تندرج تحت سنة الابتلاء بعض السنن يمكن اعتبارها فروعا أو تفصيلات لسنة الابتلاء. ومن تلك السنن الفرعية:
يعني أن الله تبارك وتعالى يداول أحوال الناس من شدة إلى رخاء، أو من رخاء إلى شدة، ومن نصر إلى هزيمة، أو العكس، من يسر إلى عسر، ومن عسر إلى يسر وهكذا، حتى يظهر مواقف الناس ويكشف بواطن ما في صدورهم.
وهذه السنة مستفادة من قول الله تعالى: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ).[1]
وقال ابن كثير: وتلك الأيام نداولها بين الناس أي نديل عليكم الأعداء تارة وإن كانت لكم العاقبة لما لنا في ذلك من الحكمة.[2]
إن العاقبة للمؤمنين والنصر موعود لهم، ولكن هناك حكمة تقتضي أن يذوق المؤمنون طعم الهزيمة.
ومداولة الأحوال لا يقتصر على تعاقب النصر والهزيمة فإن اختلاف الأحوال التي تمر بالإنسان كذلك يخدم هذا الهدف.
وقد قال بعض المفسرين أن معناه: نداولها بين الناس من فرح وغم وصحة وسقم وغنى وفقر.”[3]
ثم إن وعد الله بالنصر للمؤمنين لا يعني أن الأمر سيجري وفق هواهم وأن الثمرة ستأتي على أية حال. بل حكمة الله تقضي بأن تتربى تلك النفوس المؤمنة على تحمل مغبة الأخطاء، وأن تتعلم بأن المعصية تبعدهم عن رحمة الله وتوفيقه وعونه. فلم يكن من الصدفة أن يجد الإنسان فردا أو جماعة تغيرات أحوالهم، فإن وراء تلك الظواهر إرادة إلهية ذات حكمة بالغة ينبغي أن يعرفها الإنسان.
لنسمع من الأستاذ سيد قطب وهو يكشف تلك الأسرار من هذا التداول:
قال رحمه الله: “إن الشدة بعد الرخاء، والرخاء بعد الشدة، هما اللذان يكشفان عن معادن النفوس، وطبائع القلوب، ودرجة الغبش فيها والصفاء، ودرجة الهلع فيها والصبر، ودرجة الثقة فيها بالله أو القنوط، ودرجة الاستسلام فيها لقدر الله أو البرم فيه والجموح!
وعندئذ يتميز الصف ويتكشف عن: مؤمنين ومنافقين، ويظهر هؤلاء وهؤلاء على حقيقتهم، وتتكشف في دنيا الناس دخائل نفوسهم. ويزول عن الصف ذلك الداخل وتلك الخلخلة التي تنشأ من قلة التناسق بين أعضائه وأفراده، وهم مختلطون مبهمون!
والله سبحانه يعلم المؤمنين والمنافقين. والله سبحانه يعلم ما تنطوي عليه الصدور. ولكن الأحداث ومداولة الأيام بين الناس تكشف المخبوء، وتجعله واقعا في حياة الناس، وتحول الإيمان إلى عمل ظاهر، وتحول النفاق كذلك إلى تصرف ظاهر، ومن ثم يتعلق به الحساب والجزاء. فالله سبحانه لا يحاسب الناس على ما يعلمه من أمرهم ولكن يحاسبهم على وقوعه منهم.
ومداولة الأيام، وتعاقب الشدة والرخاء، محك لا يخطئ، وميزان لا يظلم. والرخاء في هذا كالشدة. وكم من نفوس تصبر للشدة وتتماسك، ولكنها تتراخى بالرخاء وتنحل. والنفس المؤمنة هي التي تصبر للضراء ولا تستخفها السراء، وتتجه إلى الله في الحالين، وتوقن أن ما أصابها من الخير والشر فبإذن الله.
وقد كان الله يربي هذه الجماعة –وهي في مطالع خطواتها لقيادة البشرية- فرباها بهذا الابتلاء بالشدة بعد الابتلاء بالرخاء، والابتلاء بالهزيمة المريرة، بعد الابتلاء بالنصر العجيب – وإن يكن هذا وهذه قد وقعا وفق أسبابهما ووفق سنن الله الجارية في النصر والهزيمة. لتتعلم هذه الجماعة أسباب النصر والهزيمة. ولتزيد طاعة لله، وتوكلا عليه، والتصاقا بركنه، ولتعرف طبيعة هذا المنهج وتكاليفه معرفة اليقين.”[4]
من السنن التي تتفرع على سنة الابتلاء هو التدافع بين الحق والباطل. فإن الله أراد لهذه الحياة الدنيا أن تكون مسرحا للصراع بين أنصار الحق وأنصار الباطل، بين قوى الخير وقوى الشر. (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ)[5]. وقال تعالى: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً).[6]
والتدافع بين الحق والباطل أي بين أصحابهما أمر لا بد منه وحتمي لأنهما ضدان، والضدان لا يجتمعان، ولأن تطبيق أحدهما يستلزم مزاحمة الآخر وطرده ودفعه وإزالته، أو في الأقل إضعافه ومنعه من أن يكون له تأثير في واقع الحياة. فلا يتصور إذن أن يعيش الحق والباطل في سلم من دون غلبة أحدهما على الآخر إلا لعلة كضعف أصحابهما أو جهلهما بمعاني الحق والباطل ومقتضيات ولوازم هذه المعاني أو ضعف تأثير هذه المعاني فيهم.[7]
ضرب الله مثلا لهذه الحقيقة الثابتة بقوله تعالى: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ)[8].
قال القرطبي رحمه الله: “ضرب مثلا للحق والباطل فشبه الكفر بالزبد الذي يعلو الماء فإنه يضمحل ويعلق بجنبات الأودية وتدفعه الرياح، فكذلك يذهب الكفر ويضمحل”.[9]
وقال ابن كثير رحمه الله: “اشتملت هذه الآية الكريمة على مثلين مضروبين للحق في ثباته وبقائه والباطل في اضمحلاله وفنائه.”[10]
فقال تعالى: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً) أي مطرا (فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا) أي أخذ كل واد بحسبه، فهذا كبير وسع كثيرا من الماء، وهذا صغير وسع بقدره. (فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً) أي فجاء على وجه الماء الذي سال في هذه الأودية زبد عال عليه. هذا مثل.
وقوله (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ) الآية هذا هو المثل الثاني، وهو ما يسبك في النار من ذهب أو فضة، (ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ) أي ليجعل حلية أو نحاسا أو حديدا فيجعل متاعا، فإنه يعلوه زبد منه كما يعلو ذلك زبد منه. (كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ) أي إذا اجتمعا لا ثبات للباطل ولا دوام له، كما أن الزبد لا يثبت مع الماء ولا مع الذهب والفضة ونحوهما مما يسبك في النار. بل يذهب ويضمحل. ولهذا قال: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً) أي لا ينتفع به بل يتفرق ويتمزق ويذهب في جانبي الوادي ويعلق بالشجر وتنسفه الرياح. وكذلك خبث الذهب والفضة والحديد والنحاس يذهب ولا يرجع منه شيء، ولا يبقى إلا الماء. وذلك الذهب ونحوه ينتفع به. ولهذا قال: (وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ) كقوله تعالى (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ)[11].[12]
قال سيد قطب رحمه الله: ذلك مثل الحق والباطل في هذه الحياة. فالباطل يطفو ويعلو وينتفخ ويبدو رابيا طافيا ولكنه زبد أو خبث، ما يلبث أن يذهب جفاء مطروحا لا حقيقة له ولا تماسك فيه. والحق يظل هادئا ساكنا. وربما يحسبه بعضهم قد انزوى أو غار أو ضاع أو مات. ولكنه هو الباقي في الأرض كالماء المحيي والمعدن الصريح، ينفع الناس. “كذلك يضرب الله الأمثال” وكذلك يقرر مصائر الدعوات، ومصائر الاعتقادات. ومصائر الأعمال والأقوال.[13]
إن الحق ثابت وباق، قضى على الباطل بالزوال، قال تعالى: (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً)[14]، وقال تعالى: (قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ)[15].
ولكن هذه الدار دار ابتلاء، فإن الله مكن لأهل الباطل أن يكون لهم جولة وصولة فترة من الزمن على أهل الحق لأسباب: (لِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ)[16] وكذلك (وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا) وفي الأخير (وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ).[17]
وهذا هو شأن الباطل وقوته، تطغيه هذه القوة فتدفعه إلى إزاحة الحق وأهله ولو بالقوة. قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ)[18]
ولهذا أمر الله تعالى أهل الحق بإعداد القوة لإرهاب أهل الباطل ومنعهم من التحرش بأهل الحق، قال تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ)[19].
وقضت سنة الله تعالى في تدافع الحق والباطل أن الغلبة للحق وأهله، وأن الاندحار والمحق للباطل وأهله، قال تعالى: (وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ).[20]
[1] سورة آل عمران:140
[2] تفسير القرآن العظيم (1/409)
[3] الجامع لأحكام القرآن (4/218)
[4] في ظلال القرآن (1/481)
[5] سورة الانبياء: 35
[6] سورة الفرقان: 20
[7] السنن الإلهية ص46
[8] سورة الرعد:17
[9] الجامع لأحكام القرآن (9/304)
[10] تفسير القرآن العظيم (2/509)
[11] سورة العنكبوت:43
[12] تفسير القرآن العظيم (2/509-510)
[13] في ظلال القرآن (4/2054)
[14] سورة الاسراء:81
[15] سورة سـبأ:49
[16] سورة آل عمران: 140
[17] سورة آل عمران:141
[18] سورة الأنفال: 36
[19] سورة الأنفال:60
[20] سورة الشورى: 24