2- أخبار محذِّرة
إن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر عن وقوع الفتن والبلايا التي ستصيب المسلمين ليس لغرض تيئيسهم وإقناطهم من رحمة الله. كلا! وألف كلا! إن الفتنة والابتلاء سنة ثابتة في حياة الناس أفرادا وجماعات. فإخبار الرسول صلى الله عليه وسلم بالفتن ليس أكثر من تحذير أمته من شرورها وتحاشي الوقوع فيها.
إن نظام الحياة للإنسان مبني على المخاطرة. والفرص والتحديات كلاهما قائم. وخيارات الخير والشر مفتوحة للإنسان. وهكذا يكون الاختبار. والإسلام لم ينزل إلا لهداية الناس، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يرسل إلا رحمة للعالمين. والرب واحد، ورحمته وسعت كل شيء. فالرحيم في عهد الرسول والصحابة هو الرحيم في كل زمان ومكان. وسنته تعالى ثابتة لا تتغير. فوقوع المصيبة في كل زمان ومكان بسبب الذنوب وخلاصها يكون بالتوبة. والعقوبة لكل عاص، والنجاة لكل تائب. وشدة البلاء لأولياء الله في كل زمان ومكان، وطريق النجاة هو اللجوء إلى الله والتمسك بحبل الله تعالى. والرب واحد. والرحمة صفة ثابتة له سبحانه، فهو الرحيم في القرون المفضلة، ووهو الرحيم في العصور المتأخرة.
وعلى هذا الفهم نتناول أحاديث الفتن وأشراط الساعة.
وقوع الفتن كمواقع القطر
من هذه الأخبار ما روي عن أسامة أن النبي صلى الله عليه وسلم أشرف على أطم من آطام المدينة، ثم قال: “هل ترون ما أرى؟ إني لأرى مواقع الفتن خلال بيوتكم كمواقع القطر”.[1]
قال النووي: “(الأطم) بضم الهمزة والطاء هو القصر والحصن، وجمعه آطام. ومعنى (أشرف) علا وارتفع. والتشبيه بمواقع القطر فى الكثرة والعموم، أى أنها كثيرة، وتعم الناس، لاتختص بها طائفة.”[2]
إن هذا توطئة نفسية وضعها الرسول صلى الله عليه وسلم للصحابة رضوان الله عليهم حتى يتهيؤوا نفسيا لما سيلقون من الاختبار الصعب.
“وهذا إشارة الى الحروب الجارية بينهم، كوقعة الجمل وصفين والحرة ومقتل عثمان ومقتل الحسين رضى الله عنهما وغير ذلك. وفيه معجزة ظاهرة له صلى الله عليه وسلم.”[3]
وقال ابن حجر: “إنما اختصت المدينة بذلك لأن قتل عثمان رضي الله عنه كان بها، ثم انتشرت الفتن في البلاد بعد ذلك. فالقتال بالجمل وبصفين كان بسبب قتل عثمان. والقتال بالنهروان كان بسبب التحكيم بصفين. وكل قتال وقع في ذلك العصر إنما تولد عن شيء من ذلك، أو عن شيء تولد عنه. ثم إن قتل عثمان كان أشد أسبابه الطعن على أمراءه ثم عليه بتوليته لهم. وأول ما نشأ ذلك من العراق وهي من جهة المشرق. فلا منافاة بين حديث الباب وبين الحديث الآتي “إن الفتنة من قبل المشرق”. وحسن التشبيه بالمطر لإرادة التعميم. لأنه إذا وقع في أرض معينة عمها، ولو في بعض جهاتها.
قال ابن بطال[4]: أنذر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث زينب بقرب قيام الساعة كي يتوبوا قبل أن تهجم عليهم.
وقد ثبت أن خروج يأجوج ومأجوج قرب قيام الساعة. فإذا فتح من ردمهم ذاك القدر في زمنه صلى الله عليه وسلم لم يزل الفتح يتسع على مر الأوقات. وقد جاء في حديث أبي هريرة رفعه: “ويل للعرب من شر قد اقترب, موتوا إن استطعتم.”[5] قال: وهذا غاية في التحذير من الفتن والخوض فيها، حيث جعل الموت خيرا من مباشرتها. وأخبر في حديث أسامة بوقوع الفتن خلال البيوت ليتأهبوا لها، فلا يخوضوا فيها. ويسألوا الله الصبر والنجاة من شرها.”[6]
وقوع الهلاك إذا كثر الخبيث
ومن الأخبار التي تحذر الأمة من المخاطر ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من الهلاك العام إذا عم الفساد.
عن زينب بنت جحش رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزعا، يقول: “لا إله إلا الله، ويل للعرب، من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه.” وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها. قالت زينب بنت جحش: فقلت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: “نعم إذا كثر الخبث”.[7]
والمراد بالخبث هو المعاصي عموما كما رجحه الإمام النووي.[8] “ومعنى الحديث: أن الخبث اذا كثر فقد يحصل الهلاك العام، وإن كان هناك صالحون.”[9]
ويأجوج ومأجوج قوم من بني آدم من ذرية يافث بن نوح كما رجحه كثير من العلماء وقيل هم من الترك وقيل من الديلم. وقيل إنهم لم يولدوا من آدم وحواء وهو أبعد الأقوال وأضعفها. إذ كل الناس تفنى غير ما حملهم الله على سفينة نوح، فلم يبق على وجه الأرض من البشر إلا نوح وأتباعه. والله أعلم.[10]
“وقوله (ويل للعرب من شر قد اقترب) خص العرب بذلك لأنهم كانوا حينئذ معظم من أسلم. والمراد بالشر: ما وقع بعده من قتل عثمان، ثم توالت الفتن حتى صارت العرب بين الأمم كالقصعة بين الأكلة. كما وقع في الحديث الآخر: “يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها.” وإن المخاطب بذلك العرب. قال القرطبي: ويحتمل ان يكون المراد بالشر ما أشار اليه في حديث أم سلمة: “ماذا أنزل الليلة من الفتن؟! وماذا أنزل من الخزائن؟!” فأشار بذلك إلى الفتوح التي حصلت بعده، فكثرت الأموال في أيديهم، فوقع التنافس الذي جر الفتن. وكذلك التنافس على الإمرة، فإن معظم ما أنكروه على عثمان تولية أقاربه من بني أمية وغيرهم، حتى أفضى ذلك إلى قتله، وترتب على قتله من القتال بين المسلمين ما اشتهر واستمر.
قوله (فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج) المراد بالردم: السد الذي بناه ذو القرنين.
قوله (مثل هذا وحلق بأصبعيه الإبهام والتي تليها) أي جعلهما مثل الحلقة.
قوله: (وفينا الصالحون) كأنها أخذت ذلك من قوله تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ)[11] قوله (قال: نعم إذا كثر الخَبَث) بفتح المعجمة والموحدة ثم مثلثة، فسروه بالزنا وبأولاد الزنا، وبالفسوق والفجور وهو أولى لأنه قابله بالصلاح.”[12]
ويشهد لما تقدم حديث ابن عمر رضي الله عنهما يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا أنزل الله بقوم عذابا، أصاب العذاب من كان فيهم، ثم بعثوا على أعمالهم.”[13]
قال ابن حجر: “الذي يناسب كلامه الأخير –أي كلام ابن بطال أن سبب إهلاك الجميع هو ظهور المنكر والإعلان بالمعاصي- حديث أبي بكر الصديق سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب.”[14]
وهذا هو الحكم في الدنيا، أما في الآخرة فكل يبعث على عمله الخاص.
ويشهد لذلك حديث عائشة مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: “أن ناسا من أمتي يؤمون هذا البيت، حتى إذا كانوا بالبيداء خسف بهم.
فقلنا: يا رسول الله إن الطريق قد تجمع الناس.
قال: نعم، فيهم المستبصر والمجبور وابن السبيل، يهلكون مهلكا واحدا، ويصدرون مصادر شتى، يبعثهم الله على نياتهم.[15]
ومثل ذلك حديث أم سلمة ولفظه: فقلت: يا رسول الله فكيف بمن كان كارها؟
قال: يخسف به معهم ولكنه يبعث يوم القيامة على نيته.[16]
قال ابن حجر: وجنح ابن أبي جمرة إلى أن الذين يقع لهم ذلك إنما يقع بسبب سكوتهم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وأما من أمر ونهى فهم المؤمنون حقا لا يرسل الله عليهم العذاب، بل يدفع بهم العذاب.[17] ويؤيده قوله تعالى (وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ)[18] وقوله تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)[19]. ويدل على تعميم العذاب لمن لم ينه عن المنكر وإن لم يتعاطاه قوله تعالى (فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ)[20].[21]
قال ابن حجر رحمه الله: “ويستفاد من هذا مشروعية الهرب من الكفار ومن الظلمة، لأن الإقامة معهم من إلقاء النفس الى التهلكة. هذا إذا لم يُعِنهم ولم يرض بأفعالهم. فإن أعان أو رضي فهو منهم، ويؤيده أمره صلى الله عليه وسلم بالإسراع في الخروج من أرض ثمود.”[22]
ويشير الحديث إلى مبدأ المسؤولية الجماعية في الدنيا والمسؤولية الفردية في الآخرة. قال ابن حجر: وأما بعثهم على أعمالهم فحكم عدل لأن أعمالهم الصالحة إنما يجازون بها في الآخرة. وأما في الدنيا فمهما أصابهم من بلاء كان تكفيرا لما قدموه من عمل سيء فكان العذاب في الدنيا على الذي ظلموا يتناول من كان معهم ولم ينكر عليهم، فكان ذلك جزاء لهم على مداهنتهم. ثم يوم القيامة يبعث كل منهم فيجازى بعمله.[23]
فيه الحث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال ابن حجر: “وفي الحديث تحذير وتخويف عظيم لمن سكت عن النهي. فكيف بمن داهن؟ فكيف بمن رضي؟ فكيف بمن عاون؟ نسأل الله السلامة.”[24]
[1] أخرجه البخاري (2/664 رقم 1779، 2/871 رقم 2335، 3/13173402) ومسلم (4/2211 رقم 2885) كلاهما عن أسامة بن زيد وروى البخاري عن أم سلمة (6/2589 رقم 6651) في كتاب الفتن بلفظ: كوقع القطر.
[2] شرح النووي على صحيح مسلم (18/7-8)
[3] شرح النووي على صحيح مسلم (18/7-8)
[4] شارح الصحيح أبو الحسن علي بن خلف بن بطال القرطبي توفي في صفر سنة 449هـ (سير أعلام النبلا ء 18/63، شذرات الذهب 2/283)
[5] أخرجه الحاكم (4/486 رقم 8357)
[6] فتح الباري (13/12-13)
[7] أخرجه البخاري (3/1221 رقم 3168، 3/1317 رقم 3403، 6/2689 رقم 6650، 6/2609 رقم 6716) ومسلم (4/2207 رقم 2880)
[8] انظر شرح النووي (18/2-4)
[9] المصدر السابق
[10] قتح الباري (13/106)
[11] سورة الأنفال: من الآية33
[12] قتح الباري (13/106-109) مختصرا
[13] أخرجه البخاري (6/2602 رقم 6691) ومسلم (4/2206 رقم 2879)
[14] أخرجه ابن حبان (1/540 رقم 305) أبو داود (4/122 رقم 4338) والترمذي (4/467 رقم 2168) والنسائي في الكبرى (6/338 رقم 1157) وابن ماجه (2/1327 رقم 4005) وقال الترمذي: هذا حديث صحيح.
[15] أخرجه مسلم (4/2210 رقم 2884)
[16] أخرجه مسلم (4/2208 رقم 2882)
[17] راجع الكلام عن سنة ربط صلاح الجماعة بصلاح الأفراد ص230
[18] سورة القصص: 59
[19] سورة الأنفال:33
[20] سورة النساء: 140
[21] فتح الباري (13/61)
[22] المصدر السابق
[23] المصدر السابق
[24] المصدر السابق