، وإلا؛ دل على أنه السابق.[80]
وما بعد تلك المرتبة إلا حافة الهاوية، هاوية الهوى باستغلال الشرع لنيل ما تهوى الأنفس وما تمليه الشهوات. قال الشاطبي: كل من ابتغى في تكاليف الشريعة غير ما شرعت له فقد ناقض الشريعة.[81]
ومن تمام الشريعة المحمدية أن يشمل بيانها كل صور الامتثال التي يمكن أن تصدر عن البشر بما فيها صورة الاستغلال الديني والتحايل الفقهي. لم يقتصر التصور الشرعي على ثنائية حادة بين صور الموافقة والمخالفة. فقد تكون الموافقة الظاهرة الشكلية تستبطن مخالفة خطيرة تنسف تلك الصورة الظاهرة. إن ممارسة التعاليم الشرعية قد لا تكون موافقة لمقاصد الشريعة إذا كان التطبيق يستخدم لتحقيق المصالح الدنيوية البحتة.
وقد شدد الرسول صلى الله عليه وسلم على من جعل العبادة مجرد وسيلة لنيل المصالح الدنيوية. ومن ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “بَشِّرْ أُمَّتِي بِالسَّنَاءِ[82] والرِّفْعَةِ وَالتَمْكينِ فِي الْأَرْضِ، مَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ عَمَلَ الْآخِرَةِ يُرِيدُ بِهَا الدُّنْيَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْآخِرَةِ نَصِيبٌ.”[83]
رغم بشارة الرسول صلى الله عليه وسلم بقدوم حالة القوة والتمكين للمسلمين لكنه عليه الصلاة والسلام حذر أمته من الوقوع في مصيدة الاغترار بدار الغرور. وهذا الأمر يجري في أشرف أعمال الآخرة كالجهاد في سبيل الله، فرغم شرف العمل لكنه إذا اختلطت فيه النية فليس للعامل به من الله ثواب.
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَجُلٌ يُرِيدُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَهُوَ يَبْتَغِي عَرَضًا مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا أَجْرَ لَهُ.
فَأَعْظَمَ ذَلِكَ النَّاسُ، وَقَالُوا لِلرَّجُلِ: عُدْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَعَلَّكَ لَمْ تُفَهِّمْهُ.
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَجُلٌ يُرِيدُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَهُوَ يَبْتَغِي عَرَضًا مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا.
فَقَالَ: لَا أَجْرَ لَهُ.
فَقَالُوا لِلرَّجُلِ: عُدْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ لَهُ الثَّالِثَةَ.
فَقَالَ: لَهُ لَا أَجْرَ لَهُ.[84]
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا.
قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟
قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ.
قَالَ: كَذَبْتَ! وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ: “جَرِيءٌ”، فَقَدْ قِيلَ.
ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ.
وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا.
قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟
قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ.
قَالَ: كَذَبْتَ! وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ: “عَالِمٌ” وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: “هُوَ قَارِئٌ” فَقَدْ قِيلَ.
ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ.
وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا.
قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟
قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ.
قَالَ: كَذَبْتَ! وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ: “هُوَ جَوَادٌ” فَقَدْ قِيلَ.
ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ.[85]
وسر هذا الوعيد على من جعل العبادات مجرد أداة لنيل المصالح هو كونه اتباعا للهوى وليس انصياعا لأمر الرحمن. لذلك قال الإمام الشاطبي: “أن اتباع الهوى طريق إلى المذموم وإن جاء في ضمن المحمود.”[86]
وقال أيضا: “أن اتباع الهوى في الأحكام الشرعية مظنة لأن يحتال بها على أغراضه، فتصير كالآلة المعدة لاقتناص أغراضه، كالمرائي يتخذ الأعمال الصالحة سلّما لما في أيدي الناس، وبيان هذا ظاهر، ومن تتبع مآلات اتباع الهوى في الشرعيات وجد من المفاسد كثيرا.”[87]
والنفاق داخل في هذه المرتبة أيضا، فإنه صورة التزام بالشرع مع قيام قصد المخالفة له، بل رفض معناه مع قيام مبناه. وهو أسوأ حالات الإنسان، لأنه يتحمل مشقته ويحرم نتائجه. عياذا بالله.
وفي هذا السياق أيضا تُمنع الحِيَل على الأحكام الشرعية. وليس كل مسائل الحيل متفقا على تحريمها بين الفقهاء، لكن القاعدة: أن الحيلة التي تمت فيها مناقضة لمقصود الشرع، فهي داخلة في هذه المرتبة التي لا يراعى فيها قصد الشارع، وإنما تغلّب فيها المصلحة المطلوبة على الحدود المشروعة.
[1] هي بريطانيا وكندا والولايات الأمريكية المتحدة وأستراليا نيو زيلاند وأيرلاندا وهي الدول التي أغلب سكانها من ذوي الأصول الأنجلو سكسونية. فهذه الدول تمتلك خاصية مميزة من حيث الفلسفة والثقافة والاقتصاد والقانون عن باقي الدول الأوربية.
[2] Hedonism, 2004-04-20 Stanford Encyclopedia of Philosophy
[3] Wilson, John A. (1969). Ancient Near Eastern Texts Relating to the Old Testament. New Jersey: Princeton University Press. p. 467.
[4] ديموقريطوس (يونانية: Δημόκριτος) فيلسوف يوناني ولد في أبديرة، تراقيا 460 ق.م – 370 ق.م اشتهر بـالفيلسوف الضاحك. كان أحد الفلاسفة المؤثرين في عصر ماقبل سقراط وكان تلميذا للفيلسوف ليوكيبوس، الذي صاغ النظرية الذرية للكون. ورث من والده أموال طائلة واستنفذ أمواله في الرحلات التي كان مولعا بها وزار مصر وتعلم الرياضيات من الكهنة المصريين، ثم ذهب إلى بلاد فارس ثم إلى الهند وحاور الفلاسفة العراة فيها ثم عاد إلى أثينا وقابل سقراط وتعرف عليه. (ديمورقطوس، فيلسوف الذرة وأثرة في الفكر الفلسفي حتى عصورنا الحديثة، للدكتور.علي سامي النشار)
[5] C.C.W. Taylor, “Democritus”, in C. Rowe & M. Schofield (eds.), Greek and Roman Political Thought, Cambridge 2005. p. 125
[6] أبيقور (Epicurus) هو فيلسوف يوناني قديم، وصاحب مدرسة فلسفية سميت باسمه (الإبيقوريّة) غاية الفلسفة بالنسبة لإبيقور كانت الوصول للحياة السعيدة والمطمئنة ولها خاصتين : “Ataraxia “، وتعني الطمأنينة، و السلام، والتخلص من الخوف و” Aponia ” وتعني غياب الألم، والاكتفاء الذاتي محاطاً بالأصدقاء. قال إبيقور أن السعادة والألم هما مقياس الخير والشر، وأن الموت هو نهاية الجسد والروح ولهذا لا ينبغي أن نرهبه، وأن الآلهة لا تكافئ أو تعاقب البشر، وأن الكون لا نهائي وأبدي، وأن أحداث الكون تعتمد بالأساس على حركات وتفاعلات الذرات في الفراغ. (أبيقور http://ar.wikipedia.org/wiki/)
[7] الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب: 1/147
[8] هم علماء ذوو توجه فلسفي يؤمن أن كامل المعرفة الإنسانية تاتي بشكل رئيسي عن طريق الحواس والخبرة. تنكر الفلسفة التجريبية وجود أية أفكار فطرية عند الإنسان أو أي معرفة سابقة للخبرة العملية. دعا أصحاب هذه المدرسة إلى الاعتماد الكلي على معطيات التجارب المحسوسة، وتفوقت هذه المدرسة على المدرسة العقلانية في الإنجازات التقنية والاكتشافات العلمية الجديدة مما جعلها تكسب قبولا واسعا لدى الأوساط العلمية العالمية في العصر الحديث.
[9] رينيه ديكارت (31 مارس 1596 – 11 فبراير 1650)، فيلسوف، ورياضي، وفيزيائي فرنسي، يلقب بـ”أبو الفلسفة الحديثة”، وكثير من الأطروحات الفلسفية الغربية التي جاءت بعده، هي انعكاسات لأطروحاته، والتي ما زالت تدرس حتى اليوم. وهو الشخصية الرئيسية لمذهب العقلانية في القرن17م، كما كان ضليعا في علم الرياضيات، فضلا عن الفلسفة، وأسهم إسهاما كبيرا في هذه العلوم، وهو صاحب المقولة الشهيرة: “”أنا أفكر، إذن أنا موجود“. (Oeuvres de Descartes in 11 vols. Adam, Charles, and Tannery, Paul, eds. Paris: Librairie Philosophique J. Vrin.)
[10] جيريمي بنثام (بالإنجليزية: Jeremy Bentham) عاش في الفترة (15 فبراير 1748 – 6 يونيو 1832) هو عالم قانون وفيلسوف إنكليزي، ومصلح قانوني واجتماعي، وكان المنظر الرائد في فلسفة القانون الأنجلو-أمريكي. ويشتهر بدعواته إلى النفعية و حقوق الحيوان. كما شملت مواقفه الحجج المؤيدة للفرد، و الحرية الاقتصادية، الفائدة، و الفصل بين الكنيسة والدولة، حرية التعبير، والمساواة في الحقوق للمرأة، الحق في الطلاق، كما طالب بإلغاء الرق وعقوبة الإعدام وإلغاء العقوبات البدنية، بما في ذلك للأطفال. (Boralevi, Lea Campos (1984). Bentham and the Oppressed. Berlin: De Gruyter.)
[11] It is the greatest happiness of the greatest number that is the measure of right and wrong
(Bentham, Jeremy (1776). A Fragment on Government. London., Preface 2nd para.)
[12] جون ستيوارت ميل هو فيلسوف واقتصادي بريطاني، ولد في لندن عام 1806 م، وكان البكر لأسرة كبيرة أنجبت تسعة أولاد، وكان والده جيمس ميل أحد كبار أهل العلم والمعرفة في القرن الثامن عشر. وكان يجاهر باستمرار بأن السعادة هي الغاية الحميدة للوجود البشري، وكان ما يخشاه ويمقته ضيق الأفق وسحق الأفراد من قبل وطأة السلطة أو العادة أو الرأي العام، لذا وفق بحزم ضد عبادة النظام. (موسوعة السياسة للدكتور عبد الوهاب الكيالي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الثالثة، 1990، الجزء السادس ص 519).
[13] أسس اللبرالية السياسية، ترجمة وتحقيق: د. إمام عبد الفتاح إمام– ميشيل متياس، مكتبة مدبولي، الطبعة الأولى، 1996
[14] الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة: 2/152
[15] قد تترجم البراغماتية بـ”الفِعْلانية” كمصطلح عربي ينقل معنى المقابل الأجنبي بالإنجليزية: Pragmaticism الذي يرجع إلى الأصل اليوناني پراغما باليونانية (πραγμα) بمعنى فعل. (الفعلانية http://ar.wikipedia.org/wiki/)
[16] شارل ساندز پيرس (بالإنجليزية: Charles Sanders Peirce) فيلسوف أمريكي (10 سبتمبر 1839–19 أبريل1914) يُعدّ مؤسس الفِعْلانية أو العَمَلانِيَّة (Pragmatism) مع وليم جيمس، كما يُعتبر إلى جانب فرديناند دي سوسير، أحد مؤسسي السيميائيات المعاصرة في العقود الأخيرة، أعيد اكتشاف فكره بحيث صار أحد كبار المُجدِّدين، خصوصا في منهجية البحث وفلسفة العلوم. ولد في كامبردج بولاية مساسوشتس عام. اشتغل محاضرا في المنطق بين 1879 و1884 بجامعة جون هوبكنز. توفي عام 1914 بسبب سرطان بعد 26 سنة من الاشتغال الغزير بالكتابة. (Cadwallader, Thomas C. (1974), “Charles S. Peirce (1839-1914): The first American experimental psychologist“, Journal of the History of the Behavioral Sciences, v. 10, issue 3, pp. 291–8, July.)
[18] Peirce, C. S. (1877), The Fixation of Belief, Popular Science Monthly, v. 12, pp. 1–15.
[19] Peirce, C. S. (1878), “How to Make Our Ideas Clear“, Popular Science Monthly, v. 12, 286–302.
[20] وليم جيمس (William James) [11 يناير 1842 – 26 أغسطس 1910] فيلسوف أمريكي ومن رواد علم النفس الحديث. كتب كتبا مؤثرة في علم النفس الحديث وعلم النفس التربوي، وعلم النفس الديني والتصوف، والفلسفة البراغماتية. وهو فيلسوف الحرية له العديد من المؤلفات منها: الإرادة، الاعتقاد، مبادئ علم النفس، البراغماتية. (ويليام_جيمس http://ar.wikipedia.org/wiki/)
[21] William James. “Pragmatism’s Conception of Truth”. Lecture 6 in Pragmatism: A New Name for Some Old Ways of Thinking. New York: Longman Green and Co (1907): p. 83.
[22] The Eighth United Nations Survey on Crime Trends and the Operations of Criminal Justice Systems (2002) (United Nations Office on Drugs and Crime, Centre for International Crime Prevention)
المصدر: http://www.nationmaster.com/red/pie/cri_tot_cri-crime-total-crimes
[24] “Suicide trends in rich and poor countries”. Daily Times. 2010-09-28. Retrieved 2011-07-29.
[25] Thomas R. Pegram, Battling Demon Rum: The Struggle for a Dry America, 1800-1933 (1998)
Jeffrey A. Miron, “Alcohol Prohibition” Eh.Net Encyclopedia (2005)
[26] يعني شرب الخمر.
[27] Letter on Prohibition – see Daniel Okrent, Great Fortune: The Epic of Rockefeller Center, New York: Viking Press, 2003. (pp.246/7).
[28] أخرجه الترمذي (9/301 رقم: 2611) وابن ماجه (12/205 رقم: 4159) بسند فيه ضعف. وأخرجه القضاعي بإسناد آخر مرسلا (1/235 رقم: 139). ولكن له شواهد قد ترفعه إلى درجة القبول (انظر كشف الخفاء: 1/363 رقم: 1159، والمقاصد الحسنة: 1/310-312 رقم: 415). وأخرجه ابن عبد البر بسنده موقوفا على علي بن ابي طالب رضي الله عنه في (جامع بيان العلم وفضله: 1/482 رقم: 458) بلفظ: “الحكمة ضالة المؤمن يطلبها ولو في أيدي الشرط.”
[29] سورة الأنبياء: ٦٦
[30] الموافقات: 1/46
[31] الصدر السابق: 1/39-45
[32] الصدر السابق: 1/69
[33] الموافقات: 2/25-26
[34] سورة البقرة: ٢١٦
[35] سورة البقرة: ٢١٩
[36] أخرجه البخاري: 2/150 رقم: 378
[37] لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ. أخرجه البخاري (20/459 رقم: 6238) ومسلم (8/336 رقم: 3028)
[38] وهن: البنت وبنت الابن- وإِن نزل أبوها- بمحض الذكور والأم والزوجة والجدة من قبل الأم والجدة من قبل الأب والأخت الشقيقة والأخت لأب والأخت لأم. فهذه الأصناف التسعة ترث عن طريق الفروض، أما الرجال من أصحاب الفروض فهم ثلاثة أصناف فقط: الزوج والأب مع وجود الأم والإخوة لأم في حالة عدم الفروع أو الأصول.
[39] قال تعالى: { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} سورة النساء: 34. هذا في واجب الإنفاق على الزوجة أضف إلى ذلك الإنفاق على بقية العيال.
[40] مبدأ فكري يرى أن الشعب المعين أرقي من بقية الشعوب، كاعتقاد هتلر أن الألمان فوق كل الشعوب، واعتقاد اليبانيين أيام الحرب العالمية الثانية أن اليبانيين أفضل الشعوب، وهكذا مما يبرر احتكار بعض الشعوب للحقوق الأساسية دون غيرهم.
[41] سورة آل عمران: ٧٥
[42] سورة آل عمران: ١١٠
[43] أخرجه مالك في الموطأ (6/156 رقم: 1556) والبخاري (5/258 رقم: 1338) ومسلم (5/234 رقم: 1718)
[44] سورة البقرة: ٢٤٦
[45] سورة النساء: ٧٥
[46] سورة الممتحنة: ٨
[47] أخرجها ابن هشام (3/31)، وابن كثير في النهاية (3/224)، وابن سيد الناس في عيون الأثر (1/238). كلهم عن ابن إسحاق دون ذكر سند.
[48] محمد بن إسحاق بن يسار صاحب المغازي القرشي المطلبي مولاهم، أحد الأئمة، روى عن أبيه وأبان بن عثمان وأبان بن صالح وجعفر الصادق والزهري وعطاء ونافع ومكحول وخلق. وعنه أخذ شعبة ويحيى الأنصاري وهما شيوخه وشريك والحمادان والسفيانان وزياد البكائي وآخرون. وثقه ابن معين مرة وضعفه أخرى. وقال ابن المديني: صالح وسط. وقال أحمد: حسن الحديث. وقال الشافعي: من أراد أن يتبحر في المغازي فهو عيال على محمد بن إسحاق. وأكثر ما عيب به التدليس. مات سنة 150 أو 151هـ. (طبقات الحفاظ:1/13)
[49] تفعيل مقاصد الشريعة ص56-57
[50] الموافقات: 2/ 323
[51] المصدر السابق: 2/168
[52] سورة الذاريات: 56-57
[53] سورة طه: 132
[54] سورة ص: 26
[55] سورة النازعات: 37-39
[56] سورة النازعات: 38
[57] سورة النجم: 3-4
[58] الجاثيات: 23
[59] المؤمنون: 71
[60] سورة محمد: 16
[61] سورة محمد: 14
[62] ذكره ابن الجوزي في “ذم الهوى” “ص18″، وعزاه لابن عباس، ولم ينسبه لأحد، ثم وجدته في “الاعتصام” “2/ 688- ط ابن عفان” معزوا لطاوس. وأخرجه الهروي في “ذم الكلام” “ص123” بسنده إلى سليمان الأحول قوله.
[63] الموافقات: 2/169-170
[64] سورة البقرة: ٢١٦
[65] الموافقات: 2/374-375
[66] مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، (4/336) وفي حلية الأولياء عن علي بن الحسن بلفظ: إن قوماً عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وآخرين عبدوه رغبة فتلك عبادة التجار، وقوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار. (حلية الأولياء 1/451)
[67] سورة الأنبياء: ٩٠
[68] سورة الزمر: ٩
[69] أخرجه ابن ماجه (12/124 رقم: 4092) والحاكم وصححه (18/244 رقم: 7985) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (3/18 رقم: 944)
[70] سورة غافر: ٦٠
[71] أخرجه وأحمد (37/310 رقم: 17629) وأبو داود (4/278 رقم: 1264) والترمذي (10/299 رقم: 2895) وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
[72] انظر الموافقات: 2/185
[73] الموافقات: 2/373-374 مختصرا.
[74] سورة البقرة: ٢٧٥
[75] سورة الجمعة: ١٠
[76] سورة الأعراف: ٣١
[77] الموافقات: 2/180-183 مختصرا
[78] سورة البقرة: 216
[79] الموافقات: 178-179
[80] الموافقات: 2/173-174 بتصرف
[81] المصدر السابق: 2/333
[82] السناء : ارْتِفاَعِ المَنْزلة والقَدْر
[83] أخرجه الحاكم (18/267 رقم: 8009) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
[84] أخرجه أبو داود (7/38 رقم: 2155) وابن حبان في صحيحه (19/280 رقم: 4721)
[85] أخرجه مسلم (10/9 رقم: 3527)
[86] الموافقات: 2/174
[87] المصدر السابق: 2/174-176