آفاق المستقبل

تصحيح مفاهيم وتكوين رؤى

نحن والمستقبل

إن حاجة الأمة إلى بناء رؤية مستقبلية مكتملة واضحة المعالم، صادقة الدلالة، ملحة جدا. في حين أننا –على حسب علمي- لم نعثر على دراسة مؤصلة منهجية في تنظير هذه المسألة. إن إبراز جانب الاهتمام بالمستقبل في القرآن والسنة سيدفعنا إلى إعادة النظر في خطواتنا السابقة المبنية على الارتجال وردود الأفعال. إن هدي الكتاب الكريم والسنة المطهرة سيعلِّمنا كيف نسلك طريقنا إلى ريادة الأمم عبر توجيهات مُفصَّلة في القضايا المستقبلية.

إن الصيحات المتعالية بالمطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية تعتبر مؤشرا قويا بأن هذه الأمة ما زالت تحتفظ بنبضات قوية في قلبها. وليس هذا بالمستغرب فالصمود الدائم والعطاء المستمر من طبيعة هذا الدين الذاتية. فحين أعلن الله أن هذه الرسالة هي الرسالة الخاتمة وأنها لكافة الناس يعني ذلك أن الله أودع في هذه الرسالة عوامل البقاء وأسباب الصمود أمام التهديدات المناهضة لها. ومن ناحية أخرى فكون هذه الرسالة خاتمة الرسالات يعني أنها ستكون صالحة لكل ما تمر به البشرية من مراحلها التاريخية اللاحقة وستكون قادرة على حل كل ما تعتري الإنسانية من مشاكل.

غير أن الوعي المكافئ للقضية لا يزال منقوصا يحتاج إلى “التصعيد”. لأن جوهر المسألة ليس فقط في إحلال نظام محل نظام، ولا في إبدال حكم بحكم. لأن الإسلام منهج حياة كاملة، وصياغة لحياة الإنسان بكل أبعادها وبكافة مرافقها. فمن السذاجة غير المقبولة أن نتصور أن يقام نظام بدون سائر مقومات الحياة الأخرى. فعلى جيل الصحوة أن يرمي بفكرة “التلقائية (الأتوماتكية)” عرض الحائط. وليس من المجانبة للحقيقة أن نقول إن فكرة التلقائية هذه تتبناها كثير من التيارات الموجودة في الساحة –وإن اختلفت في الأشكال- فهم يشتركون في تصور أن إصلاح جانب من جوانب الحياة يؤدي بصورة تلقائية (أتوماتكية) إلى صلاح الحياة كاملة.

فبعضهم يعتقد أن مجرد إسلامية الحكم ستغير وجه الإنسانية كلية ويضبط حياة الناس ضبطا. وغيرهم يؤمن بأن إرساء العقيدة الصحيحة في قلوب الناس كفيل بصلاح البشر جميعا في هذه الدنيا. والبعض الآخر يتصور أن تعليم الناس العلوم الإسلامية يضمن انطلاقا مستمرا نحو الهدف المنشود. وتيار آخر يقول إن دعوة الناس إلى الصلاة والذكر والآداب الإسلامية هي كل ما يطالب به الإسلام.

ليس واحد من تلك التصورات والمواقف ما يصح أن يحكم عليه بالخطأ الصرف، إلا أن الوعي المطلوب المغطِّي لأبعاد القضية لابد أن يشمل كل مقومات الحياة  الإنسانية المعاصرة وأن يستوعب آلية التغيير المطلوبة. فنحن ندعو إلى أن تتكامل تلك التصورات وأن تتعاضد كل تلك الاتجاهات وتكون الأمة بأسرها يدا واحدة على من سواهم. لأننا نواجه واقعا معقدا ضاربا في التعقيد. والحياة الجاهلية المناهضة للإسلام قد سبق أن فرضت وجودها على كل مكونات الحضارة الراهنة. فلابد أن نقابل ثقافة بثقافة وعلما بعلم وفنا بفن أدبا بأدب قبل أن نقارع نظاما بنظام.

والمواجهة لن تكون مكللة بالنجاح إذا لم يثبت لصاحبها التفوق بعد المفاضلة، وما يعبر عنه بتقديم البدائل الإسلامية. وذلك مع الاحتراز مما قد يتصور أن عملية تقديم البديل ستتم على صورة “مشاكلة” كما وقع من البعض. فيأتي على كل مظاهر الحياة المعاصرة فيضفون عليها “بلمسة إسلامية”. حسن هذا وجميل بل ضروري إلى حد كبير ولكن المحذور في هذا أن يكون الأمر لا يتجاوز دائرة رد فعل غير مدروس أو مجرد محاكاة لأنماط حياة غربية بإصلاحات ترقيعية. الأمر الذي يبعدنا –على المدى البعيد- عن أصالتنا الإسلامية.

وذلك لأن الإسلام له تطلعات مستقبلية خاصة تختلف عن دواعي “التقدم” الحضاري الغربي. بينما أن محور الحياة الغربية هو الإنسان والغاية لديهم إنما هي رفاهية الحياة، جاء الإسلام بفلسفة أرقى وتطلعات أسمى. فمحور الحضارة الإسلامية هو الله الواحد القهار، والغاية هي إرضاء العزيز الغفار. ومن المعلوم أن مرافق الحياة الراهنة لم تأت إلا استجابة لتطلعات الإنسان المعاصر الغربي في الأساس.

ففي بداية الأمر، عملية تسخير هذه الوسائل لخدمة الإسلام لا يمثل كبير ضرر؛ إلا أن الاستمرار على هذا الشكل من الإصلاح يمثل خطورة قصوى في سلامة سير الصحوة. لأن ذلك سيجعل المسلمين دائما أذيالا، وعيالا على إنجاز الآخرين. ومهمة قيادة البشرية تتنافى مع هذا الموقع المزري.

ولم يبرح تفكير كثير من المسلمين اليوم وهمومه يدور في المحاولة لمواكبة العصر، وهذا من أسباب القصور الواقع. لأن المفروض على جيل الصحوة أن يفكر في صياغة المستقبل ومسابقة العصر ليس فقط مواكبته ومسايرته. بل نسبقه برؤية واضحة ونصوغ المستقبل بخطة محكمة. وليس هذا معارضة للأقدار ولا إنكارا لمبدأ الإيمان بالقدر والتسليم له. لأن إيماننا بالقدر لا يدعونا إلى التقاعس عن العبادة وعمل الخير، بل هو كما قال عبد القادر الجيلاني[1] رحمه الله: “ننازع أقدار الحق بالحق للحق.”[2] فحين نطالب بالتسليم بالأقدار المحتومة لا يعني ذلك ركودا واستسلاما أمام مغيبات مستقبلية. وهو كما قال عمر الفاروق[3] رضي الله عنه: “نفر من قدر الله إلى قدر الله”[4]. إنما هي عملية إيجابية مع الإيمان بعلم الله السابق وقدرة الله الشاملة.

والله سبحانه وتعالى لا يخفي عن الإنسان سننه في الكون. فبدراسة هذه السنن يتمكن الإنسان من صياغة مستقبله ومسابقة عصره. ثم صياغة المستقبل –حتى تكون استجابة حقيقية لتطلعات الشرع الحكيم- لابد أن تُسبَق بعملية استلهام نصوص الشرع ليستخرج منها نمط الحياة الإسلامي المنشود بصورة مكتملة أو شبه مكتملة. ولا يضر أن يصدر من ذلك عدة تصورات مختلفة ما دامت كل تلك التصورات ناتجة عن قصد ترجمة عملية لمُثُل إسلامية أصيلة. وسيكون القاسم المشترك الناتج عن تلك العملية كافيا لمواصلة السير ورسم خطوات عملية مشتركة.

إن الأمة الإسلامية تحتاج إلى استقلالية في تطلعاتها المستقبلية ومن ثم ينتهجون طريقهم منطلقين من عقيدتهم، مؤدين رسالتهم في الوجود دونما التفات متردد أو محاكاة مقلد. إن توظيف المنظومة العقدية الفكرية لبناء الرؤية المستقبلية لهو الأمر الذي يضمن سلامة سير الأمة الحضاري. إننا بجانب شكوانا من ردود الأفعال غير المدروسة نشكو أيضا من عقلية المحاكاة والتقليد لما أنتجه وما وصل إليه غير المسلمين.

وليس من الحكمة أيضا أن نحصر وظيفة الفقه فقط في إجابات على أشياء حصلت وسبقت. بل يجب أن يكون فقهنا أيضا موجِّها للخطوات القادمة المبنية على تطلعاتنا الأصيلة. والقرآن والسنة أخصب مصدر لاستلهام الأفكار وإيقاد الأنوار.


[1] الشيخ عبد القادر بن أبي صالح بن عبد الله بن جنكى دوست بن أبي عبد الله  عبد الله بن يحيى بن محمد بن داود بن موسى الحوزى بن  عبد الله المحصن ابن الحسن المثنى بن الحسن بن علي بن أبي طالب  الجيلاني. تفقه في مذهب الأمام أحمد بن حنبل علي أبي الوفاء بن عقيل وأبي الخطاب وأبي الحسين محمد بن القاضي أبي يعلي والمبارك المخرمي وسمع الحديث من جماعة وعلوم الأدب من آخرين وصحب حماد الدباس وأخذ عنه علم الطريقة. فاق أهل وقته في علوم الديانة ورقع له القبول التام مع القدم الراسخ في المجاهدة وقطع دواعي الهوى والنفس. تاب على يده معظم أهل بغداد وأسلم معظم اليهود والنصارى على يديه. قال ابن السمعاني هو إمام الحنابلة وشيخهم في عصره فقيه صالح دين خير كثير الذكر دائم الفكر سريع الدمعة. وقال ابن رجب ظهر الشيخ  عبد القادر للناس وجلس للوعظ بعد العشرين وخمسمائة وحصل له القبول التام من الناس واعتقد ديانته وصلاحه وانتفعوا بكلامه وانتصر أهل السنة بظهوره واشتهرت أحواله وأقواله وكراماته ومكاشفاته وهابه الملوك فمن دونهم. ذكر في مناقبه مسندا إلى موسى بن الشيخ عبد القادر قال سمعت والدي يقول خرجت في بعض سياحاتي ونزل على منها شيء يشبه الندى فرويت ثم رأيت نورا أضاء به الأفق وبدت لي صورة ونوديت منها يا  عبد القادر: أنا ربك وقد أحللت لك المحرمات أو قال ما حرمت على غيرك فقلت أعوذ بالله من الشيطان الرجيم اخسأ يا لعين! فإذا ذلك النور ظلام وتلك الصورة دخان ثم خاطبني وقال: يا  عبد القادر نجوت مني بعلمك بحكم ربك وقوتك في أحوال منازلاتك ولقد أضللت بهذه الواقعة سبعين من أهل الطريق فلت لربي الفضل والمنة قال فقيل له كيف علمت أنه شيطان قال بقوله قد حللت لك المحرمات. وقال ابن رجب أيضا: وكان الشيخ عبد القادر متمسكا في مسائل الصفات والقدر ونحوهما بالسنة مبالغا في الرد على من خالفهما. ومات الشيخ  عبد القادر رحمه الله تعالى بعد عتمة ليلة السبت عاشر ربيع الآخر سنة إحدى وستين وخمسمائة (شذرات الذهب 2/198-202)

[2] مجموع الفتاوى (2/458)

[3] هو عمر بن الخطاب القرشي العدوي أبو حفص أمير المؤمنين ثاني الخلفاء الراشدين أحد العشرة المبشرين بالجنة, أفضل الأمة بعد أبي بكر رضي الله عنه توفي سنة 22 هـ (شذرات الذهب 1/33)

[4] أخرجه مالك في الموطا (2/895 رقم 1587)

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

معلومات

This entry was posted on 25 جوان 2009 by in مقالات.

الابحار

%d مدونون معجبون بهذه: