آفاق المستقبل

تصحيح مفاهيم وتكوين رؤى

صياغة المستقبل بين قدر الرحمن وكسب الإنسان

إن صياغة المستقبل تعتمد على الاعتقاد بقدرة الإنسان على تغيير شيء من مجريات الأمور. وتعترض هذا المبدأ قضية عقدية أساسية وهي قضية الإيمان بالقدر. إن عقيدة الإيمان بالقدر هو ركن ركين من أركان الإيمان الذي يكوّن شخصية المسلم ويصوغ تصوره للأشياء والأحداث، إلا أن  غبشا كثيفا حال دون الاستفادة المثلى من هذه العقيدة . إن هذه العقيدة هي التي دفعت بالمسلمين الأوائل إلى الخوض في معركة صناعة الحياة . فكانت للمسمين حضارتها العريقة، ولهم أعمالهم المشهودة . إنها صياغة رائعة لمقومات الشخصية التي تواجه الواقع المتقلب وتقوِّي النفس التي تذوق الوضع المرير بثبات .

ولكن مع ذلك، فقد أسيء فهم هذه العقيدة كثيرا حتى تحول أثره عكسيا مما يولِّد تصرفات غير مقبولة ولا معقولة استنادا إلى الإيمان بالقدر . إن المؤمن الحق إنسان حر لا يمنعه إيمانه بقدر الله وقضائه عن تحمل مسؤولية تحديد مصيره في الدنيا والآخرة فهو يدفع الأقدار بالأقدار . وإنما الخطأ والخطل من هؤلاء الذين يتحجّجون بالقدر مبررين ضعفهم الشخصي وكسلهم العقلي . وسنفصل ذلك في المباحث الآتية بإذن الله تعالى .

المبحث الأول: المنهجية المناسبة في معالجة الموضوع

إن هذا الموضوع قديم، ومع تقادم الموضوع تكاثرت الشبهات وتكاثفت الغشاوات، لم يكن من المناسب في هذا المقام -وفي ظل طبيعة العصر التي يحتاج الناس فيها إلى السرعة والوضوح في معظم شؤونهم- أن نعيد الأخطاء المتراكمة عبر تاريخنا الفكري، وخاصة وأن الإشكال ليس ناشئا عن ذات الموضوع بشكل عام، ولكن ضاعت الحقيقة بسبب اختلال المناهج المتبعة في معالجته .

ولتجنب الأخطاء المنهجية المتكررة في هذه المسألة أختار المنهجية التي أعتقد أنها الأنسب لتوضيح هذه الإشكالية التي غرّقت الناس في جدل طويل وحيرة مستمرة.

مركزية القرآن

المحدِّد الأول لهذه المنهجية هو اعتماد القرآن كمرجع أساس للمسألة . لأن القدر ما هو إلا فعل من أفعال الله وهو نتاج علمه الشامل بالأمور وتقديره الدقيق للأشياء، فلا يعبر عن فعله ولا يخبر عن عمله وتقديره أفضل وأفصح منه سبحانه. إننا نبحث في المسألة كمؤمنين بالله تعالى، وليس ذلك مناقضا للموضوعية العلمية في شيء، كما يظنه المغفلون من الباحثين . لأن الإيمان بالله هو مستوى من المستويات العلمية التي توصل إليه كل من بحث بصدق عن الحق الكوني الأكبر بأدلته العلمية وتجاربه العملية . نعم فإن الإيمان بالله الذي حظيه المؤمنون الحقيقيون ليس “دوغما”[1] كما يسميه علماء الغرب لكل معتقد ديني متوارث، وكما قد يصدق على الإيمان في الأديان الأخرى . إن الإيمان القرآني نشاط علمي محترم، وليس فكرا مفروضا على العقل أو اعتقادا قسريا يلقنه الكبير على الصغير .  لم يدع القرآن الإنسان إلى الإيمان إلا باستخدام عقله وإثراء علمه .

فالارتكاز على القرآن في معالجة هذه القضية ضرورة علمية قبل أن يكون سلوكا إيمانيا . فإنه لا ضرورة لنا إلى التنكر عن إيماننا بالله وإيماننا بالقرآن بحجة الموضوعية العلمية، لأننا -أولا- لا نتحدث إلا في مجال الشريعة الإسلامية التي مصدرها الأساسي القرآن والسنة، ولأننا –ثانيا- نعرف بأدلة علمية ثابتة ومعتبرة أن مضامين القرآن كلها موافقة للعقل والعلم بل وداعية إلى اعتماد العقل والعلم . وتفصيله مبسوط في غير هذا الباب .

إشكالية أخبار الآحاد

ثم الأمر الثاني من هذه المنهجية: التوازن في قبول أخبار الآحاد[2]. ومع أن الأحاديث في موضوع القضاء والقدر بالكثرة التي تبلغ حد التواتر المعنوي، ولكن الاستشهاد بالأحاديث النبوية في باب العقائد اعترض عليه من قبل من رفض السنة باعتبارها أخبار آحاد . ففي المسألة غبش كثير بسبب الخلط الذي يؤدي بهم إلى اعتبار أخبار الآحاد كلها صحيحها وضعيفها في خانة الظن غير المفيد للعلم[3]، فهذا تساهل كبير وتفريط غير مقبول، وهو في الحقيقة كسل فكري قبل أن يكون تقصيرا علميا لا يحسن أن يقع فيه طالب العلم، إذ إن بذل الجهد في تتبع أحوال الرواة وتسلسل الأسانيد هو الذي يفيد اعتقادا في صحة أو ضعف الأخبار، وهذا إنما يحصل عند من مارس علم الرواية ودرسه عن كثب، فأما من نظر إليها عن بُعد وقرأ عنها باختصار، فلا عجب ألا يحصل له هذا الإدراك، كما أن صحة نظرية في الفيزياء مثلا لا يعرفها إلا المتخصصون فيها والدارسون لها، وكذلك سائر العلوم والمدركات . نعم، لا يكفي النظر في السند للحكم على الحديث[4]، بل لا بد من نقد المتن أيضا، وهو لغرض الكشف عن الشذوذ أو العلة[5] المحتملة في الحديث، وهذا له ضابطه العلمي المعروف .

ويكفينا في هذا الباب ما علَّمنا القرآن[6] أنه إذا حصل لأحد ما يستوجب الشك في صدق الخبر فليقم بالتثبت والتبيّن، حتى يحصل له التمييز بين ما يصح وما لا يصح، فأما أن يجلس أحد ويحلّل الخبر بدون بذل جهد علمي ولا يتحرك للتثبت، فلا يلوم إلا نفسه إذا بقي هذا الشك في نفسه، وسيبقى هذا الشك والظن المحيّر ما دام على هذا الموقف .[7] “ومن يعلم حجةٌ على من لا يعلم.”

وأيضا فإن الظن مراتب؛ فهناك ظن راجح ناشئ عن أدلة قوية سمعية كانت أو عقلية أو حسية، وهناك ظن متأرجح لا يفيد اعتقادا ولا ينفيه، وهناك ظن وهمي ناشئ عن خطأ اعتقاد أو نقص إدراك . فمن الخطإ المنهجي أن يتعامل الإنسان مع كل الظنيات بموقف واحد. والأخبار إذا كانت ناشئة عن الحقيقة الواقعية لا تبقى ألفاظا مجردة، فالبحث العلمي الجاد سيصل بالناظر إلى حقائق أخرى تساندها من قرائن الأحوال وغيرها من الدلائل المختلفة.[8]

فلذلك ليس هناك موجب علمي لرفض الأحاديث الصحيحة في هذا الباب، وخاصة إذا اتفقت مع مدلولات الآيات القرآنية . فهذه المسألة من المسائل التي تتوفر فيها الأحاديث الصحاح، وهي من المسائل الأصول التي تتعاضد عليها دلالات القرآن والحديث والعقل كما سنبيّنه بإذن الله تعالى .

قصور علم الكلام في تقرير العقائد

المحدِّد الثالث من هذه المنهجية هو تجنّب أسلوب علم الكلام[9] في معالجة هذه المسألة، مع التقدير لجهود علماء الكلام في رد شبهات الفرق الضالة – خاصة ضد المعتزلة والجهمية والملاحدة – وكانوا يريدون بها الدفاع عن عقيدة أهل السنة، ولكنهم بشكل عام وقعوا في مشاكل غير هينة، فقد عقّدوا ما هو بسيط، وأبعدوا ما هو قريب، وحيروا الناس حيث احتاجوا إلى الوضوح وطمأنينة النفس .

إن الإيمان بقضاء الله وقدره مقرر ثابت في القرآن والسنة بشكل واضح، ومبيَّن فيهما بأساليب سهلة مفهومة، ولكن لما بدأ الناس في العصور المتأخرة يخوضون فيها معتمدين على مناهج مستوردة ومبتعدين عن الارتكاز على بيان القرآن والسنة، صارت القضية تتعقد يصعب فكاكها. كان المسلمون الأوائل يتلقون عقائدهم عن طريق آيات الله الكريمه وسنة نبيه المطهرة، فكان صدر هذه الأمة في عافية من الجدل العقيم والشك العميم، حتى استبدل الناس مراجعهم العقدية، فغيروا علم الإيمان ليصيروا به إلى علم الكلام، فصار إيمانهم كلاما وجدلا لا ينتهيان إلى العمل، ولا يصلان إلى اليقين .

وقد وصل بابن خلدون[10] إلى التقليل من أهمية علم الكلام، فقال: “وعلى الجملة، فينبغي أن يعلم أن هذا العلم الذي هو علم الكلام غير ضروري لهذا العهد على طالب العلم، إذ الملحدة والمبتدعة قد انقرضوا، والأئمة من أهل السنة كفونا شأنهم فيما كتبوا ودونوا، والأدلة العقلية إنما احتاجوا إليها حين دافعوا ونصروا . وأما الآن، فلم يبق منها إلا كلام تنزّه البارىء عن الكثير من إيهاماته وإطلاقاته.”[11]

نعم إن المعارك التي خاضها المتكلمون قد وضعت أوزارها منذ قرون، حتى قبل ابن خلدون الذي عاش في القرن الثامن الهجري. فلم تبق حاجة ملحة لاختلاق معارك مفترضة وقد مات الأعداء وماتت أفكارهم زمنا طويلا، إلا ما ذكر في كتب أهل السنة لغرض الرد عليها . فذكر شبهات هؤلاء نوع من الإحياء لها، وقد أصبح الناس في عافية منها . ومع تقدير وجود بقية من هذه الأفكار حية فليس من المناسب أن نشتغل بها بنفس القدر الذي كانت تلك البدعة الفكرية شائعة ومعروفة . إن الذي عاش بعقلية الماضي وحصر نفسه فيها يفوته قطار التقدم لا محالة، وهذا في حق من غاص في أمجاد الأسلاف، فكيف بمن غرق في مشاكل الأخلاف؟

ولا أقصد هنا إلغاء مسائل علم الكلام في منهج الدراسات الإسلامية كمادة مقررة، ولكن الاعتماد عليه كأساس للاعتقاد خطأ كبير وشر مستطير.

إنما الحقائق بسياقها

وينبغي التنبيه هنا أن الحقائق لا تكون إلا بانتظامها في سياقها الصحيح، وإن أية حقيقة علمية صحيحة إنما تكون صحيحة حقا إذا وضعت في موضعها الصحيح. فقد تكون هناك حقيقتان صحيحتان كلٌ في سياقها المنفصل عن الآخر، إذا ضرب أحدهما بالآخر خارج سياقهما الأصلي يكون هناك تناقض عقلي، لا يقدر العقل على قبولهما معا، إلا إذا رفض أحدهما مقابل الآخر. وهذا التناقض ليس مبطلا لكلتا الحقيقتين بمجرد تناقضهما في مخيلة أحد، لأن كلتيهما أُخرجت من السياق الذي هو منشأهما الأصلي، وركِّبا تركيبا غير ملائم لنسقهما الطبيعي.

فالعقل يمكن أن يظلم الحقيقة ويضيّعها بهذه الطريقة. فمراعاة سياق الحقائق أمر ضروري لمعرفة صحتها. وليس معنى ذلك أنه يجب فصل الحقائق بعضها عن بعض، بل ترابط الحقائق وتكاملها دليل صحتها وتقوية لحقيتها، ولكن الخطورة تكمن في نقل الحقائق المجردة عن”بيئتها” المحيطة بها.

فمن هذا الباب وأمثاله شدد الرسول صلى الله عليه وسلم في استنكار من يعارض الآيات القرآنية بالأُخر ليضرب بعضها ببعص، حتى لا تتكون من ذلك صورة مشوشة عن الحقيقة القرآنية التي تنتظم فيها كل دقائقها قبل جلائلها.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ نَتَنَازَعُ فِي الْقَدَرِ، فَغَضِبَ حَتَّى احْمَرَّ وَجْهُهُ، حَتَّى كَأَنَّمَا فُقِئَ فِي وَجْنَتَيْهِ الرُّمَّانُ، فَقَالَ: أَبِهَذَا أُمِرْتُمْ؟! أَمْ بِهَذَا أُرْسِلْتُ إِلَيْكُمْ؟! إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حِينَ تَنَازَعُوا فِي هَذَا الْأَمْرِ! عَزَمْتُ عَلَيْكُمْ أَلَّا تَتَنَازَعُوا فِيهِ.[12]

فكل الحقائق الشرعية والدلائل القرآنية لا بد أن تتعاضد وتترابط إذا وُضعت في سياقها الصحيح وفُهمت كوحدات متكاملة يصدق بعضها بعضا . فالجريمة العلمية الكبرى أن نتعامل مع الآيات القرآنية أو الأحاديث النبوية بأسلوب المجادلة والمعارضة فتتضارب الحقائق في مخيّلة ضعاف العقول .

دور العقل والمنطق

إن مكانة العقل في القرآن معروفة، ودعوة القرآن إلى استخدام المنطق السليم مشهودة، إن اعتمادنا على أدلة القرآن والسنة لا يجعلنا نلغي إعمال العقل والمنطق . إن المعركة القديمة بين أهل الأثر وأهل الرأي لا يجوز أن تسوقنا إلى التخندق في أحد الخندقين دون وعي بحقيقة الخلاف . لأنه لا تعارض حقيقي بين العقل والنقل، ولا تنافي بين دين صحيح ومنطق صريح، كما هو مبين في كتب المحققين من العلماء .

إن الوضع الطبيعي بين الأثر والرأي أن ينسجما انسجام الروح والجسد . إن الوحي القرآني والهدي النبوي يُحيِان العقل ويثريان المنطق، وعلى العقل أن ينضوي بضياء القرآن والسنة، وللمنطق أن يتزين بزينة النور القرآنيي والحكمة النبوية، ثم إن العقل كلما نضج وارتقى لا بد أن يوسع الأفق الذي لاح عن دلالة الألفاظ فيكشف ما وارء الألفاظ من الحقائق المكنونة والدقائق المصونة .

كما أنه لا تفيد دلالة القرآن والسنة إلا إذا أعملنا العقل والمنطق، فإن العقل هو الذي يشغّل “ماكينة” القرآن والسنة ويشعل مشاعلهما ويوجِّه أنوارهما . ويتوقف مدى استفادة الإنسان من هدي القرآن والسنة على قدر اجتهاده في ربط عقله وعمَلِ فكره بمعاني الآيات القرآنية والأحاديث النبوية . ويتجلى دور العقل في هذه المسألة في كشف المقاصد الشرعية والحكم الإلهية في تقدير الله للأمور. إن فهم مراد الله في أفعاله يساعد على استيعاب الأمور العقدية التي تبدو عويصة وعصيّة عن الفهم. إن العقل المستنير بنور القرآن والسنة يدرك أن الله حكيم في تقديره وعدل في قضائه . فيطمئن قلب المؤمن راضيا به محبا له. وهذا الذي ينبغي أن يصل إليه البحث في قضاء الله وقدره .

ومع تقديرنا لمكانة العقل وخضوعنا للمنطق العلمي يجب أيضا أن نعرف حدود إمكانية المعرفة البشرية ، فلا نشطط في مقولات لا سند لها من العلم، ولا نسرح في ميادين ليس لنا فيها غير الظنون والاحتمالات. فلنقف عند الثوابت العلمية لكي نبقى على أرضية صلبة من الموقف الإيماني والموقع العلمي على حد سواء، فإن الإيمان الصحيح والعلم الحقيقي صنوان لا يفترقان ألبتة .

المبحث الثاني: معنى الإيمان بالقَضاء والقدر

لندخل في صلب موضوعنا ونبدأ بتعريف معنى القضاء والقدر في اللغة والاصطلاح الشرعي لهذا الباب.

معنى القضاء

معنى القضاء في اللغة: الحكم والصنع والحتم والبيان.[13] وكل معانيه ترجع إلى قطع الأمور وإتمامها والفراغ منها.

قال ابن فارس: (قضى) القاف والضاد والحرف المعتل أصلٌ صحيح يدلُّ على إحكام أمرٍ وإتقانهِ وإنفاذه لجهته، قال الله تعالى: { فقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ في يَوْمَيْنِ }[14] أي أحكَمَ خَلْقَهنّ. ثم قال أبو ذؤيب[15]:

وعَليهما مَسرودتانِ قَضاهما          داودُ أو صَنَع السَّوابِغِ تُبَّعُ

والقضاء: الحُكم. قال الله سبحانه في ذكر من قال: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ}[16] أي اصنَعْ واحكُمْ. ولذلك سمِّي القاضي قاضياً، لأنَّه يحكم الأحكامَ ويُنْفِذُها. وسمِّيت المنيَّةُ قضاءً لأنَّه أمر يُنْفَذُ في ابن آدم وغيرهِ من الخَلْق. قال الحارث ابن حِلِّزة[17]:

وثمانونَ من تميمٍ بأيديـ     ـهِمْ رماحٌ صُدورهنَّ القضاءُ

أي المنيّة. وكلُّ كلمةٍ في الباب فإنَّها تجري على القياس الذي ذكرناه.[18]

وقال: وقَضى، أي حَكَمَ، ومنه قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ}[19]. وقد يكون بمعنى الفراغ، تقول: قَضَيْتُ حاجتي. وضربه فقَضى عليه، أي قتَلَه، كأنه فرغ منه. وسَمٌّ قاضٍ، أي قاتلٌ. وقَضى نحبَه قَضاءً، أي مات. وقد يكون بمعنى الأداء والإنهاء. تقول: قَضَيْتُ دَيْني. ومنه قوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ}[20] . وقوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ}[21]، أي أنهيناه إليه وأبلغناه ذلك. وقال الفراء في قوله تعالى: {ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ}[22]، يعني امضوا إلي، كما يقال: قَضَى فلانٌ، أي مات ومضى.

يقال: قَضاهُ أي صنعه وقدَّره: ومنه قوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ}[23]. ومنه القضاء والقدر.[24]

وقال الزُّهري: القَضاء في الُّلغة على وجوه مَرْجعها إلى انقطاع الشيء وتَمامه . وكلُّ ما أُحكِم عَملُه أو أتمّ أو خُتِم أو أُدِّي أو أُوجِبَ أو أُعْلِم أو أُنفِذَ أو أُمْضيَ فقد قُضِي. وقد جاءت هذه الوجُوه كلُّها في الحديث.

ومنه [القَضاء المَقْرون بالقَدَر] والمراد بالقَدَر : التقْدير وبالقضاء : الخَلْق كقوله تعالى : {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ}[25] أي خَلَقَهُنَّ.

فالقضاء والقَدَر أمران مُتَلازِمان لا يَنْفَك أحدُهما عن الآخَر لأن أحدَهُما بمَنْزلة الأساس وهو القَدَر والآخَرَ بمنزلة البِناء وهو القَضاء فمن رام الفصل بينهما فقد رام هَدْم البِناء ونَقْضَه.[26]

معنى القدر

قال في الصحاح: قَدْرُ الشيءِ: مبْلَغُهُ. وقَدَرُ الله وقَدْرُهُ بمعنًى، وهو في الأصل مصدر.

وقال الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}، أي ما عظَّموا الله حقَّ تعظيمه.

والقَدَرُ والقَدْرُ أيضاً: ما يُقَدِّرُهُ الله عزّ وجلّ من القضاء. وأنشد الأخفش:

ألا يا لِقومي للنوائبِ والقَدْرِ       وللأمرِ يأتي المرءَ من حيث لا يدري.[27]

وقال ابن فارس: (قدر) القاف والدال والراء أصلٌ صحيح يدلُّ على مَبْلَغ الشَّيء وكُنهه ونهايته. فالقدر: مبلغُ كلِّ شيء. يقال: قَدْرُه كذا، أي مبلغُه. وكذلك القَدَر. وقَدَرتُ الشّيءَ أَقْدِرُه وأَقْدُرُه من التقدير، وقدَّرته أُقَدِّره.

والقَدْر: قضاء الله تعالى الأشياءَ على مبالغها ونهاياتها التي أرادَها لها، وهو القَدَرُ أيضاً. قال في القَدَر:

خَلِّ الطَّريقَ لمن يبنِي المَنَارَ به     وابْرُزْ بِبَرْزَةَ حيثُ اضطرَّكَ القَدَرُ

وقال في القَدْر بسكون الدال:

وما صبَّ رِجلِي في حديدِ مجاشعٍ            مع القَدْرِ إلاَّ حاجةٌ لي أريدُها

ومن الباب الأَقْدَرُ من الخيل، وهو الذي تقعُ رِجلاهُ مَوَاقِعَ يَدَيْه، كأن ذلك قدَّرَه تقديراً. قال:

وأقْدَرُ مُشرِفُ الصَّهَوَاتِ ساطٍ    كميتٌ لا أحَقُّ ولا شئيتُ

وقوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}[28]، قال المفسرون: ما عظَّموا اللهَ حقَّ عظمته. وهذا صحيحٌ، وتلخيصهُ أنَّهم لم يصفوه بصِفَته التي تَنْبَغِي له تعالى.

وقوله تعالى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ}[29] فمعناه قُتِر. وقياسه أنَّه أُعْطِيَ ذلك بِقَدْر يسير. وقُدْرَةُ الله تعالى على خليقته: إيتاؤهم بالمبلغ الذي يشاؤه ويريده، والقياس فيه وفي الذي قبلَه سواء. ويقولون: رجلٌ ذو قُدرةٍ وذو مَقدِرة، أي يسار. ومعناه أنه يبلُغُ بيسارِه وغِنائِه من الأُمور المبلغَ الذي يوافق إرادتَه. ويقولون: الأقدر من الرِّجال: القصير العنُق؛ وهو القياسُ كأنَّ عُنقَه قد قُدِرت.[30]

قال الليث[31]: القَدَرُ القَضاء المُوَفَّقُ يقال قَدَّرَ الإِله كذا تقديراً وإِذا وافق الشيءُ الشيءَ. قلت جاءه قَدَرُه.

وقال ابن سيده[32]: القَدْرُ والقَدَرُ القضاء والحُكْم، وهو ما يُقَدِّره الله عز وجل من القضاء ويحكم به من الأُمور. قال الله عز وجل: إِنا أَنزلناه في ليلة القَدْرِ، أَي الحُكْمِ، كما قال تعالى: فيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمر حكيم.[33]

وفي القاموس: القَدَرُ، محرَّكةً القَضاءُ، والحُكْمُ، ومَبْلَغُ الشيءِ، ويُضَمُّ، المِقْدارِ، والطاقةُ، كالقَدْرِ فيهما ج أقْدارٌ.[34]

ونخلص من كل ما سبق أن معنى القضاء والقدر أن الله تعالى قضى على الأشياء وحكم عليها وقدَّرها في القدم، وعلم الله سبحانه وتعالى أنها ستقع في أوقات معلومة عنده، وعلى صفات مخصوصة، فهي تقع على حسب ما قدرها الله تعالى. فهما -يعني القضاء والقدر- لفظان مترادفان في هذا الباب بالذات يعبران عن شيء واحد في هذا الخصوص.

 

المبحث الثالث: القضاء والقدر في بيان القرآن والسنة

إن القرآن والسنة نور يهدي الله به الناس، لم يتمسك به إنسان إلا اطمئن، ولم يهجره أحد إلا زاغ واحتار . فأخذُه سعادة وتركُه تعاسة . إن اختيارنا للقرآن والسنة كأساس لمباحثة هذه المسألة يكسبنا أمرين هامين: أولهما الوصول إلى الخلاصة الواضحة الجلية بشكل لا يترك الريبة، وثانيهما تهذيب النفوس بتلقّي التوجيهات القرآنية والإرشادات النبوية، فإن مسألة القضاء والقدر في القرآن والسنة ليست مسألة فلسفية نظرية يراد منها ترف فكري أو تجريد فلسفي ليس وراءه مغزى عملي أو هدف سلوكي، بل تكريس عقيدة الإيمان بالقضاء والقدر يقصد منها إرساء أسس متوازنة للنفس البشرية في مواجهة تحديات الحياة المتقلبة حتى تقوى النفوس على مواجهة الصعوبات وتجتاز العقبات بنجاح وفلاح .

المطلب الأول: القضاء والقدر في السياق القرآني

نجد القرآن الكريم دائما لا يعرّج على مسألة قضاء الله وقدره إلا في سياق معين يقرر من خلاله حقائق كبيرة تجب معرفتها واتخاذ الموقف الصحيح تجاهها. إن القرآن كتاب هداية، يقصد منها الدلالة على ما يجب على الإنسان معرفته وفعله . فالعلاقة بين موضوع القدر والموضوع الذي سِيق من أجله علاقة بناء متكاملة.

علم الله الشامل

فمن المحاور التي تساق حولها قضية القضاء والقدر تقرير علم الله الشامل, قال الله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}[35]

ففي هذه الآيات يقرر الله مدى دقة علمه وشمول إحاطته بكل مخلوقاته بما في ذلك أمور لا يطلع عليها أحد إلا هو سبحانه وسماه “مفاتح الغيب” . وكل هذه الأشياء مسطورة في كتاب مبين . وفي الكتاب المبين قولان للعلماء أحدهما: أنه اللوح المحفوظ، والثاني: أنه علم الله المتقَنُ. [36]

وقوله سبحانه : { إِلاَّ فِى كتاب مُّبِينٍ } كالتكرير لقوله سبحانه : { إِلاَّ يَعْلَمُهَا } لأن معناهما واحد في المآل سواء أريد بالكتاب المبين علمه تعالى أو اللوح المحفوظ الذي هو محل معلوماته سبحانه.[37] ويعني ذلك أن هاتين القضيتين –كون أن الله يعلم كل شيء وكون كل ذلك مكتوب في كتابه المبين- تصبان في حقيقة محورية واحدة وهي إحاطة الله بكل شيء علما وتقديرا .

وتثبيت هذه الأمور في كتاب له فوائد ذكرها العلماء، أحدها : اعتبار الملائكة عليهم السلام موافقات المحدثات للمعلومات الإلهية . وثانيها: تنبيه المكلفين على عدم إهمال أحوالهم المشتملة على الثواب والعقاب حيث ذكر أن الورقة والحبة في الكتاب. وثالثها : عدم تغيير الموجودات عن الترتيب السابق في الكتاب ، ولذا جاء «قَدْ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ»[38].[39]

قال ابن عاشور: وقد علم من هاته الآيات عموم علمه تعالى بالكليات والجزئيات. وهذا متفق عليه عند أهل الأديان دون تصريح به في الكتب السابقة وما أعلنه إلا القرآن في نحو قوله: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[40]. وفيه إبطال لقول جمهور الفلاسفة أن الله يعلم الكليات خاصة ولا يعلم الجزئيات، زعما منهم بأنهم ينزهون العلم الأعلى عن التجزي . فهم أثبتوا صفة العلم لله تعالى، وأنكروا تعلق علمه بجزئيات الموجودات.[41] وهذا الموقف من الفلاسفة لا شك أنه ضرب من الكفر بالله، وقد فندهم الغزالي رحمه الله في عدد من كتبه، فوفانا وفكفانا مؤنة السجال في المسألة .

وذكر الإمام الرازي ههنا ما سماه “دقيقة” وهو أن القضايا العقلية المحضة يصعب تحصيل العلم بها على سبيل التمام والكمال إلا للعقلاء الكاملين الذين تعودوا الإعراض عن قضايا الحس والخيال وألفوا استحضار المعقولات المجردة وهم كالكبريت الأحمر[42] { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب} من تلك القضايا وحيث أريد إيصالها إلى كل عقل لأن القرآن إنما نزل لينتفع به جميع الخلق، ذكر مثال من الأمور المحسوسة الداخلة تحت تلك القضية العقلية الكلية ليصير ذلك المعقول بمعاونة هذا المثال المحسوس.[43]

سياسة النفوس واعتدالها

ومن المقاصد التي سيقت من أجلها مسألة القدر هو تهذيب النفوس وسياستها لتعود إلى حالة اعتدالها. كما في قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ . لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}[44]

ففي هذه الآية الكريمة تقرير واضح أنه لا يصيب الناس شيء من المصائب إلا وهو مكتوب عند الله قبل ذلك، وقد قرر الله هذا المعنى في آيات كثيرة، كقوله تعالى : { قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون }[45] وقوله تعالى { مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله }[46] وقوله تعالى : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الخوف والجوع وَنَقْصٍ مِّنَ الأموال والأنفس والثمرات وَبَشِّرِ الصابرين }[47]، لأن قوله : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الخوف والجوع } قبل وقوع ذلك دليل على أن هذه المصائب معلومة له جل وعلا قبل وقوعها، ولذا أخبرهم تعالى بأنها ستقع، ليكونوا مستعدين لها وقت نزولها بهم، لأن ذلك يعينهم على الصبر عليها، ونقص الأموال والثمرات مما أصاب من مصيبة، ونقص الأنفس في قوله : والأنفس، مما أصاب من مصيبة في النفس.

وقوله في آية الحديد هذه { لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ }[48] أي بينا لكم أن الأشياء مقدرة مكتوبة قبل وجود الخلق، وأن ما كتب واقع لا محالة لأجل ألا تحزنوا على شيء فاتكم، لأن فواته لكم مقدر، وما لا طمع فيه قل الأسى عليه، ولا تفرحوا بما آىتاكم، لأنكم إذا علمتم أن ما كتب لكم من الرزق والخير لا بد أن يأتيكم قل فرحكم به.[49]

لقد بنت الآيتان الكريمتان على هذه الحقائق ثلاثة أمور:

أولاً : عزاء النفس في كل فائت (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ).

ثانياً : حمايتها من الفرح الذي يطغي صاحبه {وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} فإن كان الفرح غير مطغٍ فالله – عز وجل – لم يصادر عواطفنا ، قال تعالى {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}[50].

ثالثاً : حفظ النفس من التطاول بنعم الله على خلقه {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}.

وهذا هو دور الإيمان بالقدر في حياة الناس، وقد وقفت جماعة من المسلمين في موضوع القدر عند هذا الحد، واعتبرت أي مناقشة للموضوع بعد ذلك بدعة، بينما أفنى آخرون حياتهم، وشغلوا مَن بعدهم، في جدل عقيم.[51]

وقوله: ولا تفرحوا بما آتاكم تتميم لقوله: لكيلا تأسوا على ما فاتكم فإن المقصود من الكلام أن لا يأسوا عند حلول المصائب لأن المقصود هو قوله: ما أصاب من مصيبة … إلا في كتاب ثم يعلم أن المسرات كذلك بطريق الاكتفاء، فإن من المسرات ما يحصل للمرء عن غير ترقب -وهو أوقع في المسرة- كمل أدبه بطريق المقابلة.

والفرح المنفي هو الشديد منه البالغ حد البطر، كما قال تعالى في قصة قارون إذ قال له قومه {لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ}[52]. وقد فسره التذييل من قوله: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}.

والمعنى: أخبرتكم بذلك لتكونوا حكماء بصراء فتعلموا أن لجميع ذلك أسبابا وعللا، وأن للعالم نظاما مرتبطا بعضه ببعض، وأن الآثار حاصلة عقب مؤثراتها.[53]

وفيه تنبيه على أن مقام المؤمن من الأدب بعد حلول المصيبة وعند انهيال الرغيبة، هو أن لا يحزن على ما فات ولا يبطر بما ناله من خيرات، وليس معنى ذلك أن يترك السعي لنوال الخير واتقاء الشر قائلا: إن الله كتب الأمور كلها في الأزل، لأن هذا إقدام على إفساد ما فطر عليه الناس وأقام عليه نظام العالم. وقد قال النبيء صلى الله عليه وسلم للذين قالوا أفلا نتكل «اعملوا فكل ميسر لما خلق له»[54]

والمراد نفي الحزن المخرج إلى ما يذهب صاحبه عن الصبر والتسليم لأمر الله تعالى ورجاء ثواب الصابرين ونفي الفرح المطغي الملهي عن الشكر، وأما الحزن الذي لا يكاد الإنسان يخلو منه مع الاستسلام والسرور بنعمة الله تعالى والاعتداد بها مع الشكر فلا بأس بهما .

أخرج البيهقي عَنْ عِكْرِمَةَ[55]، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ، وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} قَالَ: “لَيْسَ أَحَدٌ إِلَّا وَهُوَ يَفْرَحُ وَيَحْزَنُ، وَلَكِنْ إِذَا أَصَابَتْهُ مُصِيبَةُ جَعَلَهَا صَبْرًا، فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ جَعَلَهُ شُكْرًا.” قال البيهقي رحمه الله: “وهذا يؤكد قول الحليمي رحمه الله في هذه الآية: أن المراد بالحزن التسخط والتفجر، والمراد بالفرح فرح التبذخ والتكبر”.[56]

وقوله تعالى: {والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} تذييل يفيد أن الفرح المذموم هو الموجب للبطر والاختيال. والمختال المتكبر عن تخيل فضيلة تراءت له من نفسه ، والفخور المباهي في الأشياء الخارجة عن المرء كالمال والجاه.[57]

ومن الآيات التي بنت سياسة النفوس على الإيمان بالقدر قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}[58]

قال الطبري في هذه الآية: يقول تعالى ذكره: لم يصب أحدًا من الخلق مصيبة إلا بإذن الله، يقول: إلا بقضاء الله وتقدير ذلك عليه ( وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ) يقول: ومن يصدّق بالله فيعلم أنه لا أحد تصيبه مصيبة إلا بإذن الله بذلك يهد قلبه: يقول: يوفِّق الله قلبه بالتسليم لأمره والرضا بقضائه.[59]

وقال ابن كثير: { وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أي: ومن أصابته مصيبة فعلم أنها بقضاء الله وقدره، فصبر واحتسب واستسلم لقضاء الله، هدى الله قلبه، وعَوَّضه عما فاته من الدنيا هُدى في قلبه، ويقينا صادقًا، وقد يخلف عليه ما كان أخذ منه، أو خيرًا منه.

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } يعني: يهد قلبه لليقين، فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.[60]

قال ابن عبد السلام: { بِإِذْنَ اللَّهِ } بأمره أو بحكمه { يَهْدِ قَلْبَهُ } يؤمن قلبه لله أو يعلم أنه من عند الله فيرضى به أو يسترجع أو إذا ابتلي صبر وإذا أنعم عليه شكر وإذا ظُلم غفر .[61]

حجة الله البالغة وعدله المطلق

ومن المحاور التي يدور حولها الكلام عن القدر أيضا إثبات عدل الله المطلق وتثبيت حجته البالغة. كما في قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}[62]

قال ابن عاشور: والمراد: أن خلق الله الأشياء مصاحب لقوانين جارية على الحكمة، وهذا المعنى قد تكرر في القرآن كقوله في سورة الرعد {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ}[63]. [64]

قال البقاعي: { خلقناه بقدر} أي قضاء وحكم وقياس مضبوط وقسمة محدودة ودقة بالغة وتدبير محكم في وقت معلوم ومكان محدود مكتوب في ذلك اللوح قبل وقوعه.[65]

وكون أن الله خلق كل الأشياء بحكمة وتقدير محكم لا خلاف فيه حتى عند القدرية، ولكن دخول أفعال العباد في هذا العموم هو المتنازع فيه، ومع ذلك لا يعرج عليه الزمخشري في تفسير هذه الآية ووافق جمهور المسلمين في أن معنى الآية له جانبان: جانب أن الله خلق كل شيء مقدّراً محكماً مرتباً على حسب ما اقتضته الحكمة، وجانب آخر كون كل ذلك مقدّراً مكتوباً في اللوح، معلوماً قبل كونه، قد علمنا حاله وزمانه.[66]

والجانبان متلازمان لا يمكن فكهما. لأنه إذا عُلم أن علم الله سابق للمحدثات يلزم أن يكون حدوثها وفق علمه وتقديره الموصوفَين بالحكمة والعدل. فإنكار لتقديره السابق إنكار لعلمه وحكمته وعدله.

ويقوي هذا التلازم ما أخرجه مسلم والترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ جَاءَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ يُخَاصِمُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقَدَرِ فَنَزَلَتْ { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}[67]

وهذا حقيقة القضاء والقدر، وأن جميع الأشياء كلها، قد علمها الله تعالى، وسطرها عنده في اللوح المحفوظ، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.[68]

قال سيد قطب: وإن هذا النص القرآني القصير اليسير[يعني قول الله: إنا كل شيء خلقناه بقدر] ليشير إلى حقيقة ضخمة هائلة شاملة ، مصداقها هذا الوجود كله . حقيقة يدركها القلب جملة وهو يواجه هذا الوجود ، ويتجاوب معه ، ويتلقى عنه ، ويحس أنه خليقة متناسقة تناسقاً دقيقاً . كل شيء فيه بقدر يحقق هذا التناسق المطلق ، الذي ينطبع ظله في القلب جملة وهو يواجه هذا الوجود .

ثم يبلغ البحث والرؤية والتجربة من إدراك هذه الحقيقة القدر الذي تهيئه هذه الوسائل ، ويطيقه العقل البشري ، ويملك معرفته عن هذا الطريق . ووراء هذا القدر يبقى دائماً ما هو أعظم وأكمل ، تدركه الفطرة وينطبع فيها بتأثير الإيقاع الكوني المتناسق فيها ، وهي ذاتها بعض هذا الكون المتناسق كل شيء فيه بقدر .

ولقد وصل العلم الحديث إلى أطراف من هذه الحقيقة ، فيما يملك أن يدركه منها بوسائله المهيأة له . . وصل في إدراك التناسق بين أبعاد النجوم والكواكب وأحجامها وكتلها وجاذبيتها بعضها لبعض إلى حد أن يحدد العلماء مواقع كواكب لم يروها بعد؛ لأن التناسق يقتضي وجودها في المواضع التي حددوها . فوجودها في هذه المواقع هو الذي يفسر ظواهر معينة في حركة الكواكب التي رصدوها . . ثم يتحقق هذا الذي فرضوه . ويدل تحقيقه على الدقة المتناهية في توزيع هذه الأجرام ، في هذا الفضاء الهائل ، بهذه النسب المقدرة ، التي لا يتناولها خلل أو اضطراب![69]

فكل لحظة في الكون، وكل حركة فيه، تؤكد عدل الله المطلق، بل تتجاوز عدل الله إلى مقام الإحسان، وقد قرر القرآن هذه القضية، فيما لا حصر له من آياته {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ}[70].

{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا}.[71]

وتأخيرهم إلى أجل مسمى يعطيهم فرصة العودة والإصلاح . فمن أصرَّ فمحكمة الآخرة هي محكمة “العدل المطلق” {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}[72]. وعدل الله وإحسانه، يؤكدان أن دائرة التكاليف في الأديان السماوية، وما يتبعها من ثواب وعقاب، مبنية على قاعدة “العدل المطلق” فالله – عز وجل – قد نزه نفسه عن العبث بأعصاب الناس، واللهو بهم، قال تعالى {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ}.[73]

{وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا}[74]

فالله تعالى فاعل مختار لا يحدث في ملكه إلا ما يريد، وكل ما يقع في الكون معلوم له قبل وقوعه، وموافق لما أراده. فإن الله عز وجل قدر الحبة الصالحة إذا ألقيت في التربة الطيبة وأجري عليها الماء نبت منها نبات. وقدر أن نواة التمر تنبت نخلة ولا يمكن أن تنبت غير نخلة . وقدر أن يولد الإنسان طفلا ، ثم يصير صبيا فمراهقا، فشابا، فكهلا، فشيخا، فهرما، إذا امتد به عمر. وقدره أن يمنح قدرة وإرادة يزاول بهما -بإذن الله- مصالحه، ويسعى في كسب رزقه، وجلب ما ينفعه، ودفع ما يضره. وقدر أن يمنحه أنواعا من الهدايا يميز بها النافع من الضار ، والخير من الشر ، والهدى من الضلال. وقدر أن يرسل إليه رسلا ، يرشدونه إلى ما فيه خيره وصلاحه، وربط باتباعهم وطاعتهم سعادته، وبمعصيتهم والمخالفة عن أمره شقاوته. وقدره أن يكلفه أنواعا من التكليف، كلها في إمكانه ، فإن نهض بها أثابه وإن لم يفعل عاقبه. وقدره أن يجعله مختارا ، فيما يأتي وما يدع ، وأن يجعل هذا الاختيار أساسا للتكاليف الشرعية، حتى إذا ذهب الاختيار ذهب التكليف.[75]

المطلب الثاني: القدر في البيان النبوي

بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضية القضاء والقدر في مناسبات كثيرة، وثبت ذلك في روايات كثيرة بلغ مجموعها حد التواتر. وشواهد ذلك في أمهات كتب السنة. وبيان الرسول لمسألة القضاء والقدر يأتي في سياقين اثنين، إما أن يأتي في تقرير الحقائق الكونية أو يأتي لتثبيت المواقف الإيمانية.

تقرير الحقائق

وأما ما جاء لتقرير الحقائق فمثل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ.”[76]

وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ قَالَ: “إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكًا، فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ. وَيُقَالُ لَهُ: اكْتُبْ عَمَلَهُ وَرِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ. ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ، فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْكُمْ لَيَعْمَلُ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ كِتَابُهُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ. وَيَعْمَلُ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ.”[77]

وفي حديث جبريل: قَالَ فَأَخْبِرْنِي عَنْ الْإِيمَانِ قَالَ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ. [78]

روى أبو داود عن عبادة بن الصامت[79] قَالَ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ إِنَّكَ لَنْ تَجِدَ طَعْمَ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:

“إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ فَقَالَ: لَهُ اكْتُبْ. قَالَ: رَبِّ وَمَاذَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ.”

“يَا بُنَيَّ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَنْ مَاتَ عَلَى غَيْرِ هَذَا فَلَيْسَ مِنِّي”.[80]

وعَنْ ابْنِ الدَّيْلَمِيِّ[81] قَالَ أَتَيْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ فَقُلْتُ لَهُ: وَقَعَ فِي نَفْسِي شَيْءٌ مِنْ الْقَدَرِ فَحَدِّثْنِي بِشَيْءٍ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُذْهِبَهُ مِنْ قَلْبِي.

قَالَ: لَوْ أَنَّ اللَّهَ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ عَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ كَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَلَوْ أَنْفَقْتَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا قَبِلَهُ اللَّهُ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ، وَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَأَنَّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَلَوْ مُتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا لَدَخَلْتَ النَّارَ.

قَالَ: ثُمَّ أَتَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ، فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ. قَالَ ثُمَّ أَتَيْتُ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ، فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ. قَالَ ثُمَّ أَتَيْتُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، فَحَدَّثَنِي عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ ذَلِكَ.[82]

فهذه الأحاديث وأمثالها يوضح فيها الرسول صلى الله عليه وسلم حقيقة الإيمان بقضاء الله وقدره.

توجيه المواقف

وذكر الرسول صلى الله عليه وسلم أيضا قضية القضاء والقدر لمعالجة المواقف العملية حيث احتيج فيها إلى تثبيت الموقف وتقوية الإيمان وتوجيه السلوك. كما جاء في صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ, احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا. وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ “لَوْ” تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ.”[83]

ففي هذا الحديث يعالج الرسول صلى الله عليه وسلم مشكلة هؤلاء الذين تعلقوا بمشكلات الماضي، وعلمهم أن هذا النوع من التشكي لا يجدي شيئا ولا يغير واقعا، ولكن ليلجأ إلى التسليم بقدر الله، وليستسلم لحكمته، لأن الشيطان يتلاعب بمقدرات الإنسان الذي لا يزال يذم الماضي ويتأسف له دون بذل جهد لتغييره. والماضي فات، وإنما على الإنسان أن يتوجه إلى العمل الجاد في حاضره ويفكر في مستقبله.

وكما قال الشاعر:

ولا تتبع الماضي سؤالك لم مضى  وعرج على الباقي وسائله بم بقي[84]

أحيانا علّم الرسول صلى الله عليه وسلم درس الصبر بسلاح الإيمان بالقدر كما ورد عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَهُ رَسُولُ إِحْدَى بَنَاتِهِ يَدْعُوهُ إِلَى ابْنِهَا فِي الْمَوْتِ.

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ارْجِعْ إِلَيْهَا فَأَخْبِرْهَا أَنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى فَمُرْهَا فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ.

فَأَعَادَتْ الرَّسُولَ أَنَّهَا قَدْ أَقْسَمَتْ لَتَأْتِيَنَّهَا. فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَامَ مَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ. فَدُفِعَ الصَّبِيُّ إِلَيْهِ وَنَفْسُهُ تَقَعْقَعُ كَأَنَّهَا فِي شَنٍّ، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ.

فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذَا؟

قَالَ: هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ.[85]

ففي هذه الحادثة دروس كثيرة وعبر وفيرة كيف واجه الرسول ما أصابه من الملمات المحزنة والوقائع المرة. لأن ما سبق في علم الله وقدره لا بد أن يقع، فهو أمر لا مفر منه، وما قدره الله للبشر ينبغي أن يقبله العباد بصدر رحب وتسليم تام. ولا ينافي ذلك شعور الإنسان بالحزن ما دام القلب راضيا مستسلما لله محتسبا منه حسن الثواب.

وفي مناسبة أخرى علّم الرسول صلى الله عليه وسلم أن الإيمان بقضاء الله يولد الشجاعة ورباطة الجأش وعدم الخوف من تآمر المتآمرين وحسد الحاسدين. عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَقَالَ: يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ.[86]

وهكذا فإن الإيمان بالقضاء والقدر زاد عظيم ودواء ناجع وسلاح شاكٍ في مواجهة الصعوبات.

 

المبحث الرابع: حرية الإنسان

وكما أن نفي القدر عن أفعال الخلق نفي لعلم الله السابق ومشيئته الشاملة وإرادته النافذة، فإن نفي الاختيار الحر عن الإنسان مع محاسبته على أفعاله نفي لعدل الله وحكمته. فكلتا الحقيقتين صحيحة. كل شيء مقدر وأعمال البشر مكتوبة، وأيضا للإنسان حرية الإرادة والحركة ولم يحاسب إلا بما فعله مختارا، ولم يطالب إلا بما تمليه عليه إرادته الحرة.

فقد أخطأ في هذا الباب طائفتان؛ الطائفة الأولى: القدرية نفاة القدر، وهؤلاء ضلوا بالتفريط وإنكار القدر، وزعموا أنه لا يمكن الجمع بين ما هو ثابت بالضرورة من اختيار العبد في فعله ومسئوليته عنه، وبين ما دلت عليه النصوص من عموم خلقه تعالى ومشيئته؛ لأن ذلك العموم في زعمهم إبطال لمسئولية العبد عن فعله، وهدم للتكاليف، فرجحوا جانب الأمر والنهي، وخصصوا النصوص الدالة على عموم الخلق والمشيئة بما عدا أفعال العباد، وأثبتوا أن العبد خالق لفعله بقدرته وإرادته، فأثبتوا خالقين غير الله ، ولهذا سموا مجوس هذه الأمة؛ لأن المجوس يزعمون أن الشيطان يخلق الشر والأشياء المؤذية، فجعلوه خالقا مع الله، فكذلك هؤلاء جعلوا العباد خالقين مع الله.

والطائفة الثانية: يقال لها: الجبرية، وهؤلاء غلوا في إثبات القدر، حتى أنكروا أن يكون للعبد فعل حقيقة، بل هو في زعمهم لا حرية له، ولا اختيار، ولا فعل؛ كالريشة في مهب الرياح، وإنما تسند الأفعال إليه مجازا، فيقال: صلى، وصام، وقتل، وسرق؛ كما يقال: طلعت الشمس، وجرت الريح، ونزل المطر، فاتهموا ربهم بالظلم وتكليف العباد بما لا قدرة لهم عليه، ومجازاتهم على ما ليس من فعلهم، واتهموه بالعبث في تكليف العباد، وأبطلوا الحكمة من الأمر والنهي، ألا ساء ما يحكمون .[87]

والحق وسط بين الهاويتين، وجامع لصواب الطرفين، فإن الطائفة الأولى وإن أخطأوا في إنكار القدر، فقد أصابوا في حرية العبد في فعله، والطائفة الثانية أخطأوا في سلب العبد حرية الاختيار وحقيقة أفعاله لكنهم أصابوا في إثبات القدر.

وليس بين قدر الله وحرية الإنسان تناقض، لكن بعض العقول لا تسوعب كامل الحقيقة، وتتمسك بطرف وتفرّط في آخر. فليس في القدر جبر العبد على فعل ما لا يريده، بل الإنسان حر في بحر أقدار الله التي لا تفرط شيئا إلا حواه.

قال الإمام الباقلاني[88]: “ويجب أن يعلمأن العبد له كسب، وليس مجبوراً بل مكتسب لأفعاله؛ من طاعة ومعصية؛ لأنه تعالى قال: {لَهَا مَا كَسَبَتْ}[89] يعني من ثواب طاعة {وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}[90] يعني من عقاب معصية. وقوله: {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ}[91] وقوله: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}[92] وقوله: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا}[93].

ويدل على صحة هذا أيضاً: أن العاقل منها يفرق بين تحرك يده جبراً وسائر بدنه عند وقوع الحمى به، أو الارتعاش، وبين أن يحرك هو عضواً من أعضائه قاصداً إلى ذلك باختياره، فأفعال العباد هي كسب لهم وهي خلق الله تعالى. فما يتصف به الحق لا يتصف به الخلق، وما يتصف به الخلق لا يتصف به الحق، وكما لا يقال لله تعالى إنه مكتسب، كذلك لا يقال للعبد إنه خالق.”[94]

وهذا هو –كما قال الدكتور القرضاوي[95]– المذهب الوسط بين الذين فرطوا في إثبات القدر والذين أفرطوا فيه، هو مذهب أهل العلم والاعتدال من أهل السنة والحديث، الذين لم يرجعوا في هذه القضية إلى مصدر غير الإسلام، ولم يحتكموا إلى غير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وخلاصة هذا المذهب تصوره الحقائق التالية:

1-                 أننا نرى بضرورة العقل والحس أن لنا أفعالا اختيارية تستند إلى قدرتنا وإرادتنا. وأننا إذا أردنا الحركة يمنة لم تقع يسرة. إذا أردنا أن نأكل الخبز لم نأكل التراب. وإذا أردنا الصلاة في المسجد لم نذهب إلى الحانة. وأننا نفرق بين حركة الصاعد على السلم والساقط منه. ونعلم أن الأول مختار في حركته، والثاني غير مختار.

2-       ونعلم أن بضرورة الشرع – الذي جاء كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم – أن الله هو الذي خلق فينا الإرادة والقدرة اللتين بهما نحدث أفعالنا. وهذه الإرادة والقدرة المخلوقة فينا هي أساس تكليفنا ومناط مسؤوليتنا عن أعمالنا في الدنيا والآخرة. وعليه ترتب المدح والذم وكان الثواب والعقاب، وقامت سوق الجنة والنار، ودلت على ذلك النصوص الشرعية.

3-       وهذا لا ينافي الاعتقاد بأن الله خالق كل شيء، وأن كل ما في الكون حادث بمشيئته وقدرته. ذلك أن الله تعالى هو خالق الإنسان بكل ما فيه من قوى وطاقات، وصفات مادية ومعنوية. ومن جملة هذه القوى: الإرادة والقدرة اللتان يوجد الإنسان بهما جميع أفعاله الإرادية. والله تعالى هو الذي جعلهما سببا لإحداث الفعل حسب سننه تعالى في الخلق. ولا ريب أن خالق السبب التام خالق لمسببه, ولو لم يشأ سبحانه وجود فعله لما خلق السبب الموجد له.

4-       وبهذا الاعتبار نستطيع أن نقول: إن الله هو خالق أفعال العباد، لأن سنته تعالى أن يخلق الأشياء بوسائط وأسباب. ومن هذه الوسائط ما خلقه الله تعالى في الإنسان من قدرة وإرادة واختيار. كما أن الإنسان هو محدث أفعاله بإرادته واختياره وقدرته حقيقة.

وهذا هو القول المعتدل الموافق للنصوص، وبه نخلص من ورطات المعتزلة والجبرية كلتيهما. ونثبت للإنسان إرادة مرجحة، وقدرة مؤثرة في مقدور ها بإقدار الله وتمكينه سبحانه.

 

دلالة النصوص على حرية الإنسان

فالذي يستقرئ النصوص الواردة في هذه القضية يجد:

أولا: أن القرآن والسنة قد أسندا الأفعال إلى العباد في عشرات ومئات من الآيات والأحاديث، تارة بالاسم العام مثل: (يعملون – يكسبون – يصنعون) ونحوها، تارة بأسمائها الخاصة (يتقون – يعبدون – يؤمنون – يكفرون – يشركون – ينفقون – يجاهدون – يقتلون – يصلحون – يفسدون) وما إلى ذلك.

والأصل في إسناد الفعل إلى فاعله أن يكون على سبيل الحقيقة لا على المجاز. بخاصة أن بعض هذه الأفعال يستحيل أن يسند إلى الله تعالى مثل: الزنا والسرقة والإفساد ونحوها، ومثل التقوى والعبادة والصلاة نحوها.

ثانيا: أن القرآن من أوله إلى آخره صريح في ترتيب حصول الخيرات في الدنيا والآخرة، وحصول الشرور في الدنيا والآخرة على أعمال العباد ترتب الجزاء على الشرط، والمعلول على العلة، والمسبب على السبب. وهذا في القرآن يزيد على ألف موضع كما قال ابن القيم. وذلك مثل {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}[96]، {بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ}[97], {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}[98]، {ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا}[99]، {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً}[100]، {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ}[101]، {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}.[102]

فلو لا الإنسان هو فاعل الفعل والمسؤول عنه ما حاسب اللهُ عليه ولا آخذه به وعاقبه عليه. من ظن أن الله تعالى يعذب عبده بما لا إرادة له فيه ولا قدرة له عليه ولا تأثير له في فعله، بل يعذبه على فعله هو سبحانه، فقد ظن بالله تبارك وتعالى ظن السوء، وجعل له مثل السوء.

ثالثا: أن الآيات القرآنية قد أثبتت للإنسان مشيئة وإرادة بها يختار ويرجح. كما أثبتت له قوة واستطاعة بها يفعل ويؤثر. ولكن هذه القوة وتلك المشيئة مستمدتان من قدرة الله وليستا مستقلتين عن الله أبدا.

قال الله تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}[103]، {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً}[104]، {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ}[105]، {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً}[106]

وفي سورة أخرى ذكرت هذه الآية نفسها ثم أعقبها قوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً}[107]، {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ . وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ}[108]، {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ . لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ . وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}.[109]

فللإنسان بنص هذه الآيات مشيئة وإرادة، ولكنها تابعة لمشيئة الله تعالى وإرادته، فهو يشاء أعماله ويريدها لأن الله هو الذي شاء له أن يكون حرا مريدا فمشيئته ليست من ذاته ولا بذاته، ولكنها من الله وبالله.

وكذلك للإنسان قوة وقدرة ولكنها ليست من ذاته ولا بذاته بل من الله وبالله. {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً}[110].

ولهذا كان المجمع عليه بين المسلمين كافة أن “لا حول ولا قوة بالله” وقال القرآن: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ}[111]، {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ}.[112]

فالإنسان كما تصوره نصوص القرآن والسنة مخلوق حر مريد، له قدرة إيجابية فاعلة. ولكن من الذي خلقه كذلك؟ من الذي وهبه العقل الذي يدبر، والإرادة التي ترجح، والقدرة التي تنفذ؟ ولو شاء ما منحه شيئا من ذلك، ولو شاء لسلبه ما أعطاه. إنه الله.

هذا هو التوازن الذي اتسمت به عقيدة الإسلام في شأن الإنسان كما اتسمت به شريعته وأخلاقه. فليس هو آلة تنفعل ولا تفعل، تتأثر ولا تؤثر، كما يتوهمه بعض الناس. وليس هو إلها يخلق ما يشاء ويفعل ما يريد بإطلاق، كما ظن آخرون. لكنه مخلوق إيجابي فعال. كرمه الله وجعله في الأرض خليفة، واستعمره فيها، ومنحه من الطاقات والمواهب ما يستطيع به السيادة في الكون، والخلافة في الأرض، والعمارة لها، والانتفاع بما سخر الله له في السماوات وفي الأرض. لكن كل ذرة فيه إنما هي بخلق الله. وكل ما يقدر عليه إنما هو بإقدار الله، وكل ما يشاءه ويختاره إنما هو بتمكين الله، وكل ما يفعله إنما هو في دائرة سلطان الله، وفق سننه تعالى التي نصبها في الكون. ورتب عليها آثارها. وجعل من شأنها العموم والثبات. فلا تحابي ولا تتبدل. فلن تجد لسنة الله تبديلا، ولن تجد لسنة الله تحويلا. اهـ

النهي عن ترك العمل

لقد اتفقت جميع الكتب السماوية والسنن النبوية على أن القدر السابق لا يمنع العمل ولا يوجب الاتكال, بل يوجب الجد والاجتهاد والحرص على العمل الصالح. فلذلك ما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقر القعود عن العمل اتكالا لعوامل الأقدار، بل أمر أمته بالعمل مع إيمانهم بالقدر.

عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ جَالِسًا وَفِي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ بِهِ فَرَفَعَ رَأْسَهُ،

فَقَالَ: مَا مِنْكُمْ مِنْ نَفْسٍ إِلَّا وَقَدْ عُلِمَ مَنْزِلُهَا مِنْ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ.

قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَلِمَ نَعْمَلُ؟ أَفَلَا نَتَّكِلُ؟

قَالَ: لَا! اعْمَلُوا! فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ.

ثُمَّ قَرَأَ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى . وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى . وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى . وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}[113]. وهي النار والعياذ بالله.

 فالله سبحانه وتعالى قدر المقادير، وهيأ لها أسبابا، وهو الحكيم بما نصبه من الأسباب في المعاش والمعاد, وقد يسر كلا من خلقه لما خلقه له في الدنيا والآخرة, فهو مهيأ له ميسر له.

فإذا علم العبد أن مصالح آخرته مرتبطة بالأسباب الموصلة إليها كان أشد اجتهادا في فعلها والقيام بها، وأعظم منه في أسباب معاشه ومصالح دنياه من كون الحرث سببا في وجود الزرع, والنكاح سببا في وجود النسل, وكذلك العمل الصالح سبب في دخول الجنة, والعمل السيئ سبب في دخول النار.

وقد فقه هذا كل الفقه من قال من الصحابة لما سمع أحاديث القدر “ما كنت بأشد اجتهاد مني الآن”

عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ سُرَاقَةَ بْنَ جُعْشُمٍ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنَا عَنْ أَمْرِنَا كَأَنَّا نَنْظُرُ إِلَيْهِ، أَبِمَا جَرَتْ بِهِ الْأَقْلَامُ وَثَبَتَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ، أَوْ بِمَا يُسْتَأْنَفُ؟،

قَالَ: «لَا، بَلْ بِمَا جَرَتْ بِهِ الْأَقْلَامُ وَثَبَتَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ»،

قَالَ: فَفِيمَ الْعَمَلُ إِذًا؟،

قَالَ:  «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ»

قَالَ سُرَاقَةُ: فَلَا أَكُونُ أَبَدًا أَشَدَّ اجْتِهَادًا فِي الْعَمَلِ مِنِّي الْآنَ.[114]

وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث المتقدم ” احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا. وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ “.[115]

دفع الأقدار بالأقدار

فنحن مطالبون شرعا بأن ندفع أقدارا بأقدار. فالجوع مثلا من القدر ونحن ندفعه بقدر الطعام. والعطش من القدر ونحن ندفعه بقدر الشراب. والمرض من القدر ونحن ندفعه بقدر الدواء، وهو من القدر أيضا. ولو أن المرء استسلم لقدر الجوع والعطش، مثلا وهو قادر على دفعه ثم مات، مات عاصيا لله تعالى الذي نهاه عن أن يلقي بنفسه إلى التهلكة. قال تعالى : {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}.[116]

وقد أفصح الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذا كل الإفصاح، وأوضحه كل الإيضاح. فعن كعب بن مالك، أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ دَوَاءً نَتَدَاوَى بِهِ، وَرُقًى نَسْتَرْقِي بِهَا، وَأَشْيَاءَ نَفْعَلُهَا، هَلْ تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ؟

قَالَ: «يَا كَعْبُ، بَلْ هِيَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ»[117]

فانظر إلى هذا الجواب الحكيم الذي يحفز الهمم إلى العمل النافع، ويهيب بالناس إلى اتخاذ الأسباب، والإمعان في الحذر.

وقال أبو عبيدة بن الجراح لعمر بن الخطاب حين أراد الرجوع من الشام لما فيها من الطاعون: “أفرارا من قدر الله!”

فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل هبطت واديا له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟[118]

وقد أمرنا الله بإعداد المستطاع من العدة إرهابا للعدو. والمستطاع هو ما يدخل في قدرة الإنسان ومكنته واختياره. وذلك من باب دفع الأقدار بالأقدار. وهو في وسع الإنسان وصميم إمكانه.

وقال الله عز وجل: {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً}.[119]

فلو لا أن اتخاذ الحذر مستطاع، وفي الإمكان، وفي مقدور الإنسان، ما أمر الله العليم الحكيم به، لأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها.

فلا تتم مصالح العباد في معاشهم إذن إلا بمدافعة الأقدار بعضها ببعض.

ومدافعة الأقدار على نوعين[120]:

الأول : مدافعة أقدار قد انعقدت أسبابها ولم تقع، بأقدار تدفعها وتحول دون وقوعها. كمدافعة عدو مغير بالإعداد له.

وإلى هذا يشير قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}.[121]

والثاني: مدافعة أقدار قد وقعت ، بأقدار تدفعها. كمدافعة مرض بالدواء .

وإليه يشير قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “قال تداووا عباد الله فإن الله تعالى لم ينزل داء إلا وقد أنزل له شفاء إلا هذا الهرم.”[122]

أما القعود عن مدافعة الأقدار مع القدرة عليها فهي من العجز الذي نهينا عنه.

فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك ولا تعجز، وإن أصابك شيء،  فلا تقل لو أني فعلت كذا، لكان كذا وكذا، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان.”[123]

نهى النبي عن العجز، وهو القعود عن العمل وعنده القدرة عليه كسلا وتهاونا. فإذا بذل الإنسان جهده، وخرج الأمر من يده وأصبح في يد الأقدار التي لا يمكن دفعها يقول: قدر الله وما شاء فعل. ويرضى حينئذ بقدر الله صابرا. ويخضع لمشيئة الله تعالى ولا يستسلم للهم والحزن.

والحرص على ما ينفع هو مدافعة الأقدار بالأقدار. والعجز المنهي عنه هو الاستسلام للأقدار مع القدرة على مدافعتها. فلا ينبغي أن يحول الإيمان بالقدر بيننا وبين اتخاذ الحيطة والحذر والنظر في العواقب بالنظر والحرص على الخير، والعمل على الظفر به، والفرار من الشر والعمل للنجاة منه.

وقد علم الله ضعف الإنسان أمام قوة الغرائز أو أثر البيئة أو الوراثة. وعلم سبحانه أنها قد تطغى عليه، فتورطه في ألوان من الفتون. فاقتضت رحمته أن يمحو بالتوبة النصوح أثر هذا الطغيان. وأمر بالتوبة ليمحو بها قدر المعصية التي دفع إليها قدر الغريزة أو غيرها.

فمن دفع بقدر التوبة قدر المعصية –كما يدفع بقدر الطعام قدر الجوع الهلاك- فقد استمسك بالعروة الوثقى. فمن لجّ في عتوه ونفوره فعلى نفسه جنى. وما ربك بظلام للعبيد.

وقدر الله سبحانه وتعالى أن الجد سبب الظفر. وأن العمل الصالح سبب الفوز بالنجاة في الآخرة. فإن قصرنا في العمل وحاق بنا سوء تقصيرنا، كنا جديرين باللوم والتثريب، مستحقين لما أعد الله للمقصرين من الخيبة في الدنيا والعذاب الأليم في الآخرة.

ولا ينبغي أن نحتج بالقدر إذا قصرنا في عمل كان في وسعنا أن نعمله فلم نعمله، فحاق بنا ما يستوجبه التقصير، لأننا مأمورون بأن نأخذ بالحذر وأن نحتاط في الأمر ، وأن نجلب لأنفسنا الخير. وأن ندفع الشر ما استطعنا إلى ذلك سبيلا.

كل امرئ يدرك إدراكا تاما الفرق بين ما يأتيه وما يدعه طوعا واختيارا وبين ما يصيبه وليس له فيه اختيار. ومن أنكر ذلك فقد سفه نفسه وأنكر عقله.

وإنا لنرى الإنسان إذا أخفق في الحصول على مطلب التمسه لتقصير منه، عاد باللائمة على نفسه ثم عاود الطلب بعد إحكام وسائله، وإتقان ذرائعه، واتخاذ الأسباب التي يعتقد أنها كفيلة بأن تحقق أمله، وتظفره بحاجته. ومن العجب أن القدر لا يخطر بباله في ذلك. ولا يخطر بباله إلا إذا اقترف سيئة، ليحمل الأقدار تبعة ما جنى، وجريرة ما اقترف.

ولولا أن الإنسان يشعر كل الشعور بأنه مختار فيما يأتي وفيما يدع، ولولا أن الطاعات في وسعه وفي مكنته، ما نزلت الشرائع ولا جاءت الأوامر والنواهي ولا أرسل الله الرسل ولا أنزل الكتب ولا بشر ولا أنذر، ولا رغب ولا حذر، ولا جعل جنة ونعيما ولا نارا ولا جحيما.

ولو كان القدر سالبا لاختيار الناس أعماله الاختيارية، لبطل الثواب والعقاب, والتأديب والتهذيب، والنصح والإرشاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الخير والصد عن الشر. اهـ

وفي هذا السياق قال الشيخ عبد القادر الجيلاني[124]: “كثير من الرجال إذا دخلوا إلى القضاء والقدر أمسكوا، وأنا انفتحت لي فيه روزنة، فنازعت أقدار الحق بالحق للحق. والولي من يكون منازعا للقدر لا من يكون موافقا له.”[125]

 

المبحث الخامس: انسجام الحقائق

إن قدر الله السابق حقيقة، وعلمه الشامل حقيقة، وعدله المطلق حقيقة، وحرية الإنسان في أفعاله حقيقة، ومسؤوليته أمام الله حقيقة، ومحاسبته عليها حقيقة، وترتيب الجزاء على العمل حقيقة، فكل هذه الحقائق لا تتعارض في الواقع. وإنما عجزت بعض العقول عن استيعابها بشكل متناسق، أو رغبت بعض الطوائف في رفض بعضها احتجاجا بالآخر لحاجة في أنفسهم، اعترفوا بها أو لم يعترفوا.

معارضة الحقائق تسيء الفهم

إن فن التلاعب بالحقائق معروف عند أهلها، فالمحامون الذين أرادوا انتصار عملائهم قد يتمسكون ببعض الحقائق لضرب الآخر، وكذا السياسيون الذين أرادوا تحقيق مصالحهم قد يلجؤون إلى كشف بعض الحقائق في مقابلة الآخر، وقُل مثل ذلك في عالم الإعلام. إن سيئة التلاعب بالحقائق بينة، ولكنها في مسائل العقيدة أفحش فاحشة ارتكبها الإنسان، إن الإنسان قد أعطاه الله قدرة على الجدال، انتصارا للحق أو تملصا عنه. {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا}[126]

فطريق البحث عن الحق سالك فقط لمن يتجنب أسلوب المعارضة والمجادلة التي يتمسك كل طرف فيه بالموقف مضحيا ببعض الحقائق التي قد تكون عند الطرف الآخر. وقد شدد الرسول -صلى الله عليه وسلم- النكير على هذا السلوك.

أخرج الإمام أحمد عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: لَقَدْ جَلَسْتُ أَنَا وَأَخِي مَجْلِسًا مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهِ حُمْرَ النَّعَمِ أَقْبَلْتُ أَنَا وَأَخِي، وَإِذَا مَشْيَخَةٌ مِنْ صَحَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُلُوسٌ عِنْدَ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِهِ فَكَرِهْنَا أَنْ نُفَرِّقَ بَيْنَهُمْ، فَجَلَسْنَا حَجْرَةً إِذْ ذَكَرُوا آيَةً مِنْ الْقُرْآنِ فَتَمَارَوْا فِيهَا حَتَّى ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمْ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُغْضَبًا قَدْ احْمَرَّ وَجْهُهُ يَرْمِيهِمْ بِالتُّرَابِ، وَيَقُولُ:

“مَهْلًا يَا قَوْمِ!! بِهَذَا أُهْلِكَتْ الْأُمَمُ مِنْ قَبْلِكُمْ! بِاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، وَضَرْبِهِمْ الْكُتُبَ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ، إِنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَنْزِلْ يُكَذِّبُ بَعْضُهُ بَعْضًا، بَلْ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَمَا عَرَفْتُمْ مِنْهُ فَاعْمَلُوا بِهِ، وَمَا جَهِلْتُمْ مِنْهُ فَرُدُّوهُ إِلَى عَالِمِهِ.”[127]

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ نَتَنَازَعُ فِي الْقَدَرِ، فَغَضِبَ حَتَّى احْمَرَّ وَجْهُهُ، حَتَّى كَأَنَّمَا فُقِئَ فِي وَجْنَتَيْهِ الرُّمَّانُ، فَقَالَ: أَبِهَذَا أُمِرْتُمْ؟! أَمْ بِهَذَا أُرْسِلْتُ إِلَيْكُمْ؟! إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حِينَ تَنَازَعُوا فِي هَذَا الْأَمْرِ! عَزَمْتُ عَلَيْكُمْ أَلَّا تَتَنَازَعُوا فِيهِ.[128]

وعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ نَفَرًا كَانُوا جُلُوسًا بِبَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: بَعْضُهُمْ أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ كَذَا وَكَذَا؟ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ كَذَا وَكَذَا؟ فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَخَرَجَ كَأَنَّمَا فُقِئَ فِي وَجْهِهِ حَبُّ الرُّمَّانِ فَقَالَ: بِهَذَا أُمِرْتُمْ؟! أَوْ بِهَذَا بُعِثْتُمْ؟! أَنْ تَضْرِبُوا كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ؟ إِنَّمَا ضَلَّتْ الْأُمَمُ قَبْلَكُمْ فِي مِثْلِ هَذَا! إِنَّكُمْ لَسْتُمْ مِمَّا هَاهُنَا فِي شَيْءٍ، انْظُرُوا الَّذِي أُمِرْتُمْ بِهِ فَاعْمَلُوا بِهِ، وَالَّذِي نُهِيتُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا.[129]

إن كثرة التنازع وحب التجادل يبعد الإنسان عن الوصول إلى الحقيقة، لذلك أخبر الرسول عن هؤلاء الذين يكثرون الجدل أنهم ضيعوا ما لديهم من نور الحقيقة.

عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ. ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ}[130].[131]

وبطبيعة الحال ليس المقصود بذم الجدل هنا منع المباحثة والمناظرة للبحث عن الحقيقة بصدق لكن المراد بالمجادلة هنا المعاندة والتي فيها التعصب وإعجاب كل ذي رأي برأيه، كما هو معروف.

وإن الأسئلة المطروحة في هذه المسألة كثيرة، لكننا لا يلزمنا أن نجيب عليها واحدة واحدة، والأفضل من ذلك أن نمسك بمفاصل المسألة، فمن استوعبها فهو قادر على إجابة كل الإشكالات – أو على الأقل لديه أسس يرتكز عليها في مواجهة أي تساؤلات- ومن لم يستوعب هذه المفاصل سيضيع مع أمواج متلاطمة من الشبهات المحيرة.

 

رحمة الله الواسعة وحكمته البالغة

وينبغي أن نستحضر هنا الحقيقة الأم التي نرجع إليها في كل الأحوال وجميع المجالات: أن الله حكيم في كل أفعاله رحيم بجميع خلقه. وهذه حقيقة كبرى لا يصح إغفالها، وصفات الله سبحانه تدل على طبيعة أفعاله وقراره وتقديره. علمه من علمه، وجهله من جهله.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي.[132] وفي رواية: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي.[133]

إن هذه الكلمات المسطورة على عرش الرحمن لتعدّ حقيقة كبرى تلخّص ما قضى الله به على الخلق في لوحه المحفوظ، فهو سبحانه يبرزها فوق العرش، وأشهدها ملائكته المقربين، فهي تعتبر إطارا كبيرا لكل ما سبق تقديره في خلقه، وخلاصة مهمة لما جرت به أقلام القدر. فلم يعترض معترض إلا لجهله بخلاصة الأحداث ولخفاء مغزى القضاء عن مبلغ علمه.

وهذه الحقيقة أثبتها الله في القرآن في آيات كثيرة. منها قوله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا}[134]

فهؤلاء الملائكة المقربون الذين يحملون العرش، سبق لهم الإدراك بهذه الحقيقة بوضوح، فهم يحمدون الله ويسبحونه بإعلان هذه الحقيقة. نعم إن رحمة الله وسعت كل شيء، وشملت كل الخلق.

وحتى هؤلاء الذين عصوا الله لم يحرمهم من رحمته سبحانه. قال الله تعالى: {قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}[135]

قال الألوسي: { وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْء } أي شأنها أنها واسعة تبلغ كل شيء، ما من مسلم ولا كافر ولا مطيع ولا عاص إلا وهو متقلب في الدنيا بنعمتي. وفي نسبة الإصابة إلى العذاب بصيغة المضارع ونسبة السعة إلى الرحمة بصيغة الماضي إيذان بأن الرحمة مقتضى الذات وأما العذاب فمقتضى معاصي العباد.[136]

قال السيد رشيد رضا[137] في تقسير هذه الآية: أي: قد كان من سبق رحمتي غضبي أن أجعل عذابي خاصا، أصيب به من أشاء من الكفار والعصاة المجرمين، وأما رحمتي فقد وسعت كل شيء من العالمين، فهي من صفاتي القديمة الأزلية التي قام بها أمر العالم منذ خلقته. والعذاب ليس من صفاتي بل من أفعالي المترتبة على صفة العدل. ولهذا عبر عن التعذيب بالفعل المضارع، وعن تعلق الرحمة بالفعل الماضي.

وهذه الرحمة هي العامة المبذولة لكل مخلوق، ولولاها لهلك كل كافر وعاص عقب كفره وفجوره {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ}[138].

وهنالك رحمة خاصة يوجبها ويكتبها تعالى لبعض المؤمنين المحسنين. ويبذل ما شاء منها لمن شاء بغير كتابة منه. وما كتابته إلا فضل منه ورحمة.

وأما العذاب فلم يرد في الكتاب ولا في خبر المعصوم أن الله تعالى كتبه على نفسه، ولكن أثبته، وتوعد به فكان لا بد من وقوعه؛ ولأنه من متعلقات صفتي العدل والحكمة.[139]

قال السعدي: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} من العالم العلوي والسفلي، البر والفاجر، المؤمن والكافر، فلا مخلوق إلا وقد وصلت إليه رحمة اللّه، وغمره فضله وإحسانه، ولكن الرحمة الخاصة المقتضية لسعادة الدنيا والآخرة، ليست لكل أحد.[140]

إن الله رحيم بعباده أكثر من رحمة الأم بولدها، كما جاء عند البخاري عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْيٌ فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنْ السَّبْيِ قَدْ تَحْلُبُ ثَدْيَهَا تَسْقِي إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتُرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ قُلْنَا لَا وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا تَطْرَحَهُ فَقَالَ لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا.[141]

إن من لم يطمئن قلبه بقضاء الله فقد غفل عن حقيقة رحمة الله الواسعة ورأفته بعباده . قد يبدو للعبد أن بعض ما قضى به الله لعباده شرا لهم، لكن الله تعالى أعلم بالخير من عباده. وأحرص على نفعهم منهم لأنفسهم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

لنقرأ هذه الرواية الطويلة التي تصوِّر لنا مجريات الأمور في محكمة القضاء الكبرى يوم القيامة لنرى مدى رحمة الله بعباده، مع قيامه بالعدل في محاسبة العباد. وردت في صحيح مسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ نَاسًا فِي زَمَنِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ، قَالَ: هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ بِالظَّهِيرَةِ صَحْوًا لَيْسَ مَعَهَا سَحَابٌ؟ وَهَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ صَحْوًا لَيْسَ فِيهَا سَحَابٌ؟

قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ .

قَالَ: مَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا كَمَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ أَحَدِهِمَا.

إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ: لِيَتَّبِعْ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ!

فَلَا يَبْقَى أَحَدٌ كَانَ يَعْبُدُ غَيْرَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مِنْ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْصَابِ إِلَّا يَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلَّا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ مِنْ بَرٍّ وَفَاجِرٍ وَغُبَّرِ أَهْلِ الْكِتَابِ.

فَيُدْعَى الْيَهُودُ فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟

قَالُوا: كُنَّا نَعْبُدُ عُزَيْرَ ابْنَ اللَّهِ.

فَيُقَالُ: كَذَبْتُمْ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ صَاحِبَةٍ وَلَا وَلَدٍ، فَمَاذَا تَبْغُونَ؟

قَالُوا: عَطِشْنَا يَا رَبَّنَا فَاسْقِنَا.

فَيُشَارُ إِلَيْهِمْ: أَلَا تَرِدُونَ؟ فَيُحْشَرُونَ إِلَى النَّارِ كَأَنَّهَا سَرَابٌ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَيَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ.

ثُمَّ يُدْعَى النَّصَارَى فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟

قَالُوا: كُنَّا نَعْبُدُ الْمَسِيحَ ابْنَ اللَّهِ.

فَيُقَالُ لَهُمْ: كَذَبْتُمْ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ صَاحِبَةٍ وَلَا وَلَدٍ! فَيُقَالُ لَهُمْ: مَاذَا تَبْغُونَ؟

فَيَقُولُونَ عَطِشْنَا يَا رَبَّنَا فَاسْقِنَا.

قَالَ فَيُشَارُ إِلَيْهِمْ: أَلَا تَرِدُونَ؟ فَيُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ كَأَنَّهَا سَرَابٌ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَيَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ.

حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلَّا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ تَعَالَى مِنْ بَرٍّ وَفَاجِرٍ، أَتَاهُمْ رَبُّ الْعَالَمِينَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي أَدْنَى صُورَةٍ مِنْ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا قَالَ: فَمَا تَنْتَظِرُونَ؟ تَتْبَعُ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ.

قَالُوا: يَا رَبَّنَا فَارَقْنَا النَّاسَ فِي الدُّنْيَا أَفْقَرَ مَا كُنَّا إِلَيْهِمْ وَلَمْ نُصَاحِبْهُمْ.

فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ.

فَيَقُولُونَ: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ لَا نُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا،

مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ لَيَكَادُ أَنْ يَنْقَلِبَ،

فَيَقُولُ: هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ آيَةٌ فَتَعْرِفُونَهُ بِهَا؟

فَيَقُولُونَ: نَعَمْ.

فَيُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ فَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلَّهِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ إِلَّا أَذِنَ اللَّهُ لَهُ بِالسُّجُودِ، وَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ اتِّقَاءً وَرِيَاءً إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ ظَهْرَهُ طَبَقَةً وَاحِدَةً، كُلَّمَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ خَرَّ عَلَى قَفَاهُ. ثُمَّ يَرْفَعُونَ رُءُوسَهُمْ وَقَدْ تَحَوَّلَ فِي صُورَتِهِ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ،

فَقَالَ: أَنَا رَبُّكُمْ.

فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا.

ثُمَّ يُضْرَبُ الْجِسْرُ عَلَى جَهَنَّمَ وَتَحِلُّ الشَّفَاعَةُ وَيَقُولُونَ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ..!

قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْجِسْرُ؟

قَالَ: دَحْضٌ مَزِلَّةٌ فِيهِ خَطَاطِيفُ وَكَلَالِيبُ وَحَسَكٌ، تَكُونُ بِنَجْدٍ فِيهَا شُوَيْكَةٌ يُقَالُ لَهَا السَّعْدَانُ. فَيَمُرُّ الْمُؤْمِنُونَ، كَطَرْفِ الْعَيْنِ، وَكَالْبَرْقِ، وَكَالرِّيحِ، وَكَالطَّيْرِ، وَكَأَجَاوِيدِ الْخَيْلِ، وَالرِّكَابِ، فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ، وَمَخْدُوشٌ مُرْسَلٌ، وَمَكْدُوسٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ. حَتَّى إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ النَّارِ. فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ بِأَشَدَّ مُنَاشَدَةً لِلَّهِ فِي اسْتِقْصَاءِ الْحَقِّ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِإِخْوَانِهِمْ الَّذِينَ فِي النَّارِ،

يَقُولُونَ: رَبَّنَا كَانُوا يَصُومُونَ مَعَنَا وَيُصَلُّونَ وَيَحُجُّونَ.

فَيُقَالُ لَهُمْ: أَخْرِجُوا مَنْ عَرَفْتُمْ!

فَتُحَرَّمُ صُوَرُهُمْ عَلَى النَّارِ، فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا قَدْ أَخَذَتْ النَّارُ إِلَى نِصْفِ سَاقَيْهِ وَإِلَى رُكْبَتَيْهِ.

ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا مَا بَقِيَ فِيهَا أَحَدٌ مِمَّنْ أَمَرْتَنَا بِهِ.

فَيَقُولُ: ارْجِعُوا، فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ!

فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا.

ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا أَحَدًا مِمَّنْ أَمَرْتَنَا!

ثُمَّ يَقُولُ: ارْجِعُوا، فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ نِصْفِ دِينَارٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ!

فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا.

ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا مِمَّنْ أَمَرْتَنَا أَحَدًا.

ثُمَّ يَقُولُ: ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ!

فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا.

ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا خَيْرًا .

وَكَانَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ يَقُولُ: إِنْ لَمْ تُصَدِّقُونِي بِهَذَا الْحَدِيثِ فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا}[142]

فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: شَفَعَتْ الْمَلَائِكَةُ وَشَفَعَ النَّبِيُّونَ وَشَفَعَ الْمُؤْمِنُونَ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ….

فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنْ النَّارِ فَيُخْرِجُ مِنْهَا قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ، قَدْ عَادُوا حُمَمًا، فَيُلْقِيهِمْ فِي نَهَرٍ فِي أَفْوَاهِ الْجَنَّةِ يُقَالُ لَهُ نَهَرُ الْحَيَاة،ِ فَيَخْرُجُونَ كَمَا تَخْرُجُ الْحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ. أَلَا تَرَوْنَهَا تَكُونُ إِلَى الْحَجَرِ أَوْ إِلَى الشَّجَرِ مَا يَكُونُ إِلَى الشَّمْسِ أُصَيْفِرُ وَأُخَيْضِرُ، وَمَا يَكُونُ مِنْهَا إِلَى الظِّلِّ يَكُونُ أَبْيَضَ.

فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّكَ كُنْتَ تَرْعَى بِالْبَادِيَةِ.

قَالَ: فَيَخْرُجُونَ كَاللُّؤْلُؤِ فِي رِقَابِهِمْ الْخَوَاتِمُ، يَعْرِفُهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ هَؤُلَاءِ عُتَقَاءُ اللَّهِ الَّذِينَ أَدْخَلَهُمْ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ عَمِلُوهُ وَلَا خَيْرٍ قَدَّمُوهُ.

ثُمَّ يَقُولُ: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ فَمَا رَأَيْتُمُوهُ فَهُوَ لَكُمْ!

فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ!

فَيَقُولُ: لَكُمْ عِنْدِي أَفْضَلُ مِنْ هَذَا فَيَقُولُونَ يَا رَبَّنَا أَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا فَيَقُولُ رِضَايَ فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا.[143]

فسبحان الذي لا يُحصي ثناءه أحد، ولا يبلغ غاية حكمته عقل، ولا يدرك مبلغ رحمته خلق …

وإنما تلك إطلالة خاطفة على سعة رحمة الله غير المحدودة التي ستتكشف عن حقيقتها و”حجمها” يوم يرث الله الأرض ومن عليها، وحينها لا يسع الخلق كلهم إلا يسبّحوا الله بحمده ويذعنون له بالتبجيل والتهليل والتكبير…

{وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[144]

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الْعُقُوبَةِ مَا طَمِعَ بِجَنَّتِهِ أَحَدٌ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الرَّحْمَةِ مَا قَنَطَ مِنْ جَنَّتِهِ أَحَدٌ.[145]

وعند البخاري عنه أيضا قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الرَّحْمَةَ يَوْمَ خَلَقَهَا مِائَةَ رَحْمَةٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً، وَأَرْسَلَ فِي خَلْقِهِ كُلِّهِمْ رَحْمَةً وَاحِدَةً، فَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الرَّحْمَةِ لَمْ يَيْئَسْ مِنْ الْجَنَّةِ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الْعَذَابِ لَمْ يَأْمَنْ مِنْ النَّار.[146]

لا إله إلا الله …، ما اعترض أحد للقضاء والقدر  إلا لجهله وظلمه لنفسه….

العدالة الإلهية

لكن الرحمة ليست الصفة الوحيدة للرحمن، ولا هي الحقيقة الوحيدة التي تسير في ظلها أحداث الكون، بل هناك حقيقة أخرى تكملها وتزيدها جلالا وكمالا، وهي حقيقة العدالة الإلهية …

إن الله رؤوف رحيم، لكنه عزيز حكيم، هو غفور حليم، لكنه جبار قهار. فمن تمسك برحمة الله وغفل عن عدله فقد عرّض نفسه للمهالك الوشيكة ، ومن غرَّه حلم الله ولم يرع جبروته وقهره فقط سلك لنفسه طريقا إلى الهاوية ويوشك أن يبوء بغضب من الله وعقاب منه. فعلى الإنسان أن يستحضر الحقيقتين معا، رحمة الله ورأفته من جانب، وعدله وعزته من جانب آخر.

والله سبحانه وتعالى خلق الحياة الدنيا مسرحا لاختبار الإنسان ليتمخض عنه التمييز بين المحسن والمسيء. فأقام العدل على المسيء ومنح الفضل للمحسن. قال تعالى: {إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُون}[147]

وقال تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى}.[148]

وفي هذا المختبر الحياتي فإن الله لا يقدر على الإنسان إلا ما هو حق، ليس فيه ظلم لأحد. فالكل يجازَى حسب عمله، لا بخس فيه لحق، ولا إفلات فيه لظلم. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}[149]

وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا}.[150]

الإيمان توازن

إن المؤمن يراعي الحقائق بشكل متوازن، وهو شأن الإيمان الصحيح في كل القضايا. فهو متوازن بين الرجاء والخوف، وبين التوكل على الله والأخذ بالأسباب، بين الزهد في الدنيا والاجتهاد فيها، … وبين الإيمان بالقدر والعمل بالإرادة الحرة.

فكل هذه الحقائق المتقابلة إذا غلبت إحداها على الأخرى اختلّت الحياة ، إذا غلّب الإنسان الرجاء في رحمة الله على الخوف من الله تجرأ على المعاصي ولم يخف من عذاب الله. وإذا غلب العكس قنط من رحمة الله وأيس من عفوه.

وإذا أفرط في تفويض الأمور إلى الله ولم يأخذ بالأسباب ضيّع كل مصالحه وخسر نفسه وحياته، وإذا اعتمد على الأسباب ولم يتوكل على الله لم يحظ بعناية الله ولم يرزق التوفيق من الله.

وإذا بالغ الإنسان في الزهد في الدنيا ولم يعمل لإصلاح حياته فقد ضيع مزرعته التي يتزود بها لآخرته، وإذا حرص الإنسان على الدنيا وتكالب عليها فسيخسرها بتركها ويخسر آخرته لعدم استعداده لها.

فكذلك الأمر في مسألة القضاء والقدر . إن من يتمسك بحقيقة القدر دون الالتفات إلى واجب العمل سيكون اتكاليا سلبيا، ومن خاض معركة الحياة دون الإيمان بالقدر سيهلك أعصابه ويفقد اتزانه النفسي.

لا التفات إلى الأقدار لمن يريد بناء المستقبل

إن الفرق بين المراحل الثلاث –أي الماضي والحاضر والمستقبل – هو أن الماضي قد أصبح حقيقة غير قابلة للتغيير ولا جدوى من تدخل الإرادة الإنسانية فيه، أما الحاضر فهو عملية متحركة لم تكتمل بعد ويكون للتدخل في مساره القدر النسبي من التأثير، بينما يمّثل المستقبل المجال الوحيد المتاح أمام الإرادة الإنسانية للتدخل فيه. فإنشاء الإرادة وإحداث التغيير في الوقت الحاضر هو الذي سؤثر على واقع المستقبل إلى حد كبير. فالكلام عن القضاء والقدر أنسب ما يكون إذا تعلق بالماضي، لأنه معلوم ولا مجال لنا لتغييره ، وأما الحاضر والمستقبل فالأنسب فيهما أن نستحضر حريتنا في الاختيار ومسؤوليتنا في تحديد المصير.

فلكل مقام مقال، ولكل حادث حديث. من يتوجه إلى صناعة مستقبله، ويعمل من أجل تقرير مصيره لا يحسن به أن يفكر في الأقدار المكتوبة، فإن ذلك لا يفيده ولا يطالب منه. لما أنزل الله شرعه وأمر الإنسان بتنفيذه فالمطلوب منه هو تنفيذ المأمور وليس الانصياع للمقدور. إذا امتثل الإنسان أمر الله مختارا فهو مأجور، وليس له شيء إذا فعله وهو مجبور. فعلينا أن نستخدم أوراقنا المربحة وهي الإرادة الحرة والفعل الإيجابي والاختيار الصحيح.

ومهما نتكلم عن الأقدار في المستقبل  فإنه سيكون كلاما عن جهل، بعيدا عن اعتماد العلم اليقيني، فالتفكير في أقدار المستقبل مهما كان، لن يتعدى الظنون والتخمينات، فليس هناك أدنى اطلاع للإنسان على  قدره في المستقبل بشكل جازم، إلا ما ظهر في مؤشرات واقعه، وهي كلها احتمالات، فالأفضل للإنسان في مجال المستقبل أن يحدد هو بنفسه ماذا يجب أن يكون عليه مستقلبه. وأهم ما يحدد مسار حياته هو إرادته وفكره وعمله. وكما قال أحد الصالحين: إن واجبنا هو أن ندفع أقدار الحق بالحق للحق.

المبحث السادس: من ثمار هذا الإيمان

وقبل أن نختم هذا الفصل عن القضاء والقدر ينبغي أن ننوه هنا بأن تقرير حقيقة قضاء الله وقدره ليس عبثا ولا عقبة عقلية على الناس, بل هو عنصر مهم من المنظومة العقدية التي تكوّن شخصية قوية متوازنة. وتنتج حالات من الثبات والقوة والإقدام ما لا يقدر عليها غير المؤمن بهذه العقيدة إيمانا راسخا. ورقد رصد الدكتور القرضاوي[151] فوائد ونتائج لهذا الأمر في هذه النقاط الآتية:

1- القوة في مواطن البأس والخطر

أما القوة في مواطن البأس والخطر، وعند ملاقاة الأعداء في الحروب، فهو أمر معروف، حدثنا عنه التاريخ، وأنبأنا به الواقع.

فإيمان المسلم بأن ما قدر الله له أو عليه نافذ لا محالة، وأنه لن يموت قبل قبل أجله المحدود، وأن أحدا لا يستطيع أن يزيد في عمره، أو ينقص منه، كما قال تعالى (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ)[152] (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ)[153]

قال السيد جمال الدين[154] في مقال بمجلة (العروة الوثقى): “الاعتقاد بالقضاء والقدر – إذا تجرد عن شناعة الجبر – يتبعه الجرأة والإقدام، وخلق الشجاعة والبسالة، يبعث على اقتحام المهالك التي توجب لها الأسود، وتنشق منها مرائر الأهوال، ويحليها بحلل الجود والسخاء، ويدعوها إلى الخروج عن كل ما يعز عليها، بل يحملها على بذل الأرواح والتخلي عن نضرة الحياة…. كل هذا في سبيل الحق الذي قد دعاها للاعتقاد بهذه العقيدة.

الذي يعتقد بأن الأجل محدود، والرزق مكفول، والأشياء بيد الله، يصرفها كيف يشاء، كيف يرهب الموت في الدفاع عن حقه، وإعلاء كلمة أمته أو ملته، والقيام بما فرض الله عليه من ذلك.

اندفع المسلمون في أول نشأتهم إلى الممالك والأقطار يفتحونها ويتسلطون عليها، فأدهشوا العقول، وحيروا الألباب، بما دوخوا الأمم، وقهروا الدول، وامتدت سلطتهم من جبال بيرينيه – الفاصلة بين إسبانيا وفرنسا – إلى جدار الصين، مع قلة عدتهم وعددهم، وعدم اعتيادهم على الأهوية المختلفة وطبائع الأقطار المتنوعة، أرغموا الملوك، وأذلوا القياصرة والأكاسرة، في مدة لا تتجاوز ثمانين سنة، إن هذا ليعد من خوارق العادات وعظائم المعجزات.”[155]

2- الثبات في مواجهة الطغيان

ومن ثمار الإيمان بالقدر: أنه يهب صاحبه ثباتا ورسوخا في مقاومة الباطل ومواجهة الظلم والطغيان وإنكار المنكر، لا يهاب فرعونا متألها ولا طاغوتا متجبرا، شعاره قول الله تعالى: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ).[156]

كما روي في الحديث: “ولا يمنعنّ أحدكم رهبة الناس أن يقول بحق إذا رآه، ويذكر بعظيم، فإن ذلك لا يقرب من أجل، ولا يباعد من رزق.”[157]

ذلك أن الناس عادة يخافون على أمرين نفيسين عندهم وهما: العمر والرزق. والعمر محتوم والرزق مقسوم.

وكما لا يستطيع أحد أن ينتقص من عمرك ساعة لايستطيع أن ينتقص من رزقك لقمة.

ولذلك وقف المسلمون في وجه الطغاة والجبارين ولم يعبهوا بجبروتهم ولم يهنوا أمام قوتهم وطغيانهم.

هدد الحجاج[158] الأمام الفقيه سعيد بن جبير[159] بالقتل فقال له: لو علمت أن الموت والحياة بيدك ما عبدت إلها غيرك!

وقال لامرأة من الخوارج: لأحصدنكم حصدا! فقالت له: أنت تحصد والله يزرع، فانظر أين قدرة المخلوق من قدرة الخالق؟

إن المؤمن لا يخاف على عمره لأنه يعلم أنه أيام معدودة وأنفاس محدودة في صحف مكتوبة كما قال تعالى: (وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ).[160]

3- الصبر عند نزول المصائب

ومن ثمرات الإيمان بالقدر: الصبر عند نزول المصائب. فالمؤمن بالقدر لا يسيطر عليه الجزع والفزع، ولا يستبد به السخط والهلع. بل يستقبل مصائب الدهر بثبات كثبات الجبال، قد استقر في أعماقه قول الله تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ . لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)[161].

فإيمان المسلم بقدر الله تعالى يمنحه الثبات عند صدمة المصيبة، لأنه يعلم أنها مقدرة مكتوبة من قبل أن تخلق. ومن هنا لا يستخفّه الأسى والحزن على ما فات، والفرح بما هو آت. بل هو ثابت متوازن.

ولهذا مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمن، فقال: “عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له.”[162]

والمراد بالمؤمن هنا “المؤمن القوي” وهو خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف. وإن كان في كل مؤمن خير. والمؤمن القوي هو الذي إذا حل به ما يكره من شدائد الدنيا وكرباتها، قال في يقين وثقة: قدر الله وما شاء فعل. كما علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

عزّى عليٌ رجلا مات ابنه وكان شديد الحزن عليه. فقال له: يا أبا فلان إنك إن صبرت نفذت فيك المقادير ولك الأجر، وإن جزعت نفذت فيك المقادير وعليك الوزر.

فالمقادير نافذة في كلا الحالين، ولكن العاقل هو الذي يختار أن تنفذ المقادير فيه وهو مأجور ولا موزور، ليبشَّر مع الصابرين: (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ . أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)[163]

4- الرضا والقناعة بما قسم الله

ومن آثار الإيمان بالقدر، رضا المؤمن بما قسم الله، وقناعته بما رزق الله. وهذا يثمر ثمرات طيبة في نفس المؤمن وحياته.

أولها: غنى القلب، فمن الناس من لو أوتي واديا من ذهب لابتغى به ثانيا، ولو أوتي ثانيا لتمنى به ثالثا.

والغنى الحقيقي ليس إلا غنى النفس، الذي قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: “ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس.”[164]

وقال: “ارض بما قسم الله تكن أغنى الناس.”[165]

وثانيتها: الإجمال في الطلب. فهو يسعى إلى رزقه ويكدح في حياته ولكن بإجمال واعتدال. وليس كأولئك الذين يلهثون أثناء النهار والليل، مكدودي الأجسام، مشتَّتي القلوب، مهمومي النفوس، لايشعرون بهدوء بال، ولا براحة نفس، ولا بطمئنان فكر. فإن حصلوا على المزيد، ازدادوا لهثا وهما. وإن أخفقوا امتلئوا نكدا وغما.

وفي الحديث: “إن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل أجلها وتستوعب رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب.”[166]

وثالثنها: ألا يتطلع إلى ما ليس في وسعه، وليس من شأنه، ويرضى بما وهب الله له، مما لا يستطيع تغييره، وفي حدود ما قدر له يجب أن يكون نشاطه وطموحه. فلا يعيش متمنيِّا ما لا يتيسر له، متطلعا إلى ما وهب لغيره ولم يوهب له. وذلك كتمني الشيخ أن يكون له قوة الشباب. وتطلع المرأة الدميمة إلى الحسناء في غيرة وحسد. ونظرة الشاب القصير إلى الرجل الطويل في حسرة وتلهف. وكما حدث في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم حين تمنى النساء أن يكون لهن ما للرجال، فأنزل الله: (وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ).[167]

الرضا مصدر القوة لصاحبه

والرضا بما قسم الله، والقناعة بما رزق الله وإن قل، مصدر من مصادر القوة للمؤمن الراضي القانع. إنه ينظر إلى قصور الأمراء وخزائن الملوك ورياش المترفين كما ينظر راكب الطائرة المحلقة في أعالي الفضاء إلى القرى والمدن والناس. إنه يرى القصور الشاهقة كالعلب الصغيرة، ويرى البشر كالنمل في جحوره.

وهذا يقوي صاحب الرسالة في مواجهة الباطل، ويجعله كالطود الأشم، لا تؤثر فيه العواصف الهوج. إنه يتغنى بما يتغنى به الإمام الشافعي[168]:

 “أنا إن عشت لست أعدم قوتا وإذا مت لسـت أعدم قبرا

همتي همة الـملوك ونفســي         نفس حر ترى المذلة كفـرا

وإذا ما قنعـت بالقوت عمري       فلمـاذا أزور زيـدا وعمرا”[169]

5- العزة في طلب الحوائج

ومن ثمار الإيمان بالقدر: أن يطلب المؤمن حاجته عند من هي عنده بعزة نفس، لا يطأطئ رأسه، ولا يذل نفسه، ولا يحني ظهره لمخلوق، كما في الأثر: “اطلبوا الحوائج بعزة أنفس، فإن ما قُدر كائن.”

إن الله كتب العزة للمؤمن، فلا ينبغي أن يفرط فيها، قال عز وجل: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ).[170]

فلا يحل لمؤمن أن يذل نفسه لمخلوق مثله من أجل حاجة له عنده.

فقد علم النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمه – عبد الله بن عباس[171] وكان غلاما – كلمات تزرع العزة في قلب المؤمن فقال: “احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتب الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتب الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف.”[172]

6- السكينة وراحة النفس

ومن أعظم ثمار الإيمان بالقدر: شعور المؤمن به براحة النفس، وسكينة القلب، فقد علم علم اليقين أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وما كتبه الله له من عافية لا بد أن يدركه، وما قدر له من بلاء لن يفر منه. فلا تعبث به رياح الشك، ولا عواصف القلق، الذي أصبح آفة الحضارة الغربية المادية الحديثة، وأمسوا يقولون عنه: مرض العصر.

لقد نجا المؤمن بالقدر من هذا المرض، وعاش معافى النفس، مرتاح البال، فإن الله عز وجل بقسطه وحكمته جعل الفرج والرَّوح في الرضا واليقين، وجعل الهم والحزن في السخط والشك.

المؤمن لا يعيش بين “لو” و”ليت”

وإن من أهم عوامل القلق الذي يفقد الإنسان سكينة النفس وأمنها ورضاها هو تحسره على الماضي، وسخطه على الحاضر، وخوفه من المستقبل.

إن بعض الناس تنزل به النازلة من مصائب الدهر، فيظل شهورا وأعواما يجتر آلامها، ويستذكر ذكرياتها القاتمة، متحسرا تارة، متمنيا أخرى. شعاره ليتني فعلت، ليتني تركت، لو أني فعلت كذا لكان كذا.

لذلك ينصح الأطباء النفسانيون والمرشدون الاجتماعيون ورجال التربية أن ينسى الإنسان آلام أمسه، ويعيش في واقع يومه، فإن الماضي بعد أن ولى لايعود.

ما مضى فات، والمؤمل غيب     ولك الساعة التي أنت فيها

وقد صور هذا المعنى أحد الحاضرين بإحدى الجامعات بأمريكا تصويرا بديعا لطلبته حين سألهم: كم منكم مارس نشر الخشب؟ فرفع كثير من الطلبة أصابعهم. فعاد يسألهم: كم منكم مارس نشر نشارة الخشب؟ فلم يرفع أحد منهم أصبعه. وعندئذ قال المحاضر: بالطبع لا يمكن لأحد أن ينشر نشارة الخشب، فهي منشورة أصلا.

وكذلك الحال مع الماضي، فعندما ينتابكم القلق لأمور حدثت في الماضي فاعلموا أنكم تمارسون نشارة الخشب!!

ولقد نقل هذا التصوير (ديل كارنيجي) في كتابه الشهير “دع القلق وابدأ الحياة”، كما نقل قول بعضهم: لقد وجدت أن القلق على الماضي لا يجدي شيئا تماما، كما لا يجديك أن تطحن الطحين، ولا أن تنشر النشارة. وكل ما يجديك إياه القلق هو: أن يرسم التجاعيد على وجهك، أو يصيبك بقرحة في المعدة.[173]

7- الاتجاه إلى العمل والبناء

وبعد هذه الثمرات الطيبة التي يجتنيها المسلم في نفسه وحياته من خلال الإيمان بقدر الله تعالى، وبعد شعوره براحة النفس، وسكينة الفؤاد، وسلامته من التحسر على الماضي، والجزع من الحاضر، والقلق من المستقبل، لا يجد المؤمن سيبلا إلا الاتجاه إلى الإيجابية والبناء والعمل المثمر، في تزكية النفس، وعمارة الأرض، وإصلاح المجتمع، وهداية العالم.

وهذا شأن المؤمن القوي الذي همه امتثال المأمور، واجتناب المحظور، والرضا بالمقدور. وهو الذي جاء فيه الحديث الصحيح المعروف: “المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير. احرص على ما ينفعك ولا تعجز، ولا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان.”[174]

أمر المؤمن في هذا الحديث بالحرص على ما ينفعه، سواء في دينه أو في دنياه، والاستعانة بالله على ذلك، فهو الذي يهيئ له الأسباب، ويزيل من طريقه العوائق، كما قال تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، وقال الشاعر الصالح:

إذا لم يكن عون من الله للفتى    فأول ما يجني عليه اجتهاده

ومن العجز المذموم هنا: إلقاء الأحمال على القدر والاحتجاج به في الإعفاء من المسؤولية، وقديما قيل: من دلائل العجز كثرة الإحالة على المقادير.

وقد روي أن بعض الصحابة، في زمن الفتوح الإسلامية، سأله أحد قواد الفرس: من أنتم؟ ما حقيقتكم؟ فقال له: نحن قدر الله، ابتلاكم الله بنا وابتلانا بكم، فلو كنتم سحابة في السماء لصعدنا إليكم أو لهبطتم إلينا!

وقد ورد في سنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بين رجلين، فقال المقضي عليه لما أدبر: حسبي الله ونعم الوكيل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله يلوم على العجز، ولكن عليك بالكيس، فإن غلبك أمر فقل حسبي الله ونعم الوكيل.[175]

كره النبي صلى الله عليه وسلم من الرجل المغلوب أن يستسلم ويعجز، وله حيلة في المغالبة والمدافعة. فإذا أتاه ما لا طاقة له بدفعه، وما هو فوق قدرته، ولا حيلة له فيه، فهنا يكون التسليم، ويحسن أن يقول “حسبي الله ونعم الوكيل.”

اعتبر الرسول الكريم استسلام الرجل من العجز الذي يلوم الله عليه. وأمره بالكيس وهو العقل والفطنة وحسن التصرف.

كما أوصى هذا الحديث المؤمن القوي إذا أصابه شيء من شدائد الدنيا وابتلاءاتها –وما أكثرها- الا يسلم نفسه للتحسر والأسى على ما فاته، فيصبح ويمسي وهو يمضغ كلمات الأسى والأسف، ويقول: لو أني فعلت كذا لكان كذا، على سبيل التحسر والتمني. ويجترّ الذكريات الحزينة. بل أمره أن يرد الأمر هنا إلى قدر الله، ويسلم لأمره وقضائه قائلا: “قدر الله وما شاء فعل”، معتبرا أن الخير فيما اختاره له، ثم هو لا يقدر على غير ذلك، فما فات مات. والماضي لا يعود.

وقال أحد الحكماء: الأمور أمران، أمر لك فيه حيلة، فلا تعجز عنه، وأمر لا حيلة لك فيه، فلا تجزع منه.

فليكن إيجابيا، وليتجه إلى المستقبل، ليعمل ويبني وينتج، لا إلى (اللولوة) التي يقول فيها (لو أني فعلت، لو أني تركت)! فإن لو هذه (لو) المتمنية والمتحسرة تفتح عمل الشيطان. وعمله ليس وراءه إلا الضياع والخسران.

فإذا آمن الإنسان بالقضاء والقدر تحقق له ما يلي:

1 – اعتماده على الله عند فعل الأسباب ، لأنه يعلم أن السبب والمسبب كلاهما بقضاء الله وقدره .

2 – راحة النفس وطمأنينة القلب ، لأنه متى علم أن ذلك بقضاء الله وقدره ، وأن المكروه المقدر كائن لا محالة ارتاحت نفسه ورضي بقضاء الله ، فلا أحد أطيب عيشا وأريح نفسا وأقوى طمأنينة ممن آمن بالقدر .

3 – طرد الإعجاب بالنفس عند حصول المراد ، لأن حصول ذلك نعمة من الله بما قدره من أسباب الخير والفلاح ؛ فيشكر الله على ذلك .

4 – طرد القلق والضجر عند فوات المراد أو حصول المكروه ، لأن ذلك بقضاء الله الذي لا راد لأمره ، ولا معقب لحكمه ، وهو كائن لا محالة ، فيصبر ويحتسب الأجر من الله تعالى : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ }{ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ }.

5 – التوكل التام على الله سبحانه ، لأن المسلم يعلم أنه سبحانه بيده – وحده – النفع والضر ، فلا يرهب قويا لقوته ، ولا يتوانى عن فعل خير مخافة أحد من البشر ، قال صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما : « واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ».

***


[1] “دوغما” ( δόγμα) كلمة يونانية تعني تعني “الرأي” أو “المعتقد الأوحد”. والدوغميتية هي التعصب لفكرة معينة من قبل مجموعة دون قبول النقاش فيها أو الإتيان بأي دليل ينقضها لمناقشته أو كما هي لدى الإغريق الجمود الفكري. وهي التشدد في الاعتقاد الديني أو المبدأالأيديولوجي، أو موضوع غير مفتوح للنقاش أو للشك. تمثل الاستبدادية والمعصومية والدمغية أو اللا دحضية (الزعم بأن قول معين غير قابل للدحض بتاتا) والقبول الخانع (من قبل الملتزمين) واللا شكية لب فكرة الدوغماتية. هذه الأفكار عادة تستدعي الانتقاد من قبل المعتدلين والمنفتحين. ولذلك تستخدم كلمة الدوغماتية غالبا للإشارة إلى عقيدة أو مبدأ لديه مشكلة الزعم ب الحقيقة المطلقة كما أن من سمات الدوغماتية هي القطع برأي أو معتقد بغض النظر عن الحقائق أو ما يحصل على أرض الواقع، و هو ما يسمى في اللغة العربية ب “التعسف”. تستخدم كلمة دوغماتية، أيضا، لوصف الرأي الغير مدعوم ببراهين. ( Dogma, Henry George Liddell, Robert Scott, A Greek-English Lexicon, at Perseus)

[2] المراد بأخبار الآحاد في اصطلاح العلماء هو ما لا ينتهي من الأخبار إلى حد التواتر (المستصفى: ص290). وأما الخبر المتواتر هو ما رواه جماعة عن جماعة إلى منتهاه بحيث يستحيل تواطؤهم على الكذب (نخبة الفكر: ص1).

[3] مثل قول الإمام الغزالي: “خبر الواحد لا يفيد العلم، وهو معلوم بالضرورة فإنا لا نصدق بكل ما نسمع، …” [المستصفى ص290]، فمثل هذا التقرير غير كاف لتصوير المسألة، بل هو بتر للحقيقة، فخبر الواحد يشمل الأحاديث الصحاح وغيرها والفرق بين الصحيح وغير الصحيح في إفادة العلم بيّن، فما دام التصور ناقصا فالحكم عليه أبعد. لأن الحكم فرع التصور.

[4] الحديث الصحيح عند المحدثين: “هو ما اتصل إسناده بنقل عدل ضابط عن مثله إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علة.” قال صاحب المنظومة البيقونية:

أولها الصحيح وهو ما اتصل * إسناده ولم يشذ أو يعل

يرويه عدل ضابط عن مثله * معتمد في ضبطه ونقله

[5] الشذوذ في الحديث هو رواية الثقة مخالفا لما هو أولى منه. [ انظر: نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر لابن حجر، ص15 ] والعلة في الحديث هي: أن يكتشف في الحديث ما يقدح صحته مع أن الظاهر السلامة منه. فالحديث المعلَّل أو المعلول هو: الحديث الذي اطلع فيه على علة تقدح في صحته، مع أن الظاهر السلامة منها. [ انظر: مقدمة ابن الصلاح ص17 ]

[6] أي في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا. (سورة الحجرات: 6)

[7] والغريب أن إشكالية خبر الآحاد لا تورد إلا في موضوع الأحاديث النبوية المروية بالأسانيد، أما نقل الكلام عن الفلاسفة وكل الكتب المروية بغير سند فلا يرفضها أحد باعتبارها أخبار آحاد مع أنها أسوأ حالا بكثير!! إن وراء المسألة قضية أبعد من إشكالية علمية عادية.

[8] قال الإمام الزركشي رحمه الله في خبر الواحد المحفوف بالقرائن: ذهب النظام وإمام الحرمين والغزالي إلى أنه يفيد العلم القطعي، واختاره الرازي والآمدي وابن الحاجب والبيضاوي والهندي وغيرهم، وهو المختار. ويكون العمل ناشئا عن المجموع من القرينة والخبر، وذهب الباقون إلى أنه لا يفيد. (البحر المحيط في أصول الفقه، للزركشي: 5/261). وقال: سبق منع بعض المتكلمين من التمسك بأخبار الآحاد فيما طريقه القطع من العقائد ؛ لأنه لا يفيد إلا الظن، والعقيدة قطعية ، والحق الجواز، والاحتجاج إنما هو بالمجموع منها، وربما بلغ مبلغ القطع، ولهذا أثبتنا المعجزات المروية بالآحاد. (البحر المحيط: 5/282)

[9] علم الكلام هو العلم الذي يبحث عن المسائل العقدية، مستخدما فيه أسلوب المجادلة المنطقية، مركزا على رد شبهات المبطلين من أهل الأديان والفرق الباطلة. قال سعد الدين التفتزاني: الكلام هو العلم بالعقائد الدينية عن الأدلة اليقينية (تهذيب الكلام، للإمام سعد الدين التفتازاني، ص8) ويقصدون بالأدلة اليقينية الحجاج المنطقي الذي ساد في الأوساط العلمية آنذاك. وقال عضد الدين الإيجي: هو علمٌ يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج ودفع الشبه (شرح المواقف [1/34] للشريف الجرجاني) وعلم الكلام كان محاولة للتصدي للتحديات التي فرضها الالتقاء بالديانات القديمة التي كانت موجودة في بلاد الرافدين أساسا مثل المانوية والزرادشتية والحركات الشعوبية. حيث ظهرت فرق عديدة بعد وفاة نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم، مثل المعتزلة والجهمية والخوارج والزنادقة والمجسمة. فكانت نشأة علم الكلام في التاريخ الإسلامي نتيجة ما اعتبره المسلمون ضرورة للرد على ما اعتبروه بدعة من قبل هذه الطوائف. وكان الهدف الرئيس هو إقامة الأدلة وإزالة الشبه. (انظر: بحوث في علم الكلام، تأليف سعيد فودة، ص22، دار الرازي، ط1، 2004)

[10] هو ولي الدين أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن الحسن بن جابر بن محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن خالد الحضرمي. المعروف أكثر باسم ابن خلدون،ولد في يوم الأربعاء 1 رمضان 732 هـ الموافق27  مايو  1332م. وتوفي في الجمعة 28 رمضان 808 هـ الموافق 19 مارس  1406م كان فلكيا اقتصاديا مؤرخا فقيها حافظا عالم رياضيات استراتيجيا عسكريا فيلسوف غدائي ورجل دولة، ويعتبر مؤسس علم الاجتماع. ولد في إفريقية في ما يعرف الآن بتونس، وكانت تملك عائلته في الاندلس مزرعة هاسيندا توري دي دونيا ماريا الحالية القريبة من دوس هرماناس (اشبيلية). ترك تراثاً ما زال تأثيره ممتداً حتى اليوم. توفى ابن خلدون في مصر عام 1406 وتم دفنه قرب باب النصر بشمال القاهرة. (موسوعة الأعلام 1/198)

[11] مقدمة ابن خلدون: 3/1083،

[12] أخرجه الترمذي 8/16 رقم 2059، وأبو يعلى الموصلي في مسنده 12/298 رقم 5910، وحسنه الألباني (صحيح وضعيف سنن الترمذي 5/133 رقم 2133)

[13]  القاموس المحيط، ص1216، دار إحياء التراث العربي، ط1422هـ

[14] سورة فصلت: 12

[15] أبو ذؤيب الهذلي الشاعر. كان مسلماً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يره ولا خلاف أنه جاهلي إسلامي. قيل اسمه خويلد بن خالد ابن محرث بن زبيد بن مخزوم بن صاهلة بن كاهل بن الحارث بن تميم بن سعد ابن هذيل. وقال ابن الكلبي: هو خويلد بن محرث من بني مازن بن سويد ابن تميم بن سعد بن هذيل. ذكر ابن إسحاق قصته يوم توفي الرسول صلى الله عليه وسلم. ثم انصرف أبو ذؤيب إلى باديته فأقام بها وتوفي أبو ذؤيب في خلافة عثمان بن عفان بطريق مكة قريبا منها ودفنه ابن الزبير. وغزا أبو ذؤيب مع عبد الله بن الزبير إفريقية ومدحه. وقيل: إنه مات في غزوة إفريقية بمصر منصرفاً بالفتح مع ابن الزبير فدفنه ابن الزبير ونفذ بالفتح وحده. وقيل: إن أبا ذؤيب مات غازياً بأرض الروم ودفن هناك وإنه لا يعلم لأحد من المسلمين قبر وراء قبره. وكان عمر ندبه إلى الجهاد فلم يزل مجاهداً حتى مات بأرض الروم قدس الله روحه. ودفنه هناك ابنه أبو عبيد. (الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 2/27)

[16] سورة طه: 72

[17] الحارث بن حلزة (000 – نحو 50 ق ه = 000 – نحو 570 م) الحارث بن حلزة بن مكروه بن يزيد اليشكري الوائلي: شاعر جاهلي، من أهل بادية العراق. وهو أحد أصحاب المعلقات. كان أبرص فخورا، ارتجل معلقته بين يدي عمرو بن هند الملك، بالحيرة، ومعطلعها: (آذنتنا ببينها أسماء) جمع بها كثيرا من أخبار العرب ووقائعهم. وفي الامثال (أفخر من الحارث بن حلزة) إشارة إلى إكثاره من الفخر في معلقته هذه. (الأعلام: 2/154)

[18] مقاييس اللغة 5/82

[19] الإسراء: ٢٣

[20] سورة الإسراء: ٤

[21] سورة الحجر: ٦٦

[22] سورة يونس: ٧١

[23] سورة فصلت: ١٢

[24] المحيط في اللغة 2/83

[25] سورة فصلت: ١٢

[26] النهاية في غريب الأثر 4/125

[27] الصحاح في اللغة 2/64

[28] سورة الأنعام: ٩١

[29] سورة الطلاق: ٧

[30] مقاييس اللغة 5/51-52

[31] شيخ الديار المصرية وعالمها أبو الحارث الليث بن سعد الفمهي، مولاهم، الفقيه. وأصله فارسي إصبهاني. روى عن عطاء بن أبي رياح، وابن أبي مليكة، ونافع، وخلق كثير. توفي يوم الجمعة يوم نصف شعبان عن إحدى وثمانين سنة. وكان إماماً ثقة حجةً رفيعاً واسع العلم سخياً جواداً محتشماً. قال الشافعي: الليث أفقه من مالك، إلا أن أصحابه لم يقوموا به. وكان أتبع للأثر مالك. وقال يحيى بن بكير: الليث أفقه بن مالك لكن الحظوة لمالك. وقال محمد بن رمح: كان دخل الليث في السنة ثمانين ألف دينار، فما أوجب الله عليه زكاة درهمٍ. وقال غيره: كان نائب مصر وقاضيها من تحت أوامر الليث. وإذا رابه من أحدهم شيء كاتب فيه فيعزل. وقد أراده المنصور أن يلي إمرة مصر فامتنع. ولد سنة أربع وتسعين ومات في شعبان سنة خمس وسبعين ومائة. (العبر في خبر من غبر: 1/49، تذكرة الحفاظ: 1/17)

[32] ابن سيده (398 – 458 ه = 1007 – 1066 م) علي بن إسماعيل، المعروف بابن سيده، أبو الحسن: إمام في اللغة وآدابها. ولد بمرسية (في شرق الاندلس) وانتقل إلى دانية فتوفي بها. كان ضريرا (وكذلك أبوه) واشتغل بنظم الشعر مدة، وانقطع للامير أبي الجيش مجاهد العامري. ونبغ في آداب اللغة ومفرداتها، فصنف ” المخصص” سبعة عشر جزءا، وهو من أثمن كنوز العربية، و “المحكم والمحيط الاعظم” أربعة مجلدات منه، و ” شرح ما أشكل من شعر المتنبي ” و ” الانيق ” في شرح حماسة أبي تمام، ست مجلدات، وغير ذلك. (الأعلام: 4/263-264)

[33] لسان العرب 5/74

[34] القاموس المحيط 1/487

[35] سورة الأنعام: 59

[36] زاد المسير 2/359

[37] روح المعاني: 5/353

[38] الحديث أخرجه أحمد (5/19 رقم 2803)

[39] روح المعاني: 5/353-354

[40] سورة البقرة: 29

[41] التحرير والتنوير 7/273

[42] أي في الندرة

[43] مفاتيح الغيب 6/309 روح المعاني: 5/354

[44] سورة الحديد: ٢٢ – ٢٣

[45] سورة التوبة : 51

[46] سورة التغابن : 11

[47] سورة البقرة : 155

[48] سورة الحديد : 23

[49] أضواء البيان 8/152 بتصرف يسير

[50] سورة يونس: 58

[51] منهج القرآن في القضاء والقدر ص5-6

[52] سورة القصص: 76

[53] التحرير والتنوير 27/411

[54] التحرير والتنوير 27/412

[55] عكرمة – مولى ابن عباس – أبو عبد الله المدني. أصله من البربر من أهل المغرب. قال: طلبت العلم أربعين سنة وكنت أفتي بالباب وابن عباس في الدار. قال أبو الشعثاء: عكرمة أعلم الناس. وقيل لسعيد بن جبير: تعلم أعلم منك؟ قال: عكرمة. وقال قتادة: أعلم التابعين أربعة: كان عطاء بن أبي رباح أعلمهم بالمناسك وكان سعيد بن جبير أعلمهم بالتفسير وكان عكرمة أعلمهم بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وكان الحسن أعلمهم بالحلال والحرام. وقال سفيان الثوري: خذوا التفسير عن أربعة: عن سعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة والضحاك. وقال ابن المديني: لم يكن في موالي ابن عباس أغزر من عكرمة كان من أهل العلم. مات سنة خمس ومائة أو ست أو سبع. (تذكرة الحفاظ: 1/5)

[56] أخرجه البيهقي في شعب الإيمان 1/397 رقم: 234، 12/225 رقم: 9314

[57] روح المعاني 20/339

[58] سورة التَّغَابُنِ: 11

[59] التفسير الطبري 23/421

[60] تفسير ابن كثير 8/137

[61] تفسير ابن عبد السلام 6/477

[62] سورة الْقَمَرِ: 49

[63] سورة الرعد: 8

[64] التحرير والتنوير 27/217

[65] نظم الدرر 8/289

[66] انظر تفسير الكشاف 6/458

[67] أخرجه مسلم 13/122 رقم: 4800 والترمذي 8/53 رقم: 2083

[68] تيسير الكريم الرحمن 1/282

[69] في ظلال القرآن 7/86

[70] سورة آل عمران: 108

[71] سورة فاطر: 45

[72] سورة الأنبياء: 47

[73] منهج القرآن في القضاء والقدر ص6-9، محمد غريب، دار القلم للتراث – القاهرة، الطبعة : الثانية – 1419 هـ – 1998 م

[74] سورة الفرقان: ٢

[75] الإيمان باليوم الآخر والقضاء والقدر، ص132، أحمد عز الدين البيانوني، دار السلام، الطبعة الثانية، 1405هـ-1985م

[76]  أخرجه مسلم (4/2044 رقم 2653).

[77]  أخرجه البخاري (3/1174 رقم 3036) ومسلم (4/2036 رقم 2643) واللفظ للبخاري.

[78]  أخرجه مسلم (1/37 رقم 8)

[79] عبادة بن الصامت بن قيس بن أصرم بن فهر بن ثعلبة بن غنم ابن سالم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج الأنصارى السالمي يكنى أبا الوليد. وكان عبادة نقيباً وشهد العقبة الأولى والثانية والثالثة. شهد بدراً والمشاهد كلها ثم وجهه عمر إلى الشام قاضياً ومعلماً فأقام بحمص ثم انتقل إلى فلسطين ومات بها ودفن بالبيت المقدس وقبره بها معروف إلى اليوم. وقيل: إنه توفي بالمدينة والأول أشهر وأكثر. وقال ضمرة عن رجاء بن أبي سلمة: قبر عبادة بن الصامت بالبيت المقدس. وقال ابن سعد: سمعت من يقول إنه بقي حتى توفى في خلافة معاوية بالشام. توفي عبادة بن الصامت سنة أربع وثلاثين بالرملة. وقيل بالبيت المقدس وهو ابن اثنتين وسبعين سنة. (الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 1/243)

[80] أخرجه أبو داود (12/309 رقم: 4078) وصححه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير (9/228 رقم: 3781)

[81] عبدالله بن فيروز الديلمي، أبو بشر، ويقال: أبو بسر. أخو الضحاك بن فيروز، وعم الغريف بن عياش بن فيروز الديلمي. كان يسكن بيت المقدس. وقال عثمان بن سعيد الدارمي، عن يحيى بن معين: ثقة. وقال العجلي: شامي، تابعي، ثقة. وذكره ابن حبان في كتاب “الثقات”. (تهذيب الكمال: 15/436)

[82] أخرجه أبو داود (12/208 رقم: 4077) وأحمد (44/74 رقم: 20607) وابن حبان في صحيحه 3/449 رقم: 728)

[83] أخرجه مسلم 13/142 رقم: 4816

[84] ذكره الألوسي في تفسيره (روح المعاني 12/233) ولم ينسبه إلى قائل.

[85] أخرجه البخاري (22/369 رقم: 6829، 5/31 رقم 1204، ومسلم (4/485 رقم: 1531)

[86] أخرجه الترمذي (9/56 رقم: 2440) وأحمد (6/69 رقم: 2537) وقال الترمذي حديث حسن صحيح.

[87] شرح العقيدة الواسطية ص229، بتصرف، محمود خليل هراس، دار الهجرة للنشر والتوزيع – الخبر، الطبعة : الثالثة ، 1415 هـ

[88] الامام العلامة، أوحد المتكلمين، مقدم الاصوليين، القاضي أبو بكر، محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن قاسم، البصري، ثم البغدادي، ابن الباقلاني، صاحب التصانيف، وكان يضرب المثل بفهمه وذكائه. وكان ثقة إماما بارعا، صنف في الرد على الرافضة والمعتزلة، والخوارج والجهمية والكرامية، وانتصر لطريقة أبي الحسن الاشعري، وقد يخالفه في مضائق، فإنه من نظرائه، وقد أخذ علم النظر عن أصحابه. وقد ذكره القاضي عياض في “طبقات المالكية”، فقال: هو الملقب بسيف السنة، ولسان الامة، المتكلم على لسان أهل الحديث، وطريق أبي الحسن، وإليه انتهت رئاسة المالكية في وقته، وكان له بجامع البصرة حلقة عظيمة. مات في ذي القعدة، سنة 403هـ. (سير أعلام النبلاء: 17/190)

[89] سورة البقرة: ٢٨٦

[90] سورة البقرة: ٢٨٦

[91] سورة الروم: ٤١

[92] سورة الشورى: ٣٠

[93] سورة فاطر: ٤٥

[94] الإنصاف، أبو بكر الباقلاني 1/13

[95]  انظر: الإيمان بالقدر، د. القرضاوي، ص85-86

[96]  سورة الشورى: 30

 [97] سورة الأعراف: 39

[98]  سورة المائدة: 105

[99]  سورة الإسراء: 98

[100]  سورة الإنسان: 12

[101]  سورة الروم: 41

[102]  سورة الرعد: 11

[103]  سورة الكهف: 29

[104]  سورة الفرقان: 62

[105]  سورة المدثر: 27

[106]  سورة المزمل: 19

[107]  سورة الإنسان: 20

[108]  سورة المدثر: 55، 56

[109]  سورة التكوير: 27 – 29

[110]  سورة الروم: 54

[111]  سورة الكهف: 39

[112]  سورة النحل: 126

[113]  أخرجه البخاري (4/1891 رقم 4666، 6/2745 رقم 7113) ومسلم (4/2040 رقم 2647) واللفظ له

[114] أخرجه ابن حبان في صحيحه (2/49 رقم: 337)

[115] سبق تخريجه

[116]  سورة البقرة: 195

[117]  أخرجه ابن حبان في صحيحه (13/465 رقم 6100) واالترمذي (4/399رقم 2065) وصححه وابن ماجه (2/1135 رقم 3437)

[118]  أخرجه البخاري (5/2163 رقم 5397) ومسلم (4/1740 رقم 2219) واللفظ للبخاري.

[119]  سورة النساء: 102

[120]  انظر الإيمان باليوم الآخر والقضاء والقدر، ص132-133

[121]  سورة الأنفال: 60

[122]  أخرجه ابن حبان (2/236 رقم 486) والحاكم وصححه (2/220 رقم 7430)

[123]  أخرجه مسلم (4/2052 رقم 2664)

[124]  الشيخ عبد القادر بن أبي صالح بن عبد الله بن جنكى دوست بن أبي عبد الله عبد الله بن يحيى بن محمد بن داود بن موسى الحوزى بن  عبد الله المحصن ابن الحسن المثنى بن الحسن بن علي بن أبي طالب الجيلاني. عالم رباني جليل. تفقه في مذهب الأمام أحمد بن حنبل على أبي الوفاء بن عقيل وأبي الخطاب وأبي الحسين محمد بن القاضي أبي يعلي والمبارك المخرمي. وسمع الحديث من جماعة وعلوم الأدب من آخرين. وصحب حماد الدباس وأخذ عنه علم الطريقة. فاق أهل وقته في علوم الديانة ووقع له القبول التام مع القدم الراسخ في المجاهدة وقطع دواعي الهوى والنفس. تاب على يده معظم أهل بغداد وأسلم معظم اليهود والنصارى على يديه. قال ابن رجب: وكان الشيخ عبد القادر متمسكا في مسائل الصفات والقدر ونحوهما بالسنة مبالغا في الرد على من خالفهما. وتوفي رحمه الله تعالى بعد عتمة ليلة السبت 10 ربيع الآخر سنة 561 هـ (شذرات الذهب 2/198-202)

[125] مجموع رسائل ابن تيمية: 1/193، 1/223، 1/266، 1/361

[126] سورة الكهف: ٥٤

[127] رواه أحمد 11/305 رقم 6702

[128] أخرجه الترمذي 8/16 رقم 2059، وأبو يعلى الموصلي في مسنده 12/298 رقم 5910، وحسنه الألباني (صحيح وضعيف سنن الترمذي 5/133 رقم 2133)

[129] رواه أحمد 11/434 رقم: 6854 وحسنه الألباني (ظلال الجنة في تخريج السنة 1/190 رقم: 406)

[130] سورة الزخرف : 58

[131] أخرجه الترمذي (11/51 رقم: 3176) وقال حديث حسن صحيح، وابن ماجه (1/55 رقم: 47) وأحمد (45/138 رقم: 21143) والحاكم (8/345 رقم: 3632) وصححه والبيهقي في الشعب (17/467 رقم: 8201)

[132] أخرجه البخاري (17/388 رقم: 8346) ومسلم (13/306 رقم 4939)

[133] عند البخاري: 22/432 رقم: 6872، وعند مسلم: 13/307 رقم: 4949

[134] سورة غافر: ٧

[135] سورة الأعراف: ١٥٦

[136] روح المعاني 6/384

[137] محمد رشيد رضا (1282 – 1354 ه = 1865 – 1935 م) محمد رشيد بن علي رضا بن محمد شمس الدين بن محمد بهاء الدين بن منلا علي خليفة القلموني، البغدادي الاصل، الحسيني النسب: صاحب مجلة (المنار) وأحد رجال الاصلاح الاسلامي. من الكتاب، العلماء بالحديث والأدب والتاريخ والتفسير. رحل إلى مصر سنة 1315 ه، فلازم الشيخ محمد عبده وتتلمذ له. وكان قد اتصل به قبل ذلك في بيروت. ثم أصدر مجلة (المنار) لبث آرائه في الاصلاح الديني والاجتماعي. وأصبح مرجع الفتيا، في التأليف بين الشريعة والاوضاع العصرية الجديدة. قصد سورية في أيام الملك فيصل بن الحسين، وانتخب رئيسا للمؤتمر السوري، فيها. وغادرها على أثر دخول الفرنسيين إليها (سنة 1920 م) فأقام في وطنه الثاني (مصر) مدة. ثم رحل إلى الهند والحجاز وأوربا. وعاد، فاستقر بمصر إلى أن توفي فجأة في (سيارة) كان راجعا بها من السويس إلى القاهرة. ودفن بالقاهرة. (الأعلام: 6/126)

[138] سورة فاطر: 45

[139] تفسير المنار 9/192، محمد رشيد بن علي رضا الناشر : الهيئة المصرية العامة للكتاب، سنة النشر : 1990م

[140] تيسير الكريم الرحمن ص305

[141] أخرجه البخاري (18/405 رقم: 5540) ومسلم (13/314 رقم: 4947)

[142] سورة النساء: ٤٠

[143] أخرجه مسلم 1/427 رقم: 269

[144] سورة الزمر: ٧٥

[145] أخرجه مسلم 13/315 رقم: 4948

[146] أخرجه البخاري 20/106 رقم: 5988

[147] سورة يونس: ٤

[148] سورة النجم: ٣١

[149] سورة يونس: ٤٤

[150] سورة النساء: ٤٠

[151] انظر الإيمان بالقدر، د. القرضاوي، ص 90-91

[152]  سورة الأعراف:34

[153]  سورة آل عمران:154

[154] جمال الدين الافغاني محمد بن صفدر الحسيني، (1254 – 1315 ه = 1838 – 1897 م): فيلسوف الاسلام في عصره، وأحد الرجال الافذاذ الذين قامت على سواعدهم نهضة الشرق الحاضرة، ولد ونشأ بكابل. وتتلمذ له نابغة مصر الشيخ محمد عبده، وكثيرون. ونفته الحكومة المصرية (سنة 1296) فرحل إلى حيدر آباد، ثم إلى باريس. وأنشأ فيها مع الشيخ محمد عبده جريدة (العروة الوثقى) ورحل رحلات طويلة، وتوفي بالآستانة. ونقل رفاته إلى بلاد الافغان سنة 1363، وكان عارفا باللغات العربية والافغانية والفارسية والسنسكريتية والتركية، وتعلم الفرنسية والانجليزية والروسية، وإذا تكلم بالعربية فلغته الفصحى، واسع الاطلاع على العلوم القديمة والحديثة، كريم الاخلاق كبير العقل، لم يكثر من التصنيف اعتمادا على ما كان يبثه في نفوس العاملين وانصرافا إلى الدعوة بالسر والعلن. (الأعلام: 6/168-169)

[155]  الإيمان بالقدر، د. القرضاوي، ص 90-91، نقلا عن  مجلة العروة الوثقى نشر دار العرب للبستاني في بيروت ص93.

[156]  سورة التوبة : 51

[157]  قال في مجمع الزوائد (7/ 265): أخرجه الطبراني في الأوسط عن أبي سعيد الخدري ورجاله رجال الصحيح، غير شيخ الطبراني.

[158]  الحجاج بن يوسف الثقفي الطائفي وكان شجاعا مقداما مهيبا متفوها فصيحا سفاكا، ولى الحجاز سنين ثم العراق وخراسان عشرين سنة،  وذلل أهلها، مات سنة 59هـ، وله ثلاث وقيل أربع أو خمس وخمسون سنة أو دونها، وكان موته بالأكلة في بطنه سوغه الطبيب لحما في خيط فخرج مملوءا دودا، وسلط أيضا عليه البرد فكان يوقد النار تحته وتأجج حتى تحرق ثيابه وهو لا يحس بها، فشكا إلى الحسن البصري فقال: ألم أكن نهيتك أن تتعرض للصالحين!؟ فلما أخبر الحسن بموته سجد شكرا وقال: اللهم كما أمته فأمت سنته (شذرات الذهب 1/106-108)

[159]  سعيد بن جبير الكوفي المقرئ المفسر الفقيه المحدث أحد الأعلام وله نحو من خمسين سنة أكثر من روايته عن ابن عباس وحدث في حياته بأذنه وكان لا يكتب الفتاوي مع ابن عباس فلما عمي ابن عباس كتب وروى أنه قرأ القرآن في ركعة في البيت الحرام وكان يؤم الناس في شهر رمضان فيقرأ ليلة بقراءة ابن مسعود وليلة بقراءة زيد بن ثابت وأخرى بقراءة غيرهما وهكذا أبدأ وقيل كان أعلم التابعين بالطلاق   سعيد بن جبير   وبالحج عطاء وبالحلال والحرام طاووس وبالتفسير مجاهد وأجمعهم لذلك   سعيد بن جبير   وقتله الحجاج سنة خمس وستين وما على وجه الأرض أحد إلا وهو مفتقر إلى علمه (شذرات الذهب 1/108)

 [160] سورة فاطر: 11

[161]  سورة الحديد : 22-23

[162]  أخرجه مسلم (4/2295 رقم2999)

[163]  سورة البقرة : 156 –157

[164]  أخرجه البخاري (5/2368 رقم 6081) ومسلم (2/726 رقم1061)

[165]  أخرجه البهيقي في الشعب (6/351 رقم 8477)  وحسنه في صحيح الجامع الصغير (100)

[166]  أخرجه البزار (7/315 رقم 2915) والبيهقي في الشعب (7/299 رقم 10376)

[167]  سورة النساء: 32

[168]  أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي المطلبي، أخذ عن مالك ومسلم بن خالد الزنجي وطبقتهما، وكان مولده بغزة، قال يونس بن عبد الأعلى: لو جمعت أمة لوسعهم، وقال اسحق بن راهويه: لقيني أحمد بن حنبل بمكة، فقال: تعالى حتى رأيت رجلا لم تر عيناك مثله، وقال الإمام أحمد: إن الله تعالى يقيض للناس في كل راس مائة سنة من يعلمهم السنن وينفى عن رسول الله الكذب، فنظرنا فإذا في رأس المائة عمر بن عبد العزيز، وفي رأس المائتين الشافعي، قال الأسنوي: الشافعي أول من صنف في أصول الفقه بإجماع، وأول من قرر ناسخ الحديث من منسوخه، وأول من صنف في أبواب كثيرة من الفقه معروفة، اهـ. توفي سنة 204هـ وله 54 سنة (شذرات الذهب 1/9-12)

[169]  ديوان الشافعي، محمد بن إدريس الشافعي، ص86، مكتبة الكتب الثقافية، الطبعة الأولى سنة 1419هـ-1989م

[170]  سورة المنافقين: 8

[171]  عبد الله بن عباس الهاشمي حبر الأمة، كان يقال له البحر والحبر وترجمان القرآن وذلك أن النبي قال في دعائه له اللهم فقيه في الدين وعلمه التأويل، توفي بالطائف سنة 68هـ عن إحدى وسبعين سنة (شذرات الذهب 1/75)

[172]  أخرجه الترمذي (4/667 رقم 2516) وقال حسن صحيح ، وأخرجه أحمد (1/ 293 رقم 2669) والطبراني في الكبير (11/178 رقم 11416) وأبو يعلى (4/430 رقم 2556)

[173]  دع القلق ص173، ديل كارنيجي، دع القلق وابدأ الحياة، ديل كارنيجي، ترجمة محمد فكري أنور، مكتبة مدبولي، القاهرة، الطبعة الثانية، 1999م

[174]  أخرجه مسلم (4/2052 رقم 2664)

[175]  أخرجه أحمد (6/24 رقم 24029) أبو داود (3/313 رقم3727) والنسائي (6/160 رقم 10462) والبيهقي في الشعب (2/81 رقم 1213)

الإعلان

One comment on “صياغة المستقبل بين قدر الرحمن وكسب الإنسان

  1. غير معروف
    11 أكتوبر 2015

    مرة طويل

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

معلومات

This entry was posted on 18 جانفي 2012 by in مقالات.

الابحار

%d مدونون معجبون بهذه: