آفاق المستقبل

تصحيح مفاهيم وتكوين رؤى

كيف تعرف مقاصد الشرع؟

كيف تعرف مقاصد الشرع؟ وكيف نتأكد أن مقصدا ما يريده الشرع فعلا؟ فإن هذه المسألة قد مهد العلماء طريق الوصول إليها بكل وضوح وسهولة بحمد الله تعالى. ولم تكن مقاصد الشريعة غامضة بحيث تفتح مجالا للحيرة أو مدعاة للخلاف إلا في بعض التفاصيل القليلة. فإن علم مقاصد الشريعة من أقل العلوم مساحة للخلاف لوضوح أدلته وكثرة ثوابته.

المطلب الأول: مذاهب العلماء في اكتشاف المقاصد

إن للعلماء طرائق متعددة في اكتشاف مقاصد الشريعة، وهي طرق سالكة للوصول إلى معرفة أسرار الأحكام الشرعية. وهذه من نعمة الله على المسلمين إذ يسر لهم الوصول إلى بعض حِكمه البالغة وكشف عن بعض أسرار أحكامه الباهرة، وهو مطلب عسير في الشرائع السابقة، إذ غالبها أوامر صارمة ونواهٍ حازمة، لا تفصّل فيها مقاصدها، ويعتنى فيها بيان حِكمها، على القدر الذي توفر في شرعنا الحنيف، فهذا مما تميزت به شريعتنا السمحة، والحمد لله رب العالمين.

الدراسة التأسيسية

وأول من فصّل الكلام عن طريقة معرفة مقاصد الشريعة هو الإمام الشاطبي رحمه الله، وقد خصص في آخر كتاب المقاصد فصلا عن كيف يعرف مقصود الشارع؟ وبماذا يعرف ما هو مقصود للشارع مما ليس بمقصود له؟

وبدأ بالكلام عن ثلاثة مواقف من هذه المسألة. الأول: موقف من لا يرى إمكانية الوصول إلى هذه المقاصد إلا بالتصريح الكلامي من الشارع الحكيم مجردا عن تتبع المعاني التي يقتضيها الاستقراء زيادة على الدلالة اللفظية من النصوص. وهذا موقف الظاهرية، وقد سبق تفصيل القول فيه.

الثاني: موقف من ألغى ظواهر الشرع بحجة اتباع مقاصدها. واعتبروا أن ظواهر النصوص ليست مقصودة بحد ذاتها، وإنما المقصود أمر آخر وراء هذه الظواهر. وهؤلاء قسمان: قسم لا يلتزم بالنصوص أصلا، ولا يرى لظواهر الشرع قيمة حقيقية، فما هي عندهم إلا رموز يمكن تجاوزها. ويقف هذا الموقف كل من أراد إبطال الشريعة، وتنصّل عن ربقة التكليف نهائيا. ويمثل هذا الموقف فرقة الباطنية. ومآل هذا الموقف إلى الكفر بالشريعة، مع عدم المصارحة بذلك. ويتبع هؤلاء في عصرنا الحاضر أصحاب اتجاه فكري متحرر يقال له الإسلام اللبرالي أو التحرري -أو التنويري حسب زعمهم. فهو عنوان على التملص من الإسلام بشتى الحجج ومختلف الأغلفة والعناوين. وسيأتي الكلام عليه في المبحث القادم بإذن الله. وأيضا قسم آخر ممن يقف هذا الموقف أدنى منه خطورة وأقرب منهم إلى الصواب: من يعتبر الالتفات إلى المعاني هو العمدة في التعامل مع الشرع، وظواهر النصوص يجب أن تخضع لهذا الاعتبار. إذا خالف النص ما يرونه النظر المصلحي رفض النص، إما باعتباره ظنا مقابل القطع، أو بتأويله ليتفق مع زعم المصلحة. وهذا توجه المعتزلة ومن تبعهم.

الثالث: موقف من رأى الأمرين بتوازن، فلم يجمد على ظواهر النصوص ولم يُغالِ في دعوى إدراك المعاني الخفية المقاصدية، وهو موقف جمهور العلماء. قال الشاطبي: “… والثالث أن يقال باعتبار الأمرين جميعا، على وجه لا يخل به المعنى بالنص ولا العكس، لتجري الشريعة على نظام واحد، لا اختلاف فيه ولا تناقض. وهو الذي أَمَّه أكثر العلماء الراسخين، فعليه الاعتماد في الضابط الذي به يعرف مقصد الشارع.”[1]

ثم بدأ يفصل طرائق معرفة المقاصد، وبيّن أن مقصود الشارع يعرف من أربع جهات:

الأولى: من جهة مجرد الأمر والنهي الابتدائي التصريحي، ومعلوم أن الأمر بالشيء يقتضي فعله، فوقوع الفعل عند وجود الأمر به مقصود للشارع، وكذلك النهي ومعلوم أنه مقتض لنفي الفعل أو الكف عنه، فعدم وقوعه مقصود له، وإيقاعه مخالف لمقصوده، كما أن عدم إيقاع المأمور به مخالف لمقصوده.[2]

وهذا المسلك يثبت الحكم الشرعي الذي يدل على أن مدلول الأمر فيه تحقيق لمقصود الشرع، وهذا المسلك إنما يثبت المقصود الشرعي بمعنى الحكم المراد تنفيذه ولا ينفُذ إلى الحكمة الكامنة وراء تشريع الحكم. وهذا المسلك يفيد بأن ظواهر الشرع مقصودةٌ حقيقةً، خلافا للباطنية الذين يقولون إن المقصود الحقيقي من الشريعة ليس ظاهرها بل لها سر باطن هو المقصود الحقيقي، كما أن بعض الصوفية أيضا ادعوا إلى العبادات أقيمت من أجل وصول العبد إلى درجة اليقين. وكل تلك الدعاوى تنبع من هوى التملص من التكاليف.

الثانية: جهة اعتبار علل الأمر والنهي، ولماذا أمر بهذا الفعل؟ ولماذا نهى عن هذا الآخر؟[3] وهذا المسلك هو السائد في الكلام عن المقاصد، لأن هذا المسلك يكشف عن معرفة ما وراء الأحكام من المصالح والحِكم. ولعلماء الأصول كلام مطول ومفصل عن طرائق اكتشاف علل الأحكام.

ولكن ليس كل ما يقال إنه علة للحكم يصح أن يكون مقصد الحكم أو حكمته، لأن الأصوليين –خاصة عند من عرّف بأن العلة هي أمارة أو علامة للحكم- لم تتجه أنظارهم إلى الحكمة الكامنة في الحكم الشرعي والمصلحة الناشئة عنه، بل كان كل اهتمامهم منصبّا إلى العلاقة بين الأصل المنصوص عليه وبين الفرع المسكوت عنه، المراد إلحاقه بحكم الأصل. فيلحقون الفرع بالأصل بمجرد التشابه بينمها، واعتبروا أن هذا الشبه هو العلة. وجعل بعضهم أيضا دوران الحكم على شيء دليلا على أن ذلك الشيء علة لذلك الحكم، مع أن التلازم بين أمرين ليس دليلا على أن أحدهما علة للآخر. فينبغي التنبه بين العلة التي فيها معنى الحكمة والمصلحة والمقصد الشرعي وبين العلة التي هي مجرد الأمارة على الحكم. فليس كل مسالك العلة المذكورة في أصول الفقه صالحة لإثبات مقاصد الأحكام. بل لا بد من التأكد بأن العلة المستنبطة فيها معنى المصلحة والحكمة.

ثم ذكر الشاطبي هنا بذكر مسألة فيما إذا كان الحكم لم تعرف علته يجب التوقف فيه، وهذا التوقف يقوم على أحد نظرين:

أحدهما: أن نتوقف على الحكم المنصوص عليه ولا نقول بأن له علة تستدعي إلحاق غيره به. إلحاق المسألة المسكوت عنها بالمنصوص عليها مع الجهل بالعلة تحكُّم من غير دليل وضلال من غير سبيل، فالتوقف هنا لعدم الدليل.

والنظر الثاني: أن الأصل في الأحكام الموضوعة شرعا أن لا يتعدى بها محالها حتى يعرف قصد الشارع لذلك التعدي؛ لأن عدم نصبه دليلا على تعدية الحكم دليل على أن عدم تعديته مقصود للشارع، إذ لو كان عند الشارع متعديا لنصب عليه دليلا، ووضع له مسلكا؛ ومسالك العلة معروفة، فما دام أن مسلك العلة هنا غير موجود فالقياس هنا غير مقصود للشارع.[4]

والجهة الثالثة من جهات معرفة المقاصد: إثبات مقاصد تابعة بجانب المقاصد الأصلية. لم يبين الشاطبي كيف تعرف مقاصد تابعة، وكيف تميز المقاصد التابعة من المقاصد الأصلية، بل ذهب مباشرة إلى مثال في مقاصد النكاح ومقاصد العبادة والعلاقة بين المقاصد الأصلية فيهما وبين مقاصدهما التابعة. وقرر أن المقاصد التابعة لا بد أن تُثبت وتقوّي المقاصد الأصلية، ولا يجوز أن تعود عليها بالإبطال.[5]

والجهة الرابعة: سكوت الشارع عن شرع التسبب أو عن شرعية العمل مع قيام المعنى المقتضي له. وسكوت الشارع مع قيام المقتضي لشرع الحكم يدل على أن الاقتصار على ما سبق تشريعه هو المقصود. أما السكوت الذي سببه عدم قيام المقتضي للتشريع فلا يدل على قصد الاقتصار، بل يعمل فيه بالمصالح المرسلة. كما عمل السلف في جمع المصحف وتدوين العلم تضمين الصناع إلى غير ذلك. [6]

ومع أن الإمام الشاطبي في أول الكتاب قرر أن معتمده في إثبات مقاصد الشريعة هو استقراء جزئيات الشريعة،[7] ولكنه في هذا الموضع لم يذكر أن الاستقراء وسيلة من وسائل معرفة المقاصد. وهذا من شأن العمل التأسيسي الذي غالبا ما ترك قدرا من الفراغ هنا وهناك ليأتي من بعده ليكمّل البناء.

استدراك ابن عاشور

لذلك استدرك ابن عاشور ما فاته الشاطبي، فقدم ما أخّره وأكد ما أهمله. لقد جعل ابن عاشور مبحث طرق إثبات مقاصد الشريعة في أول كتابه خلافا للشاطبي الذي وضع هذا المبحث في آخر كتاب المقاصد. وأكد ابن عاشور أن الاستقراء هو أعظم وأفضل طرق لإثبات المقاصد، خلافا للشاطبي الذي أهمل ذكره في هذا المبحث، رغم أن الشاطبي يعتبر أول من أكد اعتماد هذا العلم على دلالة الاستقراء، ودحض به حجج من شكّك في قطعية أدلة أصول الفقه.

وأما الاستقراء عند ابن عاشور فيتصدر أدلة إثبات المقاصد، وهو عنده على نوعين:

الأول: “استقراء الأحكام المعروفة عللها، الآئل إلى استقراء تلك العلل المثبتة بطرق مسالك العلة. لأننا إذا استقرينا عللا كثيرة متماثلة في كونها ضابطا لحكمة متحدة، أمكن أن نستخلص منها حكمة واحدة فنجزم بأنها مقصد شرعي، كما يستنتج من استقراء الجزئيات تحصيل مفهوم كلي…”[8]

والثاني: استقراء أدلة أحكام اشتركت في علة بحيث يحصل لنا اليقين بأن تلك العلة مقصد مراد للشارع.[9]

والطريق الثاني عنده بعد الاستقراء هو أدلة القرآن الواضحة الدلالة التي يضعف احتمال أن يكون المراد منها غير ما هو ظاهرها بحسب الاستعمال العربي، بحيث لا يشك في المراد منها إلا من شاء أن يدخل على نفسه شكا يعتد به.[10]

والطريق الثالث بعده هو السنة المتواترة، ورأى ابن عاشور أنه التواتر في هذا الباب لا يكون إلا تواترا معنويا وتواترا عمليا. أما التواتر المعنوي فهو حاصل بمشاهدة عموم الصحابة عملا من النبي صلى الله عليه وسلم، فيحصل لهم علم بتشريع في ذلك يستوي فيه جميع المشاهدين. وإلى هذا يرجع قسم المعلوم من الدين ضرورة. وأما التواتر العملي يحصل لآحاد الصحابة من تكرر مشاهدة أعمال رسول الله صلى الله عليه وسلم بحيث يستخلص من مجموعها مقصدا شرعيا. [11]

وذكر ابن عاشور رحمه الله طريقة السلف في معرفة المقاصد كنماذج في التعامل مع النصوص والأحكام النبوية، وأنهم ما كانوا يجمدون على ظاهر النصوص بل كانوا يراعون ويفترضون مقاصد وراء التعاليم النبوية. والاهتداء بطريقة السلف في هذا الباب يكشف طريق التعامل مع الحقائق الشرعية ومقاصدها.

لكن ابن عاشور مع أنه انتقد الشاطبي بأنه – حسب قوله – تطوح في مسائله إلى تطويل وخلط، وغفل عن مهمات من المقاصد ولم يحصل منه الغرض المقصود،[12] بل رأى مقدمات الشاطبي التي قرر بها قطعية أدلة أصول الفقه كلها خطابية وسفسطائية[13]، وهذا وإن صح حكمه شيئا ما في المقدمتين الأولى والثانية، فإنه لا يصدق على المقدمة الثالثة ومابعدها. والفراغ الذي تركه ابن عاشور في الحقيقة أكبر بكثير مما عند الشاطبي عليهما رحمة الله. وقصر ابن عاشور عن إدراك ما وصل إليه الشاطبي من دقائق مدارك الاستدلال الاستقرائي.

فابن عاشور بدأ كتابه بإشكالية قطعية الأدلة في أصول الفقه، وقرر أن مسائل أصول الفقه يجب ألا تشتمل إلا على أمور قطعية، واستشكل ندرة وجودها في كتب الأصول، وخرج من هذه الإشكالية بدون إجابة واضحة. وهي الثغرة التي سدها الإمام الشاطبي، حيث إنه لم يتردد في أن توارد الأدلة السمعية والعقلية على معنى من المعاني يفيد علما قطعيا. وقد صدّر موافقاته بمقدمات ثلاث تقرر هذا المبدأ عنده.[14] ونبه أن المتقدمين من علماء الأصول حين أغفلوا ذكر هذا المبدأ لا يعني ذلك عدم إدراكهم هذا المعنى، ولكن المتأخرين لم ينتبهوا له، فجعلوا الأدلة الشرعية تفاريق مجزأة، فاعترضوها واحدا واحدا، فضاع عنهم ذلك البنيان الدلالي الكلي القطعي.

الدراسات الحديثة

لم نجد من المعاصرين من تبع ابن عاشور في إشكاليته هذه، ولعل الزمان قد طوى صفحة التفكير اليوناني القديم الذي اعتمد المنهجية الثقيلة البطيئة المليئة بإشكالات سفسطائية مشاكسة. فكل الكتاب المعاصرين في علم المقاصد لم أجد منهم من يعرج على هذه الإشكالية.

ومن أوائل الدراسات المعاصرة التي تخصص تفصيل الكلام عن طرق معرفة مقاصد الشريعة: رسالة الدكتوراة بعنوان “مقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالأدلة الشرعية” للدكتور محمد سعد اليوبي. وقد عقد فصلا في طرق معرفة مقاصد الشريعة، وفصل فيه ما انتهى إليه الإمام الشاطبي وابن عاشور من طرق كشف المقاصد ورتبها وأضاف عليها طرقا أخرى أهملاها في كتابيهما.

فجعل طرق معرفة المقاصد خمس طرق: أولها الاستقراء ثم الطرق الأربعة التي ذكرها الشاطبي، وأضاف عليها: طريقا آخر وهو التعبيرات التي يستفاد منها المقاصد كالتعبير بالإرادة والشرعية والتعبير بلفظ الخير والنفع ونحوهما.

وقد ساهمت هذه الرسالة في دفع مزيد من التفصيل في بيان طريق كشف المقاصد، لكن يؤاخذ عليها استرسالها في المسائل التي لا توصل إلى المقاصد كبعض مسالك العلة التي تقصر عن هذ الغرض، مثل مسلك الشبه والدوران وهما مسلكان ضعيفان في إفادتهما العلة، فضلا عن دلالتهما على المقاصد الشرعية.

أما الدراسة المتخصصة العميقة عن طرق معرفة المقاصد فكانت للدكتور نعمان جغيم وهي بعنوان “طرق الكشف عن مقاصد الشارع” وكان أصلها رسالة الدكتوراة في الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا. وشأن البحوث المتخصصة كلما دقت مساحتها وتخصص تركيزها، فهي تتسم بالعمق والدقة أكثر من الدراسات السابقة. لقد تضمنت هذه الرسالة الماتعة بيانا ضافيا لطرق الكشف عن مقاصد الشارع مع مناقشة الإشكالات التي طرحت من قبل بعض الأصوليين. ومما يرفع من قيمة هذه الرسالة أنها لم تقم على المناهج العلمية المألوفة في العلوم الشرعية وحدها، بل دعمت أيضا بالمناهج العلمية الأخرى بما فيه المنهجية اليونانية القديمة والمنهجية التجريبية الحديثة. فكانت بحثا ممتعا ومقنعا في بابه.

جعل الدكتور نعمان جغيم طرق الكشف متدرجة بدءا من دلالة الخطاب الشرعي الذي يستقل بإفادته المقاصد ثم الذي يفيد بانضمامه مع قرائن أخرى لفظية أو حالية وختم بالاستقراء الذي اجتمعت فيه الدلائل على معنى مقاصدي مطلوب. هكذا فهو رتب طرق الكشف عن مقاصد الشارع حسب استقلاليته بالإفادة، عكس ما فعله ابن عاشور الذي ابتدأ بالاستقراء الذي لا يفيد علما إلا باجتماع جملة من النصوص والدلائل على المعنى المقصود. فالدكتور نعمان راعي وضوح الطريق وقربها بينما ابن عاشور راعي قوة الدلالة وسلامتها من الاعتراض. وما انتهجه الدكتور نعمان جغيم أفيَد من الناحية العملية. فإن النصوص الشرعية التي تفصح عن المقاصد وتكشف عن الحكم والمصالح لها من وضوح الدلالة ما يكفي لسد الثغور وإثلاج الصدور.

من الدلالة القولية إلى الدلالة العملية

فهذه هي طرق معرفة مقاصد الشريعة، فهي مسالك متعددة، لكنها كلها تقتصر على الاستفادة من الخطاب الشرعي سواء كان منفردا أو منضما إليه بالقرائن أو مستنبطا منه عن طريق مسالك العلة أو مجموعا مع غيره بالاستقراء. فجاء الدكتور عبد المجيد النجار ليضيف على هذه المسالك مسلك “العمل النبوي” . قال: “إن الأفعال النبوية يمكن أن يكون بذاتها أو بقرائن ظروفها وأحوالها مسلكا يعرف منه المقصد الشرعي؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما يداوم على إتيان فعل ما في مناسبات متعددة وفي ظروف مختلفة، فإن تلك المداومة يتحصل منها للناظر فيها أن تلك الأفعال إنما كانت لتحقيق هدف من أجله وقعت وتكررت، وذلك هو المقصد الشرعي منها، فيعرف إذن من خلال ذات تلك الأفعال المتكررة.”[15] فهذه اللفتة من الدكتور النجار تنبيه بقيمة السنة العملية، خاصة إذا تكررت وداوم عليها النبي صلى الله عليه وسلم، فهي تنبئ عن مقصد شرعي مهم يريد تحقيقه.

طريقة النظر الموضوعي الكلي

رأى الدكتور القرضاوي أن هناك طريقة أخرى لمعرفة مقاصد الشريعة، وهي النظر إلى الموضوعات التي عالجها الشرع باعتبارها مقاصد قصد الشارع تنظيمها وتحقيق المصالح فيها. وضرب أمثلة لهذا المسلك: “فهذا العلامة السيد رشيد رضا يتحدث عن مقاصد القرآن في كتابه الشهير “الوجي المحمدي” فيذكر مقاصده بطريقة أخرى غير طريقة الأصوليين المجملة في تحقيق المصالح في مراتبها الثلاث: الضروريات والحاجيات والتحسينيات. بل فصل ذلك تفصيلا بحسب الموضوعات التي يعمل فيها الإسلام، والمقاصد الكبرى التي يحققها القرآن في حياة الأمة. وقد جعلها عشرة مقاصد لإصلاح البشرية…”[16]

وهذه الطريقة من طبيعتها أن تنتج تصورات مختلفة ونتائج قد تبدو متغايرة لكنها غير متعارضة، فرشيد رضا خلص بعشرة مقاصد هي: (1) إصلاح أركان الدين الثلاثة، (2) وتصحيح عقائد البشر في الرسل، (3) بيان أن الإسلام دين الفطرة والعقل، (4) الإصلاح الاجتماعي الإنساني والسياسي، (5) تقرير مزايا الإسلام العامة، (6) بيان حكم الإسلام السياسي الدولي، (7) الإرشاد إلى الإصلاح المالي، (8) إصلاح نظام الحرب، (9) إعطاء النساء جميع الحقوق الإنسانية والدينية، (10) هداية الإسلام في تحرير الرقيق.[17]

وأما ابن عاشور فذكر في تفسيره التحرير والتنوير تحت عنوان “المقاصد الأصلية التي جاء القرآن لتبيانها” ثمانية مقاصد: (1) إصلاح الاعتقاد، (2) وتهذيب الأخلاق، (3) والتشريع، (4) وسياسة الأمة، (5) وأخبار الأمم السابقة للاعتبار بها، (6) وقضايا التعليم، (7) والمواعظ، (8) والإعجاز الدال على صدق الرسل.[18]

والدكتور القرضاوي نفسه له كلامان مختلفان، ففي كتابه “كيف نتعامل مع القرآن” عدد مقاصد القرآن في سبعة مقاصد: (1) تصحيح العقائد في التصورات للألوهية والرسالة والجزاء، (2) تقرير كرامة الإنسان وحقوقه وخصوصا الضعفاء، (3) الدعوة إلى عبادة الله وتقواه، (4) تزكية النفس البشرية والأخلاق، (5) تكوين الأسرة الصالحة وإنصاف المرأة، (6) بناء الأمة الشهيدة على البشرية (7) الدعوة إلى عالم إنساني متعاون.[19]

وفي كتابه الآخر “مدخل لمعرفة الإسلام” قال إن المقاصد والأهداف الأساسية للإسلام تتمثل في (1) بناء الإنسان الصالح (2) وبناء الأسرة الصالحة (3) وبناء المجتمع الصالح (4) وبناء الأمة الصالحة (5) والدعوة إلى خير الإنسانية.[20]

وكل ذلك اختلاف تنوع يأتي من اختلاف زوايا النظر يثري الساحة العلمية بتعدد الاعتبارات وتنوع الصياغات. والملاحظ أن هذه الطريقة إنما تأتي في استنتاج المقاصد العامة من النظرات الكلية لموضوعات الشرع، بينما الطرق التي قبلها تأتي باستخلاص المقاصد الجزئية أو الخاصة من الأدلة التفصيلية.

المطلب الثاني: ترتيب طرق معرفة المقاصد حسب درجات وضوح دلالتها

إن قوة الدلالة ينظر إليها من جهتين: من حيث وضوحها أولا، ومن حيث قطع الشك عنها ثانيا. وكون الشيء واضحا يعني أنه لا يحتاج إلى كبير تأمل ولا يفتقر إلى تدقيق وتكلف. وتحري الوضوح في الدلالة أهم من التكلف في البحث عن الأدلة القطعية، لأن قطعية الدليل مسألة يكتنفها غموض وعدم الانضباط.

أما وضوح الدلالة فهو مطلب قريب ومعنى منضبط، وهو يقربنا إلى مقصودنا لكشف مقاصد الشريعة. فوضوح الدليل يعني سهولة الوصول إلى المدلول، وقلة العناء في إدراكه، وقوة الإقناع بمدلوله. هذه الطرق لكشف مقاصد الشريعة تتدرج بحسب هذا الاعتبار على النحو الآتي:

الطريق الأول: الاستدلال بظواهر النصوص

فأول طريق وأوضحه لكشف مراد الشارع هو البيان الصريح بما يريده من أحكامه وتشريعاته. والأدلة الشرعية حسب وضوح دلالتها –كما هو معروف في كتب الأصول – على درجات ثلاث: النص ثم الظاهر ثم المجمل. ووجه انحصار الكلام في النص والظاهر والمجمل: هو أن اللفظ إما أن يحتمل معنى واحدا فقط، أو يحتمل أكثر من معنى واحد، والأول النص، والثاني: إما أن يترجح في أحد معنيَيه أو معانيه، وهو الظاهر، أو لا يترجح، وهو المجمل.[21] فالنص والظاهر يشتركان في كونهما يستقلان بإفادة المعنى دون الحاجة إلى دليل آخر يحدد المعنى المراد. وكلاهما على درجة من الوضوح بحيث لا يحتاج في فهمهما إلى قرينة توضح المعنى أكثر مما يدل عليه اللفظ. والمعنى المرجوح في اللفظ الظاهر لا التفات إليه ما دام ليس هناك موجب لصرف اللفظ عن المعنى الأصلي المتبادر إلى الذهن.

والنص عند الأصوليين له معنيان، معنى عام ومعنى خاص. فالمعنى العام للنص هو كل كلام الشارع سواء كان من القرآن أو السنة. والمعنى الخاص للنص في سياق وضوح الدلالة هو: اللفظ الدال على معنى واحد من غير احتمال معنى آخر.

والذي يلي النص في وضوح الدلالة هو الظاهر، ودلالة الظاهر وإن كانت تحتمل أكثر من معنى لكن المتبادر إلى الذهن يظل هو الراجح المتعين حمل اللفظ عليه، ما لم يكن هناك قرينة تصرفه إلى معنى مرجوح. وأغلب البيان الكلامي يكون على هذا النحو.

والأصل فيما يبين عن مقاصد المتكلم هو ظاهر خطابه، إذ اللغة إنما وضعت للتفاهم بين البشر، ولما كان الكلام يقصد به تيسير التفاهم بين الناس فإن الأصل فيه أن يحمل على ما يتبادر إلى الأذهان من معانيه، وهو الظاهر، إلا إذا دلت قرائن لغوية أو حالية على أن الظاهر ليس هو المقصود في هذا المقام، فنلجأ عند ذلك إلى التأويل. ومن هنا جاء اتفاق من يعتد به من الأصوليين على وجوب العمل بما دل عليه النص والظاهر حتى يقوم دليل التأويل أو التخصيص أو النسخ.[22]

قال الشافعي: “فكل كلام كان عاما ظاهرا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على ظهوره وعمومه، حتى يعلم حديث ثابت عن رسول الله –بأبي هو وأمي- يدل على أنه إنما أريد بالجملة العامة في الظاهر بعض الجملة دون بعض.”[23] وقال في موضع آخر: “والحديث على ظاهره، وإذا احتمل الحديث المعاني فما أشبه منها ظاهره أولاها به.”[24]

فالمستدل بظاهر الكلام وإرادة المعنى الحقيقي لا يحتاج إلى دليل غير التمسك بالأصل. وإرادة المعنى المجازي لا بد من اقتران الحال أو المقال يدل على ذلك المعنى. والمجاز في كلام الشارع –على القول بوجوده وهو قول الجمهور- لا يصل إلى درجة الإلغاز لأنه البلاغ المبين الذي لا عوج له ولا لعب ولا شطط، ﭽ قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَﭼ[25] فلا يمكن أن يريد المعنى المجازي بدون وجود قرائن تبين ذلك. لأنه بدون ذلك خرج من كونه هداية للناس إلى كونه تعمية عليهم.

ولا التفات إلى سفسطة من الرازي التي تقول بأن الدليل اللفظي لا يفيد اليقين ألبتة، بزعم أنه مبني على أمور ظنية،[26] لأنه لو سلمنا بهذا القول يبقى الإنسان كالبهيمة العجماء التي لا تسفيد من أي كلام، وأول كلام نسقطه عن مقام الفائدة هو كلام الرازي نفسه الذي قرر هذا الخبال. قال ابن القيم: “ومن ادعى أنه لا طريق لنا إلى اليقين بمراد المتكلم لأن العلم بمراده موقوف على العلم بانتفاء عشرة أشياء، فهو ملبوس عليه ملِّبس على الناس. فإن هذا لو صح لم يحصل لأحد العلم لكلام المتكلم قط، وبطلت فائدة التخاطب، وانتفت خاصية الإنسان، وصار كالبهائم، بل أسوء حالا، ولَمَا عُلم غرض هذا المصنِّف من تصنيفه. وهذا باطل بضرورة الحس والعقل…”[27]

فإشكالية الرازي هذه أشبه بخيال علمي من كونه فرضية علمية ذات قيمة. وإن الدلائل العقلية التي اعتمد عليها الرازي اعتمادا كليا لا يمكن إدراكها إلا بواسطة اللفظ. وإذا تعذر حصول اليقين بدلالة اللفظ نهائيا، تعذر فهم مدركات العقل أيضا، وتعطل الفكر نهائيا، إلا على مستوى تفكير البهائم التي لا تفكر ولا تعبر عن طريق الألفاظ.

ومع ظهور خطل كلام الرازي فقد تأثر كل من الشاطبي[28] وابن عاشور[29] بهذه الشبهة التي كثرت مثيلاتها عند الرازي غفر الله له. لكن الإمام الشاطبي لم يتماد في هذه الغلطة لأن عنده مبدأ آخر يسد هذه الثغرة، وهو إيمانه بتضافر الأدلة وآثارها التراكمية، فالظنيات عنده إذا تراكمت وتعاضدت وسلمت من المعارضة أنتجت يقينا ومدركا قطعيا.[30] وأما ابن عاشور فقد أثرت فيه هذه الجرثومة الفكرية، وجعلته اقتصر في طرق معرفة المقاصد على ثلاث طرق: الاستقراء والآيات الصريحة والسنة المتواترة.

والأمثلة على المقاصد التي دلت عليها ظواهر النصوص كثيرة جدا، فقط طفحت الصفحات السابقة من هذه الرسالة بذكرها. فلا داعي لإعادتها، وهي من الوضوح والإقناع ما لا يسمح للناظر الفاحص أن يشك ويتردد.

الطريق الثاني: دلالة السياق والمقام

النص الشرعي نص لغوي في أصله، ومن ثم فهو محكوم بقواعد اللغة وقوانينها. والكلام لا بد له من سياق ورد فيه، ومناسبة حددت مدلولاته. وكلما وضح سياق الكلام أدى ذلك إلى تحديد معاني الألفاظ المسوقة وقلّت الاحتمالات وضاق مجال الإجمال والإبهام.

قال الغزالي: “يكون طريق فهم المراد تقدم المعرفة بوضع اللغة التي بها المخاطبة. ثم إن كان نصا لا يحتمل كفى فيه معرفة اللغة، وإن تطرق إليه الاحتمال فلا يعرف المراد منه حقيقة إلا بانضمام قرينة إلى اللفظ، والقرينة إما لفظ مكشوف… وإما إحالة على دليل العقل … وإما قرائن أحوال من إشارات ورموز وحركات، وسوابق ولواحق، لا تدخل تحت الحصر والتخمين، يختص بدركها المشاهد لها، فينقلها المشاهدون من الصحابة إلى التابعين بألفاظ صريحة أو مع قرائن من ذلك الجنس، أو من جنس آخر حتى توجب علما ضروريا بفهم المراد أو توجب ظنا. وكل ما ليس له عبارة موضوعة في اللغة، فتتعين فيه القرائن.”[31]

وقال ابن عاشور: “وبذلك لم يستغن المتكلمون والسامعون عن أن تحف بالكلام ملامح من سياق الكلام ومقام الخطاب ومبينات من البساط لتتظافر تلك الأشياء الحافة بالكلام على إزالة احتمالات كانت تعرض للسامع في مراد المتكلم من كلامه. لذلك نجد الكلام الذي شافه به المتكلم سامعيه أوضح دلالة على مراده من الكلام الذي بلغه عنه مبلغ، وتجد الكلام المكتوب أكثر احتمالات من الكلام المبلغ بلفظه، بله المشافه به، لفقده دلالة السياق وملامح المتكلم والمبلغ، وإن كان هو أضبط من جهة انتفاء التحريف والسهو والتصرف في التعبير عن المعنى عند سوء الفهم.”[32]

وإن هناك عناصر تتحكم في فهم الخطاب وتحديد المقصود منه، وهي تتلخص في أربعة عناصر هي: الخطاب أي نص الخطاب وهو راجع إلى طبيعة اللغة التي تم بها التخاطب، وحال المخاطِب، وحال المخاطَب، ومقام الخطاب.[33] قال الشاطبي: “… معرفة مقاصد كلام العرب إنما مداره على معرفة مقتضيات الأحوال: حال الخطاب من جهة نفس الخطاب، أو المخاطِب، أو المخاطَب، أو الجميع؛ إذ الكلام الواحد يختلف فهمه بحسب حالين، وبحسب مخاطبَين، وبحسب غير ذلك…”[34]

طبيعة لغة التخاطب

لما كانت اللغة – سواء بمفرداتها أو تراكيبها – تمثل تواضع أصحاب اللغة على استعمال ألفاظ مخصوصة في معان مخصوصة والتعبير عنها بتراكيب مخصوصة، وكان ذلك يختلف من لغة إلى أخرى كان من اللازم فهم كل لغة على وفق معهود أصحابها.[35] ولما كان القرآن الكريم نزل بلسان العرب وكان في غاية البيان واليسر لهم مصداقا لقول الله تعالى: ﭽنَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ . عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ . بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ . وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينﭼ[36] وقوله ﭽوَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍﭼ[37] كان من اللازم أن يكون مفهوما للعرب، ولا تفهمه العرب إلا إذا كان على معهودها في التخاطب، فمن رام فهمه على غير ذلك السنَن فقد شط.[38]

قال الإمام الشافعي: “فإنما خاطب الله بكتابه العرب بلسانها على ما تعرف من معنايها، وكان مما تعرف من معانيها اتساع لسانها. وإن فطرته أن يخاطب بالشيء منه عاما ظاهرا يراد به العام الظاهر، ويستغنى بأول هذا منه عن آخره. وعاما ظاهرا يراد به العام ويدخله الخاص، فيستدل على هذا ببعض ما خوطب به فيه. وعاما ظاهرا يعرف في سياقه أنه يراد به غير ظاهره. فكل هذا موجود علمه في أول الكلام أو وسطه أو آخره… إلى أن قال: هذه الوجوه التي وصفت اجتماعها في معرفة أهل العلم منها به -وإن اختلفت أسباب معرفتها- معرفة واضحة عندها ومستنكرا عند غيرها، ممن جهل هذا من لسانها وبلسانها، نزل الكتاب وجاءت السنة، فتكلف القول في علمها تكلف ما يجهل بعضه. ومن تكلف ما جهل وما لم تثبته معرفته كانت موافقته للصواب -إن وافقه من حيث لا يعرفه- غير محمودة. والله أعلم. وكان بخطئه غير معذور، إذ نطق فيما لا يحيط علمه بالفرق بين الخطأ والصواب فيه.”[39]

وقال ابن تيمية: “إن الاستدلال بالقرآن إنما يكون على لغة العرب التي نزل لها، بل قد نزل بلغة قريش، كما قال تعالى: ﭽ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْﭼ[40] وقال: ﭽبِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍﭼ[41] فليس لأحد أن يحمل ألفاظ القرآن على غير ذلك من عرف عام واصطلاح خاص – بل لا يحمله إلا على معان عنوها بها – إما أخص من المعنى اللغوي أو أعم أو مغاير له، لم يكن له أن يضع القرآن على ما وضعه هو، يضع القرآن على مواضعه التي بينها الله لمن خاطبه بالقرآن بلغته، ومتى فعل غير ذلك كان ذلك تحريفا للكلام عن مواضعه.”[42]

فالقرآن في معانيه وأساليبه على هذا الترتيب. فكما أن لسان بعض الأعاجم لا يمكن أن يفهم من جهة لسان العرب كذلك لا يمكن أن يفهم لسان العرب من جهة لسان العجم لاختلاف الأوضاع والأساليب.[43]

ومن مقتضيات معهود اللسان العربي أن يكون الاعتناء بالمعاني المبثوثة في الخطاب هو المقصود الأعظم، بناء على أن العرب إنما كانت عنايتها بالمعاني، وإنما أصلحت الألفاظ من أجلها. وهذا الأصل معلوم عند أهل العربية. فاللفظ إنما هو وسيلة إلى تحصيل المعنى المراد؛ والمعنى هو المقصود.[44]

حال المخاطِب

ومما يكشف مقصود الخطاب أيضا، معرفة حال المخاطِب. فلما كان مصدر الخطاب الشرعي متصفا بكمال القدرة البلاغية، اتسم النص الشرعي بأعلى مراتب الفصاحة والبلاغة. وإن بلاغة الكلام العربي تقاس بما يوصله التعبير إلى المعنى بشكل أفضل، فليس جمال التعبير بكثرة الألفاظ مع قلة المعاني، أو باختيار الألفاظ التي غيرها أوصل للمعنى منها، أو التشدق بالألفاظ الرنانة وهي لا تحمل معاني ذات وزن. وخطاب الشارع منزه عن مثل هذه العيوب البلاغية. فيتعين حمل ألفاظها على أحسن ما تحتمله من المعاني وأشمل ما تؤديه من المرامي.

وكلما تحرى المخاطِب الألفاظ التي دلالتها أكثر وضوحا كان إدراك المقصود من خطابه أيسر، ولكن لما كانت معظم نصوص اللغة العربية محتملة فإنه لا يمكن التخلص من عنصر الاحتمال. فمع أن النصوص الشرعية لم تقصد إلى الإغراب في الكلام إلا أن طبيعة اللغة ذاتها من جهة، وورود القرآن على لغة أكثر من قبيلة من قبائل العرب من جهة ثانية، جعل ألفاظه لا تخلو مما قد يشكل معناه على بعض أصحاب اللغة أنفسهم. وقد تنشأ الغرابة أيضا من نقل اللفظ من معناه اللغوي غلى معنى شرعي، فيصير اللفظ مجملا يحتاج إلى بيان من قبل الشارع نفسه، كما هو الحال في ألفاظ الصلاة، والزكاة والحج وغيرها.[45]

ومع أن الأصل في المخاطِب أن يسعى قدر الإمكان إلى إفهام المخاطبين بأن يكون معنى كلامه محددا، إلا أنه قد يقصد أحيانا إلى استعمال بعض الألفاظ المبهمة أو المحتملة لأكثر من معنى لحكمة أرادها الشارع الحكيم، كما هو الحال في متشابهات القرآن. قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}[46] وينبغي التنبيه هنا أن ما ورد في الشرع من نصوص متشابهات لا يتعلق بفهم المقصود منها تكليف، والمطلوب من المكلف هنا إنما هو الإيمان بها والتسليم لها.

ومعرفة حال المخاطب أثناء الخطاب تكشف ما لا تدل عليه الألفاظ مجردة. كما ورد في السنة بيان حال النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك على سبيل المثال:

ما أخرجه الشيخان عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ اللُّقَطَةِ فَقَالَ اعْرِفْ وِكَاءَهَا أَوْ قَالَ وِعَاءَهَا وَعِفَاصَهَا ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً ثُمَّ اسْتَمْتِعْ بِهَا فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا فَأَدِّهَا إِلَيْهِ قَالَ فَضَالَّةُ الْإِبِلِ فَغَضِبَ حَتَّى احْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ أَوْ قَالَ احْمَرَّ وَجْهُهُ فَقَالَ وَمَا لَكَ وَلَهَا مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا تَرِدُ الْمَاءَ وَتَرْعَى الشَّجَرَ فَذَرْهَا حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا قَالَ فَضَالَّةُ الْغَنَمِ قَالَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ.[47] فالغضب واحمرار الوجه علامة يفهم منها التشديد في النهي عن التقاط ضالة الإبل ما دام عدم التقاطها لا يعرضها للخطر.

وأيضا ما أخرجه الترمذي غيره عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ نَتَنَازَعُ فِي الْقَدَرِ فَغَضِبَ حَتَّى احْمَرَّ وَجْهُهُ حَتَّى كَأَنَّمَا فُقِئَ فِي وَجْنَتَيْهِ الرُّمَّانُ فَقَالَ أَبِهَذَا أُمِرْتُمْ أَمْ بِهَذَا أُرْسِلْتُ إِلَيْكُمْ إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حِينَ تَنَازَعُوا فِي هَذَا الْأَمْرِ عَزَمْتُ عَلَيْكُمْ أَلَّا تَتَنَازَعُوا فِيهِ.[48]

وقد يستخدم الرسول صلى الله عليه وسلم الإشارة باليد لمزيد من التوضيح، فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أُمِرْنَا أَنْ نَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ وَلَا نَكُفَّ ثَوْبًا وَلَا شَعَرًا.[49]

وأيضا عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْإِيمَانُ هَا هُنَا وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الْيَمَنِ وَالْجَفَاءُ وَغِلَظُ الْقُلُوبِ فِي الْفَدَّادِينَ عِنْدَ أُصُولِ أَذْنَابِ الْإِبِلِ مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنَا الشَّيْطَانِ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ.[50]

وأمثال ذلك في السنة كثيرة.

حال المخاطَب

والمتلقّون لخطاب الشارع يتفاوتون في قدرتهم على فهم معانيه وإدراك مقاصده حسب قدراتهم العقلية واستجماعهم لأدوات فهم النص ولوازمه وحسب ممارستهم لأساليبه. إذ طول الممارسة لكلام متكلم يكسب الإنسان دربة بأساليبه في الخطاب ومقاصده فيه. كما أشار الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى: نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ.[51] ولهذا امتاز الصحابة عن غيرهم في القدرة على فهم النصوص الشرعية وإدراك مقاصد الشارع منها، كما أن الصحابة أنفسهم يتفاوتون في ذلك.

والنصوص الشرعية على مستويين: مستوى يتمكن من فهمه كل من عرف اللغة العربية، ففهمه متيسر لعامة الناس، ومستوى يحتاج في فهمه إلى أدوات خاصة لا يحسنها إلا أهل الاختصاص. ولهذا اشترط في من يتصدى للاجتهاد أن يمتلك الأدوات اللازمة لفهم هذه النصوص كالتمكن من علوم اللغة العربية والعلم بقواعد الأحكام وأصولها إلى غير ذلك مما ذكره الأصوليون في كتبهم.

سياق الخطاب

إن الكلام لا بد أن تكون له مناسبة تستدعيه وسياق يرد فيه، وإلا كان نفخا على الهواء الفاضي، وامتطاء على شارد لا زمام له ولا خطام. وسياق الكلام على نوعين:

السياق الموضوعي أو السياق اللغوي، وهو الجمل المكونة والسابقة واللاحقة لنص الخطاب المراد تفسيره واستخلاص المقصود منه. فالنص القرآني أو الحديث النبوي لا يمكن عادة أخذه مبتورا عن النصوص الأخرى، سواء كانت واردة في نفس السياق أي الجمل السابقة واللاحقة له، أو النصوص الأخرى التي لها علاقة بالموضوع مع ورودها في مواضع ومناسبات مختلفة، حيث يكون استحضارها معينا على فهم ذلك النص، إما لكونها مبينة له أو مكملة لمعناه أو مخصصة لعمومه أو مقيدة لإطلاقه.

السياق الواقعي أو السياق الاجتماعي، ويسمى بالمقام، وهو الظرف الذي صدر فيه الخطاب، وتدخل فيه أسباب النزول، وأسباب ورود الحديث والظروف الاجتماعية السائدة وقت صدور النص الشرعي.

فمن السياق اللغوي أو الموضوعي نستفيد القرائن المقالية التي تدل على مقصود الشارع. ومن السياق الواقعي أو الاجتماعي نستفيد القرائن الحالية للنص الشرعي التي تبين المقام الذي صدر فيه النص.

ووظيفة القرائن المقالية هي تحديد المعنى النحوي للكلمات، فهي المسؤولة عن وضوح المعنى وأمن اللبس الذي قد ينتج عن تعدد المعنى الوظيفي للكلمات. وتحديد المعنى النحوي ينتج عنه تحديد معنى المقال أي المعنى اللغوي المجرد للنص، ثم يعرض هذا المعنى اللغوي على المقام الذي ورد فيه الخطاب ليتبين بعد ذلك هل هذا المعنى اللغوي (ظاهر النص) هو المقصود، أم أن المقصود غيره؟ حيث تؤدي القرائن الحالية والسياق العام للنص الوظيفة الأساسية في تحديد المقصود منه.[52]

ومن أمثلة الخطاب الذي تبين القرائن اللفظية المقصود منه قول الله تعالى: ﭽوَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَﭼ[53] فصدر الآية وهو قوله تعالى ﭽوَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِﭼ يفهم منه أن السؤال عن القرية ذاتها، ولكن قوله بعد ذلك ﭽإِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِﭼ قرينة لفظية دلت على أن المراد السؤال عن أهل القرية، لأن ضمير الجمع في “يعدون” يصرف المعنى المراد عن القرية إلى أهلها، ولأن القرية لا تكون عادية أو فاسقة.[54]

إذا كانت القرائن المقالية تحدد المعنى اللغوي المراد للكلمات لكن هذا المعنى يبقى فيه احتمال أكثر من معنى، ويبقى النص صالحا لأن يستعمل لأكثر من معنى، فتأتي القرائن الحالية لتعيننا على تحديد المراد منه: هل هو كل المعاني التي يصلح لها؟ أم أنه مخصوص بمعنى من المعاني التي يحددها المقام؟ ومن هنا يأتي دور السياق الاجتماعي أو السياق الوافعي الذي هو عبارة عن حصيلة الظروف السائدة وقت صدور الخطاب والتي يتوقع أن يكون لها تأثير في صيغة الخطاب وتوجيهه وفهمه.

ومقامات الخطاب بما تشتمل عليه من علاقات اجتماعية وعقلية وذوقية وعاطفية وعرفية يجعلها م العسير أن يحيط بها من لا ينشأ في بيئة أجنبية عنها، ومن الصعب الحصول عليها بمجرد قراءة تاريخ هذا المجتمع وأدبه، “وذلك بأن إطار الثقافة الاجتماعية لكل أمة يفرض من تلك العلاقات والارتباطات بالمواقف وبالموضوعات ما لا يفهمه تماما إلا الناشئون في المجتمع ذاته والثقافة نفسها، ولو أن المتخصص الأجنبي تمكن من تحصيل فهم الارتباطات العقلية أو حتى الاجتماعية بالموضوعات والمواقف فكيف يتسنى له أن يفهم الارتباطات الذوقية والعاطفية في المجتمع؟”[55]

ولا غرابة بعد هذا أن نجد عشرات التفسيرات الخاطئة من قبل المستشرقين والكتاب الغربيين للنصوص الشرعية وأحداث التاريخ الإسلامي، ففضلا عما يمكن أن يكون فيها سوء نية وتحامل، فإن عجزهم عن فهم البيئة التي نزل فيها القرآن الكريم والتي انتشر فيها الإسلام بعد ذلك، وعجزهم عن فهم الأثر التغييري الهائل الذي يتركه الإسلام في حياة من اعتنقه بصدق وإخلاص، جعلهم عاجزين عن الفهم الصحيح للنصوص الشرعية والأحداث التاريحية، مع أن بعضهم بلغ من المعرفة باللغة العربية والتاريخ الإسلامي ما لا يدركه كثير من المسلمين أنفسهم. فالذي نشأ في بيئة يحكمها الصراع السياسي وعلاقات الناس فيها تقوم على تبادل المصالح لا يستطيع فهم ترشيح عمر بن الخطاب أبا بكر رضي الله عنهما للخلافة في سقيفة بني ساعدة ثم وصية أبي بكر بالخلافة لعمر بعد ذلك إلا على أنها من باب التحالف السياسي وتبادل المصالح. ولا يمكن لمثل هذا أن يفهم مرتبة الإيثار التي وصل إليها الصحابة رضي الله عنهم ومدى إخلاصهم لدينهم وإيثارهم للحق ومصلحة الإسلام والمسلمين على مصالحهم الشخصية واعترافهم بالفضل لأهله.

فكلما تيسر استحضار القرائن المقالية والمقامية أمكن فهم مراد المتكلم من كلامه بشكل أدق، والعكس بالعكس. ولذلك نجد التخاطب بالمشافهة أوضح دلالة على مراد المتحدث من الكلام المنقول بتبليغ مبلغ ورسالة مراسل، لافتقاده القرائن الحالية التي تعين على دفع الاحتمالات التي تطرق إلى الكلام ولا يقصدها المتكلم. وإهمال القرائن يؤدي إلى نقص في فهم الخطاب أو إلى خطإ كامل في الفهم. لذلك قال الشاطبي: “وإذا فات نقل بعض القرائن الدالة فات فهم الكلام جملة أو فهم شيء منه.”[56]

ومع أهمية السياق والقرائن التي جاءت معه، إلا أنه ليس كل كلام يتوقف فهمه على معرفة السياق ووجود القرائن. فالكلام الذي صيغ صياغة تامة بحيث اكتملت دلالتها باكتمال ألفاظها يمكن فهمه مباشرة بدون أية صعوبة. وهو الكلام الذي سيق في مقام عام لا يتعلق بوضع معين ولا حالة معينة. وأكثر أساليب القرآن الكريم على هذا النحو. وجملة كبيرة من السنة أيضا سيقت في هذا المساق العام. وإنما الذي يحتاج إلى معرفة السياق والمقام هو ما ورد في مقام خاص.

ولما كانت الشريعة الإسلامية عامة زمانا ومكانا وأشخاصا وجدنا أغلب نصوص الشارع تميل إلى التجرد عن المقام الخاص الذي يقيد عموم اللفظ. لذلك وجدنا كثيرا من الآيات التي نزلت مع سبب خاص استخدمت الألفاظا العامة وأغفلت ذكر الأحداث أو الأشخاص أو الأحوال التي نزلت بسببها. وكذلك نجد الرسول صلى الله عليه وسلم يتجه هذا الاتجاه، فإذا وقعت واقعة وأراد أن يصدر فيها حكما أو خطابا توجيهيا لم يخصص الحالة التي دعت إلى ذلك، إنما يعمم الحكم، فيقول: “ما بال أقوام” أو “أيها الناس” وما أشبه ذلك.

وبناء على ذلك يمكن أن نقول بأن القاعدة التي تقول بـأن “العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب” هو في الغالب الأعم من كلام الشارع الذي يرد أكثر ما يرد في المقام العام الذي لا يتوقف فهمه على سياق الكلام ومقامه الخاص. أما النصوص التي لا يمكن فصلها عن سياقها الظرفي فلا بد من مراعاة الأسباب الخاصة ليتم فهمها على وجهها الصحيح.

ومن أمثلة النصوص التي تحتاج إلى معرفة أسباب النزول ما ورد في التدرج في التشريع، مثل تحريم الخمر والربا. إذ الناظر فيها من غير معرفة بأسبابها يجد فيها نوعا التضارب؛ فمنها ما ينص على الحرمة قطعا ومنها يقتصر على مجرد التنفير ومنها يفهم منه مجرد الكراهة. فمعرفة أسباب نزولها تبين العلاقة بينها وتوضح ترتيبها. وأن الحكم النهائي هو آخر الآية نزولا، وإنما لم ينزل الله حكما فاصلا مرة واحدة تيسيرا على الناس ليتمكنوا من التخلص من أسر المحرمات التي تجذرت فيهم ويصعب التخلي عنها دفعة واحدة.

ومن أمثلتها أيضا قول الله تعالى: ﭽ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا ﭼ إذ ظاهر الآية تدل عل أن السعي بين الصفا والمروة جائز وليس بواجب ولكن معرفة سبب نزولها تبين أن المقصود غير ذلك، إنما المقصود رفع توهم المسلمين الأوائل من الصحابة بأن هذه الشعيرة من أعمال الجاهلية التي نهى الإسلام عنها. فلذلك أشكلت هذه الآية على عروة بن الزبير حتى بينت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها سياقها المبين للمراد منه، كما روى البخاري عن عروة قَالَ عُرْوَةُ سَأَلْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقُلْتُ لَهَا: أَرَأَيْتِ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى ﭽإِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَاﭼ، فَوَاللَّهِ مَا عَلَى أَحَدٍ جُنَاحٌ أَنْ لَا يَطُوفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. قَالَتْ: بِئْسَ مَا قُلْتَ يَا ابْنَ أُخْتِي، إِنَّ هَذِهِ لَوْ كَانَتْ كَمَا أَوَّلْتَهَا عَلَيْهِ كَانَتْ “لَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَتَطَوَّفَ بِهِمَا” وَلَكِنَّهَا أُنْزِلَتْ فِي الْأَنْصَارِ، كَانُوا قَبْلَ أَنْ يُسْلِمُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ الطَّاغِيَةِ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا عِنْدَ الْمُشَلَّلِ، فَكَانَ مَنْ أَهَلَّ يَتَحَرَّجُ أَنْ يَطُوفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَلَمَّا أَسْلَمُوا سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا نَتَحَرَّجُ أَنْ نَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﭽإِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِﭼ الْآيَةَ. قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: وَقَدْ سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتْرُكَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا.[57]

فمثل هذه النصوص لا يمكن فهمها بدون معرفة سياقها الموضوعي والتاريخي، ولا يمكن معرفة مقصد الشارع فيها إلا إذا روعي فيها مقامها.

الطريق الثالث: الاستعانة بمسالك العلة

ومن طرق معرفة مقاصد الشريعة هو الاستعانة بمسالك العلة على اكتشاف مقصد الشارع من الحكم الشرعي. وقد جعل الإمام الشاطبي هذا الطريق الجهة الثانية من الجهات التي تعرف بها مقاصد الشريعة. ولكن هناك فرقا بين العلة التي أراد الأصوليون استنتاجها وبين مقاصد الأحكام التي نحن بصددها. فالعلة التي طلبها علماء الأصول هي الشيء الذي يمكن أن يقاس الحكم بموجبه، وليس بالضروري أن يكون ذلك الشيء مقصدا شرعيا أراد الشارع تحقيقه من خلال حكمه. لأن العلة هي مجرد “وصف ظاهر منضبط”، يمكن أن تكون هي الحكمة المطلوبة أو مجرد مظنة لوجودها. فلذلك ليس كل ما يصلح مسلكا لاستنباط العلة يصلح طريقا لمعرفة المقصد الشرعي.

فمسالك العلة التي تصلح أن تكون طرقا لمعرفة المقاصد هي:

أولا: النص

فأما مسلك النص فهو أهمها وأقواها دلالة على المقصود: وهو أن يذكر دليل من الكتاب أو السنة على التعليل بالوصف بلفظ موضوع له في اللغة من غير احتياج فيه إلى نظر واستدلال.[58]

وهو على قسمين:

1-   ما يدل على العلية دلالة قاطعة، كأن يقال: “لعلة كذا” أو لسبب كذا أو لأجل كذا، مثل قول الله تعالى: ﭽ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ ﭼ [59] وقوله: ﭽمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ﭼ [60]

2- ما يدل على العلية دلالة ظاهرة، وقد اختلف العلماء في عددها، فجعلها الأسنوي ثلاثة، هي: اللام، مثل قوله تعالى:ﭽوَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًاﭼ[61] وإنّ كقول النبي صلى الله عليه وسلم مبينا سبب رفضه الروثة في الاستنجاء: “إِنَّهَا رِكْسٌ”[62] والباء كقوله تعالى: ﭽفَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًاﭼ[63]  وجعلها الآمدي خمسة: اللام والكاف ومن وإن والباء[64] زاد البعض: أنْ وإنْ وأنّ ووالفاء ولعل وإذ وحتى.[65]

ثانيا: الإيماء

وهو اقتران وصف بحكم لو لم يكن هو أو نظيره للتعليل لكان كلاما بعيدا عن فصاحة كلام الشارع.[66] وهو أنواع:

النوع الأول: ترتيب الحكم على الوصف بفاء التعقيب أو التسبيب، وهو على أربعة أوجه: إما أن يدخل حرف الفاء على الوصف في كلام الشارع، أو أن يدخل الوصف في كلام الراوي، أو أن يدخل على الحكم في كلام الشارع، أو أن يدخل على الحكم في كلام الراوي.

فمثال الأول: قول الرسول صلى الله عليه وسلم فيمن وقصت دابته: “اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ وَلَا تُحَنِّطُوهُ وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا”[67]

والثاني: لم يظفروا عليه بمثال.[68]

والثالث: قول الله تعالى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}[69]

ومثال الرابع: ما رواه الشيخان عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلٍ مِنْهُمْ وَامْرَأَةٍ زَنَيَا فَأَمَرَ بِهِمَا فَرُجِمَا قَرِيبًا مِنْ مَوْضِعِ الْجَنَائِزِ عِنْدَ الْمَسْجِدِ.[70]

النوع الثاني: أن يحكم الشارع عقب علمه بصفة المحكوم عليه، وذلك كأن تحدث واقعة فترفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيحكم بحكم، فإن يدل على أن ما حدث علة لذلك الحكم. مثاله ما رواه البخاري وغيره عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَقَالَ هَلَكْتُ قَالَ وَلِمَ قَالَ وَقَعْتُ عَلَى أَهْلِي فِي رَمَضَانَ قَالَ: فَأَعْتِقْ رَقَبَةً.[71]

النوع الثالث: أن يذكر الشارع مع الحكم وصفا لو لم يقدر التعليل به لما كان لذكره فائدة. وله حالتان:

الحالة الأولى: أن يستنطق السائل عن الواقعة بأمر ظاهر الوجود ثم يذكر الحكم عقبه كما في قوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن بيع الرطب بالتمر “أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا يَبِسَ؟” فَقَالُوا: نَعَمْ. فَنَهَى عَنْ ذَلِكَ.[72]

والحالة الثانية: أن يسأل عن حكم فيتعرض لنظيره، أي أنه يسأل عن حكم فيعدل في الجواب إلى نظير محل السؤال، وينبه على وجه الشبه بينه وبين المسؤول عنه. مثاله أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ، فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَةً؟ اقْضُوا اللَّهَ، فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ.[73]

النوع الرابع: أن يفرق الشارع بين أمرين أو شيئين في الحكم بذكر صفة. فإن ذلك يشعر بأن تلك الصفة هي علة التفرقة في الحكم حيث خصصها بالذكر دون غيرها؛ فلو لم تكن علة لكان ذلك على خلاف ما أشعر به اللفظ، وهو ضربان:

أحدهما: ألا يكون حكم أحدهما مذكورا في الخطاب بل في خطاب آخر، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: “الْقَاتِلُ لَا يَرِثُ”.[74] ففي الحديث ذكر الفرق بين القاتل المذكور في عدم الإرث وبين غيره من الورثة بذكر القتل، وليس هذا الخطاب حكم سائر الورثة، فلو لم يكن ذلك لكون القتل هلة لعدم الإرث، لكان ذكره بعيدا.

ثانيهما: أن يذكر حكمهما في الخطاب، وهو على خمسة أقسام:

1-   أن يفرق بينهما بالشرط، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: “الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ مِثْلًا بِمِثْلٍ سَوَاءً بِسَوَاءٍ يَدًا بِيَدٍ فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ.”[75] فيستفاد من هذا الحديث أن اختلاف الأصناف علة في جواز التفاضل.

2-   أن يفرق بينهما في الغاية، مثل قوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ}[76] أي فإذا تطهرت فلا مانع من قربانهن، فتفريقه بين المانع من قربانهن قبل الطهر وبين حوازه في الطهر لو لم يكن لعلية الطهر لكان بعيدا.

3-   أن يفرق بينهما في الاستثناء، مثاله قوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ }[77] أي الزوجات عن ذلك النصف، فلا شيء لهن، فتفريقه بين ثبوت النصف لهن وبين انتفائه عند عفوهن عنه، لو لم يكن لعلية العفو للانتفاء لكان بعيدا.

4-   أن يفرق بينمها بالاستدراك، ومثاله قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ}[78] فهذا الاستدراك يظهر أن علة عدم المؤاخذة على أيمان اللغو والمؤاخذة على الأيمان المعقدة هو عقد القلب في الثانية.

5-   أن يفرق بينهما باستئناف ذكر أحد الشيئين بذكر صفة من صفاته بعد ذكر الآخر بشرط أن يكون الصفة صالحة للعلية، ومثاله: قول الراوي: قسم رسول الله في النفل “لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا.”[79] فتفريقه بين هذين الحكمين وهما جعل سهمين للفرس وجعل سهم لصاحبها بهاتين الصقتين وهما الفرسين والرجلية أي مفهومهما لو لم يكن لعلية كل منهما لكان بعيدا.

النوع الخامس: ترتيب الحكم على وصف بصيغة الجزاء يدل على التعليل به، كما في قوله تعالى: ﭽ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًاﭼ[80]

النوع سادس: أن يذكر في سياق الكلام شيئا لو لم يعلل به صار الكلام غير منتظم، مثل قول الله عز وجل: ﭽ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَﭼ[81] فإنه يعلم منه التعليل للنهي عن البيع بكونه مانعا من السعي إلى الجمعة إذ لو قدرنا النهي عن البيع مطلقا من غير ربط بذلك يكون خبطا في الكلام ينزه عنه كلام الشارع.

النوع السابع: تعليل عدم الحكم بوجود المانع منه، كقوله تعالى: ﭽوَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَﭼ[82]

النوع الثامن: ربط الحكم باسم مشتق فتعليق الحكم عليه مشعر بالعلية، كقوله تعالى: ﭽقَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّىﭼ[83]

وأنواع الإيماء في كلام الشارع كثيرة غير محصورة، وكما قال الغزالي في شفاء الغليل: “لا مطمع في حصر الآحاد فإنها فإنها كثيرة، وقلّما يخلو كلام الشارع من تنبيهات يفطن لها ذوو البصائر، وتكل عن فهمها معظم المتوسمين بالعلم. وما ذكرناه كاف لتنبيه الفطن على أجناس هذه المدارك…”[84]

ثالثا: المناسبة

المسلك الثالث من من مسالك العلة التي يتوصل بها إلى معرفة مقاصد الشريعة هي ما سماه الأصوليون بالمناسبة. والمناسب في اللغة هو الملائم، وهو في اصطلاح الأصوليين: “الوصف الذي يحصلا عقلا من ترتيب الحكم عليه أن يكون مقصودا من جلب منفعة أو دفع مضرة.”[85]

وعرّفه الغزالي بأنه: “ما كان على منهاج المصالح بحيث إذا أضيف إليه الحكم انتظم.”[86]

فالمناسبة إذن هي أن يكون بين الوصف والحكم ملاءمة بحيث يترتب على تشريع الحكم عندها تحقيق مصلحة مقصودة للشارع من جلب منفعة أو دفع مفسدة.[87]

قسم الأصوليون المناسب إلى أقسام باعتبارات مختلفة ولكن الذي يهمنا هنا هو تقسيمه حسب قوة دلالته واعتبار الشارع له. وبهذا الاعتبار انقسم المناسب إلى: المؤثر والملائم والغريب والملغي والمرسل. فهذه خمسة أقسام.

فالأول: المناسب المؤثر هو الذي يدل النص أو الإجماع على مناسبته وصلاحيته لأن يكون علة تبنى عليه الأحكام الشرعية. ومثاله قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ}[88]، الحكم الثابت بهذا النص هو إيجاب اعتزال النساء في المحيض، وقد رتب على أنه أذى، وصوغ النص صريح في أن علة هذا الحكم هو الأذى، فالأذى لإيجاب اعتزال النساء في المحيض وصف مناسب مؤثر.[89]

ومثل قوله تعالى : {وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}[90]، الحكم الثابت بهذا النص: أن من لم يبلغ الحلم من اليتامى ثبتت الولاية على ماله لوليه، وقد ثبت بالإجماع أن علة ثبوت الولاية المالية على الصغير صغره، فالصغر لثبوت الولاية المالية وصف مناسب مؤثر.[91]

وأيضا مثل ما دل عليه النص والإجماع على أن التيسير والتخفيف هو المقصد الشرعي من رخص العبادات والمعاملات، وأن تطهير النفوس من الشح وتحقيق التكافل الاجتماعي هو المقصد من تشريع الزكاة.[92]

فكل حكم شرعي رتب على وصف مناسب في محله ودل نص أو إجماع على أن هذا الوصف هو علة هذا الحكم، فهذا الوصف مناسب مؤثر، وهذا أعلى درجات اعتبار الوصف المناسب.[93] وما ثبت من المقاصد بهذا الطريق يعد من المقاصد بالنص أو الإجماع، وتكون إما مأخوذة من ظواهر النصوص مباشرة أو بالاستعانة بما يحف بها من قرائن. وإدراج هذا النوع من المناسب ضمن مقاصد الشارع متفق عليه بين العلماء.[94]

والثاني: المناسب الملائم هو ما ثبت كونه وصفا بترتيب الحكم على وفقه، ولكن لم يرد فيه نص ولا إجماع بعينه، وإنما رتب الشارع الحكم عليه في محل آخر، واعتبر عينه في جنسه والعكس، أو جسنه في جنسه. فمتى كان الوصف المناسب معتبرا بنوع من هذه الأنواع الثلاثة للاعتبار كان التعليل به موافقا تصرفات الشارع في تشريعه وتعليله، ولهذا يسمى المناسب الملائم أي الموافق تصرفات الشارع، وقد اتفق على صحة التعليل به وبناء القياس عليه.[95]

ومثال الوصف المناسب الذي اعتبار الشارع بعين الوصف علة لحكم من جنس الحكم الذي رتب على وفقه: وصف الصغر علة لثبوت الولاية للأب في تزويج الصغيرة، وذلك أنه ثبت بالنص ثبوت الولاية للأب في تزويج بنته البكر الصغيرة. فالحكم وهو ثبوت الولاية رتب على وفق البكارة والصغر، ولم يدل نص أو إجماع على أن العلة لثبوت هذه الولاية البكارة أو الصغر، لكن ثبت بالإجماع اعتبار الصغر علة للولاية على مال الصغيرة، والولاية على النفس هو ولاية التزاوج من جنس واحد، وهو الولاية . فكأن الشارع لما اعتبر الصغر علة للولاية على مال الصغيرة اعتبر الصغر علة للولاية عليها بأنواعها، ومن أنواع الولاية: الولاية على تزويجها. فعلة ثبوت الولاية للأب على تزويج البكر الصغيرة الصغر، وبما أن الصغر يتحقق في الثيب الصغيرة فتقاس على البكر الصغيرة وتثبت عليها ولاية التزويج.[96]

ومثال اعتبار جنس الوصف في عين الحكم: المطر لإباحة الجمع بين الصلاتين في وقت واحد، وذلك أنه ثبت بالنص إباحة الجمع بين الصلاتين حال المطر. فالحكم وهو إباحة الجمع بين الصلاتين رتب على وفق حال المطر، ولم يدل نص ولا إجماع على أن المطر هو علة هذا الحكم، لكن دل نص آخر على إباحة الجمع بين الصلاتين في وقت واحد حال السفر. وثبت بالإجماع أن علة إباحة الجمع السفر، والسفر والمطر نوعان من جنس واحد، لأن كلا منهما عارض مظنة الحرج والمشقة، فكأن الشارع لما اعتبر السفر علة لإباحة الجمع بين الصلاتين اعتبر كل ما هو من جنسه علة لهذه الإباحة، فعلة إباحة الجمع بين الصلاتين حال المطر: المطر، ويقاس عليه حال الثلج والبرد.[97]

وأما مثال اعتبار جنس الوصف في جنس الحكم: تكرر أوقات الصلوات في الليل والنهار لسقوط قضاء الصلاة عن الحائض. وذلك أنه ثبت بالنص أن الحائض في أثناء حيضها لا تصوم ولا تصلى، وأن عليها إذا طهرت أن تقضي الصوم دون الصلاة. فالحكم وهو سقوط قضاء الصلوات عنها لم يدل نص على علته، ولكن رُئي أن تكرر أوقات الصلوات ليلا ونهارا مظنة الحرج والمشقة في أدائها، والشارع اعتبر أشياء كثيرة هي مظان الحرج عللا لأحكام كثيرة هي رخص وتخفيف عن المكلف، كالمرض والسفر لإباحة الفطر في رمضان، والسفر لقصر الصلاة الرباعية، وعدم الماء للتيمم، ودفع الحاجة للسلم والعرايا، فكأن الشارع اعتبر كل نوع من أنواع مظان الحرج علة لكل نوع من أنواع الأحكام التي فيها تخفيف. وتكرر أوقات الصلوات من أنواع مظان الحرج، وسقوط قضائها عن الحائض من أنواع الأحكام التي فيها تخفيف.[98]

والأخذ بالمناسب الملائم محل اتفاق بين العلماء إجمالا[99] وإن اختلفوا في بعض الجزئيات دخولها ضمن الملائم أو ضمن غيره.[100]

وأما الثالث وهو ما سماه بعض الأصوليين بالمناسب الغريب، فلا يعثرون إلا على مثال واحد، وهو بتوريث المطلقة ثلاثا في مرض الموت معاملة للزوج بنقيض قصده، لأنه إنما قصد من تطليقها طلاقا باتا حرمانها من الميراث، ولم يكن الطلاق لسبب مشروع. ووجه غرابته أن مثل هذه المعاملة (المعاملة بنقيض القصد) لم تعهد في تصرفات الشارع إلا في حالة واحدة هي حرمان القاتل من الميراث، معاملة له بنقيض قصده إذا استعجل الميراث بقتل مورثه. ولم يعهد من الشارع في غير هذا الموضع معاملة المتصرف لنقيض قصده.

واعترض على هذا المثال لأن معاملة القاتل بنقيض قصده إنما قصد منه الشارع سد ذرائع سفك الدماء، فهو في الواقع فرع من فروع سد الذرائع.[101] وسد الشارع لذرائع الفساد ليس من المناسب الغريب بل ثبت اعتبارها في كثير من نصوص القرآن والسنة وأحكامها وفي اجتهادات الفقهاء أيضا. فهذا المثال أقرب إلى المناسب الملائم لوجود شواهد من النصوص على وفقه في جنس الحكم.  ولهذا لم يذكر صاحب جمع الجوامع المناسب الغريب وتبعه عليه الأستاذ عبد الوهاب خلاف.[102]

ثم الرابع من أنواع الوصف المناسب: المناسب الملغي، وهو المناسب الذي ثبت إلغاؤه وإعراض الشارع عنه في جميع صوره، مثل تحصيل الربح من الربا، وطلب الراحة من المسكرات، وكذلك سائر المحرمات.

ثم النوع الخامس من المناسبة: المناسب المرسل، وسمي أيضا بالمصلحة المرسلة. فقد عرفه بعض الأصوليين بأنه: “هو الذي لم يشهد الشرع لا لبطلانه ولا لاعتباره”، ولكن عند التحقيق لا يوجد مثال صحيح ينطبق على هذا الوصف. لأن كل مصلحة حقيقية لا بد أن يشهد باعتبارها، والنصوص العامة في القرآن والسنة قد غطّت كل مساحة المصالح إما بذكرها صراحة أو بالإشارة إليها، وإذا لم يكن هذا أو ذاك فلا بد من معارضتها بما هو أصلح منها. لذلك قال الإمام الغزالي بعد استعراض نماذج مما اعتبر من المصلحة المرسلة: “فقد تبين أن كل مصلحة مرسلة فلا بد أن تشهد أصول الشريعة لردها أو قبولها.”[103]

فلذلك عرف البعض المناسب المرسل بأنه: “هو المصلحة التي اعتبر الشارع جنسها.”[104]

وعرفه الشاطبي بأنه: “كل أصل شرعي لم يشهد له أصل معين، وكان ملائما لتصرفات الشارع ومأخوذا معناه من أدلته، فهو صحيح يبنى عليه، ويرجع إليه إذا كان الأصل قد صار بمجموع أدلته مقطوعا به … ويدخل تحت هذا الضرب الاستدلال المرسل الذي اعتبره مالك والشافعي، فإنه وإن لم يشهد للفرع أصل معين فقد شهد له أصل كلي، والأصل الكلي إذا كان قطعيا قد يساوي الأصل المعين، وقد يربي عليه بحسب قوة الأصل المعين وضعفه…”[105]

وبمعنى آخر أن المناسب المرسل لا ينبني على أصل جزئي، بل يدخل تحت أصل كلي وهو ضمن المقاصد الشرعية العامة. وأرجعه الغزالي إلى حفظ الأصول الخمسة المعروفة لديه بالضروريات الخمس.

قال الغزالي: “وكل مصلحة رجعت إلى حفظ مقصود شرعي عُلِم كونه مقصودا بالكتاب والسنة والإجماع فليس خارجا من هذه الأصول، لكنه لا يسمى قياسا بل مصلحة مرسلة، إذ القياس أصل معين، وكون هذه المعاني مقصودة عرفت لا بدليل واحد بل بأدلة كثيرة لا حصر لها من الكتاب والسنة وقرائن الأحوال وتفاريق الأمارات تسمى لذلك مصلحة مرسلة…”[106]

فبناء على قوله لقد أخرج الغزالي هذا النوع من الدليل عن دائرة القياس لأنه استند إلى أدلة كثيرة غير منحصرة، فهو ليس بالقياس، لأن القياس يستند إلى أصل محدد وهو وجود العلة التي استنبطت بإحدى تلك المسالك المذكورة. فهو بهذا الاعتبار يمثل أصلا مستقلا يعرف باسم الاستصلاح. وهو باب واسع من النظر المصلحي، وهو وإن كان داخلا في مسلك المناسبة من مسالك العة، ولكنه أصل مستقل من الأصول التي اعتمد الفقهاء عليها في فتاويهم، وخاصة فقهاء المالكية.

الاستصلاح وإفادته لمقاصد الشارع

والاستصلاح هو استفعال من صلح يصلح، وهو اتباع المصلحة المرسلة[107] يعني اعتمادها في تقرير الأحكام الشرعية. وفيه خلاف مشهور بين العلماء.[108] وأكثر المذاهب أخذا به المالكية ثم الحنابلة، وكان الشافعية أكثرهم تحرزا له، لكنهم اتفقوا في الجملة على الأخذ به. ولذلك فقد قبل الشافعية الاستصلاح بقيود، فالغزالي مثلا اعتبره من الأصول الموهومة إلا بثلاثة شروط: وهي أن تكون ضرورية وكلية وقطعية.[109] ومعنى ضرورية عنده أن تكون في إطار الضروريات الخمس المعروفة وهي حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال. ومعنى الكلية أن تشمل المصلحة جميع المسلمين لا تختص بشخص دون شخص أو حال دون حال. ومعنى القطعية أن يتحقق حصولها وليست مظنونة الحصول.

وممن أخذها بتحفظ ابن دقيق العيد كما نقله عنه الزركشي قال: “لست أنكر على من اعتبر أصل المصالح، لكن الاسترسال فيها. وتحقيقها يحتاج إلى نظر شديد ربما خرج عن الحد المعتبر… قال: وقد شاورني بعض القضاة في قطع أنملة شاهد ، والغرض منعه عن الكتابة بسبب قطعها، وكل هذه منكرات عظيمة الوقع في الدين، واسترسال قبيح في أذى المسلمين.”[110]

ومثل ذلك موقف ابن تيمية إذ قال: “…وهذا فصل عظيم ينبغي الاهتمام به، فإن من جهته حصل في الدين اضطراب عظيم، وكثير من الأمراء والعلماء والعباد رأوا مصالح فاستعملوها بناء على هذا الأصل، وقد يكون منها ما هو محظور في الشرع ولم يعلموه، وربما قدم على المصالح المرسلة كلاما بخلاف النصوص، وكثير منهم أهمل مصالح يجب اعتبارها شرعا، بناء على أن الشرع لم يرد به، ففوت واجبات ومستحبات، أو وقع في محظورات ومكروهات، وقد يكون الشرع ورد بذلك ولم يعلمه…. والقول الجامع: أن الشريعة لا تهمل مصلحة قط، بل الله تعالى قد أكمل لنا اليدن وأتم النعمة فما من شيء يقرب إلى الجنة إلا وقد حدثنا به النبي صلى الله عليه وسلم وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يويغ عنها إلا هالك. لك ما اعتقده العقل مصلحة غ، كان الشرع لم يرد به فأحد الأمرين له: إما أن الشرع دل عليه من حيث لم بعلم هذا الناظر، أو أنه ليس بمصلحة، وإن اعتقده مصلحة. لأن المصلحة هي المنفعة الحاصلة أو الغالبة، وكثيرا ما يتوهم الناس أن الشيء ينفع في الدنيا والدين يكون فيه منفعة مرجوحة بالمضرة. كما قال تعالى: ﭽقُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَاﭼ[111][112]

لذلك اشترط في العمل بالمصلحة المرسلة شروطا تحترز المصلحة المرسلة من تلك المحظورات:

أولها: أن تكون مصلحة حقيقة وليست مصلحة وهمية، والمراد بها أن يتحقق من أن تشريع الحكم في الواقعة يجلب نفعا أو يدفع ضررا، وأما مجرد توهم أن التشريع يجلب نفعا، من غير موازنة بين ما يجلبه من ضرر فهذا بناء على مصلحة وهمية، ومثال هذه المصلحة التي تتوهم في سلب الزوج حق تطليق زوجته، وجعل حق التطليق للقاضي فقط في جميع الحالات.

ثانيها: أن تكون مصلحة عامة وليست مصلحة شخصية، والمراد بهذا أن يتحقق من أن تشريع الحكم في الواقعة يجلب نفعا لأكبر عدد من الناس، أو يدفع ضررا عنهم وليس لمصلحة فرد أو أفراد قلائل منهم، فلا يشرع الحكم لأنه يحقق مصلحة خاصة بأمير أو عظيم، بصرف النظر عن جمهور الناس ومصالحهم، فلابد أن تكون لمنفعة جمهور الناس.

ثالثها: أن لا يعارض التشريع لهذه المصلحة حكما أو مبدأ ثبت بالنص أو الإجماع: فلا يصح اعتبار المصلحة التي تقتضي مساواة الابن والبنت في الإرث، لأن هذه مصلحة ملغاة لمعارضتها نص القرآن. [113]

رابعا: ألا تكون في الأمور التعبدية إذ الأصل فيها المنع إلا بنص كما هو معروف لقوله صلى الله عليه وسلم: “مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ.”[114]

قال ابن القيم: “من المسلمين من فرطوا في رعاية المصلحة المرسلة، فجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد محتاجة إلى غيرها، وسدوا على أنفسهم طرقا صحيحة من طرق الحق والعدل، ومنهم من أفرطوا فسوغوا من ينافي شرع الله وأحدثوا شراً طويلاً وفساداً عريضا”.[115]

قال عبد الوهاب خلاف: “فالمصلحة، وبعبارة أخرى الوصف المناسب إذا دل شاهد شرعي على اعتباره بنوع من أنواع الاعتبار، فهو المناسب المعتبر من الشارع، وهو إما المناسب المؤثر أو المناسب الملائم، وإذا دل شاهد شرعي على إلغاء اعتباره فهو المناسب الملغي، وإذا لم يدل شاهد شرعي على اعتباره ولا على إلغائه فهو المناسب المرسل وبعبارة أخرى المصلحة المرسلة.”[116]

والحاصل أن المصلحة المرسلة أو الوصف المناسب المرسل يعتبر إحدى الطرق الكاشفة عن مقاصد الشريعة، وهي طريقة سليمة بشروطها التي تضبطها من الوقوع في معارضة النصوص أو الاسترسال في اتباع الرأي المذموم أو الظن المرجوح.

رابعا: تحقيق المناط وتنقيحه وتخريجه

ومسلك آخر من مسالك العلة التي يمكن خلالها كشف مقصود الشارع هو تحقيق مناط الحكم وتنقيجه وتخريجه. وهي ثلاث عمليات يرتكز عليها عمل الفقيه في معرفة علة الحكم. وقد اعتبرها ابن تيمية جماع الاجتهاد.[117]

والمناط لغة مأخوذ من ناط الشيء نوطا إذا علقه، فالمناط ما يُتعلّق به.[118] فمناط الحكم هو ما يتعلق به الحكم من الوصف، بحيث ينبني الحكم الشرعي لوجود هذا الوصف في المحكوم عليه. فهو تعبير آخر عن علة الحكم، لكنه يتعلق بالجانب العملي التطبيقي للحكم. ومناط الحكم هو مستهدف الحكم الشرعي الذي قصد من أجله تشريع الحكم.

ولمعرفة مناط الحكم هناك ثلاثة أنواع من النظر فيه، وهي تحقيق المناط وتنقيحه وتخريجه.

أما تحقيق المناط فهو النظر في معرفة وجود العلة في آحاد الصور، بعد معرفتها في نفسها، وسواء كانت معروفة بنص أو إجماع أو استنباط.[119] فإثبات وجود العلّة في مسألة معيّنة بالنّظر والاجتهاد هو تحقيق المناط.

فمثال ما إذا كانت العلّة معروفةً بالنّصّ: جهة القبلة، فإنّها مناط وجوب استقبالها، وهي معروفة بالنّصّ، وهو قوله تعالى: «وحيثما كُنتم فَوَلّوا وجوهَكم شَطْرَهُ»[120] وأمّا كون جهة ما هي جهة القبلة في حالة الاشتباه فمظنون بالاجتهاد والنّظر في الأمارات.

ومثال ما إذا كانت العلّة معلومةً بالإجماع: العدالة، فإنّها مناط وجوب قبول الشّهادة، وهي معلومة بالإجماع، وأمّا كون هذا الشّخص عدلاً فمظنون بالاجتهاد.

ومثال ما إذا كانت العلّة مظنونةً بالاستنباط: الشّدّة المطربة ، فإنّها مناط تحريم الشّرب في الخمر، فالنّظر في معرفتها في النّبيذ هو تحقيق المناط، وسمّي تحقيق المناط، لأنّ المناط وهو الوصف علم أنّه مناط، وبقي النّظر في تحقيق وجوده في الصّورة المعيّنة.

هذا النّوع من الاجتهاد متفق عليه. قال ابن تيمية: “وهذا النوع مما اتفق عليه المسلمون بل العقلاء.”[121] قال الآمدي: “ولا نعرف خلافا في صحة الاحتجاج بتحقيق المناط إذا كانت العلة فيه معلومة بنص أو إجماع، وإنما الخلاف فيه فيما إذا كان مدرك معرفتها الاستنباط.”[122] لأنه يتوقف على قوة طريق الاستنباط، وطرق الاستنباط -غير طريق النص والإجماع- لا تخلو من خلاف. ولكن تحقيق المناط كطريق معرفة المقصد الشرعي لا غبار عليه. وتحقيق المناط يحتاج إليه المجتهد والقاضي والمفتي في تطبيق علّة الحكم على آحاد الوقائع، بل –كما قال الشاطبي- هو لا بد من العمل به حتى بالنسبة إلى كل مكلف في نفسه.[123]

وعند الإمام الشاطبي رحمه الله أن تحقيق المناط نوعان، فالنوع الأول وهو تحقيق المناط العام: هو ما ذكره الأصوليون من تحقق الأوصاف في آحاد صورها التطبيقية. لكن رأى الشاطبي أن هناك نوعا أخر من تحقيق المناط، وهو تحقيق المناط الخاص. وهو “نظر في كل مكلف بالنسبة إلى ما وقع عليه من الدلائل التكليفية بحيث يتعرف منه على مداخل الشيطان ومداخل الهوى والخظوظ العاجلة، حتى يلقيها المجتهد على ذلك المكلف مقيدة بقيود التحرز من تلك المداخل.”[124] وأخص منه “النظر فيما يصلح لكل مكلف في نفسه بحسب وقت دون وقت وحال دون حال وشخص دون شخص، إذ النفوس ليست في قبول الأعمال على وزان واحد.”[125] وهذا النوع من تحقيق المناط يجمع بين فقه الدليل وفقه واقع النفس البشرية وفقه التزكية النفسية، فهو فقه راق يصل إلى أعماق الحقائق الشرعية و دقائق الأسرار القلبية. وهو فقه جدير لكل فقيه أن يجتهد في تحصيله.

وأما تنقيح المناط فهو النظر والاجتهاد في تعيين ما دل النص على كونه علة، من غير تعيين بحذف ما لا مدخل له في الاعتبار مما اقترن به من الاوصاف، كل واحد بطريقة.[126] وذلك مثل قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم – للأعرابيّ الّذي قال واقع امرأته في نهار رمضان، فقال له النّبيّ صلى الله عليه وسلم: أعتق رقبة.[127] فإنّه يدلّ على كون الوقاع علّة للعتق، والتّعليل بالوقاع وإن كان مومى إليه بالنّصّ، غير أنّه يفتقر في معرفته عينا إلى حذف كلّ ما اقترن به من الأوصاف عن درجة الاعتبار بالرّأي والاجتهاد.

وذلك بأن يبيّن أنّ كونه أعرابيّا، وكونه شخصا معيّنا، وأنّ كون ذلك الزّمان وذلك الشّهر بخصوصه، وذلك اليوم بعينه، وكون الموطوءة زوجة وامرأة معيّنة لا مدخل له في التّأثير بما يساعد من الأدلّة في ذلك حتّى يتعدّى إلى كلّ من وطئ في نهار رمضان عامدا، وهو مكلّف صائم.

وتنقيح المناط مسلك من مسالك العلّة، لكنّه دون تحقيق المناط في المرتبة، وقد أقرّ به أكثر منكري القياس.[128]

وأما تخريج المناط فهو النظر والاجتهاد في إثبات علة الحكم الذي دل النص أو الاجماع عليه دون عليته.[129] وذلك أن يستخرج المجتهد العلّة برأيه. كالاجتهاد في كون القتل العمد العدوان علّةً لوجوب القصاص في المحدّد، وكون الطّعم علّة ربا الفضل في البرّ ونحوه حتّى يقاس عليه كلّ ما سواه في علّته ويسمّى استخراج المناسبة: تخريج المناط. وبذلك يكون تخريج المناط أعمّ من المناسبة، إذ قد يكون باستخراج المناسبة أو بغيرها.

مسالك العلة التي لا تعتبر كاشفة عن مقاصد الشريعة

ليس كل مسالك العلة يصلح طريقا لكشف مقاصد الشارع كما قد يفهم من الكلام الشاطبي في إطلاق القول فيه. وبعض هذه المسالك يصلح أن يكون كاشفا عن المقاصد الشرعية لكن بطريقة في الاستدلال تختلف عن تلك المسلوكة في الكشف عن العلة. ومرد ذلك إلى ما بين العلل والمقاصد من أوجه التشابه والاختلاف. فتتشابه العلة مع المقصد إذا كانت العلة هي نفسها الحكمة المقصودة من الحكم فحينئذ تستوي المسالك. وإذا كانت العلة مجرد وصف ظاهر منضبط ضابط لحكمة أو مظنة لها فإن المسالك تختلف، أو تختلف على الأقل طريقة الاستدلال ببعض المسالك.

فمن تلك المسالك: الشبه، يعني إلحاق الفرع بالأصل بموجب الشبه الكائن فيهما.[130] وهو طريق من طرق القياس بحيث إن التشابه بين الفرع والأصل مظنة تساويهما في الحكم. لكن الشبه ليس المثلية، واستقراء أحكام الشرع وأيضا موجب الحكمة والعقل أن يساوى بين متماثلَين، ولكن لا يلزم أن يساوى بين متشابهَين. فالتماثل يوجب التساوي، لكن التشابه لا يفيد غير ظن متأرجح. فهذا المسلك إضافة إلى ضعفه في الدلالة على علة الحكم فهو أبعد في الكشف عن مقصد الشرع.

وأيضا مسلك الدوران، ويسمى أيضا “الطرد والعكس” وهو عبارة عن وجود الحكم بوجود الوصف وانعدامه بعدمه.[131] وهذا التلازم بين الحكم والوصف قد يدل على علاقة العلية أو السببية أو غير ذلك، فهذا المسلك يوصل إلى نصف الطريق. فالحكم يدور مع علته وجودا وعدما، كما أن مقصد الحكم كذلك في الحالة المثالية، ولكن ليس كل ما يدور مع الحكم وجودا وعدما هو العلة أو المقصد الشرعي. فما يدل عليه دوران الوصف يحتاج إلى نظر آخر يثبت أن ذلك الدوران والتلازم بين الحكم والوصف كان بناء على علاقة العلية أو المقصدية.

وأيضا مسلك الإجماع، وهو أن يذكر ما يدل على إجماع الأمة في عصر من العصور على كون الوصف الجامع علة لحكم الأصل. والحقيقة أن الإجماع ليس دليلا مستقلا، لا في كشف العلية ولا حتى في إثبات الحكم، لأن الإجماع لا بد أن يستند إلى دليل فهو لا يأتي من فراغ. فمستند الإجماع هو الدليل والمسلك الحقيقي. وحصول الإجماع يدل على وجود المستند، فهو بالتالي لا ينتهض أن يكون مسلكا مستقلا من مسالك الكشف عن المقاصد.

أما مسلك السبر والتقسيم فهو مسلك قوي من حيث النظر العقلي، لكنه في الحقيقة لا يعدو أن يكون تركيبا بين مسالك المناسبة وتنقيح والمناط واعتبار قوادح العلة في عملية السبر. فهو ليس مسلكا قائما بذاته، بل ربط بين بعض المسالك. مع الملاحظة أن كثيرا من العلل التي أثبتها الفقهاء عن طريق السبر والتقسيم وقع فيها خلاف كثير، مما يضعف اعتبار هذا المسلك.

التفريق بين المقاصد وعلل الأحكام

وينبغي أن نفرق بين غرض الكلام في العلة والكلام في المقاصد، لأن استنتاج العلل بهذه المسالك يعني ثلاثة أمور:

(1)   إثبات وجود العلة في حكم الأصل، وأن هذا الحكم شرع من من أجلها،

(2)   دوران الحكم عليها، أي أن الحكم يلازمها، يوجد بوجودها وينعدم بعدمها،

(3)   تعدية الحكم بموجبها، أي فما دامت هذه العلة هي الباعثة على الحكم، وهذا الحكم يدور بدورها وجودا وعدما، يعني ذلك أن الحكم لا يقتصر على المنصوص عليه بل يتعدى إلى حيث وجدت تلك العلة. وهذا هو الغرض من مباحث العلة، أي أن يتوصل المجتهد إلى أن حكم الفرع المبحوث عنه مكستب من العلة الجامعة بين الأصل والفرع. والعلة التي بهذه الصفة تسمى العلة المؤثرة.

والكلام في مقاصد الشريعة لا يهدف إل تعدية الحكم، بل يقف الكلام عند إثبات العلة في الأحكام سواء مؤثرة في تعدية الحكم أم لا. فلذلك تكون العلة القاصرة -أي التي لا توجب تعدية الحكم- مفيدة في باب المقاصد، لأن الغرض من علم المقاصد هو أن تعرف الحكمة من الحكم الشرعي، لا أن يعرف به حكم مسألة ما.

الطريق الرابع: سكوت الشارع ومقاصده فيه

إن الشارع قد يسكت عن حكم مسألة ويتركها بدون بيان صريح وكلام مفصل. وفي ذلك مقاصد وحكم يريدها الشارع ويقصدها. والأحكام التي يراد معرفة مقصد الشارع فيها لا تخلو من ثلاثة أحوال:

1-  أن يثبتها الشارع بطريق من طرق إثباتها ومشروعيتها، كطلبها بالأمر أو الترغيب بذكر فضائلها، أو الثناء على أهلها القائمين بها أو الذم والوعيد على تركها، أو الإخبار عن كونها محبوبة مرادة له – لأنها إذا كانت كذلك فإنها إما أن تكون واجبة أو مندوبة على أقل الأحوال- ولا يخفى تعلق قصد الشارع بها عندئذ.

2- أن ينفيها الشارع، وذلك إما بالنهي عنها أو الوعيد عليها أو ذمها وذم أصحابها أو بأي طريق من طرق النفي المعروفة فتكون حينئذ محرمة أو مكروهة على أقل الأحوال فمقصود الشارع عدم إيقاعها يخالف مقصود الشارع.

3-  أن يسكت الشارع عن الحكم فلا يتعرض له بنفي ولا إثبات. وهو –كما قال الشاطبي- على ضربين:

الأول: أن يسكت عنه الشارع لأنه لا داعية له تقتضيه، ولا موجب له يقدر لأجله، كالنوازل التي حدثت بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنها لم تكن موجودة، ثم سكت عنها مع وجودها، وإنما حدثت بعد ذلك، فاحتاج أهل الشريعة إلى النظر فيها وإخراجها على ما تقرر في كلياتها، وهذا كجمع المصحف وتدوين العلم وتضمين الصناع وما أشبه ذلك مما لم يجر له ذكر في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تكن من نوازل زمانه، ولا عرض للعمل بها موجب يقتضيها. فهذا القسم جارية فروعه على أصوله المقررة بلا إشكال، فالقصد الشارع فيها معروف من الجهات المذكورة قبل.

الثاني: أن يسكت عنه وموجبه المقتضي له قائم، فلم يقرر فيه حكم عند نزول النازلة زائد على ما كان في ذلك الزمان. فهذا الضرب السكوت فيه كالنص على أن قصد الشارع أن لا يزاد فيه ولا ينقص، لأنه لما كان هذا المعنى الموجب لشرع الحكم العملي موجودا ثم لم بشرع الحكم دلالة عليه، كان ذلك صريحا في أن الزائد على ما كان هنالك بدعة زائدة ومخالفة لما قصده الشارع، إذ فهم من قصد الوقوف عند ما حد هنالك، لا الزيادة عليه ولا نقصان منه.[132]

فهناك نوعان من السكوت التشريعي: السكوت الذي يدل على أن ترك البيان مقصود، وهو السكوت مع قيام المقتضي لإصدار الحكم. وأكثر هذه الحالات في الأمور التعبدية، فإن الشرع إذا سكت عن شرع شيء منه يدل على أن الزيادة عليه يعتبر بدعة غير مطلوبة ولا مقبولة. لأن مقتضِي تشريع العبادات قائم وقت التشريع، فامتناع الشرع عن إصدار حكم في تلك المسألة يدل على أنها غير مطلوبة شرعا. وعمدة هذا النوع من السكوت: حديث عائشة رضي الله عنها: “مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ.”[133]

والنوع الثاني من السكوت هو السكوت الذي يدل على أن المسكوت عنه مساحة حرة يترك للناظر فيها أن يجتهد وفق ما رآه محققا لمصالح الدين والدنيا. وغالب حالات هذا السكوت في المعاملات. إذ السكوت فيها في الغالب لعدم قيام المقتضي لبيان حكم فيها. فالعمل فيها إما بالرجوع إلى أصل الإباحة أو النظر إلى القواعد الشرعية العامة. وأصل هذا النوع من السكوت حديث: “إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلاَ تُضَيِّعُوهَا وَحَرَّمَ حُرُمَاتٍ فَلاَ تَنْتَهِكُوهَا وَحَدَّ حُدُودًا فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ فَلاَ تَبْحَثُوا عَنْهَا.”[134]

والحديث المتفق عليه: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ دَعُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِسُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ.[135] وهو ما دل عليه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}.[136]

وأيضا حديث أبي الدرداء مرفوعا: “مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِى كِتَابِهِ فَهُوَ حَلاَلٌ وَمَا حَرَّمَ فَهُو حَرَامٌ وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَافِيَةٌ فَاقْبَلُوا مِنَ اللَّهِ عَافِيَتَهُ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُنْ نَسِيًّا” ثم تلا: ﭽ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّاﭼ[137].[138]

وليس معنى سكوت الشرع في هذا المجال هو فراغه من الحكم الشرعي، بل الأمر فيه يرجع إلى النصوص العامة والمبادئ الكلية ومقاصدها الشاملة، فإن عدم تدخل الشرع في المجالات التي تتبدل فيها الأحوال وتتجدد فيها الحاجات وتختلف فيها الظروف يعني أفساح الطريق للاجتهاد وفتح المجال للإبداع والابتكار. وهو الذي فهم الصحابة من روح الشريعة، فإنهم لم يقفوا أمام المستجدات على الأحكام المنصوصة، بل أحدثوا أمورا لم يكن في عهد الرسول عهد بها لعدم مقتضياتها آنذاك. فلما عرضت لهم مثل تلك المتطلبات لم يتوانوا في استحداث ما يسد الفراغ ويلبّي الحاجات. فجمعوا القرآن في المصاحف ودونوا السنة واتخذوا دواوين الجند واتخذوا السجن وخططوا المدن ووضعوا قواعد اللغة ونقطوا أحرف المصحف إلى آخر تلك الإجراءات التي أحدثها الصحابة والتابعون رضي الله عنهم ورضوا عنه.

الطريق الخامس: دلالة المقاصد الأصلية على المقاصد التابعة

إن الشارع الحكيم لا يقتصر على مقصد واحد في كل حكم من أحكامه، ومقاصد الشرع لا تقف عند وجه واحد من وجوه المصالح. بل إن وجوه المصالح التي قصدها الشارع متعددة، فمقاصد الشريعة منها ما هو مقصود بالقصد الأصلي ومنها ما هو مقصود بالتبع، وكلها مقصودة للشارع الحكيم.

ودلالة المقاصد الأصلية على مقاصدها التبعية على ثلاثة أنحاء:

1-     من حيث قصد المكلف وحظه فيه، فإن للمكلف أن يقصد مصالح أخرى إضافة إلى ما قصده الشارع تحقيقه بشرط ألا تناقض قصد الشارع. مع أن الأفضل أن يتطابق قصدُ المكلف مع قصد الشارع ولكن يجوز له أن يقصد مع قصده الامتثال قصد نيل فوائد تتحقق من خلال أمر الشارع. وكل قصد مناقض لقصد الشارع يعود على العمل بالإبطال، ومن ذلك إبطال الحيل لأنها مناقضة لقصد الشارع مع أنها موافقة لصورة الأمر لكنها مضادة من حيث القصد. ومن ذلك قصد المراءاة والسمعة في العبادات، لأنها ضد صلاح القلب وإخلاصه الذي هو المقصد الأصلي من العبادات. بخلاف المعاملات فإن فساد النية لا يبطل العقود وما ترتب عليها من نقل الحقوق، لأن مقاصدها الأصلية هي منافع الناس الدنيوية. ونية التعبد فيها فضل طاعة لا يؤثر في صحة العقود أو بطلانه.

2-     من حيث إن للمقاصد وسائلها، فكل وسيلة لتحقيق مقصد شرعي يُعَدّ مقصدا آخر تابعا له. والوسيلة إلى المصلحة مصلحة أخرى. وكل مقصد جزئي وسيلة لمقصد أعم منه حتى تتعاضد المقاصد كلها لتحقق المقاصد العامة الكلية العليا كما سبق بيانه في الفصل الرابع من الباب الأول. ومن ثم فالكلام في مقاصد الشريعة العامة كلام في مقاصدها الجزئية التي لا يتحقق أي مقصد عام إلا بتحقيق جزئياته. وكل كلام في مقصد جزئي لا يتم إلا في إطار مقصده الكلي. وكل مصلحة جزئية لا تؤدي إلى خدمة المصالح العامة فهي مصلحة ضائعة. ودعوى المصالح العامة التي لا علاقة لها بالجزئيات كلام فارغ غير مجدٍ.

3-     من حيث إن كل مصلحة أصلية تتضمن مصالح أخرى أدنى منها أهمية، وإن كل مصلحة جالبة لأخرى لاحقة أو مقارنة. فالصلاة مثلا قصد منها ذكر الله، وهي أيضا تنهى عن الفحشاء والمنكر فقول الله تعالى: ﭽوَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِيﭼ[139] يدل على المقصد الأصلي، وقول الله ﭽإِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُﭼ[140] يدل على المقصد التبعي للصلاة وهو كونها تنهى عن الفحشاء والمنكر، وقوله: ﭽوَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُﭼ[141]  بيان قدر ما فيها من المنفعة والمصلحة، يعني – على أحد أقوال أهل التفسير – أن ذكر الله تعالى في الصلاة أكبر من كونها ناهية عن الفحشاء والمنكر. فالذكر مقصود لذاته، أما اجتناب الفحشاء والمنكر فمطلوب لغيره، وكذلك كل أنواع دفع المضار. فإنه دفع المضار لا يطلب إلا لكونه جالبا للمنفعة أو شرطا لها أو مكملا لحصولها، وإلا فهو عدم محض، والعدم المحض لا مصلحة فيه. لأن المصلحة أمر وجودي في الأساس.

الطريق السادس: الاستقراء

أخرت طريق الاستقراء عن سائر طرق معرفة المقاصد، لا لأنه أقل أهمية من الطرق الأخر، بل هو أهمها وأقواها دلالة وأوصلها لليقين، ولكن بما أن الاستقراء لا يتم إلا بجمع النصوص والأحكام الشرعية، ولا ينتج إلا بعد اجتماع جملة من الدلالات العقلية والنقلية، تأخر الاستقراء عن بقية الطرق من حيث قرب الوصول إليها ووضوح الدلالة على نتائجها.

تعريف الاستقراء

الاستقراء لغة مأخوذ من “قرأ” الذي من معانيه الجمع والضم، جاء في لسان العرب: قرأت الشيء قرآنا أي جمعته وضممت بعضه إلى بعض.[142] والاستقراء على وزن الاستفعال يعني طلب الجمع. والاستقراء على هذا بمعنى طلب الجزئيات وتتبعها وضم بعضها إلى بعض للحصول على نتيجة كلية. وجاء في المصباح المنير: “استقرأت الأشياء: تتبعت أفرادها لمعرفة أحوالها وخواصها.”[143]

ويحتمل أن يكون الاستقراء مأخوذا من قرا الأمر أي تتبعه، كما جاء في لسان العرب أيضا: “قرا الأمر واقتراه، وقروت البلاد قروا وقريته قريا واسقريتها: إذا تتبعتها، تخرج من أرض إلى أرض.”[144]

أما معنى الاستقراء اصطلاحا، فهناك اتجاهان في ذلك: اتجاه المنطق القديم الذي يعتبر الاستقراء قسيما وموازيا لنوع مقابل من الاستدلال وهو الاستنباط، إذ الاستقراء يعني استخلاص التصور الكلي من خلال تتبع الجزئيات، بينما أن الاستنباط هو استنتاج صور جزئية من التصور الكلي. فهما طريقان متقابلان. والاتجاه الثاني هو ما يسير عليه المنطق الحديث الذي يتجه إلى توسيع مفهوم الاستقراء ومجال تطبيقه.

فإن الاستقراء في المنطق اليوناني القديم عبارة عن طريقة في الاستدلال الذي يبدأ بجزئيات حتى ينتهي بنتيجة كلية: قال أرسطو: “والاستقراء هو أن يبرهن بأحد الطرفين بأن الطرف الآخر في الواسطة موجود، ومثال ذلك أن تكون واسطة (أ) و (ج) هي (ب)، وأن تبين بـ(ج) أن (أ) موجودة في (ب)… ومثال ذلك أن يكون (أ) طويل العمر، و(ب) قليل المرارة، و(ج) الجزئيات الطويلة الأعمار كالإنسان والفرس والبغل، فـ(أ) موجودة في كل (ج)؛ لأن كل قليل المرارة فهو طويل العمر، و(ب) – أي قليل المرارة – موجود في كل (ج).”[145] وقال في موضع آخر بأنه: “الطريق من الأمور الجزئية إلى الأمر الكلي.”[146]

أما المناطقة المسلمون فلم يخرجوا عن هذا الإطار الأرسطي بشكل عام، فقد عرف ابن سينا بأن الاستقراء هو: “الحكم على كلي بما وجد في جزئياته الكثيرة…”[147]

وعرفه الغزالي بأنه: “أن تتصفح جزئيات كثيرة داخلة تحت معنى كلي، حتى إذا وجدت حكما في تلك الجزئيات حُكِم على ذلك الكلي به.”[148]

أما عند علم المنطق الحديث فتتبع الجزئيات لا يمثل إلا جزءا أوليا من عملية الاستقراء، فالاستقراء عند علماء المنطق الحديث لا يكفي عند هؤلاء تتبع الجزئيات لتكون نتيجته مؤدية للحكم الكلي. فالاستقراء عندهم عملية أوسع من ذلك.

لقد عرفه جون ستوارت ميل (J.S. Mill) بأنه: “عملية اكتشاف وبرهنة القضايا العامة.”[149] وعلى هذا المعنى عرفه وليامز دونالد (Williams Donald) بأنه: “ذلك الضرب من ضروب الاستدلال الذي كشف لنا عن قانون عام أو يبرهن عليه.”[150]

أما عند جون ديوي فـ”الاستقراء اسم يطلق على مجموعة طرائق تقرر بها عن حالة معينة أنها تمثل غيرها، وهي عملية يعبر عنها كون تلك الحالة نموذجا أو عينة.”[151]

فعند هؤلاء يكون الحكم العام الذي يتوصل إليه بالاستقراء لا يحصل بمجرد جمع الجزئيات، ولكن لا بد بعده من اختبار يبرهن ويؤكد على أن الوصف الجامع لتلك الجزئيات هو الموجب للحكم العام المبحوث عنه. فالمستقرئ على هذا المبدإ لا يكتفي بأخذ الأشياء على ما هي عليه،  بل كثيرا ما يتدخل في مرحلة التجربة بإجراء التحويرات التجريبية للأشياء وصفاتها، وهو تدخّل يرفع نتيجة الاستقراء من مجرد فرضية تحتمل الصواب والخطأ إلى قناعة علمية أو حقيقة علمية.

وزيادة التأكد بإجراء الاختبار هي النقطة الفارقة بين المنهجية العلمية اليونانية القديمة والمنهجية التجريبية الحديثة. والحقيقة أن هذه المنهجية الحديثة لم تبدأ من العالم البريطاني روجر بايكون[152]  كما يعتقده العامة، بل إن هذه المنهجية التجريبية قد ابتدأها العالم المسلم الحسن بن الهيثم[153] المتوفي سنة 430ه/1038م، فقد كان كتابه “المناظر” وأعماله العلمية تكريس وتأسيس لهذا المنهج. قال ابن الهيثم في منهجية بحثه: “ونبتدئ في البحث باستقراء الموجودات، وتصفح أحوال المبصرات، ونميز خواص الجزئيات، ونلتقط بالاستقراء ما يخص البصر في حال الإبصار، وما هو مطرد لا يتغير وظاهر لا يشتبه من كيفية الإحساس، ثم نرقى في البحث والمقاييس على التدريج والترتيب، مع انتقاد المقدمات والتحفظ في النتائج، ونجعل غرضنا في جميع ما نستقرئه ونتصفحه استعمال العدل لا اتباع الهوى، ونتحرى في سائر ما نميزه وننتقده طلب الحق لا الميل مع الآراء…”[154] فابن الهيثم يعتبر أن نتائج تتبع الجزئيات إنما هي فرضيات وليست النتائج النهائية، أما الوصول إلى النتائج العلمية المعتمدة فلا بد له من إخضاع تلك الفرضيات للتجارب المتعددة والمتكررة.[155]

والذي يهمنا هنا أن الاستقراء في اصطلاح علم المنطق على نوعين؛ نوع قديم يكتفي بتتبع الجزئيات للوصول إلى نتيجة الكلية، ونوع حديث يضيف إلى ذلك اختبار نتائج ذلك التتبع. وهذا الخلاف لا يؤثر كثيرا في مجال العلوم الشرعية، لأن إجراء الاختبار إنما يلجأ إليها في البحوث التي تتعلق بكشف قانون عام للطبيعة، والارتقاء من رصد الظواهر الطبيعية المحسوسة الملحوظة إلى استخلاص قانون علمي عام. أما كشف المعاني الشرعية من خلال الأدلة التفصيلية فلا يحتاج إلى إجراء التجارب ولا الاختبار، ودلالة الجزئيات فيها واضحة، إلا في حالة تعدد الاحتمالات التفسيرية لهذه الدلالة، ففي تلك الحالة تكون عملية اختبار النتيجة مفيدة، وهي شبيهة بعملية السبر والتقسيم عند الأصوليين.

والاستقراء نوعان: تام وناقص، فالاستقراء التام هو استقراء كل الجزئيات التي يراد البحث عنها أو الاستدلال بها. وأما الاستقراء الناقص فهو الاكتفاء ببعض الجزئيات للدلالة على الباقي أو على الكل. ونتيجة الاستقراء التام يقينية إذا ثبت الحكم للجزئيات المستقرأة وأمكن الجزم بعدم وجود جزئي آخر غير الجزئيات المستقرأة. أما نتيجة الاستقراء الناقص فهي ظنية. وانتفت ظنيته وأفاد اليقين إذا ثبت أن باقي الجزئيات التي لم يشملها الاستقراء لا يختلف عن الجزئيات المستقرأة.

أهمية الاستقراء

لأهمية هذا النوع من الاستدلال وقوة دلالته فقد دعا القرآن إلى استخدام الاستقراء للتوصل إلى الإيمان بالحقائق الإلهية ومعرفة الظواهر الكونية الدالة على الإيمان بالله واليوم الآخر في مثل قوله تعالى: ﭽقُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَﭼ[156] وقوله: ﭽقُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَﭼ[157] وقوله: ﭽقُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌﭼ[158] وقوله: ﭽ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَﭼ[159] وقوله: ﭽ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِﭼ[160]

ومثل قوله تعالى: ﭽإِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَﭼ[161] وقوله تعالى: ﭽوَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَﭼ[162] فكل تلك الآيات دعوة إلى ملاحظة الظواهر الكونية الجزئية للتوصل إلى الحقائق الإيمانية الكلية.

إن كثرة استخدام القرآن للاستدلال الاستقرائي تدل على قوة إفادته للعلم، وكثر العمل بالاستقراء في كتب القواعد الفقهية، فإنها عبارة عن استقراء الأحكام الشرعية لتستخلص منها قواعد فقهية.

وإن فن الاستقراء ليس مجرد جمع الجزئيات ليحكم عليها دفعة واحدة بحكم عام، كما قد يتصوره من اعتبره ساذجا لا يصلح إلا للعوام، لكنه التعرف على الجزئيات والتدقيق في وجوه التشابه والاختلاف، والموازنة بين التعميم والاستثناء. وبالتالي فإن الاستقراء هو نظر شامل مبني على معرفة الجزئيات وليس نظرا تعميميا يلزم العقل ويلجمه بمقدمة كبرى مسلمة دون اختبار المصداقية. وقد كان أكثر الخلافات الأصولية نتج عن تصورات كلية توهّمها طرفٌ مقابلَ تصورات كلية أخرى عند طرف آخر مع اتفاقهما في أكثر الجزئيات، ومن هنا نعرف مدى أهمية الاستقراء في بناء العقل الاستدلالي والسلوك الحواري.

كما أن الاستقراء هو الدافع إلى النظر في الأدلة الشرعية نظرة تركيبية بنائية شاملة، تُطلع للناظر الهيكلة العامة لهذه الشريعة، وتكشف بشكل واضح مقاصدها الكلية. فالاستقراء من أهم الطرق – إن لم تكن أهمها- لكشف مقاصد الشريعة.

وكما أن اعتمادها على جملة الجزئيات يجعل الاستقراء عبارة عن مجموعة الأدلة وليس دليلا واحدا، فتكون نتيجة الاستقراء الصحيح أقوى وأصح من كثير من الأدلة الفردية، أي هي التي لا تعتمد إلا على جزئية واحدة أو نص واحد أو برهان واحد وقياس واحد.

موقف المنطق الأرسطي من الاستقراء

رغم ما تصمنه الاستقراء من أهمية بالغة في إفادتها العقلية والعلمية كان أرسطو – وهو المؤسس الفعلي للمنطق اليوناني – لم يول للاستقراء اهتماما كبيرا مثلما يهتم بالبرهان والقياس، واعتبر أرسطو – رغم اعترافه بقوة دلالة الاستقراء- أن الاستدلال الاستقرائي استدلال ساذج يستعمل مع العوام. قال: “والاستقراء هو أكثر إقناعا وأبين أعرف في الحس، وهو مشترك للجمهور، فأما القياس فهو أشد إلزاما للحجة، وأبلغ عند المناقضين.”[163] وقال أيضا: “وقد ينبغي أن نستعمل في الجدل: أما على الجدليين فنستعمل القياس أكثر من استعمالنا إياه مع العوام من الناس، ويجري الأمر في الاستقراء بالعكس: بأن نستعمله في أكثر الأحوال مع العوام.”[164]

وهذا الموقف المقلل من قيمة الاستقراء قد يكون لأحد السببين أو لكليهما معا؛ إما أن تصوره عن الاستقراء كان بالسذاجة التي لا ترقى لمعرفة سر قوة وجدوى هذا المنهج، وإما بسبب أن الجو العام السائد في الوسط العلمي اليوناني هو جو الجدل والنقاش الذي لا يشجع على عملية تتبع الجزئيات بشكل دقيق وهي عملية أعقد وأطول من البرهان والقياس.

ومما يدل على الأول؛ تمثيله السابق للاستقراء كما ذكرنا في تعريفه له. فالمثال الذي ذكره أرسطو من طول أعمار الإنسان والفرس والبغل مع كون كل هذه الأنواع –في اعتقاده- قليلة المرارة، ينتج أن كل قليل المرارة طويل العمر. ولا غبار في سذاجة وضعف هذا النوع من الاستدلال، بهذا المثال الذي يفتقد كثيرا من شروط الاستقراء الصحيح.  وما يدل على الثاني؛ قول أرسطو بأن القياس هو أشد إلزاما للحجة، وأبلغ عند المناقضين، وأن الاستقراء أقل جدوى من القياس في ميدان الجدل. والمعروف في الثقافة اليونانية النشاط العلمي في أروقة الحوار وجلسات المناقشة، ولم تعرف عنهم كثرة مراكز البحث والمختبرات والمكتبات وهي الأداوت التي تساعد على الاستقراء. فالقياس في هذا الجو أسهل وأنفع لأنه لا يحتاج إلى استحضار كمية كبيرة من المعلومات، أما الاستقراء فيحتاج إلى معلومات غزيرة ودقيقة وإلى التجارب والملاحظات العميقة الممنهجة. 

وهذا الاستخفاف بأهمية الاستقراء يؤدي إلى تقوقع الفكر في قوالب مقررة لا تقبل التعديل إلا من قبل جدل مقنن بقوانين تحرم العقل الإنساني من اختراق حدودها. فالتصورات الكلية التي اعتمدها أهل المنطق القديم في الغالب لا تأتي عن طريق فحص دقيق وتغطية شاملة للجزئيات، بل اكتفوا بالملاحظات العامة لبعض الجزئيات ليتكون منها الحكم الكلي.

وتبع أرسطو في عدم الاهتمام بالاستقراء الإمام أبو حامد الغزالي، فإنه أهمله إهمالا تاما في مقدمة المستصفى الذي قدمه بملخص علم المنطق،[165] بل ذهب إلى أكثر من ذلك، حيث اعتبر الاستقراء حتى ولو كان استقراء تاما لا يفيد نتيجته إلا بإرجاعه إلى ضرب من القياس -الذي سماه البرهان- على شكل مقدمتين أولاهما مثبتة وثانيتهما عامة كلية،[166] وبالتالي فهو لا يرى قيمة الاستقراء إلا بكونها تابعة للدليل الاستنباطي. وهذا عجيب، لأن القضية الكلية لا تثبت إلا بعد المعرفة اليقينية باندراج كل الجزئيات تحتها، وذلك لا يتم إلا بعد الاستقراء التام، وبالتالي فإن الاستقراء هو أصل البرهان وليس العكس.

والملاحظ أن كتب المنطق وكتب الأصول التي تتبنى هذا الموقف لم تقدم مثالا للاستقراء التام ولا حتى الاستقراء الأكثري الذي يقدم جزئيات كثيرة مقنعة، وإنما ذكرت أمثلة لا تشتمل إلا على جزئيتين أو ثلاثا لينتقل بها إلى حكم كلي. لنأخذ مثلا كلام ابن سينا، لما أراد أن يبين دليل الاستقراء فإنه لم يزد على أن يعيد المثال الذي ذكره أرسطو: أن الإنسان والفرس والبغل كلها قليل المرارة وكلها طويل العمر، ليستنتج منه أن كل قليل المرارة طويل العمر.[167] وكذلك في الحكم أن كل حيوان يحرك فكه الأسفل عند المضغ،[168] ونقضه نصير الدين الطوسي بالتمساح الذي يحرك فكه الأعلى.[169] وأما الغزالي فذكر مثالا للاستقراء الخاطئ وهو القول بأن كل فاعل جسم،[170] وذكره لهذا المثال الخاطئ ينبئ على موقفه من الاستقراء أصلا. ولم يزد الغزالي في المستصفى على ما ذكره في معيار العلم من ذكر مثاله الفقهي وهو مسألة أداء الوتر على الراحلة، خاليا من ذكر الشواهد الدالة على الحكم العام بأن الأفعال النبوية وأعمال السلف كلها تدل على أن كل صلاة أديت على راحلة فهي نافلة،[171] وهذه المسألة مع فرض صحتها، لم تقدم النموذج الصحيح في الاستقراء التام. فلا غرابة بعد ذلك كله أن يكون حكم أصحاب المنطق الارسطي على الاستقراء لم يكن كما ينبغي، لأن الحكم على شيء فرع عن تصوره.

وتبعه في ذلك ابن قدامة في روضة الناظر،[172] والذي ظهر منه أنه لم يزد فيه على أن يلخص كلام الغزالي.

ولكن هذا الإهمال يتزحزح قليلا بعمل الفخر الرازي الذي جعل الاستقراء من الأدلة الأصولية الثانوية حيث اعتبره من الأدلة المختلف فيها،[173] وتبعه في ذلك البيضاوي الذي قسم الأدلة المختلف فيها إلى مقبولة وغير مقبولة، فجعل الاستقراء ثالث الأدلة المقبولة.[174] ثم وارتفع الاهتمام بالاستقراء مع الإمام تاج الدين بن السبكي في جمع الجوامع قد جعله ضمن باب الاستدلال،[175] وكذلك فعل ابن النجار في شرح الكوكب المنير.[176]

والحقيقة أن كتب الأصول –باستثناء عدد محدد منها- لم تعط للاستقراء قدره، فقد أخر الاستقراء عن الرتبة اللائقة به. وهذا من حيث التنظير، ومن حيث التطبيق فلم يغب الاستقراء عن العمل الفكري الإسلامي تماما، لكن حضوره كان ضعيفا، فلو جعلوا الاستقراء ضمن البراهين الأولية لكان مسار الفقه وأصوله غير هذا المسار التجزيئي الذي ينظر إلى الفقه كمسائل جزئية متناثرة، وإلى أصول الفقه كأجزاء متوزعة على مساحات متفرقة. إن إهمال أو تقليل دور الاستقراء في الاستدلال قد جعل التعميمات المتناقضة مسائل وإشكالات ملأت الكتب وشغلت العقول قرونا طويلة، فلو دققوا في مبادئ الاستدلال بمجهار الاستقراء المدقق لسلموا من تضارب تلك المقدمات الكلية التي لم تتم تمحيصها.

الاستقراء عند ابن تيمية

إن من أبرز العلماء الذين رفعوا شأن الاستدلال الاستقرائي والاعتماد على تتبع النصوص وجزئيات الأحكام، شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وإن الاستقراء كان سِمته البارزة وعلامته الظاهرة وسلوكه الغالب في الاستدلال والفهم وإصدار الأحكام والتأليف والكتابة في شتى العلوم الشرعية، فتراه إذا أراد أن يستدل لقضية ما حشد لها الآيات والأحاديث وأقوال الأئمة بغزارة بالغة وقدر كبير من الاستقصاء، ساعده على ذلك سعة حفظه وقوة استحضاره للنصوص كأنها بين عينيه. وابن تيمية غالبا ما يطيل النفس جدا في ذكر المسائل الجزئية إذا أراد بذلك إثبات قاعدة كلية، مما يظن أن أغلب استقراءاته إذا لم يكن تاما فهو أكثري يشمل أغلب الجزئيات.

ولقد انتقد ابن تيمية حصر أهل المنطق الأدلة العقلية في ثلاث صور: إما الحكم بالكلي على الجزئي وهو القياس أو بالجزئي على الكلي وهو الاستقراء أو بأحد الجزئيين على الآخر وهو التمثيل،[177] ورأى ابن تيمية أن حصرهم الدليل في ذلك باطل لا دليل عليه، فقد بقي الاستدلال بالكلي على الجزئي الملازم له، وهو المطابق له في العموم والخصوص، وكذلك الاستدلال بالجزئي على الجزئي الملازم له، بحيث يلزم من وجود أحدهما وجود الآخر، ومن عدمه عدمه.[178] ورد على اعتقادهم بأن قياس الكلي على الجزئي، وهو وما خصوه باسم القياس، هو الذي يفيد اليقين. أما التمثيل، فلا يفيد إلا الظن. ورأى ابن تيمية أن هذا التفريق باطل، بل حيث أفاد أحدهما اليقين اليقين أفاد الآخر اليقين، وحيث لا يفيد أحدهما إلا الظن لا يفيد الآخر إلا الظن أيضا. فإن إفادة الدليل لليقين أو الظن ليس لكونه على صورة أحدهما دون الآخر، بل باعتبار تضمن أحدهما لما يفيد اليقينن فإن كان أحدهما اشتمل على أمر مستلزم للحكم يقينا حصل به اليقين، وإن لم يشتمل إلا على ما يفيد الحكم ظنا لم يفد إلا الظن، فقياس الشمول وقياس التمثيل من جنس واحد، بل الثاني أصل للأول. أما الاستقراء فلا خلاف في أنه يفيد اليقين إذا كان تاما.[179]

وكان يرى أن المقاصد الشرعية ظاهرة بينة بالاستقراء، فهي ثابتة بالتواتر المعنوي، قال: “إن أهل العناية بعلم الرسول العالمين بالقرآن وتفسير الرسول والصحابة والتابعين لهم بإحسان عندهم من العلوم الضرورية بمقاصد الرسول ومراده ما لا يمكنهم دفعه عن قلوبهم، ولهذا كانوا كلهم متفقين على ذلك من غير تواطؤ ولا تشاعر، كما اتفق أهل الإسلام على نقل حروف القرآن ونقل الصلوات الخمس والقبلة وصيام شهر رمضان، وإذا كانوا قد نقلوا مقاصده ومراده عنه بالتواتر كان ذلك كنقلهم حروفه وألفاظه بالتواتر. ومعلوم أن النقل المتواتر يفيد العلم اليقيني، سواء كان التواتر لفظيا أو معنويا.”[180]

وكان يرى أن معرفة صحيح القياس وفاسده ترجع إلى استقراء أصول مسائل الشريعة، وكذلك مقاصد الشرع وأسراره، قال: “أنه يرجع العلم بصحيح القياس وفاسده إلى استقراء أصول الشريعة وتدبرها، والخبرة بأسرار الشرع ومقاصده، وما اشتملت عليه شريعة الإسلام من المحاسن التي تفوق التعداد وما تضمنته من مصالح العباد في المعاش والمعاد، وما فيها من الحكمة البالغة والرحمة السابغة والعدل التام.”[181]

كما أن الاستقراء يدل على أن مبنى التحريم على دفع الضرر ومبنى التحليل على جلب النفع وهو أصل الأحكام الشرعية، قال: “والله سبحانه إنما حرم علينا الخبائث تنزيها لنا عن الضرر، وأباح لنا الطيبات كلها، لم يحرم علينا شيئا من الطيبات كما حرم على أهل الكتاب بظلمهم طيبات أحلت لهم، ومن استقرى الشريعة في مواردها ومصادرها، واشتمالها على مصالح العباد في المبدأ والمعاد تبين له من ذلك ما يهديه الله إليه.”[182] وأن تدبر أصول الشرع يدل على أنه إذا تعارضت المصلحة والمفسدة قدم أرجحهما، أنه يدفع أعظم الضررين باحتمال أدناهما.[183]

وعلى خطى ابن تيمية سار تلميذه ابن القيم في اعتماد الاستقراء والإكثار من العمل به، والخصائص المنهجية لدى ابن القيم هي نفسها التي عند شيخه رحمهما الله وجميع علماء المسلمين. وقد تقدم الكلام على نهج ابن القيم في متابعة شيخه بالباب الأول.

الاستقراء عند الشاطبي

والإمام الثاني الذي رفع لواء استقراء النصوص وأكد على أهميته هو الإمام أبو إسحاق الشاطبي. وقد صدر كتابه الموافقات بمقدمة تؤسس مكانة الاستقراء في مسائل الأصول القطعية. فإن مسائل الأصول تقوم على استقراء الأدلة، قال: “… وبهذا امتازت الأصول من الفروع، إذ كانت الفروع مستندة إلى آحاد الأدلة وإلى مآخذ معينة، فبقيت على أصلها من الاستناد إلى الظن، بخلاف الأصول فإنها مأخوذة من استقراء الأدلة بإطلاق، لا من آحادها على الخصوص.”[184]

ورأى الشاطبي أن الاستقراء ضرب من ضروب التواتر، والقوة التي قام عليها الدليل المتواتر هي نفسها التي استند إليها دليل الاستقراء. فالقوة التي اكتسبها الاستقراء من الجزئيات مثل تلك التي أفادها التواتر من كثرة روايات الناقلين من حيث استحال تواطؤهم على الكذب واستبعد حصول الخطأ مع ذلك العدد الكبير. وبالتالي فهو يفيد القطع كالمتواتر. قال: “… وإنما الأدلة المعتبرة هنا المستقرأة من جملة أدلة ظنية تضافرت على معنى واحد حتى أفادت فيه القطع، فإن للاجتماع من القطع ما ليس للافتراق، ولأجله أفاد التواتر القطع، وهذا نوع منه.”[185] واستخدم الشاطبي المنهج الاستقرائي في مجالات كثيرة، أغلبها فيما يتعلق بكليات الشريعة وقواعدها العامة.

وكان أول مسألة أثبتها بالاستقراء هو كون الشريعة وضعت لمصالح العباد في الدنيا والآخرة. [186] وكان قد عمل على استقراء جانبين؛ الأول: الأدلة التي نصت على تعليل الشريعة جملة، والثاني: تعاليل تفاصيل الأحكام في الكتاب والسنة.

وأثبت بالاستقراء قبل ذلك كون أصول الدين كلها قطعية،[187] ولكنه لم يذكر الأدلة الجزئية التي تدل على ذلك، بل اكتفى بالإشارة إلى أن الاستقراء يفيده بشكل قطعي، وكذلك قوله بأن أصول الدين راجعة إلى كليات الشريعة، فإن الشاطبي أشار إلى أن الاستقراء يدل على ذلك ولم يذكر شيئا من الأدلة الجزئية[188] ويبدو أن هذا هو الذي جعل ابن عاشور اعتبر كلام الشاطبي في هذه المسألة سفسطائية[189]، مع أن عدم ذكر الأمثلة لا يعني عدم وجودها، وقد يكون عذر الشاطبي في ذلك اعتقاده بأن الأمثلة الدالة على كلامه ليست غائبة في الأذهان حتى يحتاج إلى ذكرها صراحة.

وكان بالإضافة إلى اعتماده الكثير على الاستقراء فهو أيضا ابتكر ما سماه “الاستقراء المعنوي”. وعرف الاستقراء المعنوي بأنه: “الذي لا يثبت بدليل خاص، بل بأدلة منضاف بعضها إلى بعض، مختلفة الأغراض بحيث ينتظم من مجموعها أمر واحد تجتمع عليه تلك الأدلة؛ على حد ما ثبت عند العامة جود حاتم وشجاعة علي رضي الله عنه وما أشبه ذلك.” ثم تكلم عن أن إثبات مراتب الضروريات والحاجيات والتحسينيات في الشريعة إنما يكون عن طريق الاستقراء المعنوي، قال: “فلم يعتمد الناس في إثبات قصد الشارع في هذه القواعد [يعني الضرورية والحاجية والتحسينية] على دليل مخصوص، ولا على وجه مخصوص؛ بل حصل لهم ذلك من الظواهر والعمومات، والمطلقات والمقيدات، والجزئيات الخاصة في أعيان مختلفة، في كل باب من أبواب الفقه، وكل نوع من أنواعه، حتى ألفوا أدلة الشريعة كلها دائرة على الحفظ على تلك القواعد، هذا مع ما ينضاف إلى ذلك من قرائن أحوال منقولة وغير منقولة.”[190]

وموضوع الاستقراء عن الإمام الشاطبي أوسع من كونه طريقا لكشف المقاصد، فإنه استخدمه في أغراض متعددة وفي أبواب مختلفة. والشاطبي له فضل على من بعده بتأكيده المتكرر على دليل الاستقراء، وهو أمر قلما نجده عند غيره من الأصوليين. وهي نقلة مهمة في علم أصول الفقه عموما وفي مقاصد الشريعة بشكل أخص.

ومن فرائد الشاطبي المهمة أيضا تفريقه بين العموم الكلي التام الذي لا يتخلف عنه شيء من جزئياته وبين العموم العادي الذي قد يتخلف عنه شيء من بعض الجزئيات بسبب من الأسباب بشكل لا يقدح جريان العموم على عمومه.[191] فغالب مسائل الشريعة قائمة على العموم العادي لا على العموم الكلي. قال: “ولما كان قصد الشارع ضبط الخلق إلى القواعد العامة، وكانت العوائد قد جرت بها سنة الله أكثرية لا عامة، وكانت الشريعة موضوعة على مقتضى ذلك الوضع، كان الأمر الملتفت إليه إجراء القواعد على العموم العادي، لا العموم الكلي التام الذي لا يختلف عنه جزئي ما.”[192] ثم بعد أن ضرب بعض الشواهد على ذلك قال: “فليكن على بال من النظر في المسائل الشرعية أن القواعد العامة إنما تنزل على العموم العادي.”[193]

وكان مستنده في ذلك أمران: الأول: أن سنة الله في حياة البشر ومعتاد أمورهم قد جرت بكونها أكثرية لا عامة، ولما كانت الشريعة إنما وضعت لضبط تصرفات الخلق مع هذا الترتيب كان من اللازم أن تسير القواعد الشرعية على ذلك، فتجري على العموم العادي لا على العموم الكلي.

الثاني: أن واقع الأحكام الجزئية يشهد لذلك، وإذ إن كون التكاليف الشرعية وضعت على العموم، فجعل البلوغ علامة التكليف، وهو مظنة وجود العقل الذي هو مناط التكليف، لأن العقل يوجد عند البلوغ في الغالب لا على العموم التام. وكذلك الأمر في السفر الذي أبيح فيه الفطر لكونه مظنة المشقة، وقد توجد المشقة فيه وقد لا توجد، ولكن الشرع اعتبره مبيحا للفطر، بغض النظر عن تحقق المشقة فيه، لأن العبرة في الغالب.

ولأن القضايا الكلية لا تخلو من تخلف بعض الجزئيات فلا بد من التوازن بين النظر الكلي الذي يحكم على الجزئيات وبين النظر الجزئي الذي يؤثر في الكليات. فالشاطبي يرى ضرورة اعتبار الأمرين معا، ليكتمل التصور، “وكما أن من أخذ بالجزئي معرضا عن كليه فهو مخطئ، كذلك من أخذ بالكلي معرضا عن جزئيه.”[194] ورأي الشاطبي هذا غاية في الدقة والإصابة، إذ الكلي لا يكون كليا إلا بعد وجود الجزئيات المتجانسة واستقرائها وعرضها، “فالكلي من حيث هو كلي غير معلوم لنا قبل العلم بالجزئيات.”[195]

“فإذا ثبت بالاستقراء قاعدة كلية ثم أتى النص على جزئي يخالف القاعدة بوجه من وجوه المخالفة فلا بد من الجمع في النظر بينهما، لأن الشرع لم ينص على ذلك الجزئي إلا مع الحفظ على تلك القواعد، إذ كلية هذا معلومة ضرورة بعد الإحاطة بمقاصد الشريعة. فلا يمكن والحالة هذه أن تخرم القواعد بإلغاء ما اعتبره الشرع.”[196]

وهذا هو المنهج الصحيح في الأدلة التي تبدو متعارضة، فإن الحقائق الشرعية تتكامل، ولا يلغي بعضها بعضا، بل كلها يكوّن العلاقة البنائية التامة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، تنزيل من حكيم حميد. وأيضا فإن القضايا الكلية تتجاذب وتتداخل في الجزئيات الواقعة في المنطقة المشتركة، فيلحق جزئي من جزئيات إحدى الكليات بكلية أخرى، وبالعكس.

وقد يخرج الجزئي عن مقتضى الكلي لسبب خارجي، وليس ذلك خرقا للكلي ولا نقضا له، “إذ الكلي لا ينخرم بجزئي ما، والجزئي محكوم عليه بالكلي، ولكن بالنسبة إلى ذات الكلي والجزئي، لا بالنسبة إلى الأمور الخارجة، فالإنسان مثلا، يشتمل على الحيوانية بالذات وهي التحرك بالإرادة، وقد يفقد ذلك لأمر خارج من مرض أو مانع غيره. فالكلي صحيح في نفسه، وكون الجزئي من جزئياته منعه مانع من جريان حقيقة الكلي فيه أمر خارج.”[197]

ومما تقدم يظهر تميز عمل الشاطبي بمنهج الاستقراء من خلال إعادة البناء وتدقيق في أسس منطقية جديدة للاستقراء، وألحق الاستقراء بالتواتر، واعتبر نتيجته بنتيجة التواتر، وأن القيمة التراكمية في التواتر هي نفسها التي في الاستقراء. وجعل ما سماه الاستقراء المعنوي شبيها بالتواتر المعنوي وحل به مشكلة قطعية المسائل الأصولية، وكشف للناس طريق تحصيل القطع من الظنيات، وأن توارد الظنيات على معنى واحد يمكن أن يفيد القطع. وهذا ما تميز به منهج الشاطبي في هذا الكتاب قال: “… ومر أيض بيان كيفية اقتناص القطع من الظنيات، وهي خاصة هذا الكتاب لمن تأمله، والحمد لله.”[198] ولم يسترسل الشاطبي في التعميمات الاستقرائية، بل وازن بين القواعد العامة التي دل عليها الاستقراء الناقص وبين وجود الجزئيات التي تتخلف عنها. فخرج من مشكلة الاستقراء الناقص بهذا التوازن بين النظر الكلي والنظر الجزئي.

والاستدلال بالاستقراء بدأه الشاطبي من أول مسألة قررها، بل جعله الأساس الذي بنى عليه كتابه الموافقات، وقد صرح به في مقدمة الكتاب: “… ولما بدا من مكنون السر ما بدا، ووفق الله الكريم لما شاؤ منه وهدى، لم أزل أقيد من أوابده، وأضم من شوارده، تفاصيل وجملا، وأسوق من شواهده، في مصادر الحكم وموارده، مبينا لا مجملا، معتمدا على الاستقراءات الكلية، غير مقتصر على الأفراد الجزئية، ومبينا أصولها النقلية، بأطراف من القضايا العقلية، حسبما أعطته الاستطاعة والمنة، في بيان مقاصد الكتاب والسنة.”[199] والتزم الشاطبي فعلا بالاستدلال به، حتى لا يكاد يقرر مسألة أو قاعدة عامة إلا وقد استدل لها – من جملة ما استدل به – بالاستقراء.

الاستقراء عند ابن عاشور

أما العلامة ابن عاشور، فكما تقدم الكلام فيه، أنه جعل طريق الاستقراء أول طريق لمعرفة مقاصد الشريعة وأعظمها،[200] وكما أن ابن عاشور بدأ كتابه مقاصد الشريعة الإسلامية بمسألة قطعية الأدلة، فإنه قدم طريق الاستقراء على غيره لأنه يفيد القطع، حيث جزم بأن نتيجة استقراء أدلة الشرع أفادت بشكل قطعي مراعاة الشرع لمصالح العامة والخاصة. قال مقدمة الكتاب: “واستقراء أدلة كثيرة من القرآن والسنة الصحيحة يوجب لنا اليقين بأن أحكام الشريعة الإسلامية منوطة بحكم وعلل راجعة للصلاح العام للمجتمع والأفراد.”[201]

وهذا العلم القطعي يتحصل من نوعي الاستقراء اللذين ذكرهما ابن عاشور:

النوع الأول: استقراء الأحكام المعروفة عللها، الآئل إلى استقراء تلك العلل المثبتة بطرق مسالك العلة.[202] قال: “لأننا إذا استقرينا عللا كثيرة متماثلة في كونها ضابطا لحكمة متحدة أمكن أن نستخلص منها حكمة واحدة فنجزم بأنها مقصد شرعي.”[203] فهو لم يكتفي بجعل العلل هي المقاصد بل لا بد أن تجتمع تلك العلل المعروفة عن طريق مسالك العلة وتشترك في حكمة واحدة، فاجتماع تلك العلل وإفضاؤها إلى حكمة واحدة يدل بشكل يقيني أن تلك الحكمة هي المقصد الشرعي. وهذا لا شك أنه أضبط من اعتبار مسلك العلة كاشفا للمقصد الشرعي.

والنوع الثاني من الاستقراء الذي اعتمده ابن عاشور: استقراء أدلة أحكام اشتركت في علة بحيث يحصل لنا اليقين بأن تلك العلة مقصد مراد للشارع.[204]

وابن عاشور يشدد على اعتماد طريق الاستقراء لإثبات المقاصد، فبعد أن يحذر كل باحث المقاصد من التساهل والتسرع في دعوى المقاصد وأكد على ضرورة التحري والتثبت في إثبات مقصد شرعي قال: “فعليه ألا يعين مقصدا شرعيا إلا بعد استقراء تصرفات الشريعة في النوع الذي يريد انتزاع المقصد الشرعي منه، وبعد اقتفاء آثار أئمة الفقه ليستضيء بأفهامهم وما حصل لهم من ممارسة قواعد الشرع.”[205]

ومع شدة تمسكه بالاستقراء فإن ابن عاشور لم يبالغ في الرفع من قيمته، فإنه رأى مثل ما رأى جمهور الأصوليين والمناطقة بأن الاستقراء الناقص لا يفيد إلا الظن، قال في طريق تحصيل المقاصد الظنية: “فأما المقاصد الظنية فتحصيلها سهل من استقراء عير كبير لتصرفات الشريعة.”[206]

ولكن ابن عاشور رأى – مع ذلك – أن الاستقراء الناقص عنده قد يترقى من مرتبة الظن إلى الظن القريب من القطع وقد يصل إلى إفادة القطع أيضا.[207] فضرب مثالا للمقصد الشرعي القطعي ولم يشترط فيه أن يكون تاما؛ قال: “مثال المقاصد الشرعية القطعية ما يؤخذ من متكرر أدلة القرآن تكررا ينفي احتمال قصد المجاز والمبالغة، نحو كون مقصد الشارع التيسير…”[208] ثم ذكر الآيات والأحاديث التي تدل على هذا المقصد، والظاهر من كلامه أنه لم يشترط في تحصيل المقصد القطعي عن طريق الاستقراء أن يكون تاما، بل يكفي تكرر الأدلة مما ينفي احتمال المجاز والمبالغة.

ومما يؤيد هذا قوله بأن المصالح القطعية عنده هي: “ما تضافرت الأدلة الكثيرة عليه مما مستنده استقراء الشريعة…”[209]

وقال في تعليل الأحكام وقبول القياس: “فإن استقراء الشريعة وتصرفاتها قد أكسب فقهاء الأمة يقينا بأنها ما سوّت في جنس حكم من الأحكام جزئيات متكاثرة إلا ولتلك الجزئيات اشتراك في وصف يتعين عندهم أن يكون هو موجب إعطائها حكما متماثلا.”[210]

وقال في مكانة المال في الشريعة: “وإذا استقرينا أدلة الشريعة من القرآن والسنة الدالة على العناية بمال الأمة وثروتها، والمشيرة إلى أن به قوام أعمالها وقضاء نوائبها، نجد من ذلك أدلة كثيرة تفيدنا كثرتها يقينا بأن للمال في الشريعة خظا لا يستهان به.”[211]

وقال في مقصد السماحة واليسر: “واستقراء الشريعة يدل على هذا الأصل في تشريع الإسلام فليس الاستدلال عليه بمجرد هذه الآية أو هذا الخبر حتى يقول معترض إن الأصول القطعية لا تثبت بالظواهر، لأن أدلة هذا الأصل كثيرة منتشرة، وكثرة الظواهر تفيد القطع...”[212]

وكلامه رحمه الله أن كثرة الظواهر تفيد القطع في الحقيقة يوصل إلى ما وصل إليه الشاطبي أن العلم القطعي لا ينحصر تحصيله من الأدلة القطعية فقط، بل تضافر وتعاضد الأدلة الظنية أيضا تفيد القطع خاصة إذا دحضت دلالتها طريق الاعتراض.

أنواع الاستقراء الكاشف عن المقاصد

ذكر ابن عاشور – كما سبق- نوعين من الاستقراء الذي يكشف عن مقاصد الشرع، وهو أول من عدّد أنواع الاستقراء الكاشف لمقاصد الشريعة، ثم أضاف الناس بعده أنواعا أخرى من الاستقراء على ذينك النوعين.

فالنوع الأول: حسب ما ذكره ابن عاشور هو: “استقراء الأحكام المعروفة عللها، الآئل إلى استقراء تلك العلل المثبتة بطرق مسالك العلة. لأننا إذا استقرينا عللا كثيرة متماثلة في كونها ضابطا لحكمة متحدة، أمكن أن نستخلص منها حكمة واحدة فنجزم بأنها مقصد شرعي، كما يستنتج من استقراء الجزئيات تحصيل مفهوم كلي…”[213] ومثاله: أننا إذا علمنا علة النهي عن المزابنة الثاثبة بمسلك الإيماء في قول رسول الله عليه الصلاة والسلام: “أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا يَبِسَ؟”[214] فحصل لنا أن علة تحريم المزابنة هي الجهل بمقدار أحد العوضين وهو الرطب منهما المبيع باليابس. وإذا علمنا النهي عن بيع الجزاف بالمكيل، وعلمنا أن علته جهل أحد العوضين بطريق استنباط العلة، وإذا علمنا إباحة القيام بالغبن وعلمنا أن علته نفي الخديعة بين الأمة بنص قول الرسول صلى الله عليه وسلم للرجل الذي قال له إني أخدع في البيوع: “إذا بايعت فقل لا خلابة.”[215] إذا علمنا هذه العلل كلها استخلصنا منها مقصدا واحدا وهو إبطال الغرر في المعاوضات، فلم يبق خلاف في أن كل تعاوض اشتمل على خطر أو غرر في ثمن أو مثمن أو أجل فهو تعاوض باطل.[216]

والنوع الثاني: استقراء أدلة أحكام اشتركت في علة بحيث يحصل لنا اليقين بأن تلك العلة مقصد مراد للشارع.[217] مثل: النهي عن بيع الطعام قبل قبضه علته طلب رواج الطعام بحيث ينتشر نفعه في أوسع نطاق من شرائح المجتمع، والنهي عن بيع الطعام بالطعام نسيئ إذا حمل على إطلاقه عند الجمهور علته ألا يبقى الطعام في الذمة فيفوت رواجه، والنهي عن الاحتكار في الطعام لحديث مسلم عن معمر مرفوعا: “من احتكر طعاما فهو خاطئ.”[218] فبهذا الاستقراء يحصل العلم بأن رواج وتيسير تناوله مقصد من مقاصد الشريعة.[219]

ذكر الدكتور نعمان جغيم نوعا ثالثا إضافة إلى النوعين السابقين، وهو: استقراء نصوص اشتركت في معنى واحد وظاهر هذا المعنى أنه هو المقصد الذي أراده الشارع.[220] وهذا النوع من الاستقراء، لا يختلف كثيرا عن النوع الأخير من الاستقراء، إلا في كون اعتبار العلة مقصدا شرعيا، والعلة قد تكون هي المقصد الشرعي، وقد تكون علامة أو ضابطا له. وظهور المقصد الشرعي من النصوص يكون أسبق، من ظهور العلة. لأن العلة يشترط لها أن تكون وصفا ظاهرا منضبطا، لأن الفقهاء يبحثون عن العلة لكي يقاس عليها، وذلك لا يتم إلا إذا كان الوصف ظاهرا غير خاف، ومنضبطا غير مضطرب. ولا يشترط ذلك في المقصد الشرعي، لأن الغرض من مباحث المقاصد ليس قياس الأحكام. فالعلة وسيلة للتعرف على حكم غير منصوص عليه، ولكن المقصد الشرعي هو الهدف من الأحكام في الأساس. فاعتبار هذا النوع مغايرا لسابقه اعتبار في النتيجة والموضوع ليس في الطريقة وأسلوب الاستنتاج.

ثم إن الدكتور عبد المجيد النجار رأى مسلكا آخر لمعرفة مقاصد الشريعة – كما سبق ذكره في المطلب السابق- اعتبره مغايرا لمسلك الاستقراء، وهو مسلك العمل النبوي.[221] ولكنه في الحقيقة نوع من الاستقراء، لأن الحصول على معرفة المقصد الشرعي من خلال أفعال الرسول لا يكون إلا إذا تكوّن لدى الناظر عدد من الأخبار النبوية تدل على هدف شرعي أراد الرسول صلى الله عليه وسلم تحقيقه. ودلالة الفعل على الأحكام والمقاصد غير صريحة فيحتاج تفسيرالفعل إلى قرائن ودلائل أخرى توضح المقصود.

وما ذكره الدكتور القرضاوي من طريق العلماء المعاصرين في تحديد مقاصد الشريعة، كما سبق ذكره في المطلب السابق،[222] يمكن اعتباره نوعا من الاستقراء أيضا، ولكنه استقراء للكليات، ليتكون من خلال النظر فيها تصور للمقاصد الكلية التي قصدها الشارع. فهكذا يزيد النظر في المسائل الشرعية ارتقاء، فكما أن استقراء جزئيات المسائل يوصلنا إلى المقاصد الجزئية أو الخاصة، فاستقراء الكليات يطلعنا على المقاصد الأعلى والمرامي الأوسع للشريعة.

المطلب الثالث: كشف المقاصد بين الظن والقطع

لقد وقف ابن عاشور كثيرا في بداية كتابه عند مسألة قطعية أدلة أصول الفقه، وقد منعه هذا الوقوف من الاعتماد على أدلة كثيرة لكشف مقاصد الشرع، واكتفى بتلك الطرق الثلاثة: الاستقراء والآيات القرآنية الصريحة الواضحة والسنة المتواترة. وأعرض عن غيرها من الأدلة باعتبارها أدلة ظنية، لا تصلح أن تكون أسسا لعلم مقاصد الشريعة الذي رأى ابن عاشور أنه يجب أن يقتصر فيه على الأدلة القطعية.[223] ولكن ابن عاشور اعترف بأن القطع لا يمكن أن يتوفر في كل مسألة فقهية أو أصولية، ولا يجب أن يطلب في كل مسألة وإنما يلجأ إليه عند الاختلاف والمكابرة.

الأدلة القطعية عند الشاطبي

خلافا لابن عاشور الذي استشكل واستصعب الحصول على الأدلة القطعية في أصول الفقه، فإن الشاطبي رحمه الله صدّر كتابه بتقرير واثق أن أصول الشريعة كلها استندت إلى أدلة قطعية،[224] ولكن أسلوب الشاطبي في إيضاح هذه الحقيقة لم يكن بالوضوح الكافي، مما جعل ابن عاشور يحكم عليه بالخلط وعدم الفائدة.

والذي يبدو أن الشاطبي وضع هذه المقدمة بعد كتابته للجزء الثالث من الموافقات، لأن فهم هذه العبارات تتوقف على استيعاب المسائل التي سطرها في كتاب الأدلة الشرعية. فابن عاشور معذور في حكمه على هذا الكلام أنه مخلوط وسفسطة، لأن ظاهر كلامه طائف على دائرة مغلقة، ولكن إذا قرأناه في إطار المسائل التي قررها الشاطبي في الجزء الثالث علمنا أن كلامه هذا مبني على أسس نظرية عميقة، لا ندركها إلا في إطار مذهبه في الأدلة الشرعية، وهو مذهب قوي إلا أنه قل من دقق النظر فيه، وصبر معه في متابعة تفكيره.

لنقرأ كلام الشاطبي في المقدمة الأولى، قال: “إن أصول الفقه في الدين قطعية لا ظنية؛ والدليل على ذلك أنها راجعة إلى كليات الشريعة، وما كان كذلك فهو قطعي. بيان الأول ظاهر بالاستقراء المفيد للقطع؛ وبيان الثاني من أوجه: أحدها: أنها ترجع إما إلى أصول قطعية وهي قطعية، وإما إلى الاستقراء الكلي من أدلة الشريعة، وذلك قطعي أيضا، ولا ثالث لهذين إلا المجموع منهما، والمؤلف من القطعيات قطعي، وذلك أصول الفقه…”[225]

فإن قطعية أصول الفقه التي قررها الشاطبي لا يمكن فهمها ولا قبولها إلا إذا استعددنا أن ننبذ مسائل الأصول التي لا تبنى على دلالات قطعية في الأصل. وليس العكس، يعني أن نقبل المسائل الظنية والمدارك الضعيفة في أصول الفقه لتكون أسس فهمنا لأدلة الشرع، ثم نحتار بعد ذلك في قطعية هذه المسائل. هذا أولا. وثانيا، إن القطع لا يحصل فقط بدليل قطعي مستقل، بل يحصل بتضافر الأدلة الظنية بحيث تكون نتيجتها المتراكمة تزيل الشك وتثبت اليقين.

وقوله إن أصول الفقه راجعة إلى كليات الشريعة يعني أنه يجب أن تكون المسائل الأصولية مبنية على النظر الكلي للشريعة. وذلك لا يعرف إلا إذا استوعبنا القضايا الكلية للشريعة واستحضرنا الأدلة الجزئية المتعلقة بتلك المسائل، فما وافقه ذلك النظر الكلي وشهد بصحته صح إدراجه ضمن أصول الفقه، وما عارضه فلا يصح اعتباره أصلا من أصول الفقه. لكن كلامه أن “بيان هذا الأمر ظاهر بالاستقراء المفيد للقطع” قد لا يكون مقنعا، لأن المطلوب بعد هذا الكلام أن يدعمه ببعض الأمثلة التي تدل على ذلك،[226] وأيضا فإن كتب أصول الفقه طافحة بالمسائل الخلافية التي تزخر بالأدلة الضعيفة، وبناء على هذا الكلام يجب ألا تعتبر مثل هذه المسائل داخلة في أصول الفقه، وهو ما رآه الشاطبي فعلا، كما سيتبين لاحقا.

ثم استدل الشاطبي بأن ما يرجع إلى كليات الشريعة فهو قطعي بأدلة ثلاثة:

الأول: أن القضايا الكلية في الشريعة بنيت على ثلاثة أنواع من الأدلة وكلها – حسب دعواه – قطعية. فالنوع الأول هو الأدلة العقلية، وهو صحيح مبدئيا، لكن لا يلزم أن يستمر ذلك في كل الاستدلالات كما سيأتي الكلام عليه، ثم النوع الثاني من الأدلة القطعية على كليات الشريعة هو الاستقراء الكلي، معناه أن كليات الشرع مبنية على الاستقراء التام وهو يفيد القطع بلا شك، ولكن السؤال كيف نعرف أن الاستقراء التام قد أجري لإثباتها؟ الجواب كامن في استيعاب جزئيات المسائل. ثم النوع الثالث ائتلاف النوعين السابقين. والمكوّن من القطعيات قطعي بلا نزاع إذا صح تركيبه. فهذا الدليل الأول لا نقول أنه غير صحيح لكنه لم يقطع إلا نصف الطريق. والنصف الباقي ليس منفيا لكنه غير معبّد.

ثم الدليل الثاني: استدلال عكسي، أي أن تثبت أن عكس القضية المراد إثباتها خطأ لينتج عنه أن عكس هذا العكس هو الصحيح، قال: “والثاني: أنها لو كانت ظنية لم تكن راجعة إلى أمر عقلي، إذ الظن لا يقبل في العقليات ولا إلى كلي شرعي، لأن الظن إنما يتعلق بالجزئيات؛ إذ لو جاز تعلق الظن بكليات الشريعة لجاز تعلقه بأصل الشريعة لأنه الكلي الأول، وذلك غير جائز عادة…”[227] ولا أخفي سرا أن هذه الصياغة تزعجني جدا – مع أني موافق تماما لما قصده الشاطبي- لأن المستدل عليه أوضح من الدليل نفسه، فهذا يؤدي إلى ضعف الموقف، ولا يجب التكلف بهذا النوع من الاستدلال. ولا يلزم من ضعف الاستدلال ضعف الحقيقة الموضوعية التي يراد إثباتها، “والحق قد يعتريه سوء تعبير.”

ثم الدليل الثالث دليل التمانع، وهو أن تستدل بأن جواز قضية يستلزم جواز أخرى، فلما امنتعت الثانية فالأولى كذلك، قال: “أنه لو جاز جعل الظني أصلا من أصول الفقه لجاز جعله أصلا من أصول الدين، وليس كذلك باتفاق، فكذلك هنا، لأن نسبة أصول الفقه من أصل الشريعة كنسبة أصول الدين، وإن تفاوتت في المرتبة فقد استوت في أنها كليات معتبرة في كل ملة، وهي داخلة في حفظ الدين من الضروريات.”[228]

والحقيقة أن الشاطبي يرى أن ما حوته كتب الأصول من مسائل ليس كلها صالحة لأن تعتبر أصولا للفقه، فلذلك لم يتردد في سرد تلك الأدلة بهذا الشكل. وبمثل هذا أيضا رفض الشاطبي إدخال المسائل التي ليس لها ثمرة عملية في أصول الفقه إلا باعتبارها دخيلة أو عارية حسب تعبيره.[229] بل اعتبر الخوض فيها عمل مستهجن، ومذموم شرعا.[230] فالشاطبي رحمه الله دعا إلى إعادة النظر بشكل جذري لمعظم مسائل أصول الفقه.

وهكذا نعرف مما تقدم أن الأدلة القطعية عند الشاطبي هي الأدلة العقلية والاستقراء التام، أما الاستقراء التام فلا نزاع فيه، وقد سبق أن عرضنا موقفه من الاستقراء إذا قال: “وإنما الأدلة المعتبرة هنا المستقرأة من جملة أدلة ظنية تضافرت على معنى واحد حتى أفادت فيه القطع. فإن للاجتماع من القوة ما ليس في الافتراق. ولأجله أفاد التواتر القطع. وهذا نوع منه…” [231] وقال: “وإذا تكاثرت على الناظر الأدلة عضّد بعضها بعضا، فصارت بمجموعها مفيدة للقطع.” [232]

ولكن إطلاق القول أن كل الأدلة العقلية تفيد القطع يحتاج إلى نظر، لأن هناك فرقا بين القواعد العقلية وبين الاستدلال بها. فالقواعد العقلية مقبولة من حيث المبدأ ولا شك فيها، ولكن الاستدلال بها قد يكون في محله وقد لا يكون. كما أن بعض القواعد المنطقية لا تنطبق على جميع الحالات، مثل قاعدة أن الخط المستقيم أقرب طريق بين شيئين، فإن المبدأ صحيح، ولكنها لا تنطبق على كل الأحوال. وخاصة إذا سلمنا بنظرية النسبية في هذا الخصوص. كما أن الأدلة العقلية تطلق على معنيين: الأول أنها تعني أساليب التفكير السليمة المنضبطة، والمعنى الثاني أن تطلق على القناعات السابقة الراسخة في عقلية المستدل، فهذا الثاني ليس قطعيا البتة، ولا مسلما به أصلا، مثل الاعتقاد بأن التصور لا يحصل إلا عن طريق الحد أو التعريف اللفظي، والزعم أن الحدود الموضوعة سلفا قطعية الدلالة، فهذه قناعات لدى أهل المنطق القديم لا يجب التسليم بها على إطلاقها.

والإمام الشاطبي لم يكن له رأيه المستقل والمحدد في ماهية تلك الأدلة العقلية التي تفيد القطع، لكنه لما تكلم عن طريق الاستدلال رأى وجوب اشتمال الدليل على مقدمتين إحداهما مسلمة من قبل الخصم ليتوصل بها إلى نتيجة،[233] وهو مبدأ مهم في علم المناظرة والجدل، ولكنه لا يرى انحصار البراهين العقلية في الأشكال التي حددها أهل المنطق،[234] وعضد ذلك بموقف المازري الذي استنكر لجوء متأخري الفقهاء إلى علم المنطق، ونقل عن الباجي رأيه في أن الالتزام بإتيان الدليل على مقدمتين غير متعين، بل قد تأتي النتيجة بمقدمة واحدة سليمة. وهذا يترك مجال البحث في تحديد الأدلة العقلية القطعية وكيفية إفادتها وشروط إفادتها، خارجا عن مقررات المنطق القديم.

وقفات مع قضية القطع والظن

وهذه مسألة تحتاج إلى إعادة النظر فيها وإلى دراسة متخصصة معمقة، ولكنني أحاول أن أوجزها في فقرات آتية:

أولا: أن مسألة القطع والظن قضية نسبية تختلف من شخص إلى آخر حسب رصيده العلمي واستعداده العقلي. فلم يحصل القطع بمجرد قيام الأدلة المعيّنة وحدها. فمن الخطأ أن نخلط بين الحقيقة الموضوعية والقناعة الذاتية، فإن الدليل الواحد يفيد القطع لإنسان ويفيد الظن لثانٍ ويثير الشك لثالث، حسب الخلفية الثقافية والعلمية والعقلية والنفسية لكل واحد منهم. فمسألة القطع لا تتعلق فقط بالأدلة ذاتها، بل تتعلق أيضا بحالة الشخص. صحيح أنه يمكن “تقنين” صياغة أدلة دامغة مقنعة بشكل قاطع للشك، ولكن الناس أجناس، فهناك من الناس من لا ينفع معه أي دليل، فدواعي الشك لا تقتصر على نوعية الأدلة، فقد ينشأ الشك بسبب نفسي، وقد يكون الفكر مبنيا على الرغبة الشخصية والتأثير البيئي … إلى أسباب كثيرة، فلا يصح أن نبخس الحقائق بمجرد وجود التشكيك.

ثانيا: الأدلة ليست هي الحقائق ذاتها، فهناك مسافة بين إدراك الحقائق وبين إدراك الأدلة على الحقائق. فالقول بأن “فلان ثقة” مثلا قد يكون حقيقة ملموسة عند شخص، وقد يكون خبرا يحتمل الصواب والخطأ عند آخر. وكذلك مقاصد الشعراء من أشعارهم تكون حقيقة قريبة لدى اللغويين ولكنها مسائل ظنية بالنسبة لغيرهم. وقد تكون هناك حقيقة صحيحة ولا دليل عليها ولا أحد يدركها. وإن كانت الحقائق الشرعية التي يكلف الإنسان بإدراكها لا يكون من هذا القبيل ألبتة. فالقطع إنما يحصل بإدراك الحقيقة ذاتها. وإدراك الأدلة عليها أحد طرقه وليس كل الطرق. كمن عاش مع الله عز وجل فيدعوه ويستجيب، ويسأله فيعطيه، ويشكره فيزيده، ويصبر على طاعته فيجازيه، ويشهد تجليات رحمة الله في حياته ويتكرر ذلك عنده دائما، فهذا الشخص لا يحتاج إلى الاستدلال على وجود الله ورحمته وحكمته وكل صفاته لأنه عايش الحقيقة وعاينها. وحتى يقيننا بثبوت القرآن ليس فقط بسبب أنه نقل إلينا بالتواتر، بل هناك ألف سبب وسبب تؤكد بأنه من عند الله العزيز الحكيم.

ثالثا: إن الحقائق الموضوعية لا تتناثر دون رابط ولا تتبعثر دون انتظام ولا يستقل بعضها عن بعض، بل الحقائق كلها متعاضدة مترابطة متساندة. فمن رام إدراك الحقيقة -ولو بعد بحث طويل- فلا بد أن يجد دلائلها متناسقة يؤيد بعضها بعضا ويأخذ بعضها بحُجز بعض، فكما أن التناقض دليل البطلان فالتعاضد علامة الحقيقة. والخطأ المترسخ عند معظم الأصوليين في هذا هو ميلهم الشديد إلى تجزيء الحقائق وتفكيك المسائل وفصل الدلائل، بدل ربطها وبنائها وملاحظة العلاقة بينها وتحصيل النتائج باجتماعها. فالأصوليون غالبا ما يتعاملون مع الدليل على أنه كيان مستقل يفيد بذاته منفصلا عن غيره. فإذا رأوا أن المسألة مبنية على دليل ظني اعتبروا المسألة برمتها ظنية، حتى ولو اجتمعت الأدلة الكثيرة على صحتها.

ولقد تجاوز الإمام الشاطبي هذه العقبة الفكرية، ونبّه أن القطع يحصل باجتماع الأدلة وتضافرها على معنى واحد وليس باعتماد دليل معين. وقد سبق أن نقلنا قوله: “وإنما الأدلة المعتبرة هنا المستقرأة من جملة أدلة ظنية تضافرت على معنى واحد حتى أفادت فيه القطع. فإن للاجتماع من القوة ما ليس في الافتراق. ولأجله أفاد التواتر القطع. وهذا نوع منه. فإذا حصل من استقراء أدلة المسألة مجموع يفيد العلم فهو الدليل المطلوب، وهو شبيه بالتواتر المعنوي، بل هو كالعلم بشجاعة علي رضي الله عنه وجود حاتم المستفاد من كثرة الوقائع المنقولة عنهما.”[235]

بل لفت النظر إلى حقيقة مهمة أن حجية الأدلة مثل الإجماع والقياس وخبر الواحد راجعة إلى هذا الأمر، قال: “وإذا تأملت أدلة كون الإجماع حجة أو خبر الواحد أو القياس حجة فهو راجع إلى هذا المساق؛ لأن أدلتها مأخوذة من مواضع تكاد تفوت الحصر، وهي مع ذلك مختلفة المساق لا ترجع إلى باب واحد، إلا أنها تنتظم المعنى الواحد الذي هو المقصود بالاستدلال عليه. وإذا تكاثرت على الناظر الأدلة عضّد بعضها بعضا، فصارت بمجموعها مفيدة للقطع. فكذلك الأمر في مآخذ الأدلة في هذا الكتاب. وهي مآخذ الأصول. إلا أن المتقدمين من الأصوليين ربما تركوا ذكر هذا المعنى والتنبيه عليه، فحصل إغفاله من بعض المتأخرين، فاستشكل بالآيات على حدتها وبالأحاديث على انفرادها، إذ لم يأخذها مأخذ الاجتماع فكرّ عليها بالاعتراض نصا نصا، واستضعف الاستدلال بها على قواعد الأصول المراد منها القطع. وهي إذا أخذت على هذا السبيل غير مشكلة, ولو أخذت أدلة الشريعة على الكليات والجزئيات مأخذ هذا المعترض لم يحصل لنا قطع بحكم شرعي ألبتة، إلا أن نشرك العقل، والعقل إنما ينظر من وراء الشرع؛ فلا بد من هذا الاتنظام في تحقيق الأدلة الأصولية.”[236]

وهذه منهجية تميز بها الإمام الشاطبي عن غيره من الأصوليين وهي منهجية التركيب، فأكثر الأصوليين اعتمدوا منهجية التحليل والتفكيك وأهملوا التركيب.

رابعا: من الأمور التي تستدعي إعادة النظر؛ استسلام كثير من الأصوليين وتسليمهم بأن خبر الواحد لا يفيد إلا الظن، وأن القطع إنما يحصل بالتواتر والأدلة العقلية. وهذا خطأ جذري فادح. وبالإضافة إلى نتائجها الخطيرة، أيضا فإن هذا الخطأ شبيه بذلك الخطإ الذي أوقعهم في مسألة الحسن والقبح العقليين. فإنهم سلّموا المسألة بصياغتها المخلوطة، فإن صياغة المسألة تساوي بين خبر أوثق الناس وبين قول أكذب الكاذبين بأن كليهما خبر الواحد. وإن أول شرط للمسألة العلمية الجادة أن تكون صياغتها دقيقة مدروسة.

والعجيب أن إشكالية خبر الواحد ترِد فقط في الكلام عن السنة، وكل المجالات العلمية التي تعتمد على كلام الناس لا تستشكل الخبر لكونه منقولا عن واحد أو آحاد!؟ وهذا أمر يدعو للتساؤل لماذا التشكيك فقط في السنة مع أن العلماء قد عنوا بتمحيصها وحفظها ونقدها وغربلتها؟ ولَمْ يرد التشكيك – بهذا الشكل من المبالغة في التدقيق والتشقيق – في النقل عن الفلاسفة أو المؤرخين؟ ألا نتساءل لِمَ كل هذه الازدواجية والتمييز غير المبرر؟

ونعذر بعض علماء الأصول الذين لم ينتبهوا لهذه المصيدة الفكرية، فقد وقع فيه كثير من الأصوليين الذين ليس لهم باع طويل وقدم راسخة في علم الحديث درايةً ورواية. وقصورهم في هذا العلم المهم قد حجبهم عن المعرفة التامة بمتانة هذا العلم الذي تميز به المسلمون عن سائر الأمم. قد نعذر باحثين غير مسلمين في عدم تقديرهم لهذا العلم إما جهلا أو تحاملا، لكن لا يحسن بعالم مسلم أن يقصّر في معرفة قدر هذا الإنجاز العلمي المتين.

نعم لا نبالغ في القول بأن نقل الثقات عن الثقات لا يتطرق إليه احتمال الخطأ، ولكن أي عقل منصف ينكر خبرا ممحصا مدققا عن مصدر موثوق؟ وعلماء الحديث أيضا لم يغفلوا هذا الاحتمال فإنهم اشترطوا في صحة الحديث –مع صحة السند- سلامة المتن من الشذوذ والعلة. إذا سلم الحديث من هاتين الآفتين مع سلامة السند فاحتمال الخطأ فيه يكاد يكون منتفيا. نعم، لا يكفي النظر في السند للحكم على الحديث، بل لا بد من نقد المتن أيضا، وهو لغرض الكشف عن الشذوذ أو العلة المحتملة في الحديث،[237] وهذا له ضابطه العلمي المعروف.

واعتبار أخبار الآحاد كلها صحيحها وضعيفها في خانة الظن غير المفيد للعلم تساهل كبير وتفريط غير مقبول، وهو في الحقيقة كسل فكري قبل أن يكون تقصيرا علميا، إذ إن بذل الجهد في تتبع أحوال الرواة وتسلسل الأسانيد هو الذي يفيد اعتقادا في صحة أو ضعف الأخبار، وهذا إنما يحصل عند من مارس علم الرواية ودرسه عن كثب، فأما من نظر إليها عن بُعد وقرأ عنها باختصار، فلا عجب ألا يحصل له هذا الإدراك، كما أن صحة نظرية في الفيزياء أو الكيمياء أو الرياضيات لا يعرفها إلا المتخصصون فيها والدارسون لها، وكذلك سائر العلوم والمدركات.

ويكفينا في هذا الباب ما علَّمنا القرآن في قوله تعالى: ﭽيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواﭼ[238] فإذا حصل لأحد ما يستوجب الشك في صدق الخبر فليقم بالتثبت والتبيّن، حتى يحصل له التمييز بين ما يصح وما لا يصح، فأما أن يجلس أحد ويحلّل الخبر بدون بذل جهد علمي ولا يتحرك للتثبت، فليُلق اللوم على نفسه إذا بقي هذا الشك في نفسه، وسيبقى هذا الشك والظن المحير ما دام على هذا الموقف.

وأيضا فإن الظن مراتب؛ فهناك ظن راجح ناشئ عن أدلة قوية سمعية كانت أو عقلية أو حسية، وهناك ظن متأرجح لا يفيد اعتقادا ولا ينفيه، وهناك ظن وهمي ناشئ عن خطأ اعتقاد أو نقص إدراك. فمن الخطإ المنهجي أن يتعامل الإنسان مع كل الظنيات بموقف واحد.

والأخبار إذا كانت ناشئة عن الحقيقة الواقعية لا تبقى ألفاظا مجردة، فالبحث العلمي الجاد سيوصل بالناظر إلى حقائق أخرى تساندها من قرائن الأحوال وغيرها من الدلائل المختلفة. وإذا كانت خاطئة أو مكذوبة ستكون هناك دلائل على بطلانها، فرفض خبر الآحاد أو قبوله لا بد أن يبنى على دليل، لا مجرد كونه خبر آحاد.

خامسا: بناء على ذلك ينبغي أن نعيد النظر في ماهية القطع المطلوب في هذا العلم. هل المطلوب هو القطع الذي يقطع لسان كل مخالف منصفا كان أو مغالطا؟ أو القطع الذي لا يترك خلافا سواء في فروع المسائل أو أصولها، في دقائقها أو أساساتها، في تفاصيلها أو مجلمها؟ أو القطع الذي يقطع الشك عن ذهن كل مريد للحق؟ وأعتقد أن هذا الأخير هو الذي ينفع في هذا الباب، وأي معنى للقطع غير هذا المعنى سيعرّض البحث العلمي للمشاغبة والتشويش.

أما القطع الذي بمعنى إسكات المخالف حتى ولو كان مغالطا فلا سبيل إليه، لأن الإنسان إذا أصر على شيء سيجد ما يبرره حتى ولو قام ألف دليل دامغ ضده ﭽوَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًاﭼ[239]

وأما القطع الذي يحسم الخلاف في كل المسائل الفقهية دقها وجلها فالبحث عنه تكلف وتشدد في الدين، وقد كان الخلاف من هذا النوع حاصل بين الصحابة حتى في عصر التشريع، بل وقد اختلف الأنبياء فيما بينهم كما اختلف داود مع سليمان[240] واختلف موسى مع هارون[241]، واختلف أيضا موسى مع خضر[242]، واختلف أيضا الملائكة فيما بينهم[243]، وهكذا، فهذا كله خلاف في إطار متفق عليه، فليس الخلاف في الإطار العام الذي لا يجوز الخروج عنه، ولكن في تفاصيل داخل الإطار وهو سائغ مقبول شرعا ولا يضر.

سادسا: طلب اليقين القطعي في كل مسألة فقهية ليس مطلبا محمودا من النظر الشرعي، لأنه تنطّع ومعاندة كنوع تنطّع وتعنت بني إسرائيل في استفصالهم أوصاف البقرة التي أمروا بذبحها[244]. و ليس كل خلاف يضر البنية الكلية للفقه وأصوله، بل قد يفيدها. ولذلك لم يسعَ الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بت بعض الخلافات الحاصلة بين الصحابة إذا لم يؤد الخلاف إلى شق الصفوف وتضعضع وحدة الأمة. وإنما قام بحسم الخلاف إذا أدى إلى التفرق والتنازع.

فلذلك لم يُلزم ابن عاشور نفسه في كتابه بالاقتصار على الأدلة القطعية، لأن ساحة الشريعة تسَع للدلالة الظنية الناشئة عن دليل معتبر، قال ابن عاشور: “على أننا غير ملتزمين للقطع وما يقرب منه في التشريع، إذ هو منوط بالظن، وإنما أردت أن تكون ثلة من القواعد القطعية ملجأ نلجأ إليه عند الاختلاف والمكابرة.”[245] وبالتالي لم يتحاش ابن عاشور النتائج الظنية في علم المقاصد، قال: “وعلى هذا فالحاصل للباحث عن المقاصد الشرعية قد يكون علما قطعيا أو قريبا من القطعي وقد يكون ظنا.”[246]

الطرق القطعية

ومع أن مبدأ الالتزام بالدلائل القطعية تكتنفه جملة من الإشكاليات إلا أن للفقه الإسلامي مَعين لا ينضب من مصادر استحصال اليقين. وإن الأدلة القطعية التي تقنع كل مريد للحقيقة الشرعية متوفرة في شرعنا الحكيم ومثبتة في تراثنا العلمي.

لذلك لما أراد ابن عاشور رحمه الله أن يحدد طرق إثبات المقاصد بصفتها “محل وفاق بين المتفقهين سواء في ذلك من استنبطه ومن بلغه، فيكون ذلك بابا لحصول الوفاق في مدارك المجتهدين أو التوفيق بين المختلفين من المقلدين،”[247] حدد ابن عاشور ثلاث طرق تحقق ذلك وهي –كما أسلفنا: الاستقراء وصريح القرآن والسنة المتواترة.

الطرق الظنية وحدود العمل بها

ويناء على ذلك فإن باقي الطرق التي سبق ذكرها في المطلب السابق تعتبر طرقا ظنية، والظن يعمل به في الأمور العملية، بخلاف العقائد. وذلك مثل من أراد السفر إلى بلد ما، فإن عليه أن يتأكد من السفينة التي يركبها هي التي ستوصل إلى الجهة المقصودة، وأنها فعلا تسير إلى الوجهة المطلوبة، ثم لا عليه بعد ذلك أن يجلس في أي مقعد فيه بأية كيفية تكون. فكذلك موقع التشريع من العقيدة، فإن العقيدة بمثابة السفينة التي تحمل الناس إلى البلد المنشود، والتشريعات هي بمثابة أنظمة الركوب فيها، فإن الخطأ الطفيف فيها لا يضر مسار السفر، ما لم يصل إلى حد الفوضى والتهارج. وكذلك معرفة مقاصد الشريعة التفصيلية، لا يجب أن نحصل على اليقين القطعي في كل دقائقها، ويكفي المكلف أن يطمئن إلى إطار الفهم الكلي الإجمالي، ثم يملأ هذا الإطار بالتصورات القابلة للأخذ والرد والتعديل والتكميل. فتقصي المعرفة اليقينية المفصلة لمقاصد الشريعة مطلب لا تبلغ إليه قدرة الإنسان العلمية.

فلذلك قال ابن تيمية: “… ومع ذلك فإن تفصيل الكلام في حكمة الله في خلقه وأمره يعجز عن معرفته البشر، فيكفيهم التسليم لما قد علموا أنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه أرحم بعباده من الوالدة بولدها. ومن المعلوم ما لو علمه كثير من الناس لضرهم علمه، ونعوذ بالله من علم لا ينفع، وليس اطلاع كثير من الناس بل أكثرهم على حكم الله في كل شيء نافعا لهم بل قد يكون ضارا.”[248]

قال ابن القيم: “أن الله بنى أمور عباده على أن عرّفهم معاني جلائل خلقه وأمره، دون دقائقها وتفاصيلها، فعقول العالمين ومعارفهم وعلومهم وحكمهم تقصر عن الإحاطة بتفاصيل حكمة الرب سبحانه في أصغر مخلوقاته[249]، فهاذ أمر يضيق الجنان عن معرفة تفاصيله ويعجز اللسان عن التعبير عنه.”[250]

ولا يعني ذلك التقليل من ضرورة تحري الصواب وبذل أقصى الوسع في معرفة الأحكام ومقاصدها، لأن الإنسان مطالب باتباع الحق جملة وتفصيلا بقدر ما آتاه الله من إمكانية، قال تعالى: ﭽ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًاﭼ[251] والقول على الله بغير علم من أكبر الكبائر، وهو السبب في ضلال الناس. والقول في مقاصد الأحكام كالقول في الفتاوى، لا يجوز الإدلاء به إلا ممن عنده علم، إما من الوحي صراحة أو ما يفهم منه دلالة وإشارة.

فالظن المعمول هنا ظن مبني على الاجتهاد المستوفي للشروط. فمن اجتهد رأيه في إعمال تلك المسالك وتتبع تلك الأدلة والطرق، فرأيه معتبر، وفي ذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ.[252] وبطبيعة الحال لا يكون هذا الأجر لمن حكم بالظن المجرد وبدون الاجتهاد، إذ الاجتهاد معناه أن يكون الحاكم أو العالم قد بذل وسعه واستفرغ جهده ليصل إلى حكم عادل محقِّق لمقصود الشرع.

فالحديث مخصوص لمن حكم فاجتهد، أما من حكم وفرّط فهو يستحق الوعيد من نوع الوعيد الذي عناه حديث: “الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: وَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ وَاثْنَانِ فِي النَّارِ. فَأَمَّا الَّذِي فِي الْجَنَّةِ: فَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ. وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَجَارَ فِي الْحُكْمِ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ.”[253] والكلام في الشرع بمجرد الظن افتراء على صاحب الشرع نفسه ﭽوَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَﭼ[254]

المطلب الرابع: معرفة المقاصد بين العبادات والمعاملات

وهنا يحسن التنبيه على أن هناك فرقا أساسيا بين المجالين العبادات والمعاملات، مما جعل طبيعة بيان المقاصد في كل منهما أيضا مختلفة. فنوع المصالح التي يراد تحقيقها في مجال العبادات غير تلك التي تتحقق في مجال المعاملات. وبالتالي لا يكون التوسع في اكتشاف مقاصد المعاملات على الدرجة نفسها في مجال العبادات.

لما كانت العبادات شعائر يقصد بها تعظيم الله والتعبد له، كان له جل شأنه أن يختار من الشعائر ما يشاء ليتعبدنا به. ولم يكن لأحد الحق في أن ينشئ شيئا من العبادات ليتقرب بها إلى الله، لأنه لا أحد يعلم الحكمة من اختياره جل وعلا عبادات بعينها دون غيرها. ومن ثم لا يمكن أن يعبد إلا بما شرع. وأما المعاملات فهي الوسائل والتدابير التي يتخذها البشر لتسيير شؤونهم الحياتية، وتلبية رغباتهم واحتياجاتهم الفردية والجماعية. ولذلك تكون واسعة ومتشعبة سعة وتشعب حاجات الفرد والمجتمع، تتجدد بتجدد مطالب الناس الفردية والجماعية وتتطور بتطورها، وتتسع باتساعها. ولما كان الإنسان بما وهبه الله تعالى من وسائل الإدراك والتفكير أهلا للتصرف فيها إنشاءً وتطويرًا فقد أوكلها الله إليه واكتفت الشرائع في ذلك بتوجيه الإنسان وتقويمه. ذلك لأن الشريعة تأتي منشئة في العبادات، وضابطة ومقننة في المعاملات.[255] لذا نجد أكثر النصوص في العبادات تأتي بالواجبات والمندوبات، أما في المعاملات فأغلب النصوص فيها تأتي ببيان المحرمات والمكروهات.

ونجد الإمام الشاطبي قد أصّل هذا الموضوع وقعّده قال: “الأصل في العبادات بالنسبة إلى المكلف التعبد دون الالتفات إلى المعاني، وأصل العادات الالتفات إلى المعاني.”[256] ثم استدل للشطر الأول من هذا الأصل بأمور:

الأول: دل الاستقراء على أن التشريعات في العبادات غير ظاهرة المناسبة، كالطهارات التي تتعدى محل موجبها،[257] وكذلك الصلوات خصت بأفعال مخصوصة على هيآت مخصوصة، إن خرجت عنها لم تكن عبادات، وأن التيمم –وليست فيه نظافة حسية ظاهرة- يقوم مقام الطهارة بالماء الطاهر، وهكذا سائر العبادات كالصوم والحج وغيرهما. وإنما فهم من حكمة التعبد العامة الانقياد لأوامر الله تعالى، وإفراده بالخضوع والتعظيم لجلاله والتوجه إليه. وهذا المقدار لا يعطي علة خاصة يفهم منها حكم خاص، إذ لو كان كذلك لم يحد لنا أمر مخصوص، بل كنا نؤمر بمجرد التعظيم بما حد ومل لم يحد.[258]

الثاني: “أنه لو كان المقصود التوسعة في وجوه التعبد بما حد وما لم يحد لنصب الشارع عليه دليلا كما نصب على التوسعة في وجوه العادات أدلة…”[259]

والثالث: أن الناس في فترة انقطاع الرسالات لم يهتدوا إلى طريقة العبادة الصحيحة مثلما اهتدوا إلى تدابير المصالح بين الناس، وهذا يدل على أن مصالح العبادة ومقاصدها لا يستغني فيها الناس عن البيان التفصيلي من وحي الشرع، بخلاف مصالح الناس في معاملاتهم. قال: “أن وجوه التعبدات في أزمنة الفترات لم يهتد إليها العقلاء اهتداءهم لوجوه معاني العادات. فقد رأيت الغالب فيهم الضلال فيها، والمشي على غير طريق، ومن ثم حصل التغيير فيما بقي من الشرائع المتقدمة. وهذا مما يدل دلالة واضحة على أن العقل لا يستقل بدرك معانيها ولا بوضعها، فافتقرنا إلى الشريعة في ذلك.”[260]

واستدل للشطر الثاني الذي هو أن الأصل في العادات الالتفات إلى المعاني بأمور:

أولها الاستقراء، فإنا وجدنا الشارع قاصدا لمصالح العباد، والأحكام العادية تدور معه حيثما دار. فترى الشيء الواحد يمنع في حال لا تكون فيه مصلحة، فإذا كان فيه مصلحة جاز. كالدرهم بالدرهم إلى أجل، يمنع في المبايعة ويجوز في القرض. وبيع الرطب باليابس يمتنع حيث يكون مجرد غرر وربا من غير مصلحة، ويجوز إذا كان فيه مصلحة راجحة كبيع العرايا. ولم نجد هذا في باب العبادات مفهوما كما فهمنا في العادات وقال تعالى: ﭽوَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَﯜﭼ[261] وقال: ﭽوَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِﭼ[262] وفي الحديث: “لَا يَقْضِي الْقَاضِي بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ.”[263] وقال: “لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ.”[264] وقال: “الْقَاتِلُ لَا يَرِثُ”[265] و”نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ”[266] وقال: “كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ”[267] وفي القرآن: ﭽإِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِﭼ[268] الآية، إلى غير ذلك مما لا يحصى. وجميعه يشير بل يصرح باعتبار المصالح للعباد، وأن الإذن دائر معها أينما دارت حسبما بينتها مسالك العلة،فدل ذلك على أن العادات مما اعتمد الشارع فيها الالتفات إلى المعاني.[269]

والثاني: أن الشارع توسع في بيان العلل والحكم في تشريع باب العادات كما تقدم تمثيله، وأكثر ما علل فيها بالمناسب الذي إذا عرض على العقول تلقته بالقبول. ففهمنا من ذلك أن الشارع قصد فيها اتباع المعاني، لا الوقوف مع النصوص، بخلاف باب العادات، فإن المعلوم فيه خلاف ذلك. وقد توسع هذا القسم مالك رحمه الله، حتى قال فيه بقاعدة المصالح المرسلة وقال فيه بالاستحسان ونقل عنه أنه قال: “إنه تسعة أعشار العلم.”[270]

والثالث: أن الالتفات إلى المعاني قد كان معلوما في الفترات، واعتمد عليه العقلاء، حتى جرت بذلك مصالحهم، وأعملوا كلياتهم على الجملة فاطردت لهم، سواء في ذلك أهل الحكمة والفلسفة وغيرهم؛ إلا أنهم قصروا في جملة من التفاصيل، فجاءت الشريعة لتتم مكارم الأخلاق. فدل ذلك على أن المشروعات في هذا الباب جاءت متممة لجريان التفاصيل في العادات على أصولها المعهودات. ومن ههنا أقرت هذه الشريعة جملة من الأحكام التي جرت في الجاهلية كالدية والقسامة والقراض وأشباه ذلك مما كان عند أهل الجاهلية محمودا،  وما كان من محاسن العوائد ومكارم الأخلاق والتي تقبلها العقول. وهي كثيرة. وإنما كان عندهم من التعبدات الصحيحة في الإسلام أمور نادرة مأخوذة عن ملة إبراهيم عليه السلام.[271]

ورغم تقريره بهذا الأصل ولكن الإمام الشاطبي – مع ذلك – لم يتردد في تعليل بعض العبادات قال: “…. وذلك أن الصلاة مثلا إذا تقدمتها الطهارة أشعرت بتأهب لأمر عظيم، فإذا استقبل القبلة أشعر التوجه بحضور المتوجه إليه، فإذا أحضر نية التعبد أثمر الخضوع والسكون. ثم يدخل فيها على نسقها بزيادة السور خدمة لفرض أم القرآن، لأن الجميع كلام الرب المتوجه إليه، وإذا كبر وسبح وتشهد فذلك كله تنبيه للقلب، وإيقاظ له أن يغفل عما هو فيه من مناجاة ربه والوقوف بين يديه، وهكذا إلى آخرها، فلو قدم قبلها نافلة كان ذلك تدرجا للمصلي واستدعاء للحضور، ولو أتبعها نافلة أيضا لكان خليقا باستصحاب الحضور في الفريضة. وفي الاعتبار في ذلك أن جعلت أجزاء الصلاة غير خالية من ذكر مقرون بعمل، ليكون اللسان والجوارح متطابقة على شيء واحد، وهو الحضور مع الله فيها بالاستكانة والخضوع والتعظيم والانقياد، ولم يخل موضع من الصلاة من قول أو عمل، لئلا يكون ذلك فتجا لباب الغفلة ودخول وساوس الشيطان.”[272]

من يرى أن لا فرق بين العبادات والعادات في التعليل

وهذا الذي قرره الشاطبي مذهب وجيه، ولكن ليس معنى ذلك أن العبادات لا يمكن إدراك معانيها، وأنها أمور غير معقولة ولا مبنية على الحِكم والمصالح، بل الشريعة كلها مبنية على الحِكم والمصالح بما فيها العبادات، وتقدم الكلام في الباب الأول عن النصوص التي بينت مقاصد بعض العبادات.[273]

قال ابن القيم: “الحق أن جميع أفعاله وشرعه سبحانه لها حكم وغايات لأجلها شرع فعل، وإن لم يعلمها الحلق على التفصيل، فلا يلزم من عدم علمهم بها انتفاؤها في نفسها.”[274]

ولابن القيم تعليلات كثيرة في أحكام العبادات وخاصة في كتابه إعلام الموقعين، فمن ذلك مثلا: “فإن من محاسن الشريعة أن كان الوضوء في الأعضاء الظاهرة المكشوفة، وكان أحقها به إمامها ومقدمها في الذكر والفعل وهو الوجه الذي نظافته ووضاءته عنوان على نظافة القلب، وبعده اليدان، وهما آلة البطش والتناول والأخذ، فهما أحق الأعضاء بالنظافة والنزاهة بعد الوجه، ولما كان الرأس مجمع الحواس وأعلى البدن وأشرفه كان أحق بالنظافة، لكن لو شرع غسله في الوضوء لعظمت المشقة، واشتدت البلية، فشرع مسح جميعه، وأقامه مقام غسله تخفيفا ورحمة، كما أقام المسح على الخفين مقام غسل الرجلين.”[275]

قال في معرض الرد على الذين لا يعللون تقديرات العقوبات: “إن من شرع هذه العقوبات ورتبها على أسبابها جنسا وقدرا فهو عالم الغيب والشهادة وأحكم الحاكمين وأحاط علمه بوجوه المصالح دقيقها وجليلها وخفيها وظاهرها، ما يمكن اطلاع البشر عليه وما يمكنهم، وليست هذه التخصيصات والتقديرات خارجة عن وجوه الحكم والغايات المحمودة ، كما أن التخصيصات والتقديرات الواقعة في خلقه كذلك، فهذا في خلقه وذاك في أمره، ومصدرهما جميعا عن كمال علمه وحكمته ووضعه كل شيء في موضعه الذي لا يليق به سواه ولا يتقاضى إلا إياه، وإذا كان سبحانه قد أتقن خلقه غاية الإتقان، وأحكمه غاية الإحكام، فلأن يكون في أمره في غاية الإتقان والإحكام أولى وأحرى، ومن لم يعرف ذلك مفصلا لم يسعه أن ينكره مجملا، ولا يكون جهله بحكمة الله في خلقه وأمره وإتقانه كذلك وصدوره عن محض العلم والحكمة مسوغا له إنكاره في نفس الأمر.”[276]

والنظر في المعاني اللائحة من الشعائر التعبدية لا يخلو من ظهور كثير من الحِكم والمنافع والمقاصد الحسنة، فلذلك عارض الدكتور أحمد الريسوني هذه القاعدة التي قررها الشاطبي، قال: “… فبعد هذا لا يستقيم القول إن الأصل في العبادات هو عدم التعليل، بل الأصل في الشريعة كلها هو التعليل، والأصل في العبادات أيضا هو التعليل…”[277]

واستند الدكتور الريسوني إلى أصل مبدإ تعليل أفعال الله الذي لا يفرق بين فعل فكله مبني على الحكمة. وخفاء المعاني في العبادات لا يستدعي القول بعدم تعليلها وعدم معقوليتها، وقد أبدى كثير من العلماء علل أحكام العبادات، مع التحفظ ببعض جزئيات منها لكنها في الجملة غير بعيدة عن روح الشريعة ومقاصدها العامة. وأيضا فإن نصوص القرآن والسنة في العبادات لا تخلو من الإشارة إلى مقاصدها وحكمها والمصالح المترتبة عليها. والظريف أنه قلب مبرر عدم التعليل في الأمور التعبدية فجعله تعليلا لها. فلما قرر الشاطبي بوجود الأحكام التعبدية في مسائل المعاملات وفسر ما يبرر ذلك بأنه قصد به ضبط المصالح وحسم طريق التسيب، أورده الدكتور الريسوني دليلا على قصد الضبط والحسم في العبادات من حيث التقديرات والتحديدات والشكليات والهيئات.[278]

قال الشاطبي: “أما العاديات وكثير من العبادات أيضا فلها معنى مفهوم وهو ضبط وجوه المصالح؛ إذ لو ترك الناس والنظر لانتشر ولم ينضبط وتعذر الرجوع إلى أصل شرعي. والضبط أقرب إلى الانقياد ما وجد إليه سبيل. فجعل الشارع للحدود مقادير معلومة، وأسبابا معلومة لا تتعدى؛ كالثمانين في القذف، والمائة وتغريب العام في الزنا على غير إحصان، وخص قطع اليد بالكوع وفي النصاب المعين، وجعل مغيب الحشفة حدا في أحكام كثيرة، وكذلك الأشهر والقروء في العدد والنصاب والحول في الزكوات…”[279]

فهذه لفتة دقيقة من الدكتور الريسوني، فمع أن الإمام الشاطبي قصد بهذا الكلام تعليل وجود بعض الأحكام التعبدية التي لا تقبل التصرف والتغيير في باب المعاملات، لكن الدكتور الريسوني اعتبر هذا تعليلا لإبقاء العبادات على الهيئات والتقديرات المحددة، فهو مقصد مهم في باب العبادات، فجعل عدم تعليل العبادات معلَّلا ومبرّرا، فعدم التعليل يستند إلى التعليل.

فروق ما بين مقاصد العبادات ومقاصد المعاملات:

ورأي الدكتور الريسوني أيضا قوي، ولكن مع ذلك يجب التنبه إلى النقاط الفارقة بين أحكام العبادات وأحكام المعاملات. وهذه الفروق جعلت طبيعة التشريع في العبادات تختلف عنها في المعاملات. وتلك الفروق هي:

أولا: أن العبادات الأصل فيها المنع حتى يرد أمر الشارع فيها، أما المعاملات الأصل فيها الإذن حتى يرد منع الشارع فيها. لأن العبادات شرعت لإفراد الخالق بحق العبودية، وهو المتفرد بالطاعة المطلقة والتسليم التام، فلا يجوز أن يتجرأ أحد على أن يحدد ما يتعبد به دونه سبحانه. وبالتالي فإن أسرار الكيفيات مهما لاحت تجلياتها تبقى آراء غير موجبة لحكم، لأن موجب العبادات الحقيقي هو أمر الشارع نفسه وليس تلك المعاني. وذلك بخلاف أحكام المعاملات التي جاءت في الأصل لتدبير المصالح بين العباد.

ثانيا: أن مقاصد العبادات وأسرارها ترجع إلى عالم الغيب والشهادة وهي العلاقة بين العبد وربه، فليس بالضروري أن تنكشف كل أسرارها وحكمها، أما مقاصد المعاملات فهي ترجع إلى ما بين العباد من المصالح، فهي واضحة يمكن كشفها بأبسط نظر عقلي.

ثالثا: أن الشارع في مجال العبادات يركز على تفصيل وسائل التقرب إلى الله ويُجمل في بيان مقاصدها، وعلى العكلس من ذلك ففي المعاملات فإن الشارع يركز على القيم الواجب إقامتها والمصالح المطلوب تحقيقها، لكنه يجمل في الوسائل، ولم يفصل في كيفياتها، وإنما اكتفى بمجمل البيان وتفصيل بعض الأمور التي الخلاف فيها يؤدي إلى النزاع والإضرار.

رابعا: إن مجال العبادات معظمها أو كلها ثوابت مقاصدها ووسائلها، أما في المعاملات فمعظم وسائلها يجري فيها التغير، وكذلك المصالح فيها، إلا أسسها ومبادئها. أما تفاصيلها فهي في تغير وتحرك مستمرين.

فبالتالي يبقى التفريق بين العبادات والمعاملات متجها في هذا الباب، صحيح أن الأمور التعبدية لا تخلو من معان صالحة للعلية، ولكن ليس التعليل في العبادات مثله في المعاملات من حيث سعة مجالها وانكشاف أسرارها وتعيين مقاصدها وتعدية أثرها.


[1] الموافقات: 2/393

[2] المصدر نفسه

[3] الموافقات: 2/394

[4] الموافقات: 2/394-395

[5] المصدر نفسه: 2/396-399

[6] المصدر نفسه: 2/409-410

[7] الموافقات: 2/6

[8] مقاصد الشريعة الإسلامية ص191

[9] المصدر نفسه ص192

[10] المصدر نفسه ص193

[11] المصدر نفسه ص194

[12] انظر مقاصد الشريعة الإسلامية ص174

[13] المصدر نفسه ص234

[14] انظر الموافقات: 29-41

[15] مقاصد الشرعية بأبعاد جديدة ص34

[16] دراسة في فقه مقاصد الشريعة ص25

[17] انظر الوحي المحمدي، رشيد رضا، ص 185-187 (المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان، ط9 سنة 1399هـ/1979)

[18] انظر التحرير والتنوير 1/39-41

[19] انظر: كيف نتعامل مع القرآن ص71-123 (دار الشروق، مصر، ط سنة 1999م)

[20] مدخل لمعرفة الإسلام ص 191-288، مكتبة وهبة.

[21] انظر شرح مختصر الروضة، نجم الدين الظوفي: 1/553، وأيضا المنخول: 1/241

[22] انظر البرهان: 1/337-339

[23] الرسالة ص153

[24] مناقب الشافعي، للبيهقي: 2/341 (تحقيق أحمد شاكر، مكتبة دار التراث، القاهرة، ط2 سنة 1399هـ/1979)

[25] سورة الزمر: ٢٨

[26] قال الرازي: “…أن التمسك بالدلائل اللفظية لا يفيد اليقين، والدلائل العقلية تفيد اليقين، والمظنون لا يعارض المقطوع. وإنما قلنا: إن الدلائل اللفظية لا تفيد اليقين، لأن الدلائل اللفظية مبنية على أصول كلها ظنية والمبني على الظني ظني، وإنما قلنا إنها مبنية على أصول ظنية، لأنها مبنية على نقل اللغات ونقل النحو والتصريف، ورواة هذه الأشياء لا يعلم بلوغهم إلى حد التواتر، فكانت روايتهم مظنونة، وأيضاً فهي مبنية على عدم الاشتراك وعدم المجاز وعدم التخصيص وعدم الإضمار بالزيادة والنقصان وعدم التقديم والتأخير، وكل ذلك أمور ظنية…” (التفسير الكبير: 1/328) وانظر أيضا المحصول: 1/390-408، والتفسير الكبير: 1/24، 4/107 .

[27] إعلام الموقعين: 3/121

[28] انظر مثلا: الموافقات: 2/49-50

[29] انظر: مقاصد الشريعة الإسلامية ص189-190

[30] الموافقات: 2/35-38

[31] المستصفى: 3/30

[32] مقاصد الشريعة الإسلامية ص203-204

[33] طرق الكشف عن مقاصد الشارع ص82

[34] الموافقات: 3/258

[35] طرق الكشف عن مقاصد الشارع ص84

[36] سورة الشعراء: 193-195

[37] سورة القمر: 17

[38] طرق الكشف عن مقاصد الشارع ص85

[39] الرسالة: 51-53

[40] سورة إبراهيم: ٤

[41] سورة الشعراء: ١٩٥

[42] بيان تلبيس الجهمية، ابن تيمية: 1/492-493

[43] الموافقات: 2/66

[44] الموافقات: 2/87

[45] انظر طرق الكشف عن مقاصد الشارع ص90

[46] سورة آل عمران: 7

[47] أخرجه البخاري: 1/161 رقم: 80، ومسلم: 9/129 رقم: 3248

[48] أخرجه الترمذي: 8/16 رقم: 2059، والطبراني في الأوسط: 15/327 رقم: 7251، وصحح إسناده الهيثمي (مجمع الزوائد: 3/268) وحسنه الألباني (صحيح وضعيف سنن الترمذي: 5/133 رقم: 2133)

[49] أخرجه البخاري (3/295 رقم: 768) ومسلم (3/45 رقم: 758)

[50] أخرجه البخاري (13/293 رقم: 4036)

[51] أخرجه أبو داود (10/76 رقم: 3175، والترمذي وحسنه (9/258 رقم: 2580) وابن حبان (1/132 رقم: 67) وصححه الألباني (1/403 رقم: 404)

[52] طرق الكشف عن مقاصد الشارع ص99-100

[53] سورة الأعراف: 163

[54] انظر الرسالة ص62، نقلا عن طرق الكشف ص100

[55] اللغة العربية معناها ومبناها، تمام حسان، ص42، نقلا عن طرق الكشف ص101

[56] الموافقات 3/258

[57] أخرجه البخاري (6/84 رقم: 1534) ومسلم (6/371 رقم: 2239)

[58] انظر: الإحكام في أصول الأحكام، الآمدي: 3/277

[59] سورة الحشر: 7

[60] سورة المائدة: 32

[61] سورة البقرة: ١٤٣

[62] أخرجه الترمذي (1/31 رقم: 17) وأحمد (8/37 رقم: 3502) وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي (1/17 رقم: 17)

[63] سورة النساء: ١٦٠

[64] الإحكام في أصول الأحكام: 3/278

[65] انظر مباحث العلة في القياس، عبد الحكيم عبد الرحمن السعدي، ص250-364

[66] مختصر ابن الحاجب مع شرح العضد: 2/234

[67] أخرجه البخاري (4/500 رقم: 1186) ومسلم (6/197 رقم: 2094)

[68] انظر نهاية السول: 4/65

[69] سورة المائدة: 38

[70] أخرجه البخاري (5/97 رقم: 1243) ومسلم (9/73 رقم: 3211)

[71] أخرجه البخاري (16/456 رقم: 4949)

[72] أخرجه مالك في الموطإ (4/317 رقم: 1139) وأبو داود (9/198 رقم: 2915) والترمذي (4/497 رقم: 1146) والنسائي (14/93 رقم: 4469) وابن ماجه (7/33 رقم: 2255)

[73] أخرجه البخاري (6/396 رقم: 1720) ومسلم (6/8 رقم: 1938)

[74] أخرجه الترمذي (7/468 رقم: 2035) وابن ماجه (8/87 رقم: 2635) والدارمي (9/394 رقم: 3142) وصححه الألباني (صحيح وضعيف الجامع الصغير: 17/33 رقم: 7886)

[75] أخرجه مسلم (8/259 رقم: 2970)

[76] سورة البقرة: 222

[77] سورة البقرة: 237

[78] سورة المائدة: 89

[79] أخرجه البخاري (13/125 رقم: 3903)

[80] سورة الطلاق: ٢

[81] سورة الجمعة: ٩

[82] سورة الزخرف: ٣٣

[83] سورة الأعلى: ١٤

[84] شفاء الغليل ص59

[85] انظر: نهاية السول (3/71-72) والإحكام في أصول الأحكام (3/294)

[86] المستصفى: 2/135

[87] مقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالأدلة الشرعية ص144

[88] سورة البقرة: 222

[89] علم أصول الفقه، عبد الوهاب خلاف، ص71 (مكتبة الدعوة، القاهرة، ط2)

[90]  سورة النساء: 6

[91] علم أصول الفقه، ص71

[92] طرق الكشف عن مقاصد الشريعة ص177

[93] علم أصول الفقه ص72

[94] انظر الإحكام: 3/312

[95] علم أصول الفقه ص72

[96] المصدر نفسه ص72-73

[97] المصدر نفسه ص73

[98] علم أصول الفقه ص73-74

[99] المستصفى: 2/136

[100] الإحكام في أصول الأحكام: 3/312

[101] طرق الكشف عن مقاصد الشريعة ص179

[102] علم أصول الفقه ص74

[103] المنخول ص359

[104] انظر المستصفى: 1/221

[105] الموافقات: 1/27

[106] المستصفى: 1/449

[107] انظر شرح مختصر الروضة، نجم الدين الطوفي، 3/204 (مؤسسة الرسالة، ط1، سنة 1407هـ / 1987م)

[108] انظر البحر المحيط: 7/350-351

[109] المستصفى: 4/437-451

[110] البحر المحيط: 7/350-356

[111] سورة البقرة: 219

[112] مجموع التفاوى: 11/232-245

[113] انظر علم أصول الفقه: 86-87

[114] أخرجه مسلم (9/118 رقم: 3242)

[115]

[116] علم أصول الفقه ص87

[117] مجموع الفتاوى: 5/178

[118] لسان العرب: 7/418

[119] الإحكام في أصول الأحكام: 3/302

[120] سورة البقرة: 144

[121] مجموع الفتاوى: 5/178

[122] الإحكام: 3/302

[123] انظر الموافقات: 4/93

[124] الموافقات: 4/98

[125] المصدر نفسه

[126] المصدر نفسه

[127] أخرجه البخاري (19/140 رقم: 5698) والترمذي (4/454 رقم: 1121)

[128]انظر:  الإحكام: 3/303

[129] الإحكام: 3/303

[130] انظر: الإحكام للآمدي: 3/325-327، وإرشاد الفحول للشوكاني ص219

[131] انظر الإحكام: 3/330-333، ونهاية السول: 3/91-94، وإرشاد الفحول: ص221

[132] انظر الموافقات: 3/309-410، والاعتصام: 2/113-115

[133] أخرجه مسلم (9/118 رقم: 3242)

[134] أخرجه الطبراني في الأوسط (19/269 رقم: 9186) والدارقطني (10/191 رقم: 445، 11/111 رقم: 4876) والبيهقي في سننه الكبرى (9/1455 رقم: 1455) وهو ضعيف كما في مشكاة المصابيح (1/42 رقم: 197)

[135] أخرجه البخاري (22/255 رقم: 6744) ومسلم (7/42 رقم: 2380)

[136] سورة المائدة: 101

[137] سورة مريم: ٦٤

[138] أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (9/1455) والدارقطني (5/321 رقم: 2089) قال الهيثمي: رواه البزار والطبراني في الكبير وإسناده حسن ورجاله موثقون (مجمع الزوائد: 1/103)

[139] سورة طه: ١٤

[140] سورة العنكبوت: ٤٥

[141] سورة العنكبوت: ٤٥

[142] لسان العرب: 1/128

[143] المصباح المنير: 2/502

[144] لسان العرب: 15/175

[145] منطق أرسطو، لأرسطو، 2/508 (حققه وقدم له الدكتور عبد الرحمن بدوي، وكالة المطبوعات، الكويت/ دار القلم، بيروت، ط1، 1980م)

[146] المصدر نفسه: 2/507

[147] الإشارات والتنبيهات، ابن سينا: 1/418 (تحقيق الدكتور سليمان الدنيا، دار المعارف، القاهرة، ط سنة 1960م)

[148] معيار العلم في فن منطق، أبو حامد الغزالي، ص148 (دار الكتب العملية، ط1 1310هـ/1990)

[149] منهج المنطق (A System of Logic)، جون ستوارت ميل (J.S. Mill) نقلا عن المنطق وفلسفة العامة، للدكتور عبد المعطي محمد والدكتور السيد نفادي، ص308 (دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، ط سنة 1988م)

[150] أساس الاستقراء (the Ground of Induction)، وليامز دونالد، نقلا عن المنطق الوضعي، للدكتور زكي نجيب محمود: 1/297، (مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، ط4 سنة 1988م)

[151] المنطق نظرية البحث، جون ديوي، ص672 (ترجمة وتصدير وتعليق د. زكي نجيب محمود (دار المعارف، القاهرة، ط سنة 1960)

[152] روجر بايكون (Roger Bacon) (1214–1294)، ويعرف أيضاً باسم Doctor Mirabilis أي “المعلم المذهل” باللاتينية، كان فيلسوفا أنجليزيا وراهباً فرانسيسكياً وهو الذي وضع التأكيد على التجربة. ويشكر أحياناً على إنجازه كأول أوروبي يتكلم في قوانين المنهج العلمي وقد أثرت أعمال أفلاطون عليه عندما رأى العلوم الإسلامية. (انظر:

–           Randall Noon (1992). Introduction to Forensic Engineering.CRC Press.

–           Moorstein, Mark: Frameworks: Conflict in Balance, page 237, iUniverse, Inc., June 9, 2004, 308 pp, ISBN 978-0-595-31824-7

–           Sayed Khatab and Gary D. Bouma(2007) Democracy in Islam. Routledge. ISBN 0415425743.

[153] الحسن بن الحسن بن الهيثم (354 – 430 ه/965 – نحو 1038 م)، أبو علي، أصله من البصرة ثم انتقل إلى الديار المصرية وأقام بها إلى آخر عمره. وكان فاضل النفس قويَّ الذكاء متفنناً في العلوم لم يماثله أحدٌ من أهل زمانه في العلم الرياضي ولا يقاربه. وكان دائم الاشتغال كثير التصنيف وافر التزهُّد محبّاً للخير وقد لخَّص كثيراً من كتب أرسطو وشرحها وكذلك كتب جالينوس، وكان خبيراً بأصول الطبِّ وقوانينه. واتبكر علم البصريات، واكتشف فيها كيفية إبصار العين، وحركات الضوء. مات بالقاهرة سنة 430هـ. (انظر ترجمته في: الوافي بالوفيات 4/129-130، الأعلام: 6/83، معجم المؤلفين: 3/215، وانظر أيضا: الحسن بن الهيثم، لمصطفى نظيف:…)

[154] المناظر، الحسن بن الهيثم: 1/2

[155] انظر: المنهج التجريبي عند ابن الهيثم، وناس مصباح ص169-174 (ضمن أعمال ندوة “ابن الهيثم الطبيب والفيلسوف المسلم”، من منشورات المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، إيسيسكو، سنة 1420هـ/1999م)

[156] سورة الأنعام: ١١

[157] سورة النمل: ٦٩

[158] العنكبوت: ٢٠

[159] سورة غافر: ٨٢

[160] سورة الحج: ٤٦

[161] سورة البقرة: ١٦٤

[162] سورة الأنعام: ٣٨

[163] منطق أرسطو: 2/507

[164] المصدر نفسه: 3/734

[165] انظر المستصفى: 1/21

[166] انظر المستصفى: 1/96-97

[167] المنطق، ابن سينا: 1/384

[168] الإشارات والتنبيهات: 1/418

[169] تجريد المنطق، نصير الدين الطوسي: 1/13

[170] معيار العلم في فن المنطق: 1/30

[171] المستصفى: 1/96

[172] انظر روضة الناظر في جنة المناظر، ابن قدامة، 1/88-89 (…)

[173] انظر المحصول: 6/161

[174] انظر منهاج الوصول

[175] حاشية البناني على شرح الجلال المحلي على متن جمع الجوامع

[176] شرح الكوكب المنير: 4/417-421

[177] قال أبو حامد الغزالي: “…والحكم المنقول ثلاثة: أما حكم من كلي على جزئي وهو الصحيح اللازم، وهو القياس الصحيح الذي قدمناه، وأما حكم من جزئي واحد على جزئي واحد كاعتبار الغائب بالشاهد وهو التمثيل وسيأتي، وأما حكم من جزئيات كثيرة على جزئي واحد وهو الإستقراء وهو أقوى من التمثيل.” (معيار العلم في علم المنطق، أبو حامد الغزالي: 1/30)

[178] مجموع الفتاوى: 9/154، الرد على المنطقيين ص163

[179] مجموع الفتاوى: 9/1187-188، 199، 203-204، الرد على المنطقيين ص165

[180] درء تعارض النقل والعقل: 1/75

[181] مجموع الفتاوى: 21/583

[182] المصدر نفسه: 21/528

[183] المصدر نفسه: 21/538-539

[184] الموافقات: 1/39

[185] الموافقات: 1/36

[186] انظر الموافقات: 2/6

[187] انظر الموافقات: 1/29

[188] انظر الموافقات: 1/29-30

[189] مقاصد الشريعة الإسلامية ص234

[190] الموافقات: 2/51

[191] انظر الموافقات: 3/265-268

[192] انظر الموافقات: 3/265-266

[193] الموافقات: 3/268

[194] الموافقات: 3/8

[195] المصدر نفسه

[196] المصدر نفسه: 3/9-10

[197] الموافقات: 3/13

[198] الموافقات: 4/242

[199] الموافقات: 1/16

[200] مقاصد الشريعة الإسلامية ص190

[201] المصدر نفسه ص180

[202] مقاصد الشريعة الإسلامية ص191

[203] المصدر نفسه

[204] المصدر نفسه ص192

[205] المصدر نفسه ص231

[206] مقاصد الشريعة الإسلامية ص235

[207] المصدر نفسه ص235-238

[208] المقاصد الشريعة الإسلامية ص235

[209] مقاصد الشريعة الإسلامية ص221

[210] المصدر نفسه ص248

[211] المصدر نفسه ص328

[212] أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، ابن عاشور ص26-27 (الشركة التونسية، تونس، ط سنة 1979م)

[213] مقاصد الشريعة الإسلامية ص191

[214] أخرجه مالك في الموطإ (4/317 رقم: 1139) وأبو داود (9/198 رقم: 2915) والترمذي (4/497 رقم: 1146) والنسائي (14/93 رقم: 4469) وابن ماجه (7/33 رقم: 2255)

[215] أخرجه البخاري (7/312 رقم: 1974، ) ومسلم (8/90 رقم: 2826)

[216] مقاصد الشريعة الإسلامية ص192

[217] المصدر نفسه ص193

[218] أخرجه مسلم: 8/312 رقم: 3012

[219] المصدر نفسه

[220] طريق الكشف عن مقاصد الشارع ص329، 345-368

[221] مقاصد الشريعة ص34-35

[222] انظر ص165-166

[223] مقاصد الشريعة الإسلامية ص165-176

[224] الموافقات: 1/29-35

[225] الموافقات: 1/29

[226] إن شواهد هذه القاعدة ثابتة وكامنة في دلائل الكتاب والسنة وفتاوى العلماء المجتهدين، وعدم ذكر الشاطبي لها لا يدل على عدمها، ومن المفيد أن نلفت أنظار الباحثين لدراسة هذه المسألة، ولولا تجنب الإطالة لكان هنا موضع ذكرها. وهذه مسألة تستحق أن يخصص لها دراسة مستقلة.

[227] الموافقات: 1/30

[228] المصدر نفسه: 1/31

[229] الموافقات: 1/35-45

[230] المصدر نفسه: 1/46-56

[231] الموافقات: 1/36

[232] المصدر نفسه: 1/37-38

[233] المصدر نفسه: 4/334-337

[234] المصدر نفسه: 4/337-339

[235] الموافقات: 1/36

[236] الموافقات: 1/37-38

[237] إن علم علل الحديث ومشكل الحديث من أدق علوم الحديث وأصعبها وكما علم الأصول استفاد من بعض مباحث علوم الحديث فإن هذا الفن يجب ألا يغيب عن بالهم. نعم قلّ من أجاد واستوعب هذا الفن حتى لدى المحدثين، لكن إتقان هذا الفن هو الذي سيحل كثيرا من الإشكاليات في هذا الموضوع.

[238] سورة الحجرات: ٦

[239] سورة الكهف: ٥٤

[240] قال تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ . فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [سورة الأنبياء: ٧٨ – ٧٩] أخرج البيهقي والحاكم عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ فِى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ (وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِى الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ) قَالَ: كَرْمٌ وَقَدْ أَنْبَتَتْ عَنَاقِيدُهُ فَأَفْسَدَتْهُ. قَالَ: فَقَضَى دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ بِالْغَنَمِ لِصَاحِبِ الْكَرْمِ. فَقَالَ سُلَيْمَانُ: غَيْرَ هَذَا يَا نَبِىَّ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: تَدْفَعُ الْكَرْمَ إِلَى صَاحِبِ الْغَنَمِ، فَيَقُومُ عَلَيْهِ حَتَّى يَعُودَ كَمَا كَانَ، وَتَدْفَعُ الْغَنَمَ إِلَى صَاحِبِ الْكَرْمِ، فَيُصِيبُ مِنْهَا حَتَّى إِذَا كَانَ الْكَرْمُ كَمَا كَانَ دَفَعْتَ الْكَرْمَ إِلَى صَاحِبِهِ وَدَفَعْتَ الْغَنَمَ إِلَى صَاحِبِهَا. (السنن الكبرى: 10/427 باب اجتهاد الحاكم فيما يسوغ فيه الاجتهاد وهو من أهل الاجتهاد. والمستدرك: 9/409 رقم: 4103) وقال البخاري معلقا هذه القضية: “فحمد سليمانَ ولم يَلُم داود، ولولا ما ذكر الله من أمر هذين، لرأيت أن القضاة هلكوا، فإنه أثنى على هذا بعلمه، وعذر هذا باجتهاده.” (صحيح البخاري: 22/82 باب متى يستوجب الرجل القضاء).

[241] انظر سورة الأعراف: 150 وسورة مريم: 92-94

[242] سورة الكهف: 60-82

[243] فقد اختلفوا في رجل قتل مائة نفس ثم تاب ولم يعمل خيرا قط كما روى الشيخان عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ فَأَتَاهُ فَقَالَ إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ فَقَالَ لَا فَقَتَلَهُ فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ فَقَالَ إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ فَقَالَ نَعَمْ وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فَاعْبُدْ اللَّهَ مَعَهُمْ وَلَا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ فَانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا نَصَفَ الطَّرِيقَ أَتَاهُ الْمَوْتُ فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ فَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ جَاءَ تَائِبًا مُقْبِلًا بِقَلْبِهِ إِلَى اللَّهِ وَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ فَقَالَ قِيسُوا مَا بَيْنَ الْأَرْضَيْنِ فَإِلَى أَيَّتِهِمَا كَانَ أَدْنَى فَهُوَ لَهُ فَقَاسُوهُ فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ. (أخرجه البخاري: 11/289 رقم: 3211، ومسلم: 13/338 رقم: 4967)

[244] وردت هذه القصة في سورة البقرة: 67-71

[245] مقاصد الشريعة الإسلامية ص234-235

[246] المصدر نفسه ص232

[247] مقاصد الشريعة الإسلامية ص189

[248] منهاج السنة: 3/39، 177

[249] مفتاح دار السعادة ص357، شفاء العليل ص395

[250] شفاء العليل ص79

[251] سورة الإسراء: ٣٦

[252] أخرجه أبو داود: 9/464 رقم: 3103، والترمذي: 5/160 رقم: 1248، والنسائي: 16/212 رقم: 5286، وابن ماجه: 7/103 رقم: 2305، وأحمد: 36/175 رقم: 17106، وابن حبان: 21/156-158 رقم: 5151-5152.

[253] أخرجه أبو داود: 9/463 رقم: 3102، الترمذي: 5/155 رقم: 1244، ابن ماجه: 7/104 رقم: 2306.

[254] سورة هود: ١٨

[255] طرق الكشف عن مقاصد الشارع ص202

[256] الموافقات: 2/300

[257] هكذا عبارة الشاطبي ويعني به أن المحالّ التي أمر الشرع بغسلها أو مسحها ليست هي محال الحدث. وهذا إنما يكون في الطهارة من الحدث، أما الطهارة من النجس فلم تتجاوز محالها. (انظر الموافقات: 2/300)

[258] الموافقات: 2/300-301

[259] المصدر نفسه: 2/301

[260] المصدر نفسه: 2/304

[261] سورة البقرة: ١٧٩

[262] سورة البقرة: ١٨٨

[263] أخرجه الترمذي (5/171 رقم: 1254) وابن ماجه (7/106 رقم: 2307) وأحمد (41/354 رقم: 19495) وصححه الألباني في إرواء الغليل (8/252 رقم: 2626)

[264] أخرجه مالك (5/37 رقم: 1234) وابن ماجه (7/143 رقم: 2331، 7/144 رقم: 2332) وأحمد (6/251 رقم: 2719) وصححه الألباني في السلسلة (السلسلة الصحيحة: 1/249 رقم: 250)

[265] أخرجه الترمذي (7/468 رقم: 2035) وابن ماجه (8/87 رقم: 2635، 8/218 رقم: 2725) وصححه الألباني (إرواء الغليل: 6/118 رقم: 1672)

[266] أخرجه مالك (4/392 رقم: 1175) ومسلم (8/37 رقم: 2783) والترمذي (5/5 رقم: 1151) وأبو داود (9/222 رقم: 2932) والنسائي (14/57 رقم: 4442)

[267] أخرجه البخاري (13/240 رقم: 3997) ومسلم (10/254 رقم: 3729)

[268] سورة المائدة: ٩١

[269] الموافقات: 2/305-306

[270] المصدر نفسه: 2/306-307

[271] الموافقات: 2/307

[272] المصدر نفسه: 2/24

[273] انظر ص30-36 من هذه الرسالة

[274] شفاء العليل ص79

[275] إعلام الموقعين: 2/148

[276] المصدر نفسه: 2/120

[277] الفكر المقاصدي ص49

[278] الفكر المقاصدي ص54-58

[279] الموافقات: 2/308-309

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

معلومات

This entry was posted on 24 نوفمبر 2011 by in مقالات.

الابحار

%d مدونون معجبون بهذه: