آفاق المستقبل

تصحيح مفاهيم وتكوين رؤى

وسائل استشراف المستقبل-1

توطئة

إن الدخول في هذا الموضوع سيطلعنا على عظمة هذا الدين وهي تظهر بقوة وجلاء، وتتجلى طبيعة هذا الدين كخاتم الرسالات بشكل يدعو للإعجاب، مما يؤكد أن هذا الدين من عند الله العليم الحكيم. ولا يعرف أن هناك منظومة معرفية إنسانية في شأن المستقبل بلغت من الكمال والرصانة ما بلغه هذا الدين. منهجية كاملة في وضوح متناهٍ، وأخبار صادقة يشهدها التاريخ والتجارب. إعجاز منهجي وإعجاز تاريخي.

وباستقراء نصوص القرآن والسنة نستطيع أن نكتشف أن الإسلام وضع وسائل متعددة لاستشراف مستقبل الإنسان فردا ومجموعا، منها وسائل أساسية حث على استخدامها ويمكن توظيفها في كل الحالات ولكل إنسان له فهم جيد للنصوص وقدرة عقلية مؤهلة لتحليل الواقع، ومنها وسائل مساعدة يمكن استعمالها لمن هيأ الله له حالات معينة خص بها بعض الناس دون بعض. ودل الإسلام أيضا على وسائل أضلت البشر وأضاعت جهودهم وأعمت بصائرهم، ظن كثير من الناس أنها تكشف الحقائق بسهولة ويسر مع أنها تخبط وضلال.

والوسائل الأساسية التي تعتمد عليها عملية استشراف المستقبل تتلخص في شيئين: النظر في السنن الجارية التي تسير عليها الحياة ويجري على قانونها الكون، والثاني الأخبار الصريحة التي وردت في القرآن والسنة في أحداث المستقبل من وقت نزول الوحي إلى أن تقوم الساعة. ثم السنن التي حث الإسلام على ملاحظتها نوعان، سنن مقررة في النصوص كشف عنها القرآن بصريح العبارة، وسنن مستخرجة من التجارب دل القرآن والسنة عليها عن طريق الإشارة.

ثم هناك أشياء لم يكن بوسع كل أحد استخدامها في كل الظروف مثل الرؤيا والفراسة، فإن هذه الأشياء مع ما فيها من إشكالية عقلية وخلاف نظري لا بد أن تراعى فيها شروطها الشرعية في صحة اعتبارها وحدود استعمالها. وكذلك مثل صلاة الاستخارة والفأل، لا يستخدم إلا في حالات مخصوصة وقضايا خاصة وإن كانت لها علاقة في الشؤون العامة في بعض الأحيان، ولوكان أصل استعمالها شخصيا. فهذه الأشياء كلها تساعد الإنسان في استشراف مستقبله ولا تكون أساسية لاعتبارات سابقة وإن كانت معتمدة شرعا إذا استوفت شروطها -التي ستأتي تفاصيلها في هذا الباب- علما بأن نصوص القرآن والسنة دلت عليها وشواهد عملية أكدت صحتها.

ثم الشرع الحكيم حرم أشياء استعملها كثير من الناس في محاولة كشف ستار المستقبل ظنا منهم أنها صادقة صحيحة وهي تلبيسات وأوهام. نهى عنها الشارع من كونها اعتمادا على السحر والاستعانة بالجن، ومن كونها خرافة وتخمينا ووهما لا تستند إلى الحقيقة العلمية في شيء.

ويقتصر البحث في هذا الباب على وسائل معرفية للتعرف على المستقبل وسنتكلم عن  وسائل عملية لصياغة المستقبل في فصول مستقلة بإذن الله.

وسائل أساسية لاستشراف المستقبل

تحت هذا الفصل مباحث مهمة وموضوعات عظيمة يحتاجها كل مسلم بل كل إنسان يريد أن يعيش على بصيرة. إنه من نعم الله العظيمة على هذه الأمة أن أودع في كتابه العظيم تبيان كل شيء ومفاتح كل خير ومنافذ كل المعارف. فسبحان القائل: (الرَّحْمَنُ . عَلَّمَ الْقُرْآنَ . خَلَقَ الْأِنْسَان . عَلَّمَهُ الْبَيَانَ)[1]. ولقد امتن الله في سورة الامتنان أول ما امتن بتعليم القرآن. كما امتن الله على خليله وسيد صفوة عباده بالسبع المثاني والقرآن العظيم ونهى عن التطلع إلى ما سوى ذلك من النعم الزائلة التي رُزقها المترفون: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيم . لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ)[2]، فلا يتطلع أصحاب القرآن إلى ما دون ذلك من البهرجة الزائفة والزخرفة الزائلة، فقد أعطوا خيرا عظيما.

فنحن أمام منحة ربانية عظيمة حبا الله بها عباده المؤمنين، هي هذا المنهج العظيم الذي اختص الله به أمة محمد صلى الله عليه وسلم. إن القرآن كشف لنا مسار الحياة الإنسانية لأي اتجاه تسير، وعلى أي نظام تكون، وعلى أية مقدمات تترتب النتائج. وضح أنواع التحديات وكيفية التغلب عليها، إلى آخر ما سنتوصل إليه من قوانين الحياة التي سنتعرف عليها في هذا الفصل إن شاء الله.

النظر إلى سنن الحياة

إن هذا الكون محكوم بنظام يحدد حركات الأشياء ويضبط تغيرات الأمور، نظام يصدر من رب هذا الكون وخالقه. وكل ما فيه ومن فيه وما يصدر عن هذه الموجودات وما يتعلق بها وما يحل فيها وما يقع من حوادث، كل ذلك إنما يقع ويحدث وفق قانون عام دقيق ثابت صارم لا يخرج عن أحكامه شيء.

وهذا القانون له وجهان: (الوجه الأول) هو الجانب المادي الذي تخضع له كل الكائنات في وجودها المادي وجميع الحوادث المادية، ويخضع له كيان الإنسان المادي وما يطرأ عليه مثل نموه وحركة أعضائه ومرضه وهرمه ولوازم بقائه حيا ونحو ذلك. وهذا الوجه لا يختلف في وجوده أهل العلم بهذه الأمور المادية ولا يختلفون في خضوع الكون له. وقد دل القرآن على هذا الوجه من هذا القانون العام في آيات كثيرة، أكد عليه ولفت الأنظار إليه ليدل على ربوبية الله تعالى وتنمية الإيمان بالله واليوم الآخر.[3]

و(الوجه الثاني) من هذا القانون العام فهو الجانب الاجتماعي الذي يتعلق بخضوع البشر له باعتبارهم أفرادا وأمما وجماعات، تخضع لهذا القانون تصرفات البشر وسلوكهم في الحياة وما يكونون عليه من أحوال وما يترتب على ذلك من نتائج كالرفاهية أو ضيق العيش، والسعادة والشقاء، والعز والذل، والرقي والتأخر، والقوة والضعف، ونحو ذلك من الأمور الاجتماعية في الدنيا وما يصيبهم في الآخرة من عذاب أو نعيم.[4] وهذا هو الذي يعنينا في بحثنا الآن.

وهذا الوجه من القانون هو الذي عبر عنه القرآن بـ”السنة”. وقد دل القرآن على ثباتها واطرادها، قال تعالى (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً)[5]، وقال تعالى (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً)[6].

قال سيد قطب رحمه الله: “والأمور لا تمضي في الناس جزافا، والحياة لا تجري في الأرض عبثا؛ فهناك نواميس ثابة تتحقق، لا تتبدل ولا تتحول . والقرآن يقرر هذه الحقيقة ، ويعلمها للناس، كي لا ينظروا الأحداث فرادى، ولا يعيشوا الحياة غافلين عن سننها الأصيلة، محصورين في فترة قصيرة من الزمان، وحيز محدود من المكان. ويرفعوا تصورهم لارتباطات الحياة، وسنن الوجود، فيوجههم دائما إلى ثبات السنن واطراد النواميس. ويوجه أنظارهم إلى مصداق هذا فيما وقع للأجيال قبلهم؛ ودلالة ذلك الماضي على ثبات السنن واطراد النواميس.”[7]

وقال في موضع آخر: “والله يقول الحق ؛ ويعلم ماذا كان ، ولماذا كان . ويقص على عبيده – رحمة منه وفضلا – جانبا من أسرار سنته وقدره ؛ ليأخذوا حذرهم ويتعظوا ؛ وليدركوا كذلك ما وراء الواقع التاريخي من عوامل كامنة وأسباب ظاهرة ؛ يفسرون بها هذا الواقع التاريخي تفسيرا كاملا صحيحا . ومن وراء هذه المعرفة يمكن أن يتوقعوا ما سيكون ، استنادا إلى سنة الله التي لا تتبدل . . هذه السنة التي يكشف الله لهم عنها . . “[8]

وهذه السنن التي يخضع لها مسار حياة الناس نوعان؛ نوع قرره القرآن لفت الأنظار له ونبه عليه بصريح العبارة، ونوع آخر مستفاد من ملاحظة التجارب وشواهد الواقع لا يدل عليه القرآن إلا عن طريق الإشارة.

فهذه السنن كلها كما أنها ضبطت تاريخ الإنسانية في الماضي فهي كذلك تحدد مسار الإنسانية في المستقبل، أفرادا وأمما وجماعات.

وللحديث بقية


[1] سورة الرحمن: 1-4

[2] سورة الحجر: 87 – 88

[3] انظر السنن الإلهية في الأمم والجماعات والأفراد في الشريعة الإسلامية، د. عبد الكريم زيدان ص7 – 11.

[4] السنن الإلهية ص12

[5] سورة الأحزاب:62

[6] سورة فاطر: 43

[7] في ظلال القرآن 5/2949-2950

[8] في ظلال القرآن (2/1089)

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

معلومات

This entry was posted on 21 جويلية 2009 by in مقالات.

الابحار

%d مدونون معجبون بهذه: