آفاق المستقبل

تصحيح مفاهيم وتكوين رؤى

القرآن وتوليد المشاريع

“لم تنـزل بالأمة نازلة إلا وفي كتاب الله بيان سبيل الهدى فيها” هكذا قال الإمام الشافعي في بيان اتساع القرآن لكل مشاكل الحياة. وقد نزل بالأمة في هذا العصر مشاكل عدة، إلا أن اللجوء إلى هدي القرآن بات أمرا محدودا لدى فئة قليلة من الأمة، فتبقى الحالة المأساوية لأمة القرآن هي المسحة الغالبة على ظاهرها الحالي.

إن الفقر والبطالة والأمية أصبحت تحتل أولى المعضلات التي تواجه أكثر الدول الإسلامية. ولم تكن هذه المشاكل بدعا من مسيرة الأمم السابقة. لم يسلم من هذه المشكلة دولة من الدول حتى تلك الدول المتقدمة، وإن كانت نسبة تلك المشكلة تقل عند الدول المتقدمة إلا أنها لم تبرح تفكر في حل هذه المشكلة. بل وقد عانى صدر هذه الأمة أيضا تلك الحالات. لم تكن بداية النهضة التي قام بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بداية مترفة، وقد كان الفقر حالة سائدة لدى المهاجرين الأوائل بما فيه قائدهم رسول الله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، ولكن حسن التدبير مع حق التوكل أخرجا تلك الأمة الناشئة من الضعف الاقتصادي إلى حالة الاستقرار والاكتفاء.

وكان مئات من المهاجرين تركوا أموالهم وفقدوا “وظائفهم” إلا أن حالة البطالة والعجز الاقتصادي لم تدم طويلة بسبب وجود مشروع بل مشاريع كبرى مجهَّزة لهؤلاء القوة العاملة المجاهدة في سبيل الله.

إن كون البطالة والفقر مشكلة كل الدول بما فيها الدول المتقدمة إنما يحدث بسبب قلة المشاريع التنموية التي تستقطب الأيادي العاملة. وما قلت المشاريع إلا بسبب ضمور الأفكار التنموية وانسداد آفاق التطوير الطموح. قد يكون العزو إلى قلة الموارد ونضوب السيولة النقدية مقنعا في إيضاح سبب ارتفاع معدل البطالة، وهذا جزء من الحقيقة، ولكن بقي جزء آخر وهو أننا نجد علاقة طردية بين نسبة البطالة وعدد المشاريع التنموية لدى البلد أو حتى لدى الأفراد. إن الفرد الذي لا يتبنى في فكره مشروعا معينا سيعتمد على مشاريع الآخرين ويكون جل اهتمامه أن يكون موظفا أو عاملا يستلم الراتب كل آخر الشهر. وهذا الذي ربَّت عليه المؤسسات التعليمية التقليدية أبناء الدول النامية. والبلدان التي لا تتبنى مشروعا تنمويا طموحا أيضا ستعاني من مشكلة البطالة المتنامية بسبب زيادة السكان غير المسايرة لزيادة الموارد، ولن تأتي الموارد الاقتصادية في الغالب خارج سياق المشاريع التنموية.

إن الإسلام في أولى نشأته قد جاء بمشاريع نهضوية طموحة استقطبت أعدادا كبيرة من العناصر العاملة النوعية. إن مشروع الجهاد في سبيل الله كان مشروعا ناجحا في رفع شأن تلك الأمة. ومشروع الدعوة إلى الله تبث تلك الطاقات الكامنة لدى قبائل الجزيرة في أرجاء العالم فتنشأ أمة قائدة رائدة بعناصرها المقتدرة، بل أكثر من ذلك فإن تلك المشاريع أنشأت أمما كانت مغمورة معزولة عن سياق تفاعل الحضارات فأصبحوا دعائم الحضارة الإسلامية.

وفي ظرفنا الراهن فإن التعامل مع تعاليم الدين ينبغي أن تتولد من خلاله مشاريع الخير بمعناها الواسع وبآفاقها المترامية وصورها المتجددة. إذا كان في السابق نشأت وظائف وأعمال لم تعهد البشرية بمثلها بسبب ظهور هذا الدين الجديد، فينبغي ألا تتوقف تلك الابتكارات لدى المسلمين في هذا العصر.

وظائف أحدثها الإسلام

إن تاريخ هذه الأمة شهدت ابتكارات في مجالات العمل لم يعرفها الناس قبل ظهور الإسلام. وأعظمها ما شوهد في مجال الأوقاف، فقد أنعشت الأوقاف الأنشطة الاقتصادية وحركت الحياة المدنية. وكانت الأوقاف اتخذت صورا متعددة حتى ذكر المؤرخون وجود وقف على تعويض كل من انكسرت عنده الأواني فيستبدل آنيته من مال الوقف. وكان الوقف على طلبة العلم ونفقة الفقهاء أقوى الأوقاف على الإطلاق حتى اليوم قامت عليه قوائم الحضارة الإسلامية.

إن شعائر العبادات انبثقت من خلال تنظيمها مجالات العمل المتعددة، فالصلاة مثلا جلبت قوى عاملة من إمام ومؤذن وقائم بشؤون المسجد فردا أو فريقا، وإن كان في جواز أخذ الأجرة على الإمامة والأذان خلاف فقهي معروف، إلا أنه لا خلاف في مشروعية بقية الوظائف المتعلقة بتنظيم أمور المسجد.

وشعيرة الزكاة أحدث وظيفة العامل عليها وهي في عصرنا الحاضر لا يمكن أن يقوم بها فرد واحد لكثرة الناس المزكين والمستحقين. وتعدُّد مصارف الزكاة أيضا فتح أنواعا من التخصصات من أجل حسابها والاعتناء بها. ومع تطور نمط حياة المسلمين فإن مؤسسة الزكاة لا بد أن تشكل مؤسسة اقتصادية غير ربحية متطورة ليغطي متطلبات مصارف الزكاة المذكورة في القرآن.

وأصبح صيام رمضان أيضا موسما اقتصاديا متميزا، لم يبق صيام رمضان مجرد إمساك الناس عن الأكل والشرب، فقد تحول هذا العمل عبارة عن إحداث أنماط جديدة من الحياة، فغير اهتمام الناس وحرك نشاطهم الاقتصادي. وقام الناس ببرامج جديدة تخدم مصالح الصائمين وقدموا خدمات متنوعة تلبي رغبات الناس بشتى أنواعها, فشهر رمضان نشاط اقتصادي مميز، وإن كان بعض الممارسات قد لا تتفق مع روح الصوم إلا أن الجزء الحلال المبارك يبقى سيد كل تلك الأنشطة.

وشعيرة الحج وما أدراك ما الحج؟ فهو مشروع اقتصادي ضخم، ومصالح دنيوية حلال مع عظمة هذه العبادة. تحرك عالمي وانفتاح على كل الشعوب الإسلامية بشكل مذهل. كم من الأموال أنفقت؟ وكم من العلاقات عقدت؟ وكم ومن المصالح تمت؟ وكم من العظمة والبهجة حصلت؟

الجهاد المدني آفاق واسعة للتنمية

إن الجهاد في سبيل الله هو أهم مشروع قام به الأمة الإسلامية عبر قرونها المتلاحقة وما زالت طائفة منها مباركة قائمة لهذا الواجب خاصة في الأرض المقدسة فلسطين، والمفترض لهذه الأمة كلها أن تكون روافد وفية سخية لهذا المشروع الرئيس. إلا أن آفاقا واسعة من صور الجهاد في سبيل الله مفتوحة الثغرات بل مجهولة لدى البعض، مستغربة لدى الآخر، مستنكرة لدى الفئة الثالثة. لقد أصرت بعض العقول القاصرة أن يكون الجهاد هو القتال لا غير. وقد أنزلت آيات الجهاد على المسلمين في مكة ولم يكن القتال مأذونا آنذاك. مثل قوله تعالى: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ)[1]

ومثل قوله تعالى: (فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا)[2]

بل لقد وسع الرسول صلى الله عليه وسلم أيضا: مفهوم الجهاد فسمى الحج والعمرة جهادا: فعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ عَلَى النِّسَاءِ مِنْ جِهَادٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، عَلَيْهِنَّ جِهَادٌ لَا قِتَالَ فِيهِ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ[3]

وقد سمى الرسول صلى الله عليه وسلم بر الوالدين أيضا جهادا: فعن عَبْدِ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الْجِهَادِ فَقَالَ: أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ.[4]

فلا غرو أن وسَّع ابن القيم رحمه الله مفهوم الجهاد أكبر من مساحة القتال فقال: “فالجهاد أربع مراتب: جهاد النفس، وجهاد الشيطان، وجهاد الكفار، وجهاد المنافقين.

فجهاد النفس أربع مراتب أيضا:

إحداها: أن يجاهدها على تعلم الهدى، ودين الحق الذي لا فلاح لها، ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به، ومتى فاتها علمه شقيت في الدارين.

الثانية: أن يجاهدها على العمل به بعد علمه، وإلا فمجرد العلم بلا عمل إن لم يضرها لم ينفعها.

الثالثة: أن يجاهدها على الدعوة إليه وتعليمه من لا يعلمه، وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من الهدى والبينات، ولا ينفعه علمه، ولا ينجيه من عذاب الله.

الرابعة: أن يجاهدها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله، وأذى الخلق، ويتحمل ذلك كله لله.

فإذا استكمل هذه المراتب الأربع، صار من الربانيين، فإن السلف مجمعون على أن العالم لا يستحق أن يسمى ربانيا حتى يعرف الحق، ويعمل به ويعلمه.[5]

وقال: وأما جهاد الشيطان، فمرتبتان، إحداها: جهاده على دفع ما يلقي إلى العبد من الشبهات والشكوك القادحة في الإيمان.

الثانية: جهاد على ما يلقي إليه من الإرادات الفاسدة والشهوات.

فالجهاد الأول يكون بعُدة اليقين، والثاني يكون بعُدة الصبر. قال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ)[6]، فأخبر أن إمامة الدين إنما تنال بالصبر واليقين، فالصبر يدفع الشهوات والإرادات الفاسدة، واليقين يدفع الشكوك والشبهات.[7]

قال: وأما جهاد الكفار والمنافقين، فأربع مراتب: بالقلب، واللسان، والمال، والنفس، وجهاد الكفار أخص باليد، وجهاد المنافقين أخص باللسان.

وأما جهاد أرباب الظلم، والبدع، والمنكرات، فثلاث مراتب: الأولى: باليد إذا قدر، فإن عجز انتقل إلى اللسان، فإن عجز جاهد بقلبه.

فهذه ثلاثة عشر مرتبة من الجهاد.”[8]

إذا تتبعنا القرآن الكريم نجد أن لفظ الجهاد استخدم بأسلوبين مختلفين، أن يستخدم فعل الجهاد متعديا بنفسه مثل قوله تعالى: (وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا)[9] ومثل وقوله تعالى: (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ)[10] فهذه الآيات تتكلم عن الجهاد الضدي، وهو هنا جهاد ضد الكفار والمنافقين.

والنوع الآخر أن يتعدى لفظ الجهاد بحرف “في” كقوله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ).[11] قال ابن عطية نقلا عن القاضي عياض: فهي قبل الجهاد العرفي وإنما هو جهاد عام في دين الله وطلب مرضاته.[12]

قال العلامة ابن عاشور: وهذا الجهاد هو الصبر على الفتن والأذى ومدافعة كيد العدو وهو المتقدم في قوله أول السورة { ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه }[13] إذ لم يكن يومئذ جهاد القتال.[14]

كما أن الرسول سمى بر الوالدين جهادا، أليس من الصواب أيضا أن يكون التعليم والتعلم مجالا من مجالات الجهاد؟ وكيف بمحاربة الفقر؟ وإيجاد وظائف توجه طاقات الأمة في وجوه الخير وإنقاذهم من مستنقع الفقر، أليس هذا جهادا في سبيل الله؟

عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : مَرَّ بِهِمْ رَجُلٌ فَتَعَجَّبُوا مِنْ خُلُقِهِ فَقَالُوا: لَوْ كَانَ هَذَا فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَأَتَوُا النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم :« إِنْ كَانَ يَسْعَى عَلَى أَبَوَيْهِ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَهُوَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ يَسْعَى عَلَى وَلَدٍ صِغَارٍ فَهُوَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ يَسْعَى عَلَى نَفْسِهِ لِيُغْنِيَهَا فَهُوَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ.[15]

الواجبات الدينية يكتنفها مصالح دنيوية

إننا نجد في كلام الله ربط مصالح دنيوية بالقيام بالواجبات الدينية، نجد مثلا قوله تعالى: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[16]

قال ابن كثير رحمه الله: لَمَّا حَجَر عليهم في التصرف بعد النداء وأمرهم بالاجتماع، أذن لهم بعد الفراغ في الانتشار في الأرض والابتغاء من فضل الله. كما كان عرَاك بن مالك رضي الله عنه إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد، فقال: اللهم إني أجبتُ دعوتَك، وصليتُ فريضتك، وانتشرت كما أمرتني، فارزقني من فضلك، وأنت خير الرازقين. رواه ابن أبي حاتم.

وروي عن بعض السلف أنه قال: من باع واشترى في يوم الجمعة بعد الصلاة، بارك الله له سبعين مرة، لقول الله تعالى: { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ }[17]

ونجد أيضا قول الله تعالى في الحج: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ)[18]

قال القرطبي: ففي الآية دليل على جواز التجارة في الحج للحاج مع أداء العبادة ، وأن القصد إلى ذلك لا يكون شركاً ولا يخرج به المكلف عن رسم الإخلاص المفترض عليه.[19]

وقد قرن الله الرزق بالعبادة في قوله تعالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى)[20] وقال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ . مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ . إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)[21] ومفاد هذه الآيات أن أمر الرزق مضمون عند الله فلا يحمل العبد هم الرزق، وإنما المطلوب منه أن يجتهد في العبادة. والعبادة –كما قال ابن تيمية- اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، ويشمل العبادة أيضا كسب الحلال لصون الوجه من مذلة السؤال وإنفاق من تجب إعالته، والكسب من إجل تقوية المسلمين ونشر الدين.

فالمؤمن يجمع بين الاجتهاد في العمل من ناحية السعي وبين راحة البال وطمأنينة النفس من ناحية نتائجه.

وهذا المعنى لخصه النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه عن الله عز وجل: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَا ابْنَ آدَمَ تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي أَمْلَأْ صَدْرَكَ غِنًى وَأَسُدَّ فَقْرَكَ وَإِلَّا تَفْعَلْ مَلَأْتُ صَدْرَكَ شُغْلًا وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ.[22]

كما أن الله تبارك وتعالى يجازي المؤمنين المتقين بالأرزاق المباركة في الدنيا قبل الآخرة، قال الله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ)[23]

وسطية القرآن بين غلو الرهبانية وغرور المادية

الشريعة –كما قال الشاطبي رحمه الله- جارية في التكليف بمقتضاها على الطريق الوسط الأعدل الآخذ من الطرفين بقسط لا ميل فيه، الداخل تحت كسب العبد من غير مشقة عليه ولا انحلال. بل هو تكليف جار على موازنة تقتضي في جميع المكلفين الاعتدال.[24]

وقال الشاطبي أيضا: فإن كان التشريع لأجل انحراف المكلف أو وجود مظنة انحرافه عن الوسط إلى أحد الطرفين كان التشريع رادا إلى الوسط الأعدل، لكن على وجه يميل فيه إلى الجانب الآخر ليحصل الاعتدال فيه، فِعلَ الطبيب الرفيق يحمل المريض على ما فيه صلاحه بحسب حاله وعادته وقوة مرضه وضعفه، حتى إذا استقلت صحته هيأ له طريقا في التدبير وسطا لائقا به في جميع أحواله. ألا أن الله تعالى خاطب الناس في ابتداء التكليف خطاب التعريف بما أنعم عليهم من الطيبات والمصالح التي بثها في هذا الوجود لأجلهم ولحصول منافعهم ومرافقهم التي يقوم بها عيشهم وتكمل بها تصرفاتهم، كقوله تعالى: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ)[25]، وقوله: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ)[26] إلى قوله: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا)[27] وقوله: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ)[28]، إلى آخر ما عد لهم من النعم، ثم وُعدوا على ذلك بالنعيم إن آمنوا وبالعذاب إن تمادوا على ما هم عليه من الكفر. فلما عاندوا وقابلوا النعم بالكفران وشكوا في صدق ما قيل لهم، أقيمت عليهم البراهين القاطعة بصدق ما قيل لهم وصحته. فلما لم يلتفتوا إليها لرغبتهم في العاجلة أخبروا بحقيقتها وأنها في الحقيقة كلا شيء، لأنها زائلة فانية، وضربت لهم الأمثال في ذلك كقوله: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ)[29] الآية وقوله : (إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ)[30]، وقوله: (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)[31]. بل لما آمن الناس ظهر من بعضهم ما يقتضي الرغبة في الدنيا رغبةً ربما أمالته عن الاعتدال في طلبها أو نظرا إلى هذا المعنى فقال عليه الصلاة والسلام: “إن مما أخاف عليكم ما يفتح لكم من زهرات الدنيا”[32] ولما لم يظهر ذلك ولا مظنته قال تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ)[33] وقال (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً)[34].[35]

وقال: ولما ذم الدنيا ومتاعها همّ جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم أن يتبتلوا ويتركوا النساء واللذة الدنيا، وينقطعوا إلى العبادة، فرد ذلك عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: “من رغب عن سنتي فليس مني.”[36] ودعا لأناس بكثرة المال والولد بعد ما أنزل الله: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ)[37]، والمال والولد هي الدنيا وأقر الصحابة على جمع الدنيا والتمتع بالحلال منها، ولم يزهدهم ولا أمرهم بتركها إلا عند ظهور حرص أو وجود منع من حقه، وحيث تظهر مظنة مخالفة التوسط بسبب ذلك وما سواه فلا.[38]

قال: فإذا نظرت في كلية شرعية فتأملها تجدها حاملة على التوسط، فإن رأيت ميلا إلى جهة طرف من الأطراف فذلك في مقابلة واقع أو متوقع في الطرف الآخر. فطرف التشديد وعامة ما يكون في التخويف والترهيب والزجر يؤتى به في مقابلة من غلب عليه الانحلال في الدين. وطرف التخفيف وعامة ما يكون في الترجية والترغيب والترخيص يؤتى به في مقابلة من غلب عليه الحرج في التشديد. فإذا لم يكن هذا ولا ذاك رأيت التوسط لائحا ومسلك الاعتدال واضحا، وهو الأصل الذي يرجع إليه والمعقل الذي يلجأ إليه. وعلى هذا إذا رأيت في النقل من المعتبرين في الدين من مال عن التوسط فاعلم أن ذلك مراعاة منه لطرف واقع أو متوقع في الجهة الأخرى. وعليه يجري النظر في الورع والزهد وأشباهها وما قابلها. والتوسط يعرف بالشرع، وقد يعرف بالعوائد وما يشهد به معظم العقلاء كما في الإسراف، والإقتار في النفقات.[39]

نظرية جديدة للربح الاقتصادي

إن نظرية الاقتصاد اليوم قامت على مبدأ أن كل نشاط اقتصادي يقاس مدى نجاحه بالعائد المادي الناتج عن ذلك النشاط، بل تقلص مقياس الفائدة المادية في قيمة العملات النقدية الورقية، وهي قيمة هشة وهمية، فإن قيمة العملات تتغير متأثرة بتموُّجات العمليات التجارية. وهذا آفة خطيرة على النظام الاقتصادي العام.

والمتتبع لمجريات الأحداث الاقتصادية في القرن المنصرم وبداية هذا القرن، يجد أنه بعد اتفاقية برايتون وودز -حيث اتفقت الدول على نظام العملات المشترك- خلال كل ثلاثين سنة تقريبا وقع العالم في أزمة اقتصادية عالمية، وقد لم تكن الأزمة الأخيرة أخطرها -وإن كانت هي أشملها أثرا- فقد أصيبت الولايات المتحدة بأزمة أشد في ستينيات القرن الماضي مما اضطرها إلى التخلي عن ربط قيمة الدولار برصيدها من الذهب.

إن الممارسات الاقتصادية في البلدان الإسلامية قد عرفت قيمة معيارية للأنشطة التجارية، فكان المسلمون يقيسون بالدينار والدرهم في أنشطتهم التجارية. وحديث عروة البارقي الآتي يصور تلك الحالة:

عَنْ أَبِي لَبِيدٍ عَنْ عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ قَالَ: دَفَعَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِينَارًا لِأَشْتَرِيَ لَهُ شَاةً، فَاشْتَرَيْتُ لَهُ شَاتَيْنِ، فَبِعْتُ إِحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ وَجِئْتُ بِالشَّاةِ وَالدِّينَارِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ لَهُ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ، فَقَالَ لَهُ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي صَفْقَةِ يَمِينِكَ. فَكَانَ يَخْرُجُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى كُنَاسَةِ الْكُوفَةِ فَيَرْبَحُ الرِّبْحَ الْعَظِيمَ فَكَانَ مِنْ أَكْثَرِ أَهْلِ الْكُوفَةِ مَالًا.[40]

وهكذا شأن المسلمين عبر القرون الماضية فهم يعتمدون وزن الدينار والدرهم لقياس الربح التجاري، وليس من الصدفة أن يكون سعر الشاة في عصرنا هذا لا يختلف كثيرا عن السعر الجاري أيام عروة البارقي رضي الله عنه، والدينار الذهبي أثبتت قوته الشرائية إلى اليوم، وهو وزن المثقال المعروف ما يقدر بأربعة غرامات والربع. فقياس الأسعار وقيم الأشياء المادية لا تختلف كثيرا بالمعيار الإسلامي القديم، وليس كحالة الدولار الذي شهد نقصا مطردا في قوته الشرائية نتيجة التضخم، وهو في هذه الأيام تتجه إلى التدهور المستمر جراء الركود الاقتصادي الأمريكي.

إن معيار الدينار والدرهم معروف ومعتمد عبر أكثر من أربعة عشر قرنا، إلا أن الإسلام جاء بمعيار آخر إضافة على ذلك المعيار المادي المتداول. نلاحظ في الحديث الآتي هذه الحقيقة:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ. فَقَالَ: إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ.[41]

إن الرسول عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم وسّع المدارك وطور العقلية الاقتصادية، فبين عليه الصلاة والسلام أن اعتماد الدينار والدرهم ليس المعيار الوحيد في قياس الربح والخسارة، مع إقراره بصحة ذلك الاعتقاد السائد في قياس الربح، إلا أن أفقا جديدا وحقيقة مهمة أخرى لا تجوز الغفلة عنها.

ولا يصح أن يعتقد أن هذا كلاما وعظيا لا يمت إلى الواقع العملي الاقتصادي بصلة. فإن حسنات الأعمال الصالحة وسيئات الأعمال السيئة أيضا عناصر مهمة مؤثرة في العملية الاقتصادية. والحقيقة أن علم الاقتصاد قد شهد تغير القناعات في هذا الباب، فكثير من الخبراء قد وصلوا إلى قناعة أن المعايير المادية ليست هي “حجم الحقيقة” الوحيد في النشاط الاقتصادي. إن الخبير الأمريكي ستيفن كوفي في كتابه الشهير “العادات السبع” قد أدخل عامل تبني القيمة الإنسانية الأخلاقية ضمن أهم عوامل القوة في النشاط الاقتصادي، فإن العمل الاقتصادي القوي الذي يضمن نجاحا باهرا هو الذي يتبنى قيمة إنسانية أخلاقية جادة. وسار على هذا المبدأ كثير من الشركات ورجال الأعمال في أمريكا، وإن كان الهدف المادي يبقى هو السائد، إلا أن شيئا من المثالية الإنسانية الأخلاقية قد أقنع هؤلاء الغربيين أن المادة ليست هي الحقيقة المفردة الوحيدة.

فحين نتكلم عن المشاريع التي تأسست في رحم الإسلام فليس من الصواب أن نحصر تفكيرنا على المشاريع التي تدرّ بسيل من النقود. إننا نعتبر أن جلب مزيد من النقود جزءا من العملية، وليست نهاية المطاف ولا الهدف الأخير. إن الإسلام أطلع الناس على آفاق ما رواء الربح المادي، علّم الإسلام التجّار أن بعد الربح المادي مكاسب أخرى، فلا يقف التاجر المسلم عند حصول الدريهمات ولا الدنينرات، بل يستثمر هذه الدراهم والدنانير في كسب الربح الأكبر والأبقى، ربح الدنيا والآخرة.

مقاصد الشريعة ومشاريع استراتيجية

قرر العلماء -رحمة الله عليهم- أن الشرع الإسلامي أنزل لتحقيق مصالح الدنيا والآخرة، وفصل الإمام الغزالي تلك المصالح في حفظ الكليات الخمس هي النفس والعقل والدين والمال والنسل. فالإسلام ربط أعمال العبادة لله بآفاق العمارة في الأرض. فنشاط المسلم لا يقتصر على مصالح الآخرة، بل جعل نفع الناس وخدمة الكون سلّما لمراقي مراتب جنة الآخرة. فخدمة المصالح العامة جزء من عبادة الله التي تبعدنا الله بها. فالمشاركة والمساهمة بل الريادة في المشاريع التنموية التي شمل نفعها لكل الناس من صميم روح الشريعة ومن أهم أعمال العبادة، فمن المهم مثلا أن يقدم المسلمون جهودهم في اختراع مصادر الطاقة المتجددة كطاقة الشمس المتوفرة في بلاد المسلمين. ومن المهم أيضا أن تتركز الجهود في مراكز تدريب الأعمال الحرة  لكيلا يعجز الشباب المسلم في حالة عدم الحصول على الوظيفة الشاغرة. فينشط ميدان العمل بمشاريع اقتصادية مستقلة تعتمد على القوى الشابة وتجنب الشباب شبح البطالة القاتلة. وهكذا، تنبعث روح العطاء الإسلامي إلى كل ميادين الحياة

مجالات جديدة

إن سنة تولد المشاريع الإسلامية الفريدة التي تنبثق من رغبة المسلمين في أداء حاجاتهم الدينية يجب أن تستمر في عصرنا الحاضر. إذا كان الوقف الإسلامي في السابق أحدث مجالات العمل وأنشأ آفاق العلوم واخترع الخدمات الصحية التي لم تعرفها البشرية قبل إنشائها في بلدان المسلمين، فينبغي أن يواصل مسلمو هذا العصر ذلك النهج الرائد الذي أثبت للتاريخ أن المسلمين هم أساتذة الحضارة المبنية على الإيمان الذي ربط عمارة الأرض بعبادة رب الأرض والسماء.

  • · مراكز دراسات دعوية ميدانية

من تلك المشاريع التي يحتاجها المسلمون اليوم هو إنشاء مراكز الدراسات الميدانية التي ترصد مجريات الواقع لخدمة الدعوة. إن الدعاة الإسلاميين اليوم يرون الواقع بنظر جزئي لايعتمد على الإحصائيات الدقيقة والمعلومات المتجددة. إن بعض الدعاة يخاطبون الناس كأنهم هم الذين عاشوا قبل مائة عام. والخطاب الدعوي السائد غالبا لا يراعي أن الناس تغيروا، ووظن بعض الدعاة أن نسبة التدين ثابتة في كل عصر. بل يرى كثير من الدعاة أن حالة الناس دائما تتجه إلى الأسوء، وأن الشر دائما في نمو، والخير دائما في ضمور، فيبث روح التشاؤم في الناس. وكان الأحرى للدعاة والمنظمات الدعوية أن يهتموا برصد تغيرات الناس فكريا وسلوكيا من خلال عمل الاستفتاءات الدورية، حتى يكون الدعاة على بينة من أمر الناس.

  • · تصميم الفن الإسلامي

من المجالات التي لا يتوقف نشاطها ويفتر إنتاجها وينتهي تجددها هو مجال الإنتاج الفني، وهو مجال يحتوي على مجالات متعددة، إلا أن المسلمين ما زالوا في معركة مع أنفسهم حيث الجدل القديم والخلاف المعروف فيما يحل ويحرم في هذا الباب. وهذا بدوره يؤدي إلى ضمور إنتاج المسلمين. كثير من المسلمون غفلوا أن مساحة ما اتفق عليه المسلمون من الفن الحلال أكبر بكثير من المساحة المحرمة والمشبوهة. وقد كان مسلمو الأندلس ومهندسوها تجاوزوا الخلاف في حرمة الصور غير المجسمة فأنشأوا القصور وزينوا المباني بطراز فني فريد فاق ذلك الفن الروماني المولع بالتصاوير والتماثيل. وكل من رأى مدينة إستنبول يعرف أن ما تركه الفن العثماني تفوّق على سابقه البيزينطي في ربوع تركيا. وفي الأزياء فقد شهد التاريخ تفنن المسلمين وإبداعاتهم في ملابسهم بدءا من الذوق المغربي وانتهاء إلى التفنن الآسيوي. وكله يلتزم بشرع الله يؤدي وظيفته من ستر العورة وحفظ المروءة.

  • · تصميم وتصنيع هاتف نقال إسلامي

إن عصر المعلومات وثورة الاتصالات قد طبعت على الناس نمطا جديدا، قد تبارت شركات النقال في جمع مختلف وسائل الحياة في هذا الجهاز الصغير، وقد نجحوا أيما نجاح. أصبح بإمكان التكنولوجيا الحديثة أن تختصر شتى مصالح الناس في قبضة اليد لا تفارقه في حضر ولا في سفر. وبما تتميز به حياة المسلم من مراعاة أوقات الصلاة ومعرفة اتجاه القبلة والحاجة إلى سماع القرآن أو قراءته وسماع الأحاديث والمواعظ الدينية في كل وقت إلى أشياء كثيرة يحتاجها المسلم كل يوم، فإنه بإمكان الهاتف النقال أن يوفر كل تلك الحاجات، وليس من الصعب أن يجتهد مستثمرون مسلمون أن يتبني فكرة الهاتف النقال الإسلامي، وخاصة أن الدول الإسلامية مثل ماليزيا وإندونيسيا تمتلك الإمكانات الفنية لمثل هذا المشروع. وقد بدأ هذا المشروع في إندونيسيا وكان شهر رمضان موسم تسويق مثل هذه الجوالات، إلا أن إنتاجها عالميا يحتاج إلى إمكانية أكبر ورغبة أوفر.

  • · خدمات السياحة الإسلامية

إن حاجة المسلمين في ترتيب السفرات الملتزمة بأحكام الدين الإسلامي ماسة في ظل اختلاط أماكن الفساد بأماكن المصالح العامة. والمسلمون لهم أغراض واحتياجات في سفراتهم، فالمسافرون لغرض التجارة يحتاجون إلى من يدلهم على تكاليف غير باهظة في سكناتهم وتنقلاتهم. والمسافرون لغرض السياحة يحتاجون إلى منتزهات مريحة لا تشوبها شوائب المعاصي. وتشجيع الناس لزيارة الأماكن التاريخية الإسلامية أيضا مصلحة من المصالح الدينية ما لم تقترن بالبدع والشرك. إن الخدمات التي تنظم مثل هذه الأغراض في سفرات المسلمين تجعل تحركات المسلمين مرتبة ومريحة أكثر وتأتي بالنتائج المرجوة بشكل أفضل.

  • · مساجد ومرافقها الاقتصادية

إن المساجد نقطة تمركز المسلمين في كل بلد. وكل مصلحة ترتبط بالمسجد تكون مظنة للبركة والفضل الإلهي. وكان المسلمون الأوائل يقيمون أسواقهم قريبا من مساجدهم. وكانت المدينة المنورة خير شاهد على حسن الجوار وشدة الترابط بين الحياة الاقتصادية في أسواق المدينة والروحانية العالية في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام. والجامع الأموي في سوريا يصدق هذا التوجه لدى المسلمين، ومثله صنعاء القديمة في اليمن وأيضا جامع الزيتونة في تونس، والرباط القديمة في المغرب أيضا تشهد تزاوجا قويا بين مساجدها وأسواقها. إن إقامة مرافق اقتصادية في جوار المسجد سنة ماضية لدى المسلمين حتى في مدن جنوب شرق آسيا التي تأخر دخول الإسلام فيها نسبيا عن بقية البلدان. فكل مدينة أنشأها المسلمون في تلك البلاد موحدة التصميم من حيث تمركزها على ميدان مربع يكتنفه مسجد في جهة وسوقا في جهة أخرى ومبنى حكومي في جهة ثالثة (غالبا يكون سكن عمدة المدينة أو قصره الملكي إذا كان ملكا) وبيوت الناس من ناحية رابعة. وهذا الربط يجعل حياة المسلمين ومصالحهم مقترنة بالجو من العبادة والالتزام الديني، وهو من أقوى العوامل على تثبيت جذور الدين في الحياة العامة. فالمفترض من المحسنين المتبرعين لبناء المساجد ألا يقصروا اهتمامهم على بناء مساجد للصلاة، فإن إنعاش شيء من النشاط الاقتصادي هو دأب المسلمون الأصلاء.

  • · برامج حماية الانترنت من الصور الخليعة المحرمة

ومن الحاجات الملحة لدى المسلمون اليوم أيضا صيانتهم من تلوث الصور الخليعة مع شدة حاجتهم إلى خدمة الإنترنت التي لا يستغني عنها كل من يمارس الحياة المواكبة لتطورات العصر. ولكن ينغص هناءة هذه الخدمة ما يبثه فاسدو الأخلاق من صور خليعة تزعج الإنسان وتفسد الإيمان. وكانت بعض الحكومات إسلامية وغير إسلامية تعمل على الحد من هذه الآفات، ولكن الحاجة إلى الحماية من تلك الصور فردية لدى كل مسلم غيور، ولا يوجد إلى الآن لحد علمي برنامج يمكن تشغيله في الكمبيوتر الشخصي يعمل على منع مثول هذه الصور أمام أعين المسلم الملتزم

  • · مجمعات سكنية قرآنية

رغبت شريحة من الأسر الجديدة بنت حياتها على حب الدين في بيئة تساعدهم على الحياة الروحية والاجتماعية الإسلامية. وإن بعض شركات العقارات قد لبت مثل هذه الرغبة فبنوا مجمعات سكنية وصفوها بالإسلامية. ولم تكسد سوق هذه المجمعات في ربوع وضواحي جاكرتا الإندونيسية، إلا أنها بقيت مشاريع صغيرة مقارنة بغيرها من المجمعات السكنية العادية. وإن كانت فكرة هذه السكنات بسيطة وهي عبارة عن المجمع السكني الذي يصمم طبقا لحاجات الأسرة المسلمة من تمركز المسجد للبيوت ووجود مؤسسة تعليمية إسلامية قريبة من المسجد، وزادت بعض المشاريع حتى اشترطوا على السكان بعدم ممارسات سلوكية مخلة بالأخلاق مثل التدخين والتسكع في الطرقات.


[1] الحج: 78

[2] الفرقان: 52

[3] أخرجه أحمد وابن ماجه وابن خزيمة في صحيحه وصححه الألباني

[4] أخرجه البخاري ومسلم وأحمد وأصحاب السنن إلا ابن ماجه

[5] زاد المعاد (3/9)

[6] سورة السجدة: 24

[7] زاد المعاد (3/10)

[8] زاد المعاد: 3/10

[9] الفرقان: 52

[10] التوبة: 73

[11] العنكبوت: 69

[12] المحرر الوجيز: 5/239

[13] العنكبوت: 6

[14] التحرير والتنوير: 11/33

[15] أخرجه البيهقي والطبراني في الكبير بسند جيد

[16] الجمعة: 10

[17] تفسير القرآن العظيم: 8/122-123

[18] البقرة: 198

[19] الجامع لأحكام القرآن: 1/175

[20] طه: 132

[21] الذاريات: 56-58

[22] أخرجه الترمذي وابن ماجه وأحمد والحاكم وابن حبان وصححه الألباني في السلسلة

[23] الأعراف: 96

[24] الموافقات 2/112

[25] سورة البقرة:22

[26] سورة إبراهيم: 32

[27] سورة إبراهيم: 34

[28] سورة النحل:10

[29] سورة يونس: 24

[30] سورة محمد: 36

[31] سورة العنكبوت: 64

[32] أخرجه مسلم (2/728 رقم 1052) ولفظه: “أخوف ما أخاف عليكم ما  يخرج الله لكم من زهرة الدنيا.”

[33] سورة الأعراف: 32

[34] سورة المؤمنون: 51

[35] الموافقات 2/112-113

[36] أخرجه البخاري (5/1949 رقم 4776) ومسلم (2/1020 رقم 1401)

[37] سورة التغابن: 15

[38] الموافقات 2/113-114

[39] الموافقات 2/114-115

[40] أخرجه الترمذي والطبراني في الكبير والدارقطني وصححه الألباني في إرواء الغليل

[41] أخرجه مسلم

الإعلان

One comment on “القرآن وتوليد المشاريع

  1. Benjamin Geer
    27 نوفمبر 2009

    أدعوكم إلى قراءة حوار مع المؤرخ جورج صليبا حول كتابه « العلم الإسلامي وصنع النهضة الأوروبية »، الذي يتناول فيه أسباب تطور العلم في الحضارة الإسلامية من وجهة نظر اجتماعية.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

معلومات

This entry was posted on 27 نوفمبر 2009 by in مقالات.

الابحار

%d مدونون معجبون بهذه: